مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 461 ـ 470
(461)

    وأمّا ما يتعلّق بالحقوق والقوانين الدوليّة بعامّتها وخاصّتها فسيوافيك الحديث عنها في بحث خاصّ تحت عنوان : « السياسة الخارجيّة في الحكومة الإسلاميّة ».
    إنّ من له أدنى إلمام بالفقه الإسلاميّ يجده غنيّاً عن أيّ تشريع بشريّ وأيّ قانون وضعيّ.
    ولو أنّ المسلمين ـ اليوم ـ أخذوا بالتشريع الإسلاميّ كاملاً ، وفرّعوا الفروع ، واجتهدوا على أساسه لوجدوه ووجدوا أنفسهم في غنى عن أيّ اقتباس من هنا أو هناك ، وللتأكّد من هذه الحقيقة الساطعة لاحظ ـ أيّها القارىء الكريم ـ كتاب « تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة » في تمام الفقه ، لآية اللّه العلاّمة الحليّ المولود عام (648 هـ) والمتوفّى عام (726 هـ) والذي اقتصر فيه المؤلّف على مجرّد الفتوى ، وترك الاستدلال ولكنّه استوعب الفروع والجزئيّات حتّى أنّه اُحصيت مسائله فبلغت أربعين ألف مسألة ، رتّبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد للعبادات والمعاملات والإيقاعات والأحكام (1).
    ولهذا فإنّ الحضارة الغربيّة لمّا داهمت المسلمين لم تخلب عقولهم من الناحية الحقوقيّة ، والقانونيّة ، وإن خلبتهم من ناحية التكنولوجيا والصناعة وذلك لما كان يتمتّع به المسلمون من الغنى الفقهيّ بفضل التشريع الإسلاميّ الواسع الأطراف من جانب ، وما كانوا يعانون منه من الفقر في الجانب التكنولوجيّ حيث أنّهم كانوا قد تركوا الغور في العلوم الطبيعيّة منذ زمن طويل ، وإن كان أسلافهم قد بدأوها وأبدعوا فيها ، وأتوا بابتكارات لا سابق لها.

شموليّة الحقوق الإسلاميّة
    يبقى أن نعرف أنّ الحقوق التي جاء بها الإسلام لا تقتصر على الاُمور المذكورة في الكتب الفقهيّة ، بل هناك حقوق أخلاقيّة بين الأفراد والأفراد ، بل وبين الإنسان
    1 ـ لاحظ كتاب الذريعة 3 : 378.

(462)
والحيوان (1) ، والإنسان والأشياء الاُخرى (2) في عالم الطبيعة ، وهي تعكس دقّة الإسلام وعمق نظره ، وسعة اُفقه التشريعيّ ، وشموليّة بعده الفقهيّ وتفوّقه على ما يسمى الآن بميثاق حقوق الإنسان وغيره الرائج في الغرب.
    وبهذا يكون الإسلام قد امتاز على القوانين الوضعيّة بميزة اُخرى مضافاً إلى الميزات السابقة المذكورة ، وهي ميزة الشموليّة.
    وأنت أيّها القارىء الكريم إذا أردت أن تقف على الحقوق الإسلاميّة بشكل إجماليّ فعليك بمراجعة الكتب والرسائل التالية :
    1 ـ رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ).
    2 ـ رسالة الحقوق للشيخ الصدوق المعروفة برسالة مصادقة الإخوان وقد طبعت.
    3 ـ الحقوق للعلاّمة السيد صدر الدين المتوفّى بقم عام (1373 هـ) أورد فيه اثنين وستّين حقّاً ، وقد طبع.
    4 ـ حقوق المؤمنين للشيخ الحسين بن سعيد الأهوازيّ وهو مخطوط.
    وهناك مؤلّفات اُخرى لمشايخنا الإماميّة حول الحقوق العامّة والخاصّة وحول الفرق بين الحقّ والحكم وقد طبع بعضها ولا زال أكثرها مخطوطاً.(لاحظ الذريعة 7 : 39 ـ 47).
    هذا وحيث أنّ حقوق الأقليّات في المجتمع الإسلاميّ تحظى بأهميّة خاصّة ولها صلة شديدة بالحكومة الإسلاميّة أفردنا لها البحث التالي ، ونحيل البحث عن سائر الحقوق بالتفصيل إلى الكتب المعدّة لها وكذا أفردنا للحقوق الدوليّة فصلاً آخر.
    1 ـ لاحظ وسائل الشيعة كتاب الحجّ الجزء الثامن أبواب أحكام الدواب الصفحة 339 ـ 397 فقد عقد فيها الشيخ الحرّ العامليّ 53 باباً في أحكام الدواب وحقوقها ، وفصّل حقوق الحيوان في كتاب الجواهر31 : 349 ـ 398 ، فقد بحث ذلك الفقيه المحقّق الذي كان يعيش في القرن الثالث عشر الهجري حقوق الحيوان على ضوء الإسلام قبل أن يعرف العالم الحديث قضيّة الرفق بالحيوان.
    2 ـ وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّ ( عليه السلام ) في نهج البلاغة : « فإنّكُم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » الخطبة 162 (طبعة عبده ).


(463)
الأقليّات الدينيّة في الحكومة الإسلاميّة
    إنّ حكومة تقوم على أساس الإيمان باللّه سبحانه وعلى أساس الشريعة الإلهيّة لا يمكن أن تكون معاملتها وموقفها من الأقليّات الدينيّة إلاّ أفضل موقف ، وأحسن معاملة وأقربها إلى الإنسانيّة والعدل والنصفة والحقّ وإليك ملامح من هذه المعاملة الحسنة العادلة فيما يأتي :

1 ـ الإعتراف بحقوق الأقليّات
    إنّ أبرز ما يتجلّى في معاملة الحكومة الإسلاميّة للأقليّات الدينيّة هو الاعتراف بحقوقهم الطبيعيّة في العدل والقسط وغيره ، فها هو القرآن الكريم يبيّن بكلّ صراحة سياسة الإسلام الكليّة بالنسبة إلى حقوق الشعوب غير المسلمة سواء أكانوا أهل الكتاب أم لا إذ يقول : ( لاَ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تَقْسِطُوا إِليْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (الممتحنة : 8).
    فهذه الآية تفيد أنّ الأقليّات والشعوب غير المسلمة تحظى بالاحترام وتستحقّ العدل والقسط إذا لم تعلن حرباً على المسلمين ، ولم تخرجهم من مساكنهم وأوطانهم ، ولم تت آمر ضدّهم ، فإذن ينبغي أن يشلمها المسلمون بالعدل والإنصاف والبرّ ، وبهذا يسمح النظام الإسلاميّ للأقليّات الدينيّة أن تعيش ضمن المجتمع الإسلاميّ وتستفيد من الحقوق الإنسانيّة في الحياة الآمنة.
    نعم إنّ القرآن الكريم ينهى عن المعاشرة السلميّة مع الفرق والجماعات التي تت آمر ضدّ الإسلام ومصالح المسلمين ، إذ يقول : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلى إِخْراجكُمْ أنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (الممتحنة : 9).


(464)
    إنّ سياسة الإسلام العامّة اتّجاه الأقليّات الدينيّة تفهم من هاتين الآيتين جيّداً فالأقليّات الدينيّة ـ حسب هاتين الآيتين ـ محترمون في البلاد الإسلاميّة وعلى المسلمون أن يعايشونهم ويعترفوا لهم بحقوقهم في الحياة الآمنة ما لم يتجاوز أبناؤها وأعضاؤها على حقوق الأكثريّة المسلمة ، ولم تت آمر ضدّ الإسلام ، فإذا تآمرت ، وتحالفت مع أعداء الإسلام ومعارضيه وخصومه ، ارتفعت عنهم هذه الحصانة الإسلاميّة وجاز للمسلمين أن يقفوا ضدهم ... ولا يوادّوهم.
    ولقد بلغت هذه الحريّة والاحترام إلى درجة لو فعل أهل الذمّة ما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في الإسلام كشرب الخمر لم يتعرّض لهم ما لم يتجاهروا به ، نعم إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب الشرع.
    وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم (1) كالزنا واللواط ، فالحكم فيه أيضاً كما في المسلم. وإن شاء الحاكم رفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ فيه ، بمقتضى شرعهم كما لو تحاكم إلينا ذميّان كان الحاكم مخيّراً بين الحكم عليهما بحكم الإسلام وبين الإعراض عنهم لقوله سبحانه : ( فإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (المائدة : 42).

2 ـ حسن المعاشرة مع الأقلّيات
    إنّ الإسلام يحث المسلمين على الإحسان إلى أهل الكتاب ، وأخذهم بحسن المعاشرة واحترام عقائدهم وإبقائهم على دينهم إذا هم اختاروا ذلك ، قال اللّه تعالى : ( وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابَ إلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إليْنَا وَ أُنْزِلَ إلَيْكُمْ ) (العنكبوت : 46).
    وقال الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « من ظلم مُعاهداً وكلّفهُ فوق طاقته فأنا حجيجهُ يوم القيامة » (2).
    1 ـ لاحظ في ذلك جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21 : 31.
    2 ـ فتوح البلدان للبلاذريّ : 167 ( طبعة مصر ).


(465)
    وقال : « من آذى ذميّاً فأنا خصمُه ومن كُنتُ خصمهُ خصمتُهُ يوم القيامة » (1).
    وكتب النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران :
    « بسم اللّه الرّحمن الرحّيم. من محمّد النبيّ إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم ، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار اللّه ورسوله ، لا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ولا كاهن من كهانته ، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين وكتب المغيرة » (2).
    وإليك نموذج آخر من هذه العهود :
    (بسم اللّه الرحّمن الرّحيم ، وبه العون ، هذا كتاب كتبه محمّد بن عبد اللّه إلى كافّة النّاس أجمعين بشيراً ونذيراً ، ومؤتمناً على وديعة اللّه في خلقه لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل ، وكان اللّه عزيزاً حكيماً ، كتبه لأهل ملّته ، ولجميع من ينتحل دين النّصرانيّة من مشارق الأرض ومغاربها ، قريبها وبعيدها ، فصيحها وعجميها ، معروفها ومجهولها ، كتاباً جعله لهم عهداً ، ومن نكث العهد الّذي فيه وخالفه إلى غيره ، وتعدّى ما أمره كان لعهد اللّه ناكثاً ، ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئ ، وللّعنته مستوجباً ، سلطاناً كان أم غيره من المسلمين المؤمنين ، وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذابّ عنهم ، من كلّ عدة لهم ، بنفسي وأعواني ، وأهل ملّتي وأتباعي ، كأنّهم رعيّتي ، وأهل ذمّتي وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي تحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلاّ ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك ، ولا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ، ولا حبيس من صومعته ، ولا سائح من سياحته ، ولا يهدم بيت من بيوت
    1 ـ روح الدين الإسلاميّ : 274.
    2 ـ الطبقات الكبرى 1 : 266 ، والبداية والنهاية 5 : 55 ، والوثائق السياسيّة : 115 رقم 95 كما في مكاتيب الرسول 2 : 333.


(466)
كنائسهم وبيعهم ، ولا يدخلُ شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المُسلمين فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد اللّه ، وخالف رسُولهُ ، ولا يحملُ على الرّهبان والأساقفة ، ولا من يتعبّد جزيةً ولا غرامةً ، وأنا أحفظُ ذمّتهم أينما كانُوا من برّ أو بحر ، في المشرق والمغرب والشّمال والجنُوب. وهُم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كُلّ مكرُوه.
    وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المُباركة ، لا يلزمُهُم ما يزرعُوهُ ، لا خراج ولا عُشر ، ولا يُشاطرُونهُ لكونه برسم أفواههم ، ويُعانُوا عند إدراك الغُلّة بإطلاق قدح واحد ، من كلّ أردب برسم أفواههم ، ولا يُلزمُوا بخرُوج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج ، وذوي الأموال والعقارات والتّجارات ممّا أكثر [ من ] اثني عشر درهم بالحُجّة في كُلّ عام ، ولا يُكلّفُ أحداً منهُم شططاً ، ولا يُجادلُوا إلاّ بالتي هي أحسنُ ، ويُخفضُ لهُم جناحُ الرّحمة ويُكفّ عنهُم أدبُ المكرُوه حيثُما كانُوا وحيثُما حلّوا.
    وإن صارت النصّرانيّةُ عند المُسلمين فعليه برضاها ، وتمكينها من الصّلوات في بيعها ، ولا يُحيلُ بينها وبين هوى دينها.
    ومن خالف عهد اللّه ، واعتمد بالضدّ من ذلك ، فقد عصى ميثاقهُ ورسُولهُ ويُعانُوا على مرمّة بيعهم ومواضعهم ، ويُكونُ ذلك معونةً لهُم على دينهم ومعا [ وفاء ] لهُم بالعهد ، ولا يُلزمُ أحد منهُم بنقل السّلاح ، بل المُسلمين يذبّون عنهُم ولا يُخالفُوا هذا العهد أبداً إلى حين تقُومُ الساعة وتنقضي الدّنيا.
    وشهد بهذا العهد الّذي كتبهُ مُحمّد بنُ عبد اللّه رسُول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لجميع النّصارى والوفاء بجميع ما شرط لهُم عليه عليّ بنُ أبي طالب و ... ) (1).
    إنّ أبرز ما يتجلّى للقارىء في هذا العهد النبويّ للنصارى اُمور :
    1 ـ مدى الحريّة العقائديّة المعطاة من جانب الإسلام للأقلّيات الدينيّة.
    1 ـ مجموعة الوثائق السياسيّة : 373 ، كما عن أحمد زكي باشا ، رسالة صورة العهد النبويّة الطوريّة عن خطية دار الكتب المصريّة رقم 814 كما في مكاتيب الرسول 2 : 635.

(467)
    2 ـ سعة الحماية التي تقوم بها الحكومة الإسلاميّة لهذه الأقليّات.
    3 ـ سعة الرحمة التي يشمل بها الدين الإسلاميّ الأقليّات.
    إلى غير ذلك من النقاط الكليّة والجزئيّة التي يقف عليها المتتبّع بالإمعان في هذه الوثيقة الإسلاميّة التاريخيّة التي تمثّل ـ في حقيقتها ـ سياسة الحكومة الإسلاميّة اتّجاه الأقليّات وتصوّر اُسس هذه السياسة وخطوطها العريضة التي لا تجد لها مثيلاً في الحقوق الدوليّة المعاصرة !! وما عليك أيّها القارىء الكريم إلاّ أن تقايس هذه الحريّة المعطاة للأقليّات في مجال العقيدة ، بما جرى على فروة بن عمرو الذي كان عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، فلمّا بعث فروة رسولاً بإسلامه إلى رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأهدى له بغلة بيضاء طلبه الروم حتّى أخذوه فحبسوه عندهم فلمّا قدموا ليقتلوه أنشأ فروة قائلاً :
    بلّغ سراة المسلمين بأنّني سلم لربّي أعظُمي وبناني (1)
    بل وقايسه بما جرى وحلّ بالنصارى على أيدي كنائسهم في محاكم التفتيش في القرون الوسطى ، وما وقع من مجازر شملت آلاف الناس بمن فيهم العلماء والمفكّرون لأجل الاختلاف العقيديّ (2).
    وقد ورد مفاد هذه الرسالة والوثيقة في وثائق وكتب اُخرى للنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم اُعطيتلأهل الملل ، والعقائد غير الإسلاميّة رسم النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فيها خطوط التعايش السلميّ الذي أشار إليه القرآن الكريم ، الذي يقوم على احترام الحقوق والعقائد للأقلّيّات الدينيّة.
    لقد كانت معاملة الرسول الحسنة مع أهل الكتاب وما يسمّى الآن بالأقليّات الدينيّة قدوة للمسلمين دائماً ، فهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) يوصي واليه بأهل الذمّة فيقول : « ولا تبيعنّ للنّاس في الخراج [ وهو ما يؤخذ من الضرائب على الأراضي العامة ] كُسوة شتاء ، ولا سيفاً ولا دابّةً يعتملُون عليها ولا عبداً ولا تضربنّ أحداً
    1 ـ اُسد الغابة 4 : 178.
    2 ـ راجع ما كتبه ويل دورانت في قصّة الحضارة.


(468)
سوطاً لمكان درهم ، ولا تمُسّنّ مال أحد من النّاس مُصلّ ولا مُعاهد » (1).
    كما أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) لما رأى ذات يوم شيخاً نصرانيّاً يستجدي ويتكفّف فقال : « ما هذا ؟ » قالوا : يا أمير المؤمنين ، نصرانيّ. فقال : « استعملتُمُوهُ حتّى إذا كبر وعجز منعتُمُوهُ. أنفقُوا عليه من بيت المال » (2).
    ولقد كانت هذه السيرة مع الأقلّيّات الدينيّة هي سيرة أغلب قادة الإسلام فالتاريخ يحدّثنا : أنّ أحد الخلفاء مرّ على شيخ مضطرب الحال يتكفّف فسأل عنه ، ولمّا تبيّن له أنّه يهوديّ قال له : وما الذي دعاك إلى هذا.
    فلمّا قال : إعطاء الجزية والحاجة ، والكبر ، أخذ الخليفة بيده ، وأدخله إلى منزله وسدّ حاجته بمبلغ من المال وأوصى خازن بيت المال وأمره أن يرفق به ويراعي حاله ، وحال من يشابهه وقال : « ليس من النصفة أن نستعمله في شبابه ونتركه في كبره » (3).
    على أنّ الإسلام لم يكتف بهذا القدر من الاحترام وحسن المعاشرة والمعاملة ، فلم يقتصر على الأمر باحترام الأحياء من أهل الكتاب ، بل دعا إلى احترام أمواتهم كذلك. يقول جابر بن عبد اللّه : مرّت بنا جنازة ، فقام لها النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وقمنا به. فقلنا : يارسول اللّه : إنّها جنازة يهوديّ. فقالصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إذا رأيتم الجنازة فقوموا » (4).
    وقال : كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسيّة فمرّوا عليهما بجنازة ، فقاما ، فقيل لهما : إنّهما من أهل الأرض ، أيّ من أهل الذمّة ، فقالا : إنّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مرّت به جنازة فقام ، فقيل له : إنّها جنازة يهوديّ ، فقال : « أليست نفساً » (5).
    ولهذا السبب كان أهل الكتاب في البلاد غير الإسلاميّة يستقبلون المسلمين الفاتحين لتلك البلاد باشتياق كبير ، ويفتحون في وجوههم أبواب مدنهم وحصونهم ، فعندما وصل الجيش الإسلاميّ بقيادة أبي عبيدة بن الجرّاح إلى أرض الأردن ، كتب إليه
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب رقم 51.
    2 ـ وسائل الشيعة 1 : كتاب الجهاد : الباب 19ح1.
    3 ـ السلام العالميّ والإسلام.
    4 ـ البخاريّ 2 : 85.
    5 ـ البخاريّ 2 : 85.


(469)
مسيحيّوا الأردن كتاباً قالوا فيه :
    (أنتم أيها المسلمون أحبّ إلينا من الروم ، وإن كانوا معنا على دين واحد لكنّكم أوفى لنا ، وأرأف وأعدل ، وأبرّ ، إنّهم حكمونا ، وسلبوا منّا بيوتنا وأموالنا) (1).
    وقد كان هذا الكلام كتبه قسّيس أنطاكية الكبير الذي دفعه ظلم الروم وجفوتهم وقسوتهم ـ رغم نصرانيّتهم ـ إلى اللجوء إلى أحضان المسلمين ، والاحتماء بالنظام الإسلاميّ العادل الرحيم.
    فهو يعترف في موضع آخر من رسالته قائلاً :
    (إنّ إله الانتقام لمّا رأى شرور الروم الذين لجأوا إلى القوّة فنهبوا كنائسنا وسلبونا ديارنا في كافّة ممتلكاتهم وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة ، أرسل أبناء إسماعيل (أي العرب المسلمين) من بلاد الجنوب (أيّ مكّة والمدينة) لتخليصنا من قبضة الروم) (2).
    ثمّ يكتب مؤلّف « الدعوة إلى الإسلام » قائلاً :
    (أمّا ولايات الدولة البيزنطيّة التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم فقد وجدت أنّها تنعم بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبيّة والنسطوريّة(المتضاربة فيما بينها) فقد سمح الإسلام لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرّض لهم أحد ، اللّهمّ إلاّ إذا استثنينا بعض القيود التي فرضت عليهم منعاً لإثارة أيّ احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة) (3).
    وقد دفعت مداراة المسلمين وحسن معاشرتهم ومعاملتهم لأهل الكتاب في أن يجدوا أمنهم المطلوب في كنف المسلمين ، ويحسّوا بالطمأنينة في ظلال الحكومة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ حتّى أنّ الأدلّة التاريخيّة والشواهد القطعيّة الكثيرة تشهد على أنّ الكثير من النصارى الذين كانوا يطاردون من قبل الكنيسة الرسميّة في بيزنطية
    1 ـ الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.
    2 ـ الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.
    3 ـ الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.


(470)
كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلاميّة حصولا على الحماية والأمن والاستقرار ولأجل هذا نجد أنّ أجمل الكنائس والصلوات هي تلك التي بنيت في أرض الإسلام أيّام مجد المسلمين ودولتهم.
    وهذا أمر ملحوظ في جميع البلاد الإسلاميّة الحاضرة.
    هذا مضافاً إلى أنّ الأقليّات الدينيّة كانت ولا تزال تتمتّع بالحريّة الاقتصاديّة والتجاريّة والمعيشيّة ، دون أن تحسّ بحاجة إلى التحزّب والتمركز والتجمّع لمواجهة أيّ خطر.

3 ـ احترام الإسلام لحياة الأقليّات
    إنّ الذي لا يمكن إنكاره أبداً أنّه ليس هناك أيّ دين ولا أيّة حكومة في العالم كالدين الإسلاميّ والحكومة الإسلاميّة تضمن حريّات الأقليّات ، وتحفظ شرفها وحقوقها الوطنيّة ، فأيّ دين يحترم الأقليّات كهذا الاحترام ، أم أيّ قانون يقدّرها كما يحترمها النظام الإسلاميّ ، ويقدّرها ويرعى حقوقها.
    أجل إنّه الإسلام وحده يكفل العدالة الاجتماعيّة الكاملة الشاملة للمسلمين ، وغير المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وألوانهم ولغاتهم ، وإنّ هذا لمن احدى ميزات الدين الإسلاميّ وخصائصه الإنسانيّة التي ينفرد بها دون غيره ، ويعجز الآخرون عن تحقيقه ، وأدلّ دليل على حسن معاملة الإسلام للأقليّات أنّ الإسلام أمّن على أنفسهم وأموالهم وتعهّد في ذمّته بحمايتهم وحفظهم وأمانهم من كلّ شرّ وسوء ازاء شروط خاصّة لا يصعب تحمّلها عادة في مقابل ما تعهّد الإسلام لهم به. وإليك هذه الشروط :
    في شرائط الذمّة
    إنّ الشرائط المقوّمة للذمّة (التي تنتفي الذمّة بانتفاء واحدة منها) ثلاثة :
    الأوّل : أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين ، أو إمداد
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس