مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 271 ـ 280
(271)
    وما نسبه إليه من الأشعار جزء من قصيدته المعروفة التي نظمها أيام الحصار في الشعب ، ويشير بها إلى الواقعة التي استسقى فيها بالنبي وقد كان غلاماً في كفالته ، ولو كان آنذاك عابداً للوثن لتوسل باللات والعزى وسائر الآلهة المنصوبة حول الكعبة.
    2 ـ روى الحافظ الكنجي الشافعي : أنّ أحد الزهّاد والعبّاد قال لأبي طالب : يا هذا انّ العلي الأعلى ألهمني إلهاماً ، قال أبو طالب : وما هو ؟ قال : ولد يولد من ظهرك وهو ولي اللّه عزّ وجلّ ، فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها عليّ ( عليه السلام ) أشرقت الأرض ، فخرج أبو طالب وهو يقول : أيّها الناس ولد في الكعبة ولي اللّه ، فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول :
يا رب هذا الغسق الدجيّ بيّن لنا من أمرك الخفيّ والقمر المنبلج المضي ماذا ترى في اسم ذا الصبي
    قال : فسمع صوت هاتف يقول :
يا أهل بيت المصطفى النبي انّ اسمه من شامخ العلي خصصتم بالولد الزكي عليّ اشتق من العلي (1)
    3 ـ انّ أبا طالب كان ممن تعرّف على مكانة النبي الأعظم عن طريق الراهب « بحيرا » ، وذلك حينما خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير هبّ له رسول اللّه فأخذ بزمام ناقته ، وقال : يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أُمّ لي؟ فرقّ له أبو طالب وقال : واللّه لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أُفارقه أبداً. قال : فخرج به معه ، فلمّا نزل الركب « بصرى » من أرض الشام نزلوا قريباً
    1 ـ الغدير : 7/347 ، نقلاً عن كفاية الطالب للحافظ الكنجي الشافعي : 260.

(272)
من صومعة راهب يقال له « بحيرا » ، فلمّا رأى النبي جعل يلحظه لحظاً شديداً ، وينظر أشياء من جسده ، فجعل يسأله عن نومه وهيئته ، ورسول اللّه يخبره ، ثم نظر إلى ظهره ، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه ، ثم قال لأبي طالب : ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فواللّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ، ليبغنّه شراً ، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلى بلاده ، فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ، وفي ذلك يقول أبو طالب :
انّ ابن آمنة النبي محمداً لما تعلق بالزمام رحمته فارفضّ من عيني دمع ذارف عندي يفوق منازل الأولاد والعيس قد قلّصن بالأزواد مثل الجمان مفرق الأفراد
    إلى أن قال :
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً فما رجعوا حتى رأوا من محمد وحتى رأوا أحبار كل مدينة لاقوا على شرك من المرصاد عنه وردّ معاشر الحسّاد أحاديث تجلو غمّ كل فؤاد سجوداً له من عصبة وفراد (1)
    وما رأى أبو طالب من ابن أخيه في هذا السفر من الكرامات وخوارق العادات التي ضبطها التاريخ ، وما سمعه من بحيرا من مستقبل أمره وانّ اليهود له بالمرصاد ، كاف لإرشاد كل إنسان صافي الذهن مستقيم الطريقة ، فكيف بأبي طالب الذي كان بالإضافة إلى هاتين الصفتين ، يحبه حبّاً جماً أشدّ من حبه لأولاده
    1 ـ السيرة النبوية لابن هشام : 1/182; الطبقات الكبرى : 1/120; تاريخ ابن عساكر : 1/269 ـ 272; ديوان أبي طالب : 33 ـ 35; إلى غير ذلك من المصادر التي اهتمت بنقل هذه الواقعة.

(273)
وإخوته ، فكانت هذه الكرامات كافية في هدايته لخط التوحيد ورسالة ابن أخيه وإن لم يكن يصرح بها لفظاً قبل البعثة ، لكنه جهر بها بعده كما سيوافيك إن شاء اللّه.
    مضافاً إلى أنّه كان موضع الثقة من عبد المطلب ، وقد أوصاه برعاية ابن أخيه بعده ، فلا يصح لعبد المطلب المؤمن الموحّد أن يدلي بوصيته وكفالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى من لم يكن على غير خط التوحيد ، ولم تكن بينهما وحدة فكرية ، وإلى ذلك يشير أبو طالب في هذه القصيدة الدالية :
راعيت فيه قرابة موصولة وحفظت فيه وصية الأجداد

إيمانه بعد البعثة
    أمّا دلائل إيمانه باللّه أوّلاً ، وبرسالة ابن أخيه ثانياً ، بعد بعثة النبي الأكرم فحدث عنه ولا حرج وإن كان بعضهم قد هضم حق أبي طالب قرة عين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالوا بما لا ينسجم مع الحقائق التاريخية ، ولو نقل معشار ما ورد عن إيمانه من فعل أو قول ، في حق غيره لاتفق الكل على إيمانه وتوحيده ، ولكن ـ ويا للأسف ـ انّ بعض الجائرين على الحق لا يريدون أن يعتبروا تلك الدلائل وافية لإثبات إيمانه.
    لم يزل سيدنا أبو طالب يكلأ ابن أخيه ويذب عنه ويدعو إلى دينه الحنيف منذ بزوغ شمس الرسالة إلى أن لقي ربّه ، وكفانا من إفاضة القول في ذلك ، الكتب المؤلفة حول تضحيته لأجل الحق ودفاعه عنه شعراً ونثراً ، ونكتفي بالنزر اليسير من الجم الغفير :
    1 ـ كتب أبو طالب إلى النجاشي عندما نزل المهاجرون من المسلمين بقيادة


(274)
جعفر الطيار أرض الحبشة وهو يحضه على حسن الجوار :
ليعلم خيار الناس أنّ محمداً وانّكم تتلونه في كتابكم نبيّ كموسى والمسيح بن مريم بصدق حديث لا حديث المبرجم (1)
    2 ـ نحن نفترض الكلام في غير أبي طالب ، فإذا أردنا الوقوف على نفسية فرد من الأفراد والعلم بما يكنّه من الإيمان أو الكفر ، فما هو الطريق إلى كشفها؟ فهل الطريق إليه إلاّ كلامه وقوله ، أو ما يقوم به من عمل ، أو ما يروي عنه مصاحبوه ومعاشروه ، فلو كانت هذه هي المقاييس الصحيحة للتعرف على النفسية ، فكلّها تشهد بإيمانه القويم وتوحيده الخالص ، فإنّ فيما أثر عنه من نظم ونثر ، أو نقل من عمل بار ، وسعي مشكور في نصرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحفظه ، والدعوة لرسالته وما روى عنه مصاحبوه ومعاشروه ـ فإنّ في هذه ـ لدلالة واضحة على إيمانه باللّه ورسالة ابن أخيه وتفانيه في سبيل استقرارها.
    كيف ، وهو يقول في أمر الصحيفة التي كتبها صناديد قريش في سبيل ضرب الحصار الاقتصادي على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبني هاشم وبني المطلب :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً وأنّ الذي ألصقتمُ من كتابكم نبيّاً كموسى خط في أوّل الكتب لكم كائن نحساً كراغية السقب (2)
    ففي هذه الأبيات التي تزهر بنور التوحيد ، وتتلألأ بالإيمان بالدين الحنيف دلالة واضحة على إيمانه بالرسالات الإلهية عامة ، ورسالة ابن أخيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة ، وكم وكم له من قصائد رائعة يطفح من ثناياها الإيمان الخالص ، والإسلام
    1 ـ مستدرك الحاكم : 2/623 ـ 624.
    2 ـ السيرة النبوية : 1/352 ، وذكر من القصيدة 15 بيتاً.


(275)
الصحيح ، ونحن نكتفي في إثبات إيمان كفيل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا المقدار ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدة لذلك.
    فإنّ نقل ما أثر عنه من شعر ونثر ، أو روي من عمل مشكور ، يحتاج إلى تأليف كتاب مفرد وقد قام لفيف من محققي الشيعة بتأليف كتب حول إيمانه ، بين مسهب في الإفاضة وموجز في المقالة ، وفيما حقّقه وجمعه شيخنا العلاّمة الأميني في غديره كفاية لطالب الحق. (1)
    هذا إيمان عبد المطلب وذلك توحيد ابنه البار أبي طالب ، وقد تربَّى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وترعرع وشب واكتهل في أحضانهما ، وفي قانون الوراثة أن يرث الأبناء ما في الحجور والأحضان من الخصال والأخلاق وقد قضى النبي الأكرم قسماً وافراً من عمره الشريف في تلك الربوع واستظل بفيئها.

إيمان والدي النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    لقد تعرفت على إيمان كفيل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهلمّ معي ندرس حياة والديه وإيمانهما ، فقد ذهبت الإمامية والزيدية وجملة من محقّقي أهل السنّة إلى إيمانهما وكونهما على خط التوحيد ، وشذَّ من قال : إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كثرة ما أنعم اللّه عليه ووفور إحسانه إليه لم يرزقه إسلام والديه.
    فإنّ هذه الكلمة صدرت من غير تحقيق ، فإنّ التاريخ لم يضبط من حياتهما إلاّ شيئاً يسيراً ، وفيما ضبط إيعاز لو لم نقل دلالة على إيمانهما وكونهما على الصراط المستقيم.
    1 ـ راجع تفصيل ذلك الغدير : 7/330 ـ 409 و 8/1 ـ 29.

(276)
    أمّا الوالد : فقد نقلت عنه كلمات وأبيات تدل على إيمانه ، فإليك ما نقله عنه أهل السير ، عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها :
أمّا الحرام فالممات دونه يحمي الكريم عرضه ودينه والحل لا حل فاستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه (1)
    وقد روي عن النبي الأكرم أنّه قال : « لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ». ولعل فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمّهاته من كل دنس وشرك. (2)
    وأمّا الوالدة : فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها ( رضي اللّه عنها ) خرجت مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهم بنو عدي بن النجار ، ومعها أُم أيمن « بركة » الحبشية ، فأقامت عندهم ، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول : « إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار ، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ ، فنظر إليّ رجل من اليهود ، فقال : يا غلام ما اسمك؟ فقلت : أحمد ، فنظر إلى ظهري وسمعته يقول : هذا نبي هذه الأُمّة ، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم ، فخافت أُمّي عليّ ، فخرجنا من المدينة ، فلمّا كانت بالأبواء توفيت ودفنت فيها ».
    روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت : شهدت آمنة أُمّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في علتها التي ماتت بها ، ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام « يفع » (3) له
    1 ـ السيرة الحلبية : 1/46 وغيرها.
    2 ـ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : 1/58.
    3 ـ يفع الغلام : ترعرع.


(277)
خمس سنين عند رأسها ، فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها :
إنّ صح ما أبصرت في المنام فاللّه أنهاك عن الأصنام فأنت مبعوث إلى الأنام أن لا تواليها مع الأقوام
    ثم قالت : كل حي ميت ، وكل جديد بال ، وكل كبير يفنى ، وأنا ميتة ، وذكري باق وولدت طهراً.
    وقال الزرقاني في « شرح المواهب » نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها : وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحّدة ، إذ ذكرت دين إبراهيم ( عليه السلام ) وبشّ ـ رت ابنها بالإسلام من عند اللّه ، وهل التوحيد شيء غير هذا؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف باللّه وانّه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام. (1)
    هذا بعض ما ذكره المؤرّخون في أحوال والدي النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والكل يدل على إخلاصهما ونزاهتهما عمّا كان هو السائد في البيئة التي كانا يعيشان فيها.
    وأخيراً نوجه نظر القارئ إلى الرأي العام بين المسلمين حول إيمانهما ، قال الشيخ المفيد في « أوائل المقالات » :
    واتفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عزّ وجلّ موحّدون له ، واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ ) (2).
    وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتى أخرجني في عالمكم هذا » ، وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب ( رحمه
    1 ـ الاتحاف للشبراوي : 144; سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية : 1/57.
    2 ـ الشعراء : 218 ـ 219.


(278)
اللّه ) مات مؤمناً ، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد ، وأنّها تحشر في جملة المؤمنين. (1)
    أقول : الاستدلال بالآية يتوقف على كون المراد منها نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، وهو المروي عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدين ) (2) قال : من نبي إلى نبي حتى أُخرجت نبياً. (3)
    وقد ذكره المفسرون بصورة أحد الاحتمالات ، ولكنّه غير متعين ، لاحتمال أن يكون المراد إنّه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلّبه في الساجدين عبارة عن تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده إذا كان إماماً لهم.
    وأمّا الاستدلال بالحديث ، فهو مبني على أنّ من كان كافراً فليس بطاهر ، وقد قال سبحانه : ( إنَّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ ) (4).
    لكن الحجة هي الاتفاق والإجماع ، مضافاً إلى ما تضافر من الروايات حول طهارة والدي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي جمعها الحافظ أبو الفداء ابن كثير في تاريخه قال : وخطب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : « أنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ... وما افترق الناس فرقتين إلاّ جعلني اللّه في خيرها ، فأُخرجت من بين أبوي ، فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأُمي ، فأنا خيركم نفساً ، وخيركم أباً ». (5)
    وعن عائشة قالت : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « قال لي جبرئيل : قلّبت الأرض من مشارقها
    1 ـ أوائل المقالات : 12 ـ 13.
    2 ـ الشعراء : 219.
    3 ـ البداية والنهاية : 2/239 ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الرابعة ـ 1408 هـ..
    4 ـ مفاتيح الغيب : 6/431. والآية من سورة التوبة : 28.
    5 ـ البداية والنهاية : 2/238.


(279)
ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد ، وقلّبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ».
    قال الحافظ البيهقي : وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به ، فبعضها يؤكد بعضاً ، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع ، واللّه أعلم.
    قلت : وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخر فإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها وإن فَخَرتْ يوماً فإنّ محمداً تداعت قريشُ غثُّها وسمينُها وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً ونحمي حماها كل يومِ كريهة بنا انتعش العودُ الذواءُ وإنّما فعبدُ مناف سِرُّها وصميمُها ففي هاشم أشرافُها وقديمها هو المصطفَى من سرّها وكريمها علينا فلم تظفر وطاشت حُلومها إذا ماثنوا صُعْرَ الخدود نقيمها ونضربُ عن أحجارها من يرومها بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (1)
    ويعجبني أن أنقل ما ذكره الشبراوي في المقام : قال : ومبدأ الكلام في ذلك إنّ اللّه سبحانه قد أخرج هذا النوع الإنساني لأجله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإنّ آدم عليه الصلاة والسلام كان أوّل فرد من أفراد هذا النوع ، وكان سائر أفراده مندرجة في صلبه بصور الذرات ، فلمّا نفخ الروح في آدم كان نور نسمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يلمع في جبهته كالشمس المشرقة ، ثم انتقل ذلك النور من صلب آدم إلى رحم حواء ، ومنها إلى صلب شيث ، ثم استمر هذا ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وهو معنى قوله : ( وتقلّبك في الساجدين ) ، وأشار إليه العلاّمة البوصيري بقوله :
لم تزل في ضمائر الكون تختا ر لك الأُمّهات والآباء

    1 ـ البداية والنهاية : 2/240.

(280)
    وكان كل جد من أجداده من لدن آدم يأخذ العهد والميثاق أن لا يوضع ذلك النور المحمدي إلاّ في الطاهرات ، فأوّل من أخذ العهد آدم ، أخذه من شيث ، وشيث من أنوش ، وهو من « قينن » ، وهكذا إلى أن وصلت النوبة إلى عبد اللّه بن عبد المطلب ، فلمّا أُودع ذلك الجزء ، في صلبه لمع ذلك النور من جبهته ، فظهر له جمال وبهجة ، فكانت نساء قريش يرغبن في نكاحه ، وقد أسعد اللّه بتلك السعادة وشرّف بذلك الشرف « آمنة » بنت وهب ، فتزوجها عبد اللّه.
    وقد روى الترمذي عن العباس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ اللّه خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثم تخيّر القبائل فجعلني في خير قبيلة ، ثم تخيّر البيوت ، فجعلني في خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً ». أي ذاتاً وأصلاً.
    وقد دلّت الآيات والأحاديث على أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما طابت ذاته الشريفة ، بما أُوتي من الكمال الأعلى ، كذلك طاب نسبه الشريف ، فلم يكن في آبائه ولا أُمهاته من لدن آدم وحواء إلى عبد اللّه وآمنة ، إلاّ من هو مصطفى مختار قد طابت أعراقه ، وحسنت أخلاقه.
    أخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : استجاب اللّه تعالى دعوة إبراهيم في ولده ولم يعبد أحد منهم صنماً بعد دعوته ، واستجاب له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذريته من يقيم الصلاة.
    قال السيوطي : وهذه الأوصاف كانت لأجداده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة دون سائر ذريّة إبراهيم ، وكل ما ذكر عن ذريّة إبراهيم من المحاسن فإنّ أولى الناس به سلسلة الأجداد الشريفة ، الذين خصّوا بالاصطفاء وانتقل إليهم نور النبوة واحداً بعدواحد ، ولم يدخل ولد إسحاق وبقية ذريته لأنّه دعا لأهل هذا البلد ، ألا تراهقال : ( اجْعَلْ هذَا البَلَدَ آمِناً ) وعقّبه بقوله : ( واجْنُبْنِي وَبنِيَّ أنْ نَعبُدَ
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس