مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 491 ـ 500
(491)
وفاته ، ويجب على الرسول أن يقدّم أمام العالم عدداً وجيهاًمن نماذج عملية ناجحة بنّاءة ، ومجتمعاً مثالياً في أيامه ، لأنَّ الشجرة الّتي لم تؤت ثمارها اليانعة الحلوة ولم تتلقح أزهارها العطرة الجميلة أيام شبابها ، وفي موسم ربيعها ( وهو عهد النبوّة ) لا تعتبر شجرة مثمرة سليمة.
    وكيف يسوغ لدعاة هذه الدعوة والدين وممثليهما ـ الذين ظاهروا بعد أن مضى على عهد النبوّة زمن طويل ـ أن يوجهوا إلى الجيل المعاصر والعالم الحاضر دعوة إلى الإيمان والعمل ، والدخل في السلم كافة وهم عاجزون من تقديم نتائج حيّة باهرة للألباب ، مسلمة عند المؤرخين للمجهودات الّتي بذلت في العهد الأوّل وفي فجر تاريخه في سبيل إبراز أُمّة جديدة وإنشاء جيل مثالي يمثّل التعاليم النبوية أصدق تمثيل ويبرهن على تأثيرها ونجاحها. (1)
    وحاصل هذا الشرط الّذي ذكره مع ما فيه من التعقيد في العبارة هو أنّ من شرائط النبوّة الخالدة أن يكون صاحبها ناجحاً في تربية الجيل الأوّل وأصحابه الذين التفوا حوله ، إذ لولا ذلك لما صحّت لمن يجيء بعد الرسول ، الدعوة إلى دينه ودعوته بحجة أنّ صاحب الدعوة إذا لم يكن موفقاً في دعوته ، فكيف تكون دعوة الغير إلى سبيله ناجحة ومفيدة؟
    وبالتالي يجب أن يكون صحابته جيلاً مثالياً رائعاً ، وهذا ما يقتضيه الدليل النفسي الاجتماعي ، مع أنّ الشيعة الإمامية يخالفون هذا الرأي ويخطّئون الصحابة.
     تحليل هذه النظرية
    إنّ كمال الدعوة وصحتها يتمثل في قوّة المحتوى ورصانة حجتها ، بحيث
    1 ـ صورتان متضادتان : 11 ـ 12.

(492)
تكون الدعوة مطابقة للفطرة ، وموافقة لحكم العقل السليم ، ومتماشية مع الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية ، عند ذلك تتم الحجة من الله سبحانه على العباد ، وأمّا اشتراط كون الداعي موفقاً وناجحاً في دعوته ، وتربية جيله ، فلم يدل عليه شيء من العقل والشرع ، إذ النجاح والفوز ليس دليلاً على صحة الدعوة ، ولاتولي الناس وعدم استجابتهم برهاناً لبطلانها ، والعجب أنّ المنطق الّذي اعتمد عليه الأُستاذ في بيانه ممّا تكرّسه الملاحدة من أتباع « ماركس » و « البهاء » وغيرهم من الأحزاب الباطلة ، فهم يستدلون على صحة خططهم في مجال الحياة بالنفوذ والاستيلاء على الأفكار في مختلف الأقطار ، ويقولون إنّه لم يمض على موت ماركس وانجلس حتّى غطّت فلسفتهما ربع المعمورة ، واعتنقها ملايين الناس.
    وهذه هي البهائية البغيضة تشترط في صحة دعوى النبوّة أُموراً أربعة :
    1. ادّعاء النبوّة.
    2. النفوذ والنجاح في الدعوة.
    3. ثبات المدّعي في طريقها.
    4. وكونه صاحب شريعة وبرنامج.
    هذه هي الأُمور الّتي نسمعها من الماركسية والبهائية ، فإذاً نتحيّر كيف تسرّبت هذه الأفكار المنحرفة إلى ذهن الكاتب فقام بادّعاء ، لا يفترق عن ادّعائهم قيد شعرة؟!!
    لو كان من شروط النبوّة الخالدة إقبال الناس على الداعي إليها ، وخاصّة جيله المعاصر له ، يلزم أن يعذر المولون عن الدعوة في صدر البعثة ، نظراء : أبي لهب وأبي جهل وأُمية بن خلف ، إذ في وسعهم أن يقولوا : إنّ من شرائط صحة النبوّة الخالدة إقبال الناس إلى الداعي ونفوذ دعوته في نفوسهم ، ونحن لا ندري هل يكون هذا الداعي ناجحاً في دعوته ، وهل الناس يستقبلونها بوجوه مشرقة ، أو يردونها بألسنتهم وأكفّهم ، فإذاً نحن لا نؤمن بدعوته ونبوته ورسالته للشك في


(493)
صحة رسالته واستجماعها شرائط الصحة؟!!
     ما أشبه الليلة بالبارحة
    والعجب أنّ يهود أبناء قريظة والنضير وقينقاع ، تمسّكوا بهذا العذر عندما دعاهم النبي إلى الطريق المهيع.
    فقالوا : يا محمد إلى مَ تدعو؟ قال : « إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ، وأنّي الّذي تجدونني مكتوباً في التوراة ، والّذي أخبركم به علماؤكم انّ مخرجي بمكة ومهاجري بهذه الحرة ... يبلغ سلطاني منقطع الخف والحافر » فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لانكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ولا نتعرض لأحد من أصحابك ولا تتعرض لنا ولا لأحد من اصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك. (1)
    فقولهم : « حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك » تعليل لتوقفهم في الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنّ تثبتهم لأجل الاستطلاع عن بلوغ سلطانه منقطع الخف والحافر أو لا ، وكأنّهم يقولون : « فما لم نر بأُمِّ أعيننا أنّه آمنت بك جمهرة الناس ، فلا نؤمن بك » فلو كان هذا الكلام ، دليلاً رصيناً يصحّ لكل من كفر ولم يؤمن به في بدء الدعوة الالتجاء إلى هذا العذر ، وعند ذاك أصبح إيمان الناس بدعوة النبي أشبه بالدور ، إذ تلبية كل إنسان معاصر في بدء الدعوة وإيمانه بالدعوة النبوية ، يتوقف على تحقّق هذا الشرط أي إيمان الجيل المعاصر به ، ومن جانب آخر يتوقف تحقّق هذا الشرط على تلبية كل إنسان معاصر للدعوة وإيمانه به ، وهل هذا إلاّ الدور الصريح المحال ، وعندئذ لايصل الداعي إلى نتيجة إيجابية أبداً ، ويكون الكفّار في صدر الدعوة معذورين حسب هذا المنطق.
    1 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى : 76.

(494)
    هذا كلّه راجع إلى تحليل هذا الشرط من زاوية قضاء العقل ، فهلم معي نعرض صحة هذا الشرط على القرآن الكريم ، وهل هو يصدّق الكاتب في هذا الادّعاء أو يكذّبه من أساسه.
    نحن نرى أنّ هناك أنبياء صادقين لم ينجحوا في دعوتهم طيلة حياتهم ، هذا قوله سبحانه يصف كيفيّة نجاح نوح ( عليه السلام ) بقوله :
    ( وَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (1) ، وقد قام بالدعوة وإرشاد الناس ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، فما آمن به إلاّ عدّة قليلة أركبها على الفلك.
    إنّ الاعتماد على الكثرة هو منطق الفراعنة ، وقد كان فرعون يصف أتباع موسى بقوله : ( إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) (2) ، وعلى العكس يصف سبحانه أتباع الحق ويقول : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ ) (3).
    على أنّه لا ملازمة بين صحة دعوة الداعي ، وإجابة المدعوين ، فربّما يكون الداعي كاملاً في دعوته ، قويّاً في منطقه ، رصيناً في بيانه ومجرّباً في إلقاء الحجّة ، إلاّ انّ الظروف لا تسمح للتجاوب والتصويت ، أو يكون المدعوّون أُسراء الشهوة وطلاّب اللذة فلا يكون الداعي مهما بلغ في صحة الدعوة شأواً شامخاً ناجحاً في الدعوة.
     فلسفة جديدة
    وان تعجب فعجب أنّه جعل نجاح الداعي في تربية الجيل الأوّل وصحبه الكرام شرطاً للرسالة الدائمة والنبوة الخالدة ، لا شرطاً لمطلق النبوّة والرسالة ، وإن
    1 ـ هود : 40.
    2 ـ الشعراء : 54.
    3 ـ ص : 24.


(495)
طال الفصل بين دعوة النبي الأوّل ودعوة النبي الآخر الناسخ لشريعته ، كدعوة موسى بن عمران بالنسبة إلى دعوة المسيح ، حيث إنّ الفصل بين الدعوتين يقرب من ثلاثة آلاف سنة ، فنسأل الأُستاذ بأيّ دليل جعل النجاح شرطاً للرسالة الخالدة دون مطلقها مع أنّ بعض الرسالات غير الخالدة ، كانت مستمرة حوالي ثلاث آلاف سنة ، أي أكثر ممّا مضى من بعثة الرسول الأكرم إلى زماننا هذا ، فلو كان عدم النجاح في الرسالة الخالدة دليلاً على وهن الدعوة في نظر الناس الذين جاءوا بعد مضي صاحبها بقرون ، فليكن عدم الفوز والنجاح موهناً في نظر الناس في نظائر الرسالات الطويلة وان لم تكن خالدة ، وعلى هذا الأساس يكون الكافرون بشرائع ، كشريعة موسى لأجل عدم نجاحه في طريق دعوته ، معذورين عند الله ، ولا أظن لمسلم واع أن يصحح ذلك الادّعاء ويعذر الكافرين والمتولّين عن دعوة الأنبياء ، ولأجل ذلك يصبح منطق الأُستاذ فلسفة جديدة لم يسبق إليها أحد من علماء الكلام ولا فلاسفة الإسلام.

النبي الأعظم كان ناجحاً في دعوته
    إنّ النبي الأكرم قد نجح في دعوته ، ولكن ليس معنى نجاح دعوته هو عدالة كل من رآه أو سمع منه شيئاً أو صحبه يوماً أو أياماً اوسنة اوسنتين ، إذ لا ملازمة بين نجاح الدعوة وعدالة من صحبه ، بل المراد من نجاحه هو تأثيرها في أُمم العالم ، معاصرة كانت أم لاحقة ، والدعوة المحمدية أثّرت في أُمم العالم وشعوبها وأصحابه والتابعين لهم بإحسان حتّى المنافقين من أصحابه ، والكل أخذوا منه حسب قابليتهم واستعدادهم ، فقد بلغت عدّة من أصحابه إلى القمّة كعلي بن أبي طالب ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وخزيمة بن ثابت ، إلى غير ذلك من أصحابه الكرام ، كمابلغت عدة منهم درجة المتوسطين في الإيمان والعمل ، كما


(496)
أنّ هناك عدة أُخرى تعد من الراسبين في كلا المجالين ، ومن قرأ تاريخ الصحابة يعلم أنّهم لم يكونوا على مستوى واحد في الإيمان والعمل.
    نحن نفترض صحة ما ادّعاه من الشرط وأنّ الصورة الواقعية من الإسلام الصحيح ، هو الّذي رسمه من لزوم نجاح الرسول في تربية جيله الأوّل عامّة ، وانّ كل من رآه وسمع كلامه وصحبه ، كان مؤمناً ورعاً متربياً بالتربية الصحيحة الإسلامية ، وبقوا على هذه الحالة حتّى انتقلوا إلى رحمة الله ، غير انّنا نرى أنّ الصحاح والمسانيد ، تقدّم صورة معاكسة لما صوّره الأُستاذ ، فهي تهدم كل مجهودات النبي في مجال التربية وتوجيه الرعيل الأوّل ، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح اومرب خبير ، وتقدم صورة كالحة جاحدة للنعمة ، وإليك ما يذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ذلك الجيل المثالي خريج مدرسة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فروى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ما يدل على أنّ أصحابه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، فجوابك أيّها الأُستاذ عن هذه الأحاديث هو جواب الشيعة عن أخبار الارتداد حرفاً بحرف ، وإليك نقل ما رواه الشيخان :
    1. روى عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إليّ رجال منكم ، حتّى إذا أهويت إليهم لأُناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ». أخرجه البخاري ومسلم.
    2. روى أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتّى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ ، اختلجوا دوني ، فلأقولنّ أي ربِّ أصحابي أصحابي ، فليقالن لي إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ».
    وفي رواية « ليردن عليّ أناس من أُمّتي » ـ الحديث ـ وفي آخره : « فأقول سحقاً


(497)
لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم.
    3. روى أبو حازم ( رحمه الله ) عن سهل بن سعد قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم » قال أبوحازم فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أُحدّثهم هذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري : لسمعته يزيد فيقول : « إنّهم مني فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم.
    4. روى أبو هريرة انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال من أُمّتي ـ فيحلؤون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّه لاعلم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ». وفي رواية « فيجلون ». أخرجه البخاري ومسلم.
    5. روى البخاري : انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله. فقلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة أُخرى ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين؟ قال : إلى النار والله. قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم ».
    6. وروى مسلم : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « ترد عليّ أُمّتي الحوض وأنا أذود الناس عنه ، كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله » قالوا : يا نبي الله تعرفنا؟ قال : « نعم ، لكم سيما ليست لأحد غيركم ، تردون علي غرّاً محجّلين من آثار الوضوء ،


(498)
وليصدّن عني طائفة منكم ، فلا يصلون ، فأقول : يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ ».
    7. روت عائشة رضي الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ـ وهو بين ظهراني أصحابه ـ : « إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم ، فوالله ليقتطعن دوني رجال فلأقولن : اي ربِّ مني ومن أُمّتي ، فيقول : إنّك لاتدري ما عملوا بعدك ، مازالوا يرجعون على أعقابهم ». أخرجه مسلم.
    8. روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّي على الحوض أنظر من يرد عليّ ، وسيؤخذ ناس دوني ، فأقول : يا ربّ مني ومن أُمّتي ـ وفي رواية فأقول : أصحابي ـ فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم » أخرجه البخاري ومسلم. (1)
    فإذا كان رمز صدق الرسالة الخالدة هو النجاح الّذي يلقاه صاحب الدعوة في دعوته وتربية الجيل الأوّل ، فمن هؤلاء الذين يقول في حقّهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « سحقاً سحقاً ، لمن غيّر بعدي » ؟!!
    هذا كلّه حول الشرط الأوّل للرسالة الخالدة. وفي ما يلي دراسة باقي شرائط الرسالة الدائمة في ضوء العقل والكتاب والسنّة.

الشرط الثاني للرسالة الخالدة
    يقول الكاتب :
    يجب أن يكون الداعي الأوّل متميّزاً عن مؤسس الحكومات والدعاة
    1 ـ راجع جامع الأُصول : 11 / 119 ـ 121 ، وعليك مراجعة ذلك الكتاب لمعرفة ما لم ننقل من الأحاديث ، لاحظ ص 478 من هذه الموسوعة.

(499)
الماديين ، فإنّ محور الجهود الّتي يبذلها مؤسسو تلك الحكومات هو قيام مملكة خاصّة ، وتاسيس حكومة وراثية ، ثم استنتج من هذا الشرط أنّ عقيدة الشيعة بالإمامة الموروثة على خلاف هذا الشرط. (1)
    أقول : إنّ الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم لم يقولوا بالحكومة الوراثية ، وإنّما هي تهمة أُلصقت بهم بسبب الجهل بمعتقداتهم ، فإنّ الشيعة وإن قالت بأنّ الإمام المفترضة طاعته بعد علي ، هو ابنه الحسن ، فالحسين ، وهكذا ، ولكنّه ليس لأجل أنّهما ولدا الإمام علي بن أبي طالب ، وإنّما لأجل التنصيص على إمامتهما من جانب الرسول خلال حياته ، بقوله : « الحسن والحسين ابناي إمامان قاما أو قعدا » (2). ولو قالت الشيعة بأنّ الإمام بعد الحسين هو ابنه علي بن الحسين لا من جهة أنّه ولده ووارثه ، بل لأجل التنصيب من الله سبحانه لهم ، ولو كانت الوراثة هي المحور للإمامة لكان أخو الإمام الحسين ، أعني : محمد بن الحنفية أَوْلى بها من علي بن الحسين ، لأنّه ابن الإمام أمير المؤمنين علي ، وأكبر سناً من ابن الحسين علي السجاد.
    وعلى ذلك ، فالشيعة تعتقد بإمامة الأئمّة الاثني عشر أوّلهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وآخرهم الإمام القائم الّذي أخبر عنه الرسول وعن غيبته وظهوره وقيامه في كلماته ، وقد ملأت كتب الفريقين أحاديثه ، وذلك لأجل وجود النص على إمامة هؤلاء من النبي الأكرم ومن كلّ إمام بالنسبة إلى إمام بعده ، فباكتمال العدد الاثني عشر ، انتهت الإمامة التنصيصية ، فلو كانت الإمامة عندهم بملاك الوراثة لوجبت إدامة الإمامة ، إدامة وراثية من أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأولاد الأئمّة
    1 ـ صورتان متضادتان : 12.
    2 ـ أو أبناي هذان ... رواه أعلام الفريقين : لاحظ « أهل البيت » تأليف أبو علم طبع مطبعة السعادة بالقاهرة.


(500)
الأطهار ، وهذه الحقيقة يلمسها كلُّ من وقف على معتقدات الشيعة.
    ثم لو فرضنا صحة ما يقوله الأُستاذ ، فنقول : إنّ الشيعة والسنّة في هذا الأمر سواسية ، وقد روى مسلم في صحيحه مسألة وراثة قريش الإمامة والخلافة واحداً تلو الآخر منهم ، إلى أن ينتهي عددهم إلى الاثني عشر ، فجواب الأُستاذ عن هذه الأحاديث هو نفس جواب الشيعة عن الإمامة الوراثية المزعومة.
    روى مسلم في صحيحه عن رسول الله أنّه قال : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ».
    وروى عن جابر بن سمرة ، قال : دخلت مع أبي على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسمعته يقول : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » ثم تكلم بكلام خفي عليّ قال : فقلت لأبي ما قال؟ قال : قال « كلّهم من قريش ».
    وفي نص آخر يقول : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي ما قال؟ فقال : « كلّهم من قريش ». (1)
    فنسأل الأُستاذ ما معنى هذه الحكومة الوراثية الّتي أخبر عنها النبي الصادع بالحق ، وأنّ قبيلة قريش تستلم الخلافة واحداً تلو الآخر إلى أن ينتهي عدد الخلفاء إلى اثني عشر خليفة؟ فلو كانت الحكومة الوراثية صورة معكوسة عن الحكومة الإلهية والدعوة السماوية ، فلماذا أخبرعنها النبي كما أخبر بأنّ الإسلام يعتز بهم ، أفهل يتصوّر عزة الإسلام بحكومة على غرار الحكومات المادية؟!
    ثم نسأل الأُستاذ مَنْ أُولئك الأئمة الاثنا عشر الذين أخبر عنهم خاتم الأنبياء والرسل؟ أفهل ينطبق ذلك بعد الخلفاء الأربعة ، على خلفاء الأمويين أو
    1 ـ صحيح مسلم : 2 / 3 ، كتاب الامارة ، باب الناس تبع لقريش والخلافة لقريش.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس