مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 401 ـ 410
(401)
ويذب عن دين الله ، ويدعوإلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة ـ إلى أن قال : ـ مضطلع بالأمر ، عالم بالسياسة ، مستحق للرئاسة ، مفترض الطاعة ، قائم بأمرالله ، ناصحّ لعباد الله » (1).
    فهذه العقود الدرّية تعرب عن مفهوم الإمامة لدى أئمّة أهل البيت ، وهو مطابق لما استفدناه من الآية الكريمة.
    هذه هي النظريات الأربع المذكورة حول ملاك إمامة الخليل الواردة في آية الابتلاء ، وبقيت هنا نظرية خامسة اختارها العلاّمة الطباطبائي نتبرّك في خاتمة المطاف بذكرها وتحليلها ، وإنّما أخّرنا ذكرها ، لأنّ للنظرية الرابعة تأثيراً خاصاً في فهمها وتوضيحها وما يتوجه إليها من الإشكال ، وإليك بيانها.

الملاك الخامس : تسيير النفوس إلى الكمال بهداية تكوينية
    ويتضح ببيان أُمور :
    الأوّل : انّ تفسير الإمامة بالنبوة والخلافة ، أو الوصاية ، أو الرئاسة في أُمور الدين والدنيا ، وكونه مطاعاً حدث من تكرّر الاستعمال بمرور الزمان كما ابتليت به سائر الألفاظ الواقعة في القرآن ، فإنّ النبوة معناها تحمّل النبأ من جانب الله ، والرسالة معناها تحمّل التبليغ ، والإطاعة من لوازم النبوّة والرسالة [ فكيف تفسّر الإمامة بالإطاعة ] والخلافة نحو من النيابة ، وكذلك الوصاية والرئاسة نحو من الطاعة للموصي والرئيس ، وهو كون الإنسان مصدراً للحكم في المجتمع ، وكل هذه المعاني غير معنى الإمامة ، إذ لا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إنّي جاعلك للناس نبياً ، أو مطاعاً فيما تبلغه ، أو رئيساً تأمر وتنهى في
    1 ـ تحف العقول : 436 ـ 441.

(402)
الدين أو وصياً أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مراجعاتهم بحكم الله.
    وبعبارة أُخرى : لا يصحّ أن يقال لنبي من لوازم نبوته كونه مطاعاً بعد نبوته إنّي جاعلك مطاعاً في الناس بعد ما جعلتك كذلك. ولا يصحّ أن يقال له ما يؤول إليه معناه وان اختلف معه في العبارة ، فهذه المواهب ـ أمثال الإمامة الإلهية ـ ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية بل تصحبها المعارف الحقيقية.
    الثاني : انّا نجد في كلامه تعالى انّه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرضاً تفسيرياً ، قال تعالى : ( وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ ( أي بني إسرائيل ) أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (2) ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ثم قيّدها بالأمر ، فبيّن إنّ الإمامة ليست مطلق الهداية ، بل الهداية الّتي تقع بأمرالله والتعرّف على أنّ الإمام هو الهادي « بأمر الله » هو المهم في فهم معنى الإمامة.
    الثالث : انّه سبحانه بيّن سبب هبته الإمامة بقوله : ( لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) فبيّن أنّ الملاك في ذلك هو صبرهم في جنب الله وكونهم قبل ذلك موقنين : وقال سبحانه في حق إبراهيم : ( وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) ، فإراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه ، وقد علمت أنّ كونهم موقنين أحد أسباب إمامتهم.
    الرابع : انّ « الأمر » الّذي يكون الإمام به هادياً ليس بمعنى الإذن ، بل المراد
    1 ـ الأنبياء : 72 ـ 73.
    2 ـ السجدة : 24.


(403)
هو الأمر التكويني الّذي بيّنت حقيقته في قوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيء ) (1).
    وقال سبحانه : ( وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْح بِالْبَصَرِ ) (2) ، والمراد بكلمة ( كُنْ ) ليس هو التلفّظ بل وجود الشيء المعين بلا تدرج وتغيير كما هو اللائق بأفعاله سبحانه كما أنّه مع التغير والانطباق على قوانين الحركة والزمان هو الخلق.
    اذاعرفت ذلك ، نقول : إنّ شأن النبي والرسول هو إراءة الطريق وشأن الإمام هو الإيصال إلى المطلوب ، لأنّ الإنسان الكامل الّذي يهدي بأمر ملكوتي (3) ( لا بأمر لفظي ) يصاحب ذلك الأمر ، فالإمامة نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها ، إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر الله. (4)
    وقد أوضحه أيضاً في كتابه « الشيعة في الإسلام » بقوله :
    كما أنّ الإمام قائد ومسيّر وزعيم للأُمّة بالنسبة للظاهر من الأعمال ، كذلك هو قائد وزعيم بالنسبة للباطن من الأعمال أيضاً ، فهو المسيّر والقائد للإنسانية من الناحية المعنوية نحو خالق الكون وموجده.
    إنّ كل عمل من الأعمال الحسنة والسيئة تولّد في الإنسان واقعية ، والحياة الأُخروية ترتبط بهذه الواقعيات ارتباطاً وثيقاً. والإنسان يتصف بحياة باطنية غير الحياة الظهرية الّتي يعيشها والّتي تنبع من أعماله ، وترتبط حياته الأُخروية بهذه الأعمال والأفعال الّتي يمارسها في حياته هنا ، قال سبحانه : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
    1 ـ يس : 82 ـ 83.
    2 ـ القمر : 50.
    3 ـ يريد بالأمر الملكوتي : الأمر التكويني الّذي تعلّقه بشيء نفس تحقّقه وتكوّنه ، وأين هو من الأمر اللفظي أو الذهني اللّذين ينفكان عن المراد والمأمور به ويتوقفان على مقدمات ومعدّات.
    4 ـ الميزان : 1 / 274 ـ 276 بتلخيص.


(404)
مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) (1).
    إنّ القرآن يدل على أنّ هناك حياة أسمى وروحاً أرفع من هذه الحياة للصالحين والمؤمنين ، ويؤكد على أنّ نتائج الأعمال الباطنية تلازم الإنسان دوماً ولكن الإنسان ربما لا يشعر بأنّ الأعمال الحسنة أو السيئة تكوّن في الإنسان حياة أُخروية وواقعية باطنية وسعادة وشقاء ، ومع ذلك كلّه هي مؤثرة ، والإنسان في حياته يشبه الطفل حيث يملي عليه مربّيه بألفاظ الأمر والنهي ، فهما كافلان لتكوين حياة سعيدة له ، هو يأتمر أمره ولا يشعر بما يترتّب على طاعة أمره ونهيه من النتائج ، لكنّه كلّما تقدّم في العمر استطاع أن يدرك ما قاله مربّيه ، فينال بذلك الحياة السعيدة ، وما ذلك إلاّ بما اتصف به من ملكات ، وإذا ما رفض وعصى معلمه الّذي كان يسعى له بالصلاح ، تجد حياته مليئة بالمآسي والآلام.
    الإنسان يشبه المريض الّذي دأب على تطبيق أوامر الطبيب في الدواء والغذاء اورياضة خاصة ، فهو لم يبال بشيء إلاّ ما أملاه عليه طبيبه ، فعندئذ يجد الراحة والصحة ويتحسن بتحسن صحته.
    فإذن الإنسان الّذي يصبح قائداً للأُمّة بأمر من الله ، فهو قائد للحياة الظاهرية والمعنوية ، وما يتعلّق بها من أعمال تسير مع سيره ونهجه.
    فالإمام فضلاً عن الإرشاد والهداية الظاهرية ، يختص بنوع من الهداية المعنوية ، فهو بواسطة الحقيقة والنور الباطني الّذي يتصف به يستطيع أن يؤثر في القلوب المهيّأة وأن يتصرف بها كيف ما شاء ويسيّرها نحو مراتب الكمال والغاية المتوخاة. (2)
    هذا غاية توضيح لهذه النظرية حرّرناها بشكل يقف على مرادها كل من له أدنى إلمام بالعلوم العقلية.
    1 ـ النحل : 97.
    2 ـ الشيعة في الإسلام : 163 ـ 166.


(405)
تحليل هذه النظرية
    لا شك أنّ النفوس القوية تستطيع أن تؤثر في القلوب المهيّأة وتسيّرها نحو الكمال ، لكن البحث في تفسير الإمام الوارد في الآية الكريمة بالمتصرف في القلوب والهادي لها تكويناً ومسيرها نحو الكمال ، فانّه لا شاهد لذلك التفسير.
    أمّا أوّلاً : فانّ قوله : ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) في مقام الثناء عليهم بأنّهم لا يصدرون في أمرهم ونهيهم إلاّ عن إذنه تعالى ، فلأجل ذلك صاروا هداة واقعيين ، فمنطقهم صواب ، وفعلهم وتقريرهم حجة وكل ما يمت إليهم هداية ، وأين ذلك من كون الجملة في مقام بيان حقيقة الإمامة وانّها عبارة عن القدرة التكوينية الّتي يستطيع بها الإنسان الكامل أن يؤثر في النفوس المهيّأة لسوقها نحو الكمال.
    ويظهر ما ذكرنا من رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) حيث قال : « إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّوجل إمامان : قال الله تبارك وتعالى : ( وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (1) لابأمر الناس يقدّمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم ، قال : ( وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (2) يقدّمون أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجل ». (3)
    ويقول العلاّمة المجلسي ( رحمه الله ) حول الرواية : أي ليست هدايتهم للناس وإمامتهم بنصب الناس وأمرهم ، بل هم منصوبون لذلك من قبل الله
    1 ـ الأنبياء : 73.
    2 ـ القصص : 41.
    3 ـ الكافي : 1 / 216.


(406)
تعالى ومأمورون بأمره. (1)
    وثانياً : أنّ تفسير الإمامة بالقيادة العامة للأُمّة هو كون المتلبس بها أُسوة في القول والعمل ، ليس من المعاني المبتذلة كيف ويقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والإمامة نظاماً للأُمّة. (2)
    وثالثاً : ما أفاده من أنّه لا معنى أن يقال لنبي مفترض الطاعة « إنّي جاعلك للناس إماماً أو مطاعاً » غير تام ، لما أوقفناك عليه من أنّ النبي بما هو نبي ليس له شأن إلاّ التنبّؤ ، كما أنّ الرسول ليس له شأن إلاّ إبلاغ الرسالات ، وأمّا كونه مطاعاً بالنسبة إلى الأوامر الّتي تصدر منه لأجل مصالح الأُمّة ، فهو ليس من شؤون الرسالة ، وانّما يكون من شؤون مقام آخر يتلبس به بعدهما ويحول إليه بعد الاختبار والابتلاء.
    وقد أوقفناك على أنّ مثل النبي والرسول فيما يبلغ من أمر الرسالة مثل المفتي والمستنبط للأحكام من الكتاب والسنّة ليس له أمر ولانهي ولا طاعة ولا معصية ، بل له حق الإبلاغ والإعلام لا الأمر والبعث والزجر والمنع ، كل ذلك يستوجب أن يكون له مقام آخر يناسب تلك الأُمور ، وهو مقام الإمامة والقيادة والرئاسة وما أشبهها.
    ففي المجال الأوّل يكون المطاع حقيقة هو الله ، ولو نسبت الطاعة إلى الرسول فبالعناية ، وبهذا يفسر قوله : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) (3) ، وإلاّ فالرسول بما هو رسول ومبلّغ وواسطة بين الخالق والمخلوق لا أمر
    1 ـ مرآة العقول : 1 / 165 ، الطبعة القديمة الحجرية ، وفي أواخر الجزء الثاني من الطبعة الحديثة.
    2 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 252.
    3 ـ النساء : 64.


(407)
له حتى يطاع ولا نهي له حتى يعصى ، فمن أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فإنّما عصى الله ، ونسبة الإطاعة إليه في الآية المباركة بضرب من العناية ، والمقصود من إطاعته سماع قوله ، وتطبيق العمل على كلامه نظير ما يقول الصديق للصديق « أطعت قولك » ، والمقصود جعل العمل مطابقاً لكلامه.
    وبذلك يعلم أنّ ما ورد من الآيات من الأمر بإطاعة الرسول في جنب أُولي الأمر ليس المراد من الرسول فيها الرسول بما هو رسول ، بل بما له من مقام الإطاعة فيكون الرسول عنواناً مشيراً إلى قيادته وإمامته ، قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ). (1)
    ( وَ أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ). (2)
    والحاصل : انّ للرسول إطاعتين.
    إحداهما : ضرب من العناية ، كما هو شأن كل واسطة بين الآمر والمأمور ، ولا تعدّ هذه طاعة حقيقية ، وعلى هذا المعنى تنزّل عدة من الآيات الواردة فيها طاعة الرسول.
    وثانيتهما : إطاعة حقيقية عندما خلع عليه سبحانه ثوب الإمامة ولباس القيادة ، فيكون مطاعاً واقعاً ، وعلى كلا المعنيين يمكن تنزيل قوله سبحانه : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ). (3)
    وعلى الجملة فما أفاده ( قدس سره ) فله حق عظيم علينا وعلى الأُمّة الإسلامية ـ كلام غير تام ، والله العالم.
    1 ـ النساء : 59.
    2 ـ الأنفال : 46.
    3 ـ النساء : 80.


(408)
    وعلى كل تقدير فبين ما أفاده في « الميزان » وما بيّنه في الموضع الآخر فرق واضح ، لأنّه ( قدس سره ) في الأوّل لا يسلّم كون القيادة الظاهرية من شؤون الإمام بل يفسر الإمام بالمتصرّف في القلوب ، الهادي على نحو الإيصال إلى المطلوب ; ولكنّه يسلم في كتاب « الشيعة في الاسلام » كونها أحد شؤونه كما هو لائح من عبائره ، ولعله أمتن ; وقد عرفت فيما سبق أنّ الوقوف على مفاد الآية يتوقف على البحث عن نقاط سبع ، وقد فرغنا من البحث عن أربع منها ، وبقي الكلام في نقاط ثلاث ، وإليك بيان الخامسة منها.

5. الإمامة عهد من الله
    العهد في الأصل هو الاحتفاظ بالشيء ، وإليه ترجع سائر المعاني الّتي استعملت فيها تلك اللفظة ، فيقال للوصية : العهد. لأنّه ينبغي الاحتفاظ بها كما يطلق على ما يكتب للولاة من الوصية ، لأنّه ممّا ينبغي الاحتفاظ به ، والعهد : الكتاب الّذي يستوثق به في البيعات. (1)
    وعلى ذلك فكل شيء غال قيم ينبغي الاحتفاظ به فهو العهد ، والله سبحانه ينسب الإمامة إلى نفسه ويقول : ( عهدي ) ، ويريد بذلك إنّه شيء غال وهدية ثمينة من الله سبحانه يجب الاحتفاظ بها من جانب الأُمّة ، وبما أنّ الشيء الثمين لا يودع إلاّ عند من كان أميناً واضعاً كل شيء في مكانه ، قال سبحانه : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، فالإمامة ميثاق الله سبحانه بين الأُمّة يجب الاحتفاظ بها عن طريق امتثال ما يفترض من الأوامر والنواهي وعدم إضاعتها.
    ويظهر ذلك ـ أي انّ الإمامة عهد الله سبحانه ـ انّ الإمامة نوع من
    1 ـ معجم مقاييس اللغة : 4 / 168.

(409)
الحكومة ، وليس لأحد حق الحكم على أحد إلاّ بإذنه سبحانه ، فالحاكم الواقعي المشروع حكمه ، النافذ أمره ونهيه ، من استند في ولايته إلى الله سبحانه وتعالى.

6. ما هو المقصود من الظالمين؟
    الظلم في اللغة : هو وضع الشيء في غير موضعه ، قال ابن فارس بعد ذكره لهذه الجملة : ألا تراهم يقولون من أشبه أباه فما ظلم ، أي : ما وضع الشبه غير موضعه ، وبه قال غيره من اللغويين.
    قال ابن منظور : الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ومن أمثال العرب : من أشبه أباه فما ظلم. قال الأصمعي : أي ما وضع الشبه في غير موضعه. وفي المثل : من استرعى الذئب فقد ظلم. وفي حديث ابن زمل : لزموا الطريق فلم يظلموه ، أي : لم يعدلواعنه ، يقال : أخذ في طريق فما ظلم يميناً ولا شمالاً. وأصل الظلم : الجور ، ومجاوزة الحد. والظلم : الميل عن القصد ، والعرب تقول : الزم هذا الصوب ولا تظلم عنه ، أي لا تجز عنه. قال سبحانه : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ، وذلك لأنّه جعل النعمة لغير ربها.
    فإذا كان الظلم بمعنى مجاوزة الحد الّذي عيّنه العرف أو الشرع ، فالمعصية كبيرها وصغيرها ظلم ، لأنّ مقترفهما يتجاوز عن الحد الّذي رسمه الشارع ، والظلم له مراتب والمجموع يشترك في كونه تجاوزاً عن الحد ووضعاً للشيء في غير موضعه.
    ولمّا خلع سبحانه ثوب الإمامة على خليله ونصبه إماماً للناس ودعا إبراهيم أن يجعل من ذريته إماماً ، فأُجيب بأنّ الإمامة وثيقة إلهية قيمة لا تنال الظالمين ، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس ، المتصرف في النفوس والأموال ، والقائد للمجتمع إلى السعادة ، فيجب أن يكون على الصراط السوي حتى يكون أمره ونهيه وتصرّفه


(410)
وقيادته نابعة عنه ، والظالم هو المتجاوز عن الحد ، المتمايل عن الصراط إلى اليمين والشمال (1) ، الواضع للشيء في غيرموضعه لا يصلح لهذا المنصب وحدوده.
    إنّ الظالم الناكث لعهد الله ، والناقض لدساتيره وحدوده على شفا جرف هار لا يؤتمن عليه ، ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة ، ولا مفاتيح القيادة ، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدّي ، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين ، فكيف يصح في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً ، نافذاً قوله ، مشروعاً تصرفه ، إلى غير ذلك من شؤون الإمامة؟

7. دلالة الآية على عصمة الإمام
    إنّ بعض المناصب والمقامات تعيّن شروطها بنفسها ، فمدير المستشفى ، له شروط تختلف عن شروط قائد الجيش ، وهكذا غيرهما.
    فالإمامة الّتي لا تنفك عن التصرّف في النفوس والأموال ، وبها يناط حفظ القوانين ، يجب أن يكون القائم بها إنساناً مثالياً مالكاً لنفسه ، وغرائزه ، حتى لا يتجاوز في حكمه عن الحد ، وفي قضائه عن الحق.
    والمستفاد من الآية انّ الظلم بشتى ألوانه مانع من النيل لمقام الإمامة ، لأنّ كلمة « الظالمين » بحكم كونها محلاّة باللام تفيد الاستغراق في الأفراد ، فإذا كان الظالمون بعامة أفرادهم ممنوعين من الارتقاء إلى هذا المقام ، يكون الظلم بكل ألوانه وصوره مانعاً عن الرقي والنيل لهذا المنصب الإلهي ، فالاستغراق في جانب الأفراد يستلزم الاستغراق في جانب الظلم وأقسامه وتكون النتيجة مانعية كل فرد
    1 ـ ونعم ما قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « اليمين والشمال مضلّة ، والطريق الوسطى هي الجادة ». ( نهج البلاغة : قسم الخطب ، الرقم 15.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس