مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 11 ـ 20
(11)
الفصل الثاني :
المعاد في الشرائع السماوية
    الإيمان بالمعاد يَرسم هدفَ الخلقة ويبيّن حكمتها على نحو لو طرح الإيمان بالمعاد جانباً لأصبح الإيجاد بلا غاية والخلق عبثاً ، ولذلك ذهبت جماعة من منكري المعاد إلى أنّ خلق الإنسان أمر عبث كصانع الكوز يصنعها من طين و يطبخها ثمّ يَكسرها ، فحياة الإنسان كصنع الكوز ، وموته ككسرها ولهم في ذلك كلمات معروفة.
    وأمّا الشرائع السماوية فقد فنّدت تلك الشبهة ودَحَضْتها بأنّ الغاية من الخلقة هي الحياة الأُخروية المستمرّة التي لا تتحقق إلاّ بالتجرّد عن المادة وآثارها ، قال سبحانه :
    ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وأَنّكُمْ إِلَيْنا لا تُرجَعُون ). (1)
    وهذا النداء ليس هو نداء الإسلام فحسب ، بل نجد مضمونه في جميع الشرائع السماوية التي جاءت قبل الإسلام حتى في قصة آدم ( عليه السلام ) ، و لأجل الوقوف على أنّ العقيدة بالمعاد كانت ركناً أساسياً في جميع الشرائع السماوية نعكس ما ورد في الذكر الحكيم نقلاً عن لسان الأنبياء الماضين.
1 ـ المؤمنون : 115.

(12)
1. آدم ( عليه السلام ) والدعوة إلى الإيمان بالمعاد
    عندما هبط آدم ( على نبيّنا وآله و ( عليه السلام ) ) البسيطةَ خُوطِب هو وذرّيتُه في الآيات التالية :
    1. قال سبحانه : ( قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقرٌ وَمَتاعٌ إِلى حين ). (1)
    وفي قوله : ( وَمتاعٌ إِلى حين ) إشارة إلى أنّ الإنسان يتمتع في البسيطة إلى أجل محدود ، و لعلّ الأجل المحدود كناية عن وقوع القيامة.
    2. قال سبحانه : ( قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُون ). (2)
    3. قال سبحانه : ( يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النّار هُمْ فِيها خالِدُونَ ). (3)
    وهذه الآيات الواردة في سورة الأعراف التي تحكي خطاباته سبحانه في بداية الخلقة تدلّ على أنّ الإيمان بالمعاد من البلاغات العامة التي بلّغها سبحانه إلى الناس كافة ، من قبل آدم ( عليه السلام ) إلى خاتم الأنبياء ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    والنبي آدم ( عليه السلام ) وإن لم يكن ذا شريعة ، ولكنّه كان نبيّاً مبعوثاً لدعوة الناس إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وقد تضمّنت الآيات تصريحاته سبحانه في ذلك المضمار إليه و إلى الناس أجمعين.
1 ـ الأعراف : 24.
2 ـ الأعراف : 25.
3 ـ الأعراف : 35 ـ 36.


(13)
2. نوح ( عليه السلام ) والدعوة إلى الإيمان بالمعاد
    إنّ نوحاً ( عليه السلام ) شيخ الأنبياء أوّل من نزلت عليه الشريعة السماوية وتحمّل أعباءها ، وكان يذكّر الناس بالمعاد في خطاباته ودعواته ، يقول سبحانه حاكياً عنه :
    1. ( وَاللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَباتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ). (1)
    2.و في آية أُخرى : ( رَبّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرينَ ). (2)
    والآية الأُولى تصرّح بعود الإنسان إلى الحياة الأُخرى ، و في الآية الثانية إيماء إليها ، والمراد من خسرانه هو خسرانه يوم القيامة.

3. إبراهيم ( عليه السلام ) والدعوة إلى الإيمان بالمعاد
    جاءت الدعوة إلى الإيمان بالمعاد في خطابات إبراهيم ( عليه السلام ) أكثر ممّا جاءت في كلمات آدم و نوح ( عليهما السلام ) ، ويعلم ذلك من خلال سرد الآيات التي تحكي عن دعوته :
    1. قال سبحانه : ( مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِر ). (3)
    2. قال سبحانه : ( رَبَّنا اغْفِر لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِساب ). (4)
1 ـ نوح : 17 ـ 18.
2 ـ هود : 47.
3 ـ البقرة : 126.
4 ـ إبراهيم : 41.


(14)
    3. قال سبحانه : ( وَلا تُخزِني يَوْمَ يُبْعَثُون ). (1)
    4. قال سبحانه : ( وَاشْكُروا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون ). (2)
    5. يقول سبحانه : ( وَإِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَوتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعلَمُ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيم ). (3)
    وقد انفردت الآية الأخيرة بالاشارة إلى انّ دعوة إبراهيم إلى المعاد قد ارفقها بالدليل والبرهان بوحي من اللّه سبحانه ، دون أن نرى له أثراً في كلمات آدم ونوح ( عليهما السلام ).

4. موسى ( عليه السلام ) والدعوة إلى الإيمان بالمعاد
    الدعوة إلى الإيمان بالمعاد وإن كانت غير شائعة في التوراة ، ولعلّ يد التحريف حذفت ما يرجع إلى الإيمان بهذا اليوم ، ولكن القرآن الكريم يحفل بخطابات موسى ( عليه السلام ) التي تعبّر عن الدعوة إلى الإيمان بالمعاد بوفرة ، ونذكر منها ما يلي :
    1. انّه سبحانه يندّد بقوم موسى ويخاطبه بقوله : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقّ ... ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلين * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الآخِرَة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّما كانُوا يَعْمَلُونَ ). (4)
1 ـ الشعراء : 87.
2 ـ العنكبوت : 17.
3 ـ البقرة : 260.
4 ـ الأعراف : 146 ـ 147.


(15)
    2. يدعو موسى ( عليه السلام ) على آل فرعون بقوله : ( وَاشدُدْ عَلى قُلُوبِهِم فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الأَلِيم ). (1)
    3. انّه ( عليه السلام ) يحتج على من يصف آياته بالسحر ، ويقول : ( وَقالَ مُوسى رَبّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالهُدى مَنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ). (2)
    4. لما هدّد فرعون الملأ وقومه بقوله : ( إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ في الأَرْضِ الفساد ) أجابه موسى بقوله : ( وَقالَ مُوسى إِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبّر لا يُؤْمِنُ بِيَومِ الحِساب ). (3)
    5. إنّ مؤمن آل فرعون ـ الذي كان يُخفي إيمانه ويظهر كفره ـ كان يحتج على فرعون وملئه بالإيمان إلى المعاد كما في الآيات التالية : ( وَيا قَوْم إِنّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّناد ). (4)
    وقال : ( وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دارُ القَرار ). (5)
    وقال : ( وَأَنَّ مَرَدّنا إلى اللّه ). (6)
    وهذه الآيات تعرب عن أنّ الإيمان بالمعاد كان متفشياً في مصر ، و إنّ مؤمن آل فرعون كان يستدل به ليخفّف من وطأة جور فرعون على موسى ( عليه السلام ).
    6. انّ بني إسرائيل كانوا ولم يزالوا أُمّة لجوجة عنيدة تُصيغ كلّ شيء غيبي في قالب الحس ، ولتلك الغاية خاطبوا موسى ( عليه السلام ) ، بقولهم : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَة ) (7) كما أنّهم طلبوا رؤية إحياء الموتى بأُمّ أَعينهم ، وقد شاهدوها في
1 ـ يونس : 88.
2 ـ القصص : 37.
3 ـ غافر : 27.
4 ـ غافر : 32.
5 ـ غافر : 39.
6 ـ غافر : 43.
7 ـ البقرة : 55.


(16)
البقرة التي حكاها سبحانه بقوله : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارأتُمْ فِيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلَنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحيِي اللّهُ الْمَوتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). (1)
    وقد ورد في شأن نزولها : أنّه قُتل إنسان من دون أن يعلم قاتله ، فأمر سبحانه بذبح البقرة وضرب بعض المقتول ببعض البقرة ليحيا ويخبر عن قاتله ، وبذلك رأوا بأُمّ أعينهم إحياء الموتى.

5. المسيح ( عليه السلام ) والدعوة إلى الإيمان بالمعاد
    الإيمان بالمعاد والدعوة إليه كان مرّفقاً بلسان المسيح ( عليه السلام ) منذ ولادته إلى أن رفعه اللّه إليه :
    1. يقول سبحانه حاكياً عنه : ( وَالسَّلامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيّاً ). (2)
    2. وقال سبحانه : ( إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الَّذينَ كَفَرُوا إِلى يَوْم القِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ). (3)
    إلى غير ذلك من الآيات الواردة التي تعرب عن دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالمعاد ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.
1 ـ البقرة : 72 ـ 73.
2 ـ مريم : 33.
3 ـ آل عمران : 55.


(17)
المعاد في العهد العتيق
    إنّ العهدين وإن عبث بهما الزمان و مع ذلك يوجد فيهما تصريحات وإيماءات إلى المعاد ، ففي العهد العتيق : الرب يميت و يحيي. (1)
    تحيى أَمواتك يوم تقوم الجثث ، استيقظوا ترنَّموا ياسكان التراب. (2)

المعاد في العهد الجديد
    على الرغم من قلة التصريح بالحياة الأُخروية في العهد العتيق نجد التصريح بها بوفرة في العهد الجديد في موارد كثيرة ، منها ما يلي :
    1. « فانّ ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه ، وملائكته ، وحينئذ يجازي كلّ واحد حسب عمله ». (3)
    2. « هكذا يكون في انقضاء العالم ، يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ، ويطرحونهم في أتون النار هناك يكون البكاء ، وصرير الاسنان ». (4)
    3. « في ذلك اليوم جاء إليه حدقيون ، الذين يقولون ليس قيامه ، فسألوه * قائلين : يا معلم ، قال موسى ان مات أحد وليس له أولاد ، يتزوج أخوه بامرأته ، ويقيم نسلاً لأخيه * فكان عندنا سبعة اخوة وتزوج الأوّل ومات ، وإذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه ، وكذلك الثاني و الثالث إلى السبعة * وآخر الكل ماتت المرأة أيضاً * ففي القيامة لمن من السبعة تكون الزوجة فانّها كانت للجميع * فأجاب يسوع ، وقال لهم : تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة اللّه* لانّهم في
1 ـ صموئيل الأوّل : الاصحاح الثاني : الجملة6 ، ط دار الكتاب المقدس.
2 ـ اشعيا : الاصحاح26 : الجملة 19 ، ط دار الكتاب المقدس.
3 ـ انجيل متى : الاصحاح16 : الجملة 27 ، ط دار الكتاب المقدس.
4 ـ انجيل متى : الاصحاح13 : الجملتان 49 و50 ، ط دار الكتاب المقدس.


(18)
القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة اللّه في السماء ». (1)
    وهذا يعرب عن كون المعاد عند كاتب الإنجيل روحانياً محضاً ، لا جسمانياً وروحانياً كما عليه الذكر الحكيم.
    4. « و إن أعثرتك رجلك ، فاقطعها ، خير لك أن تدخل الحياة أعرج ، من أن تكون لك رجلان وتطرح في جهنم في النار التي لا تطفأ * حيث دُوْدُهم لا يموت والنار لا تطفأ * وإن أعثرتك عينك فاقلعها خير لك أن تدخل ملكوت اللّه أعور من أن تكون لك عينان وتطرح في جهنم النار * حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ ». (2)
    5. « وهذه مشيئة الأب الذي أرسلني ، انّ كلّ ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير * لأنّ هذه هي مشيئته الذي أرسلني انّ كلّ من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير ». (3)
    هذا ، وفي العهدين جمل أُخرى تصرح أو تشير إلى يوم القيامة ، وقد اقتصرنا على ما ذكرنا روماً للاختصار.
    وثمة نكتة جديرة بالاشارة وهي عدم اهتمام اليهود ، والنصارى ، بالبعث ويوم القيامة و ما فيها من الحساب والجزاء ، وهذا هو الذي جرّأهم على اقتراف المعاصي ، والمجون ، و الانحلال من كلّ القيم الأخلاقية ، أعاذنا اللّه من ذلك.
1 ـ انجيل متى : الاصحاح22 : الجملات 23 ـ 31 ، ط دارالكتاب المقدس.
2 ـ انجيل مرقس : الاصحاح9 : لاحظ الجملات 42 ـ 49 ، ط دار الكتاب المقدس.
3 ـ انجيل يوحنا : الاصحاح6 : الجملتان39 ـ 40 ، ط دار الكتاب المقدس.


(19)
الفصل الثالث :
الدلائل الجلية على لزوم المعاد
    يستدلّ القرآن الكريم على ضرورة إحياء الناس بعد موتهم ـ التي هي سنّة قطعية لا مناص عنها ـ بطرق مختلفة :
    1. المعاد ، رمز الخلقة.
    2. المعاد ، مظهر العدل الإلهي.
    3. المعاد ، مجلى الوعد الإلهي.
    4. المعاد ، مظهر رحمته الواسعة.
    5. المعاد ، نهاية السير التكاملي للإنسان.
    6. المعاد ، مظهر ربوبيته.

1. المعاد : رمز الخلقة
    من الأسئلة المثارة عند كلّ إنسان هو السؤال عن أصل الخلقة وانّه لماذا خلق ، وماذا أُريد من خلقه ؟
    والناس أمام هذا السؤال على صنفين :
    فصنف يرى أنّ حظ الإنسان هو علّتان من العلل الأربع :


(20)
    الف. العلّة المادية.
    ب. العلة الصورية.
    وكأنّ العالم بجزئياته وذراته تفاعلت فيما بينها وشكّلت صورة الإنسان ، وليس وراء هاتين العلتين علّة أُخرى ، فهم ينكرون العلة الفاعلية ( الخالق ) والعلّة الغائية ويقتصرون على العلّة المادية والصورية ، وبذلك أراحوا أنفسهم من عناء الإجابة ، بل أذعنوا بأنّه ليس وراء خلق الإنسان هدف ولا غاية.
    وصنف آخر يرى أنّ وراء العلّتين الماضيتين ، علّتين أُخريين : أحدهما : العلّة الفاعلية ، والأُخرى : العلة الغائية ، والمراد من الأُولى ما يخرج المادة والصورة إلى الوجود ، كما أنّ المراد من الثانية الغرض المترتب على الفعل ، و حيث إنّ الفاعل موجود حكيم لا يفعل عبثاً دون غرض ، فلفعله غرض مترتب عليه ، وليس هو إلاّ العبور من قنطرة الدنيا إلى الآخرة وانتقاله إلى نشأة أُخرى يُعد غرضاً أسمى لفعله سبحانه.
    وتدل على تلك الغاية طائفتان من الآيات :
    الأُولى : ما تدل على أنّ إنكار المعاد يلازم العبث.
    الثانية : ما تصف فعله سبحانه ( الإيجاد ) بالحق المطلق الذي لايدانيه الباطل ، وما هو كذلك يمتنع أن يكون عبثاً بلا غرض.
    أمّا ما يدل على الطائفة الأُولى فلفيف من الآيات :
    1. ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ). (1)
    ولأجل انّ العبث لا يدبُّ إلى فعله ولا يتسرب إلى إيجاده ، يصفه بعد تلك الآية بالملك الحق ، ويقول : ( فَتَعالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاإِلهَ إِلاّهُوَ رَبُّ العَرْشِ
1 ـ المؤمنون : 115.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس