منه عن الارتقاء إلى منصب الإمامة.
وبالجملة : فالآية تستغرق جميع الظالمين ، وتسلب الصلاحية عن كل فرد منهم ، وبالنتيجة تفيد بأنّ الظلم باي شكل كان مانع عن الارتقاء إلى الإمامة. فالاستغراق في ناحية الأفراد يلازم الاستغراق في أقسام الظلم. فتكون النتيجة : انّ من صدق عليه انّه ظالم ولو في فترة من عمره يكون ممنوعاً من نيل هذا المقام الرفيع.
سؤال وجواب أمّا السؤال ، فهو : انّ الآية انّما تشمل من كان مقيماً على الظلم ، فأمّا التائب عنه فلا يتعلّق به الحكم ، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة وزالت الصفة زال الحكم ، وصفة الظلم صفة ذم ، فإنّما تلحقه ما دام مقيماً عليه ، فإذا زال عنه زالت الصفة عنه ، كذلك يزول عنه الحكم الّذي علّق به من نفي نيل العهد في قوله تعالى : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ألا ترى أنّ قوله تعالى : ( وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) إنّما هو نهي عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم ، وكذلك قوله تعالى : ( مَا عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل ) إنّما هو ما أقاموا على الإحسان ، فقوله تعالى : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) لم نف به العهد عن من تاب عن ظلمه ، لأنّه في هذه الحالة لا يسمّى ظالماً كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً ومن تاب من الفسق فاسقاً ، وانّما يقال كان كافراً وكان فاسقاً ، وكان ظالماً ، والله تعالى لم يقل لم ينل عهدي من كان ظالماً ، وانّما نفى ذلك عن من كان موسوماً بسمة الظالم والاسم لازم له باق عليه. (1) 1 ـ أحكام القرآن ( لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص ، المتوفّى عام 370 هـ ) : 1 / 72 بتلخيص.
(412)
الجواب انّ ما أفاده الجصاص من أنّ الحكم يدور مدار وجود الموضوع ليس ضابطاً كلياً يعتمد عليه في كل الموارد ، وما استشهد به من المثالين لا يكون مبدأ لانتزاع القاعدة الكلية المزعومة ; بل الأحكام على قسمين : قسم يدور مدار وجود الموضوع ، فينتفي بانتفائه ، وقسم يكفي فيه اتصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما ولحظة خاصة ، وان انتفى بعد الاتصاف ، وإليك توضيح كلا القسمين : أمّا القسم الأوّل : مثل قولنا الخمر حرام ، أو في سائمة الغنم زكاة ، فالمائع ما دام يصدق عليه عنوان الخمر يحرم شربه ، فإذا انقلب إلى الخل يرتفع عنه الحكم ، والغنم ما دامت سائمة تتعلّق بها الزكاة ، فإذا زال العنوان وعادت معلوفة يرتفع عنها الحكم ، وله في العرف والشريعة أمثلة لا تعد ولا تحصى. وأمّا القسم الثاني : أعني ما يكفي في بقاء الحكم اتصاف الموضوع بالعنوان ولو مرة واحدة أو لحظة سريعة عابرة ، فهو كالزاني والسارق ، فالإنسان إذا تلبّس بالزنا أو السرقة ، يكون محكوماً بالحد وإن زال عنه العنوان ، بل وإن تاب وأناب بعد ثبوت الحكم في حقه ، ومثله عنوان المستطيع ، فمن استطاع الحج يجب عليه وإن زالت عنه الاستطاعة وقصر في أداء الحج. ومثل هذه الأمثلة ، عنوان « أُمّهات نسائكم » فمن اتصفت بكونها أُمّاً لزوجة ولو لحظة تحرم على الزوج وإن زالت علقة الزوجية ، وعلى هذا الضوء يكون قوله تعالى : ( وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (1) ، وقوله سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَ الزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ) (2) ، وقوله سبحانه : ( وَ للهِ عَلَى 1 ـ المائدة : 38. 2 ـ النور : 2.
(413)
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) ، وقوله سبحانه : ( وَ أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) (2) ، شاملاً لكل من تلبس بالسرقة والزنا والاستطاعة والأُمومة للزوجة ، سواء بقوا على العنوان أم زال عنهم ، وعلى هذا القياس يجب تقسيم الموضوعات المتصفة بالعناوين إلى قسمين لا جعلهما قسماً واحداً كما صنع الجصّاص.
نعم ، المهم في المقام إثبات انّ الموضوع في الآية من قبيل القسم الثاني لا القسم الأوّل ، فما لم يثبت كونه منه لا يفيد تقسيم العنوان إلى قسمين. وبعبارة أُخرى : اللازم إثبات أنّ المتلبّس بالظلم ولو آناً ما ، ولو فترة يسيرة من عمره لا يصلح للإمامة في كل عمره وإن تاب من الذنب ، ويمكن إثبات ذلك من طريقين : الأوّل : طريق العقل إنّ الهدف الأسمى من تنصيب أمثال الخليل ( عليه السلام ) للإمامة تحقيق الشريعة الإلهية في المجتمع وتحقيقها بين الناس ، فإذا كان القائد رجلاً مثالياً نقي الثوب ، مشرق الصحيفة ، ناصع السلوك ، يكون لأمره ونهيه نفوذ في القلوب ، ولا تكون قيادته محل طعن من قبل المجتمع ، بل يستقبله الشعب بوجوه ملؤها الإجلال والإكبار ، لأنّه عاش بين ظهرانيهم ولم يروا منه عصياناً ولا زلة ، بل كان قائماً على الصراط السوي غير مائل عنه ، وعند ذلك يتحقّق الهدف الأسمى من تنصيب الشخصيات المعينة للإمامة. وأمّا اذاكان في فترة من عمره مقترفاً للمعاصي ، مجترحاً للسيئات ، فهو
1 ـ آل عمران : 97. 2 ـ النساء : 23.
(414)
غرض لسهام الناقدين ، ومن البعيد أن ينفذ قوله وتقبل قيادته بسهولة ، بل يقع مورداً للاعتراض بأنّه كان بالأمس يقترف الذنوب ويعمل المعاصي ، ويتبنّى الباطل وأصبح اليوم آمراً بالحق ومميتاً للباطل! وعند ذلك لا يتحقق الهدف الّذي لأجله خلعت عليه الإمامة.
وهذا التحليل العقلي يحكم بلزوم نقاوة الإمام عن كل زلة ومعصية وانّ الإنابة لو كانت ناجحة في حياته الفردية لاتكون ناجحة في حياته الاجتماعية ولا يقع أمره ونهيه موقع القبول ولا يقدر أن يأخذ بمجامع القلوب. الثاني طريق النقل وهو تحليل الآية : ببيان انّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أربعة أقسام : 1. من كان في طيلة عمره ظالماً. 2. من كان طاهراً ونقياً في جميع عمره. 3. من كان ظالماً في بداية عمره وتائباً في آخره. 4. من كان طاهراً في بداية عمره وظالماً في آخره. عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم ( عليه السلام ) الّذي سأل الإمامة لبعض ذريته ، أراد أي قسم منها؟ حاشا إبراهيم ( عليه السلام ) أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذريته ، لوضوح انّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره أو الموصوف به أيام تصدّيه للإمامة لايصلح لأن يؤتمن عليها ، فبقي القسمان الآخران ، أعني : الثاني والثالث ، وقد نص سبحانه على أنّه : لا ينال عهده الظالم ، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث ، أعني : من كان ظالماً في
(415)
بداية عمره وصار تائباً حين التصدّي ، فإذا خرج هذا القسم بقي القسم الثاني ، وهو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره ، لم ير منه لا قبل التصدّي ولا بعده انحراف عن الحق ، ومجاوزة للصراط السوي.
وحصيلة البحث : انّ الإمام هو الإنسان المثالي المطاع قوله ، المقتدى بفعله ، والمنصوب من الله سبحانه ، لأجل تحقيق الأهداف الإلهية في المجتمع ولا يختلف كلامه وتقريره عنها قيد شعرة ، حتّى يحقّق الهدف الّذي نصب لأجله وبما أنّ الآية الكريمة تنفي صلاحية الظالم لنيل هذا المقام ، وهي على وجه الاستغراق ، فالظالم بجميع أصنافه لا يصلح لهذا المقام وإن تاب وطهر ، لما عرفت من الوجهين من أنّ المقام من قبيل القسم الثاني الّذي يكفي في ثبوت الحكم دائماً تلبس الموضوع بالعنوان آناً ما. سؤال وجواب أمّا السؤال فحاصله : انّ غاية ما يستفاد من الآية لزوم كون الإمام نقي الصحيفة عادلاً غير ظالم ، وأمّا كونه معصوماً قد أُفيضت عليه ملكة العصمة فلا يستفاد من الآية؟ وإن شئت قلت : إنّ نفي صلاحية الظالم للتصدّي للإمامة لا يثبت إلاّ صلاحية تصدّي العادل ، وهو أعم من المعصوم الّذي نحن بصدد إثباته ؟ الجواب : إنّ العدالة المطلقة الّتي يؤكد عليها القرآن ـ وهي كون الرجل نقياً عن كل ذنب ، صغير وكبير طيلة عمره ، من أوان بلوغه إلى لقاء ربّه ـ تلازم العصمة ولا تنفك عنها ، إذ من المستحيل عادة أن يثبت الإنسان على الحق ولا يتجاوز عنه ولا
(416)
تصدر منه كبيرة ولا صغيرة إلى أن يلاقي ربّه ، ومع ذلك يكون فاقداً للعصمة وملكة المصونية.
إنّ الإنسان القائم على الصراط السوي في جميع لحظات عمره غير مائل عن الحق فكراً وعملاً ، لا ينفك عن كونه يمتلك ملكة العصمة الحامية من الزلل. نعم : العدالة غير المطلقة لا تلازم العصمة ، ولأجل ذلك ربّما يقترف العادل بعض المعاصي وإن كان يتوب بسرعة ، لكنّها ليست عدالة مطلقة ، بل عدالة خاصة لا تنافي صدور المعصية ، وأمّا العدالة المطلقة في جميع سني العمر ، والالتزام بالحق قولاً وفعلاً ، عقيدة وعملاً ، بلا انحراف ، فهي عبارة أُخرى عن العصمة ، ولا تتحقق إلاّ بالموهبة الإلهية المفاضة من الله سبحانه على عباده المخلصين. وإن أبيت إلاّ عن أعمّية ما تهدف إليه الآية وانّ المستفاد منها العدالة المطلقة لا العصمة المفاضة من الله سبحانه ، فنقول : إنّ الشيعة الإمامية تكتفي بذلك في نفي خلافة من تصدّى للخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بحجة أنّهم لم يكونوا ذوي عدالة مطلقة ، كيف وقد عبدوا الصنم والوثن في فترات من عمرهم؟! فإذا ثبت عدم صلاحيتهم تعيّنت إمامة العترة الطاهرة ، لأنّ الأُمّة في مسألة الإمامة ذات قولين ، فذهبت طائفة إلى إمامة الخلفاء ، وذهبت طائفة أُخرى إلى إمامة علي وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، فإذا نفيت صلاحية الفرقة الأُولى تعيّنت خلافة الطائفة الثانية ، لأنّ إمامة غير هاتين الطائفتين لم يذهب إليها أحد. وبالجملة : اتفقت الأُمّة الإسلامية على قولين في مسألة الإمامة. فذهب أهل السنّة إلى خلافة الخلفاء الأربعة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم تبدّلت الخلافة بعد الخليفة الرابع إلى الملوكية وخرجت عن صبغة الخلافة الإسلامية ، وقد كان أكثر هؤلاء الخلفاء الأربعة غير مجتنبين عن الشرك وعبادة الوثن في أوّليات حياتهم.
(417)
وإن صاروا ببركة الإسلام موحّدين تاركين الخط الجاهلي.
وذهب الشيعة بعامة فرقهم إلى خلافة علي وبعده الحسن والحسين إلى آخر أئمّة الهدى ، فهؤلاء كانوا طاهرين عن الشرك منذ نعومة أظفارهم إلى لقاء ربّهم ، وليس بين الأُمّة قول بإمامة غير هاتين الطائفتين. هذان هما القولان اللّذان أشرنا إليهما ، ومن جانب آخر انّ الآية تدلّ على شرطية طهارة الإمام على وجه الإطلاق عن كل ظلم في جميع أدوار الحياة ، وهذا لا ينطبق إلاّ على الطائفة الثانية ، لأنّ كثيراً من أفراد الطائفة الأُولى كانوا غير مجتنبين عن الظلم في بداية حياتهم وذلك ممّا لم يختلف فيه اثنان.
في هذا الفصل 1. إطاعة السلطان العادل من صميم الدين وبيان دلائله. 2. إطاعة السلطان الجائر ورأي أهل السنّة فيها. 3. حكم الخروج عليه وجوباً وحرمة. 4. الأحاديث الّتي استدلت الحنابلة بها على وجوب إطاعة الحاكم الجائر وحرمة الخروج عليه. 5. عرض تلك الأحاديث على كتاب الله أوّلاً ، والسنّة الصحيحة ثانياً ، وأحاديث العترة الطاهرة ثالثاً ، وسيرة السلف رابعاً. 6. محاولة الأُستاذ « أبوزهرة » لتصحيح نظرية إمام الحنابلة في هذا المورد ، وبيان ضعفها. 7. الصراع الدائم بين العقيدة والوجدان في نظائر المقام. 8. من هو الصحابي وتعاريفه المختلفة والغاية السياسية بها؟ 9. نظرية عدالة الصحابة كلهم ، وتقييم تلك النظرية. 10. الصحبة ليست بمادة كيمياوية تقلب المصاحب إلى إنسان مثالي. 11. الذكر الحكيم وأصناف الصحابة المختلفة. 12. الصحابة في السنّة النبوية. 13. الصحابة والتاريخ المتواتر. 14. آراء الصحابة بعضهم حول بعض. 15. النظرية الوسطى في الصحابة ، نظرية الشيعة المنعكسة في دعاء الإمام السجاد. 16. كلام أبي المعالي الجويني ، ونقد بعض الزيدية له. 17. النسبة المفتعلة إلى الشيعة الإمامية وإبطالها.