مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 21 ـ 30
(21)
الْكَرِيم ). (1)
    2. ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ ). (2)
    والآية تعرب عن أنّ نفي الغاية لخلق السماوات والأرض وما بينهما كان شعار الكافرين بل ربما أنكر البعضُ العلةَ الفاعلية ، قال سبحانه : ( وَقالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاّالدَّهْر ). (3)
    تجد انّهم كانوا ينسبون الإحياء والإماتة إلى الدهر والزمان.
    3. ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبين * ما خَلَقْناهُما إِلاّبِالحَقِّوَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ميقاتُهُمْ أَجْمَعين ). (4)
    وهذه الآية تصف فعله سبحانه بالحقّ ، وانّ الخلق كان فعلاً موصوفاً بالحقّ المحض ، وما هو كذلك يلازم الغرض ويفارق العبث وإلاّ لم يكن حقّاً مطلقاً.
    4. ( عَمّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَبَأِ الْعَظيم * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ ). (5)
    والمراد من النبأ العظيم هو يوم القيامة ، ويصفه بكونه نبأً قطعياً لا ريب فيه.
    إنّه سبحانه يذكر في الآيات التالية النظام السائد في الكون ، و يقول : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهاداً * وَالجِبالَ أَوتاداً * وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً * وَجَعَلْنا نَومَكُمْ سُباتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً * وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً * وَبَنَيْنا فَوقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً * وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَباتاً * وَجَنّات
1 ـ المؤمنون : 116.
2 ـ ص : 27.
3 ـ الجاثية : 24.
4 ـ الدخان : 38 ـ 40.
5 ـ النبأ : 1 ـ 5.


(22)
أَلْفافاً ). (1)
    ثمّ إنّه سبحانه يردف هذه الآيات بآيات القيامة التي يصفها بيوم الفصل ، ويقول : ( إِنَّ يَومَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ). (2)
    والنظم المنطقي بين هذه الطوائف الثلاث من الآيات في سورة واحدة عجيب جداً ، ففي الطائفة الأُولى يذكر المعاد بما أنّه أمر مفروغ عنه.
    وفي الطائفة الثانية يذكر شيئاً من النظام السائد في الكون.
    وفي الطائفة الثالثة يذكر يوم القيامة مشعراً بأنّه لولا هذا اليوم لعاد خلق النظام السائد فيه أمراً عبثاً.
    وبذلك تظهر الصلة بين الآيات.
    وأمّا ما يدل على الطائفة الثانية ـ أعني : انّ الحقّ المطلق يلازم الهدف وليس هو إلاّ استمرار الحياة في النشأة الأُخرى ـ فلفيف من الآيات :
    1. ( ذلِكَ بأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وأَنَّهُ يُحيِي الْمَوْتى وأَنّهُ عَلى كُلّ شَيْء قَدير ). (3)
    ترى أنّه سبحانه يصف نفسه ب ـ ( هُوَ الحَقّ ) ويردفه بقوله : ( وانّه يحيي الموتى ) مشعراً بأنّ الحقّ المطلق لا ينفك عن إحياء الموتى لاستمرار الحياة وصون الفعل عن اللغوية.
    وبعبارة أُخرى : انّ الموجود لا يوصف بكونه حقاً على الإطلاق إلاّ إذا كانت
1 ـ النبأ : 6 ـ 16.
2 ـ النبأ : 17 ـ 18.
3 ـ الحج : 6.


(23)
ذاته و صفاته وفعله نزيهة عن النقص ، ولا يكون فعله كذلك إلاّ إذا كان مقروناً بالغاية.
    ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على كونه حقّاً مطلقاً ويقول : ( وَانّ السّاعَة آتِيَةٌ لا رَيْبَ فيها وَانّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور ). (1)
    2. وعلى ذلك المنوال جرى كلامه سبحانه في الآية التالية :
    ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ العَلِيُّ الْكَبِير ). (2)
    فالذكر الحكيم يصفه بأنّه الحقّ وانّ ما يدعونه من دونه هو الباطل والحقّ المطلق ما يكون نزيهاً من النقص في ذاته ووصفه وفعله ، ولما كانت نزاهته في الأوّلين أمراً لا غبار عليه ، برهن على نزاهة فعله بالآية التالية وقال :
    ( وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنّ الإِنْسانَ لَكَفُور ). (3)
    3. وربما يتفنّن القرآن فيذكر إحياء الموتى واستمرار الحياة أوّلاً ، ثمّ يذكر برهانه بأنّ وعد اللّه حقّ على خلاف ما مضى في الآيات السابقة ، ويقول :
    ( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّكَنَفْس واحِدَة إِنّ اللّهَ سَميعٌ بَصير ). (4)
    ثمّ يذكر في آية أُخرى قوله : ( ذلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وانّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الّباطِل وَانّ اللّهَ هُوَ العَلِيُّ الْكَبير ). (5)
    ثمّ يعقبها قوله : ( يا أَيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبّكُمْ وَاخْشَوا يَوماً لا يجزي والِدٌ عَنْ وَلدِهِ وَلا مولُودٌ هوَ جاز عَنْ والِدِهِ شَيئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا ولا
1 ـ الحج : 7.
2 ـ الحج : 62.
3 ـ الحج : 66.
4 ـ لقمان : 28.
5 ـ لقمان : 30.


(24)
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ الغَرُور ). (1)
    والإمعان في تلك الآيات يورث الإعجاب ، فهو يذكر بعث النفوس أوّلاً ، ثمّ يردفه في آية أُخرى بأنّه سبحانه هو الحقّ.
    ثمّ يطرح في آية أُخرى مسألة الجزاء وانّه لا يجزي والد عن ولده ، ويصف وعد اللّه بالحقّ ، ففي كلا المقامين جاء المدّعى مرفقاً بالدليل ، فوصفه بالحقّ كوصف وعده به آية صحّة المدعى وانّه لا مناص من إحياء الموتى وإلاّ لعاد الحقّ المطلق حقّاً نسبياً.
    وهذا النوع من الكلام من إنسان أُمّي لا يجيد القراءة والكتابة دليل على أنّ كتابه ليس وليد فكره ونتاج عقله ، بل هو وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه ليكون من المنذرين.
    ثمّ إنّ الذكر الحكيم يحثّ المؤمنين على التفكير في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنَّهار وغيرها من الأنظمة السائدة في الكون حتّى يعلموا أنّ فعله سبحانه لم يكن باطلاً ولا عبثاً. قال سبحانه : ( إِنّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لآيات لأُولي الأَلباب * الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّار ). (2)
    وقد نقل عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « الدنيا مزرعة الآخرة ».
    وكأنّ الإنسان يزرع في هذه الحياة الدنيا ويحصد ما زرعه في الآخرة ، وهو يشير إلى وجود الغاية لخلق الإنسان والعالم.
1 ـ لقمان : 33.
2 ـ آل عمران : 190 ـ 191.


(25)
الإمام علي ( عليه السلام ) وهدف الخلقة
    وقد نقل عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطب وكلمات تشير إلى سرّ الخلقة وهدفها وانّها لا تتحقق إلاّ بالبعث بعد الموت والنشأة بعد النشأة ، وها نحن نسرد بعض كلماته :
    1. قال ( عليه السلام ) : « وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مُرقِلين في مضمارها إلى الغاية القصوى ». (1)
    2. ويقول ( عليه السلام ) أيضاً في نفس تلك الخطبة : « قد شخصوا من مستقر الأجداث ، وصاروا إلى مصائر الغايات ». (2)
    3. ويقول ( عليه السلام ) : « فانّ الغاية القيامة ، وكفى بذلك واعظاً لمن غفل ، و معتبراً لمن جهل ، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الارماس ، وشدّة الإبلاس ، وهول المطلع ». (3)
    4. وفي وصية كتبها لولده الإمام الحسن ( عليه السلام ) يقول : « واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنّك في قلعة ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ». (4)

2. المعاد مظهر العدل الإلهي
    القول بالعدل وانّه يلزم على اللّه سبحانه أن يتعامل مع عباده بالعدل ، من فروع القول بالتحسين والتقبيح العقليين. وقد ذهبت العدلية إلى أنّ العقل له
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 156.
2 ـ نهج البلاغة : الخطبة 156.
3 ـ نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة 190.
4 ـ نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرسالة 31.


(26)
قابلية إدراك الفعل الحسن أو القبيح واقعاً ، فالموضوع لحكمه هو فعل الفاعل المختار وانّه ينقسم إلى حسن وقبيح.
    وبذلك يظهر انّ حكمه على الموضوع بأحد الوصفين حكم عام يعمّ فعل الواجب والممكن دون مدخلية لوجود الفاعل وجوباً أو إمكاناً ، فالفعل بما هو صادر عن فاعل عالم مختار إمّا حسن يجب العمل به ، وإمّا قبيح يجب الاحتراز عنه. إلاّ أنّ اللّه سبحانه لا يقوم إلاّ بالفعل الحسن ، وبالتالي لا يتعامل مع عباده إلاّبالعدل ، يقول سبحانه :
    ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولو العِلْمِ قائِماً بالقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم ). (1)
    وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يظلِمُ النّاسَ شَيْئاً ). (2)
    بل هو لا يظلم ولا ينسب إليه الظلم أبداً ، قال سبحانه : ( وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيد ). (3)
    أي لا ينسب الظلم إليه ، نظير قول القائل في النيل من خصمه : « وليس بنبّال » أي لا صلة بينه و بين رمي النبل.
    نعم ربما يقال بعجز العقل عن إدراك محاسن الأفعال ومساويها وبالتالي لا يمكن الوصول إليها إلاّ من خلال تنصيص الشرع. وقد أوضحنا وهن ذلك القول في بحوثنا الكلامية ، وذكرنا انّ لازمه عدم إمكان الحكم بالحسن والقبح مطلقاً لا عقلاً ولا شرعاً. (4)
1 ـ آل عمران : 18.
2 ـ يونس : 44.
3 ـ فصلت : 46.
4 ـ لاحظ كشف المراد : 59 ، الفصل الثالث ، المسألة الأُولى في إثبات الحسن والقبح العقليين عند قول الماتن : « ولانتفائهما مطلقاً لو ثبت شرعاً ».


(27)
    فخلاصة القول : إنّ فعله سبحانه يوصف بالعدل لا بالجور والظلم ، وعليه فمقتضى حكمته أن يتعامل مع العباد بالعدل.
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ عباده أمام تكاليفه على صنفين ، مطيع وعاص ، فيتصور بادئ الأمر أربعة احتمالات :
    الف. أن يُثيب الجميع.
    ب. أن يُعاقب الجميع.
    ج. أن يغض النظر عن إثابتهم أو عقابهم.
    د. أن يثيب المطيع ويعاقب العاصي.
    والاحتمالات الثلاثة الأُول من الوهن بمكان ، لأنّها تناقض العدل ، فالتسوية بين المطيع والعاصي سواء أكانت بإثابة الجميع أو عقابهم كذلك أو تركهم سدى يعد ظلماً وجوراً ، وهو أمر قبيح ، وفعله سبحانه نزيه عنه ، فيتعيّن الاحتمال الرابع.
    وبتعبير آخر : انّ التسوية بين العباد سواء أكانت بشكل إثابة الجميع أو عقوبتهم أو تسويتهم إنّما يتجه إذا كان الجميع سالكاً طريقاً واحداً من سبيلي الإطاعة والعصيان ، فلو أطاع الجميع لكانت إثابتهم نفس العدل ، ولو عصوا لكانت عقوبتهم كذلك ، كما أنّ له سبحانه أن يتركهم سدى ، وأمّا إذا كانوا مطيعين فلأنّ الثواب تفضّل من اللّه سبحانه فله أن لا يتفضل وليس بحقّ عليه ، كما أنّ عقوبتهم حقّ فله أن يتغاضى عن حقّه.
    إنّما الكلام فيما إذا كان العباد على صنفين بين مطيع وعاص ، فالتسوية في هذه الصورة سواء أكانت بصورة إثابة الجميع أو عقوبتهم ، أو تركهم سُدى ظلم قبيح على اللّه سبحانه ، فلا محيص عن التفريق بإثابة المطيع ومعاقبة العاصي.


(28)
    وحيث إنّ الحياة الدنيا يتساوى في الانتفاع بنعمها المطيع والعاصي ، فلابدّ من يوم آخر يكون مجلى لعدله سبحانه ومظهراً له ، وليس هو إلاّ يوم القيامة.
    يقول سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقينَ كَالْفُجّار ). (1)
    ويقول أيضاً : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمينَ كَالْمُجْرِمينَ * مالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون ). (2)
    ويقول أيضاً : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُون ). (3)
    وهذه الآيات تثبت انّ التسوية بين المطيع والعاصي لا يليق بساحته سبحانه. وثمة آيات أُخرى تعيّن اليوم الذي يكون مظهراً لعدله.
    1. يقول سبحانه : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيم وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُون ). (4)
    2. ( يَوْمَ تُبدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا للّهِ الواحِدِ القَهّار * وَتَرَى الْمُجْرِمينَ يَومَئِذ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفادِ * سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِران وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ * لِيَجزيَ اللّهُ كُلَّ نَفْس ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِساب ). (5)
1 ـ ص : 28.
2 ـ القلم : 35 ـ 36.
3 ـ الجاثية : 21.
4 ـ يونس : 4.
5 ـ إبراهيم : 48 ـ 51.


(29)
    3. ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ... * لِيَجْزيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْز أَلِيم ). (1)
    4. ( إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُأُخفِيها لِتُجزى كُلُّ نَفس بِماتَسْعى ). (2)
    5. ( يَومَئِذ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً لَيُرَوا أَعمالَهُمْ ). (3)
    وممّا يلفت النظر انّه سبحانه بعدما يطرح الحياة الأُخروية وقيام القيامة ، يعقبها بقوله : « لتجزى » أو « ليجزى » أو « ليروا » مشعراً بأنّ الهدف الإلهي من حشر الناس في ذلك اليوم هو إثابة المطيع ومعاقبة العاصي.
    وأنت إذا قارنت هذه الطائفة من الآيات التي تصرّح بأنّ الهدف من الحشر هو الجزاء مع ما مضى في الطائفة الأُولى من الآيات تجد انّ التسوية لا تتماشى مع عدله وانّ الجزاء هو مقتضى العدل الإلهي.
    ما ذكرناه هو المستفاد من الآيات الكريمة ، وثمة كلمات منقولة عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفيها إشارة إلى انّ يوم الجزاء مجلى لعدله سبحانه :
    1. « وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ». (4)
    2. « فجدّدهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثم ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء ... ». (5)
1 ـ سبأ : 3 ـ 5.
2 ـ طه : 15.
3 ـ الزلزلة : 6.
4 ـ نهج البلاغة : الخطبة102.
5 ـ نهج البلاغة : الخطبة109.


(30)
3. المعاد مجلى الوعد الإلهي
    وعد سبحانه المطيعَ بالثواب والعاصيَ بالعقاب ، فله أن يغضَّ النظر عن عقاب العاصي لأنّه حقه ، ولكن ليس له غض النظر عن الوعد للفرق بين الوعد والوعيد.
    أمّا الأوّل فيجب العمل به ويعدُّ خُلْفه قبيحاً ، بخلاف الوعيد فلا يعدُّ خُلفه إخلالاً بالعدل ، وقد صبّ الشاعر المفلق هذا المعنى في قالب شعريّ وقال :
وانّي إذا أوعدته أو وعدته لمخلف ميعادي و منجز موعدي
    وقال الآخر :
إذا وعد السّراء انجز وعده وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع
    وإن شئت قلت : الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير. وإمساك عن أداء ما عليه من الحقّ ، وأمّا الوعيد فانّه إسقاط لحقّ نفسه ، والعقل يستقل بقبح الأوّل دون الثاني.
    وعلى ضوء ذلك فله سبحانه أن يغضَّ النظر عن العاصي دون العمل بوعده للمطيع فلابدّمن يوم يكون مجلى لإنجاز وعده وإظهار عدله.
    وهذا البرهان يمتاز عمّ ـ ا سبقه ، بأنّ السابق بصدد بيان انّ التسوية بين المطيع والعاصي أمر قبيح سواء أكان هناك وعداً ووعيداً أم لا ، ولذلك قلنا : إنّه لو كان الجميع مطيعين فلا يضرّ عدم الإثابة بعدله ، أو كانوا عاصين فلا يخلُّ العفو كذلك ، وإنّما المخل هو التسوية بين المطيع والعاصي.
    وأمّا هذا البرهان ، فهو مبني على مقدمة شرعية وحكم عقلي.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس