مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 71 ـ 80
(71)
    ويوَيد ذلك ما رواه الطبري في ذخائر العقبى عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قال :
    « أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدنيا ، فمن تمسّك بنا اتخذ إلى ربّه سبيلاً ». (1)
    وأخرج شيخ الاِسلام الحمويني في « فرائد السمطين » عن الاِمام الصادق ( عليه السلام ) قوله :
    « نحن خيرة اللّه ، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى اللّه ». (2)
    وقد روي عن تفسير الثعلبي ، عن عبد اللّه بن عباس في تفسير قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّ ـ رَاطَ الْمُسْتَقِيم ) (3) انّه قال : « قولوا معاشر العباد ارشدنا إلى حب محمد وأهل بيته ( عليهم السلام ) ». (4)
    وفي بعض الاَدعية المأثورة عن بعض أئمّة أهل البيت تلويح إلى ذلك الجمع والتفسير ، حيث جاء في دعاء الندبة قوله ( عليه السلام ) :
    « ثم جعلت أجر محمد صلواتك عليه وآله مودتهم في كتابك فقلت : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُربَى ) وقلت : ( ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) وقلت : ( ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجرٍ إلاّ مَنْ شاءَ أن يتّخذ إلى ربّهِ سبيلا ) فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك ». (5)
    1 ـ ذخائر العقبى : 16.
    2 ـ الغدير : 2/280 ، ط النجف.
    3 ـ الفاتحة : 6.
    4 ـ الغدير : 2/280 ، ط النجف.
    5 ـ راجع البحار : 102/104 ، نقلاً عن مصباح الزائر : 230 والمزار الكبير : 190.


(72)
المقام الخامس
مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة
    قد عرفت في المقام الاَوّل أنّ المفهوم من المودة في القربى هو موالاة أقرباء النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، ولم يفهم صحابة النبي ولا جمهور المفسرين إلاّ هذا المعنى ، وقدّمنا لك أسماء الذين رووا هذا المعنى عن النبي الاَكرم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) عند البحث عن الحديث الوارد حول الآية.
    غير أنّ بعض المفسّرين أضاف إلى المعنى المختار محتملات أُخر ، يأباها الذوق السليم ، ولا يرتضيها العارف بأساليب الكلام البليغ ، ولاَجل ذلك ليست تلك المحتملات إلاّ مجرد احتمالات فارغة ، ودونك بيانها :
    الاَوّل : لم يكن بطن من بطون قريش إلاّ وبين رسول اللّه وبينهم قربى ، فلمّا كذّبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت الآية ، والمعنى إلاّ أن تودوني في القربى أي في حق القربى ، ومن أجلها كما تقول : الحب في اللّه ، والبغض في اللّه بمعنى في حقه ومن أجله ، يعني انّكم قومي وأحق من أجابني ، وأطاعني ، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ، ولا توَذوني ، ولا تهيجوا عليّ. (1) وعلى ذلك يكون « في » للسببية ، ومفاد الآية إلاّ مودتي لسبب القرابة.
    1 ـ الكشاف : 3/82 ، ط مصر عام 1368 هـ ، المفاتيح للرازي : 7/389 وعلى هذا التفسير يكون « القربى » بمعنى الرحم.

(73)
    ولا يخفى على العارف البصير أنّ سوَال الاَجر ممن يكذبونه ولا يوَمنون به ويبغضونه ودعوته ، ويرونه خطراً على كيانهم ، لا يصدر من عاقل ، فضلاً عن النبي الاَكرم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، فإنّ الاستثناء سواء أكان متصلاً أم منفصلاً ، إمّا أجر حقيقي للنبي ، أو شبيه له ، وطلب الاَجر بكلا المعنيين لا يصح إلاّ ممن أسدى إليه طالبه شيئاً من الخدمة المادية أو المعنوية ، فيصح عندئذ أن يطلب منه شيئاً تجاه ما قدّم له ، وأمّا طلبه ممن لا يوَمن به ولا يراه أسدى له خدمة ، فلا يصح في منطق العقل والعقلاء ، فطلب الاَجر على فرض البغض والعداء لا يصح ، وعلى فرض الاِيمان به فالمودّة حاصلة لا حاجة لطلبها.
    الثاني : أتت الاَنصار رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) بمال جمعوه فقالوا : يا رسول اللّه قد هدانا اللّه بك وأنت ابن اختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت الآية ، وردّه.
    و (1) ، هذا المحتمل كسابقه من الضعف ، فانّ مودة الاَنصار للنبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان أمراً حاصلاً فلم يكن النبي في حاجة إلى طلبها منهم ، كيف وهم الذين بذلوا دون النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) النفس والنفيس ، وآووه ونصروه ، وفدوه بشبّانهم في طريق دعوته ، فإذا كانت الحالة هذه ، فلا وجه لطلب المودّة منهم.
    على أنّ الوشيجة التي كانت تربطهم بالنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) لم تكن قوية بل ضئيلة جداً ، إذ كانت العرب لا تعتني بالقرابة من ناحية النساء وكان منطقهم :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أولاد الرجال الاَباعد
    ومنهم من يقول :
    1 ـ الكشاف : 3/89 ، مفاتيح الغيب : 7/389. ومعنى الآية على هذا التفسير « إلاّ أن تودوني لاَجل قرابتي منكم ».

(74)
وإنّما أُمّهات الناس أوعية مستودعات وللاَنساب آباء
    وإنّما أدخل الاِسلام القرابة من جانب النساء وساوى بين البنات والبنين ، واعتنى بكل وشيجة حصلت بينهم سواء أكانت من جانب الرجال أم من جانب النساء ، وكان النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) يرتبط بالاَنصار من جانب النساء ، فإنّ هاشماً تزوج ببنت « عمرو الخزرجي » فولدت له عبد المطلب وهو جد النبي الاَكرم ، وما كان عرب الجاهلية يقيمون وزناً للقرابة الناشئة من جانب البنت.
    الثالث : انّ الخطاب لقريش ، والمقصود مودّة النبي إيّاهم ، والمعنى لا أطلب منكم أجراً ولا جزاء ولكن حبي لكم بسبب ما تربطني بكم من قرابة هو الذي دفعني إلى الاعتناء بكم وبهدايتكم.
    وهذا المعنى اختاره روزبهان حيث قال : لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم ، فلهذا أسعى واجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم. (1)
    ولا يخفى أنّ لفظ الآية لا يحتمل ذاك المعنى ، ودلالتها عليه تحتاج إلى تقدير أُمور كثيرة ، وما حمله على تفسير الآية بما ذكر إلاّ مخالفته للعلاّمة الحلي في الاستدلال بالآية على عصمة من وجبت محبتهم ، ولو كان القائل مجرداً عن جميع الميول والاَغراض لم يحمل الآية على هذا المعنى ، فإنّ الذي دفع النبي إلى الاهتمام بأمر قريش هو امتثال أمر اللّه حيث قال : ( وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِين ) (2) ( فَاصْدَعْ بِما تُوَْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزئِين ). (3)
    أضف إلى ذلك أنّ حرص النبي على إنقاذ المجتمع الاِنساني من الضلالة لم يكن منحصراً بقريش بل هم وغيرهم في هذا الاهتمام سواسية ، وقال سبحانه
    1 ـ إحقاق الحق : 3/20.
    2 ـ الشعراء : 214.
    3 ـ الحجر : 94 ـ 95.


(75)
حاكياً عن اهتمام النبي بهداية الموَمنين : ( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُوَْمِنِينَ ). (1)
    على أنّ إرادة هذا المعنى تحوجنا إلى التصرّف في الآية بجعل « إلاّ » بمعنى « لكن » والقول بأنّ الخبر محذوف ، وتقدير الآية هكذا ، ولكن المودّة في القربى دفعتني إلى دعوتكم وهدايتكم. وهذا تكلّف واضح في تفسير الآية.
    الرابع : أنّ المقصود مودّة كل واحد من المسلمين لاَقربائه ، وهو عبارة أُخرى عن صلة الرحم التي دعا إليها الاِسلام. (2)
    ولا يخفى أنّ هذا الاحتمال لا يساعده اللفظ ولا الذوق القرآني ، فإنّ عد مودّة الناس لاَقربائهم أجراً للنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) لا يستحسنه الذوق السليم ، فإنّ المودّة إمّا أجر حقيقي أو أجر غير حقيقي ( أي حكمي ) أخرج بصورة الاَجر ، وعلى كلا التقديرين إنّما يصح الاستثناء إذا كان المستثنى عائداً إلى النبي إمّا حقيقة ، أو مجازاً ، ومودّة كل مسلم لاَقربائه وإن كان أمراً مطلوباً بذاته في الشرع الاَقدس ، لكنّه لا يصح أن يعد أجراً ، أو يخرج بصورة الاَجر ، فإنّ الاستثناء كما أوقفناك على حقيقته هو إخراج ما لولاه لدخل ، والاِخراج حقيقة أو حكماً فرع الدخول كذلك ، وقد قلنا إنّ المستثنى المنقطع ، منقطع حقيقة لا ظاهراً و حكماً ، وانّ المستثنى منه شامل للمستثنى المنقطع شمولاً حكمياً ولو في وهم المخاطب فإذا قال القائل : جاء القوم إلاّ مراكبهم ومواشيهم ، إنّما يصح هذا القول لاِجل توهم شمول الحكم ( أعني المجيء ) لمراكبهم ومواشيهم ، أو خدّامهم ، فإنّ القبيلة إذا ارتحلت من مكان إلى مكان آخر فإنّما ترتحل مع مواشيها وما يتعلّق بها ، فالحكم بالمجيء على
    1 ـ يوسف : 103.
    2 ـ مفاتيح الغيب : 7/390 ذكره في توجيه طلب الاَجر للرسالة حيث قال : لاَنّ حصول المودة بين المسلمين واجب وقال تعالى : ( والموَمنون والموَمنات بعضهم أولياء بعض ).


(76)
القوم كأنّه حكم على توابعهم ولوازمهم بالمجيء ، ولاَجل ذلك لا يصح أنّ يقال : جاءني القوم إلاّ الشجر.
    وعلى ذلك فالمصحح لاستثناء المودّة في القربى هو دخولها في المستثنى منه بنحو من أنحاء الدخول إمّا حقيقياً أو حكمياً ، وحينئذ فلو قلنا : إنّ أجر النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) هو مودّة أقربائه بما هي هي ، وبما أنّها مطلوبة بذاتها ، لصح الاستثناء لدخولها في الاَجر دخولاً حقيقياً ، ويصح أن يطلق عليه الاَجر على نحو الحقيقة.
    وإن قلنا : بأنّ أجر النبي هو مودة أقربائه بما أنّها ذريعة لتكامل الاَُمّة في مرحلتي الفكر والعمل ، لصح الاستثناء أيضاً ، لكونها داخلة في الاَجر دخولاً حكمياً ، وعلى كلا التقديرين يصح أن يطلق عليه الاَجر ، وبتبعه يصح الاستثناء والاستدراك.
    وأمّا لو قلنا : بأنّ المراد هو مودة كل ذي رحم لرحمه كمودة المسلم الاَفريقي لاَخيه والآسيوية لاَُختها ، فذلك وإن كان أمراً مطلوباً لكن لا يشمله لفظ الاَجر لا حقيقة ولا عناية حتى يصح الاستثناء والاستدراك. وعلى الجملة فالاَجر الوارد في الآية إنّما يراد منه ما يرجع إلى الاِنسان الطالب للاَجر رجوعاً واقعياً أو ظاهرياً ، وهو لا يحصل إلاّ أنّ تفسر المودة ، بمودة أقرباء ذلك الرجل الطالب.
    وأمّا إذا أُريد منه مودة كل بعيد لرحمه ، فذلك لا يعد أجراً حتى بصورة الظاهر ، ليصح الاستثناء ، وإن شئت قلت : إنّ الاَجر هو المكافأة والاِثابة على العمل ، ولا يطلق إلاّ على الشيء الذي تعود نتيجته إلى العامل بنحو من الاَنحاء ، وعلى ذلك فالمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه ، أو مرتبطاً به بنحو من الارتباط لا أجنبياً عنه ، فعندئذٍ لو أُريد مودة نفسه وأقربائه ، لصح أن يستثنى من الاَجر المنفي لدخوله في المستثنى منه ، وأمّا إذا أُريد مودة كل رجل لرحمه فلا يشمله لفظ الاَجر حتى بنحو العناية والمجاز ، ليصح الاستثناء ، ولا يتوجه ذهن


(77)
السامع عند سماع كلمة الاَجر إلى مثل ذاك الاَمر حتى يصح الاستدراك ، بخلاف مودّة أهل بيته وعترته ، فإنّها ممّا يسعه اللفظ بعموم معناه.
    على أنّه لم يعهد من القرآن حث الاَفراد على موالاة ومودة أقربائهم بما هم أقرباوَهم ، وإنّما أمر بموالاة الموَمنين وموادّتهم ، نعم للقرآن اهتمام شديد بصلة الرحم ، ودفع عيلة ذوي القربى وحاجاتهم وهو غير موالاتهم القبلية.
    أضف إلى ذلك أنّه سبحانه حينما يأمر بصلة الرحم جعل الغاية من هذا الاَمر وجه اللّه وحده لا بعنوان الاَجر للرسالة حيث قال :
    ( وآتى المالَ عَلَى حُبّهِ ( حب اللّه ) ذَوِي القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِين ). (1)
    وقال سبحانه : ( ويُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وأسِيراً ) (2) (3) ثم إنّ جعل الآية كناية عن صلة الرحم وإسداء الخدمة إلى ذوي القربى لا يتحمله اللفظ ولا يقوم به ظاهر الآية.
    الخامس : انّ المقصود أنّني لا أطلب منكم أجراً فإنّما هدفي هو إيجاد التآلف والتحابب وحسن المعاشرة بين أفراد البشر ، فكل ما أطلبه هو أن أزيل بهذا القرآن كل الضغائن والعداوات من بينكم ، وأحلّ محلها المودة بين قبائلكم.
    ولا يخفى أنّه لو كان المراد هو توحيد الاَُمّة وجمع شملهم لكان ينبغي أن يعبّ ـ ر عنه بأسدّ العبارات وأتقنها ، كأن يقول : لا أسألكم عليه أجراً إلاّ الاعتصام بحبل الوحدة وصيانة الاخوة الاِسلامية ، وما يفيد هذا المعنى.
    1 ـ البقرة : 177.
    2 ـ الاِنسان : 8.
    3 ـ الاستدلال مبني في كلتا الآيتين على رجوع الضمير في « حبه » إلى اللّه لا إلى المال أو الطعام.


(78)
    على أنّه يستلزم أن يكون لفظ القربى ـ على هذا المعنى ـ حشواً ، بل كان اللازم أن يقول : إلاّ المودّة بينكم.
    السادس : انّ المقصود هو لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلاّ أن تحبوا اللّه ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. (1)
    وحاصل هذا الوجه : أنّ حبكم للّه ورسوله يتجسّم في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، فيكون « في » للسببية. وكأنّه يدعو الناس إلى حب اللّه ورسوله بتجسيد هذا الحب في قالب الطاعة والعمل الصالح.
    وهذا الوجه من أبعد الوجوه عن مراد الآية ، إذ هو مبني على تفسير القربى بالمقرِّب : أي ما يقرِّب العبد إلى اللّه سبحانه ، من الطاعة والعمل الصالح ، مع أنّ أهل اللغة والاستعمال قد اتفقوا على حصر معناها في الوشيجة الرحمية ، والرابطة النسبية ، وقد قدمنا لك نصوصاً في هذا المجال في المقام الاَوّل.
    السابع : لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلاّ التوادّ والتحابّ فيما يقرِّب إلى اللّه تعالى من العمل الصالح. روي هذا المعنى عن الحسن والجبائي ، وأبي مسلم.
    وهذا الاحتمال مبهم لا يعلم مراد القائل منه إلاّ بطرح جميع محتملاته ، وإليك بيانها :
    1. انّ المقصود أنّي لا أسألكم أجراً إلاّ أن تودّوا وتحبوا ما يقرِّبكم إلى اللّه سبحانه ، كالاَعمال الصالحة.
    وفيه : مضافاً إلى ما عرفت من عدم صحّة تفسير القربى بالمقرّب ، إنّه يكون الغرض الاَقصى عندئذ هو إطاعة اللّه سبحانه والاِتيان بما يقرب العبد منه ،
    1 ـ الكشاف : 3/82 ، مجمع البيان : 5/28.

(79)
وحينئذ يكون لفظ المودّة زائداً ومخلاًّ بالفصاحة ، وكان الاَولى أن يقول : إطاعة اللّه سبحانه والعمل بما أمركم به ، والاِتيان بما يقرّبكم.
    وكأنّ القائل بهذا التفسير أعطى القيمة لنفس المودّة ، لا لنفس العمل ، مع أنّ المهم هو العمل لا مجرّد المودّة ، إذ كل تارك للواجبات ربّما يود العمل الصالح وإن لم يقم بالاِتيان بها.
    2. انّ المقصود من المودّة في القربى هو إظهار الحب والتودد إليه تعالى بالطاعة ، والمعنى إلاّ أن تتودّدوا إلى اللّه بالتقرّب إليه والاِتيان بما يقرّبكم إليه. (1)
    وفيه : مضافاً إلى ما عرفت ما في تفسير القربى بالمقرِّب ، إنّه لم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد للّه سبحانه ، وإن ورد العكس كما في قوله سبحانه : ( إنّ ربِّي رَحِيمٌ وَدُود ) (2) وقوله : ( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ ). (3)
    ووجهه واضح ، فقد فسّر الراغب المودّة بقوله : إنّ مودّة اللّه لعباده مراعاته لهم. وفيها إشعار بمراعاة حال المودود وتعاهده وتفقده ، ولا يناسب ذلك من العبد بالنسبة إلى اللّه سبحانه.
    أضف إلى ذلك أنّه يرجع إلى الوجه السادس الذي نقلناه عن الكشاف.
    3. لا أسألكم أجراً إلاّ أن تتواددوا بما يقرِّبكم إلى اللّه ، كأن يحسن بعضكم إلى بعض فيحصل التحابب والتوادد بما يقربكم إلى اللّه.
    ولعل هذا الوجه أوفق لعبارة بعضهم حيث قال : لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً إلاّ التوادّ والتحابّ فيما يقربكم إلى اللّه من العمل الصالح.
    1 ـ ذكره الرازي وجهاً للآية راجع مفاتيح الغيب : 7/389.
    2 ـ هود : 90.
    3 ـ البروج : 14.


(80)
    وفيه أنّ تفسير المودّة بالتوادد والتحابب غير صحيح ، فإنّ المودّة تطلق على المحبّة وإن كانت من طرف واحد ، والوارد في القرآن هو لفظ المودّة لا التواد ولا التوادد.
    أضف إلى ذلك أنّ حمل القربى على المقرِّب إلى اللّه غير مأنوس في اللغة العربية ، وهو خلاف ما اتفق عليه اللغويون.
    4. المراد لا أسألكم أجراً إلاّ التقرب إلى اللّه والتودّد إلى اللّه بالطاعة. ذكره الطبرسي في تفسيره ، وهو أبعد الوجوه عن مراد الآية ، إذ هو جعل الاَجر أمرين : أحدهما : التقرّب ، والثاني : التودّد. مع أنّ ظاهر الآية أنّ الاَجر المستثنى شيء واحد.
    وخلاصة هذه الوجوه المذكورة في السادس والسابع هي ما نأتي بها ـ ثانية ـ تسهيلاً للقارىَ الكريم :
    1. الاَجر هو حب اللّه ورسوله بالطاعة والعمل الصالح.
    2. الاَجر حب المقربات إلى اللّه سبحانه.
    3. الاَجر إظهار الحب إلى اللّه بالطاعة. (1)
    4. الاَجر حب بعضكم بعضاً بالعمل الصالح ، كالاِحسان.
    5. الاَجر أمران : التقرّب إلى اللّه ، والتودّد إليه بالطاعة.
    وغير خاف على القارىَ الكريم أنّ هذه الوجوه تشبه التفسير بالرأي ، ولا مبرر لها في اللغة ومنطق التفسير ، وهي برمتها غير ما كان المسلمون الاَوائل يفهمونه من ظاهر الآية. قال الكميت الاَسدي شاعر أهل البيت :
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب

    1 ـ والفرق بينه وبين الوجه الاَوّل انّ الاَجر في الوجه الاَوّل هو نفس الحب ، وفي هذا إظهاره.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس