مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 51 ـ 60
(51)
على أنّ ماهية الإنسان ممكنة وإلاّ لما وجد فرد واحد منه ، فإذا كان الفرد الأوّل ممكناً فالفرد الثاني والثالث وجميع الأمثال ، يسودها حكم واحد ، فاللّه سبحانه هو المبدئ وهو المعيد ، فليس الخلق الجديد أشد من الخلق القديم ، وإلى ذلك البرهان يشير قوله سبحانه : ( وَقالُوا أإِذا كُنّا عِظاماً وَرُفاتاًأءِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلقاً جَديداً ) إلى أن قال : ( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ). (1)
    ويقول عزّ من قائل : ( أَيَحْسبُ الإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيّ يُمنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسوّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِر عَلى أَنْ يُحيِيَ الْمَوتى ) (2) ترى أنّه سبحانه يشرح خلق الإنسان والمراحل التي مرّ بها إلى أن يخرج بقوله : ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوجين الذَّكر والأُنْثى ) ثمّ يعقبه بقوله : ( أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِر عَلى أَنْ يُحيي الْمَوتى ) فيجعل خلق الإنسان بدءاً ، دليلاً على إمكان معاده.
    إلى هنا تمت أجوبة الشبهة الأُولى وهي امتناع الإحياء ، وثبت جوازه بوجوه ثلاثة اقتبسناها من الذكر الحكيم.

الشبهة الثانية : المعاد والعظام البالية
    كان المنكرون يؤكِّدون على العظام البالية وانّه كيف يمكن إحياؤها ؟ ويعبِّرون عنها بتعابير مختلفة ، فتارة يقولون : ( مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيم ) (3) ، وأُخرى : ( أإِذا كُنّا عِظاماً وَرُفاتاً أءِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلقاً جَديداً ) (4)
1 ـ الإسراء : 49 ـ 51.
2 ـ القيامة : 36 ـ 40.
3 ـ يس : 78.
4 ـ الإسراء : 49.


(52)
ونظيرها في الآية 98 ، وثالثة : ( أإِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً * قالُوا تِلْكَ إِذا كَرّةٌ خاسِرة ). (1)
    إلى غير ذلك من الآيات التي تعبر عن شبهاتهم بأنّ العظام البالية لا يمكن إعادة الحياة فيها ، يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أإِذا كُنّا تُراباً وَآباؤُنا أءِنّا لَمُخْرَجُون ). (2)
    وقد أجاب الذكر الحكيم عن تلك الشبهة التي ليست ـ في الواقع ـ إلا استبعاداً لا برهاناً بهدايتهم إلى خلق الإنسان والنبات من التراب.

تجلّي القيامة في خلق الإنسان والنبات
    إنّ الإنسان يرى بأُمّ عينيه في كلّ يوم نموذجاً مصغراً من البعث في خلق الإنسان ونمو الأشجار وتفتح الأزهار.
    أمّا الأوّل فيعطف نظر المنكر إلى أنّ بدء خلق الإنسان هو التراب ، فاللّه سبحانه بقدرته ومشيئته أضفى على ذلك التراب حياةً ونمواً وصورة إلى أن صار إنساناً ، فهو سبحانه قادر على أن يضفي على ذلك التراب أيضاً مثلما أضفى على الأوّل.
    وأمّا الثاني فالإنسان طيلة حياته يرى بأُم عينيه إحياء الأرض وتفتَّح البراعم والأزهار على الأشجار ، فالأرض بحركتها تُحيي ما كان ميتاً في فصل الشتاء ، فالقادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الموتى. ترى ذينك البيانين بوضوح في الآيات التالية :
    قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِنَ الْبَعْثِ فَإنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ
1 ـ النازعات : 11 ـ 12.
2 ـ النمل : 67.


(53)
تُراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ مِنْ مُضْغَة مُخَلَّقَة وَغَير مُخَلّقة لِنُبيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَل مُسَمّى ثُمَّ نُخْرِجُكُم طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوفّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِعِلْم شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوج بَهيج ). (1)
    ترى أنّه سبحانه يذكر في المقطع الأوّل خلق الإنسان من تراب ، ثمّ يسرد المراحل التي مرّت على خلق الإنسان ، ويذكر في المقطع الثاني اهتزاز الأرض بعد ان كانت هامدة وإنباتها من كلّ زوج بهيج ، ثمّ بعد ذلك يرتب عليه إمكان إحياء الموتى ، ويقول :
    ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَانّهُ يُحْيِي الْمَوتَى وأَنّهُ على كُلِّ شَيْء قَدِير * وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فيها وَأَنّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور ). (2)
    وقد جاء ذلك البيان في القرآن غير مرّة ، فيذكر حياة الأرض واهتزازها عقب هطول المطر وظهور الثمار على الأشجار بعد سباتها ، ثمّ يذكر إحياء الموتى ، يقول سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَد مَيِّت فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءََ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ). (3)
    ويقول سبحانه أيضاً : ( وَالَّذي نزّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَر فَأَنْشرنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُون ). (4)
1 ـ الحج : 5.
2 ـ الحج : 6 ـ 7.
3 ـ الأعراف : 57.
4 ـ الزخرف : 11.


(54)
    فهذه الآيات تذكر الإنسان نماذج من إحياء الموتى ، كخلق الإنسان من تراب و إحياء الأرض بالنبات والأشجار حتى يمحو تلك الشبهة العالقة في ذهنه.

الشبهة الثالثة : المعاد و العلم الإلهي
    كان المنكرون يعتمدون في إنكارهم على شبهة ثالثة ، تنحل إلى أمرين :
    الأمر الأوّل : انّ انتشار ذرات بدن الإنسان البالي يوجب اختلاط تلك الذرات ، فكيف يمكن تمييز بعضها عن بعض ؟
    وبعبارة أُخرى : إذا تعلّق المعاد بإحياء الناس كافة مع اختلاط ذرات بعضهم ببعض ، فكيف يمكن التمييز بين هذه الذرات المختلطة ؟ ولعلّ الآية التالية ناظرة إلى هذا الجانب من الشبهة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعيد ). (1)
    والجواب ما تذكره الآية التالية : ( قَدْعَلِمنا ما تَنْقُصُ الأَرض مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظ ).
    فالآية الثانية تفسر بجوابها واقع الشبهة.
    الأمر الثاني : كيف يمكن الإحاطة بالأعمال التي صدرت عن الإنسان خيرها وشرها ، وتمييز عمل كلّ أحد عن عمل الآخر حتى يجزى على وفق أعماله ؟ وكانت الشبهة نابعة عن عجزهم عن درك علمه وسعته واللّه سبحانه يجيب عن الشبهة ، ويقول : ( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْس واحِدَة إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصيرٌ ). (2)
1 ـ ق : 3.
2 ـ لقمان : 28.


(55)
    فليس خلق الناس جميعاً ولا بعثهم إلاّ كخلق نفس واحدة وبعثها ، فإذا كان الثاني أمراً ممكناً غير عسير فخلق الجميع وبعثهم مثله.
    وقد شغلت هذه الشبهة العقول منذ عصور غابرة ، وذلك عندما دعا موسى فرعون إلى عبادة الربّ فخاطبه فرعون بقوله : ( فَمَنْ رَبُّكُما يا موسى ) فأجاب موسى ، بقوله : ( قالَ رَبُّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ).
    وعندها دار بينه وبين فرعون ذلك الحوار الذي نوّه فيه إلى تلك الشبهة والتي يذكرها الذكر الحكيم بقوله : ( قالَ فَما بالُ القُرونِ الأُولى * قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبّي في كِتاب لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ). (1)
    يقول فرعون : فما بال الأُمم الماضية ، فانّها لم تقر باللّه ومن تدعو إليه ، بل عبدت الأصنام والأوثان مثل قوم نوح وعاد وثمود ؟ فيجيب موسى بأنّ أعمالهم محفوظة عند اللّه ومكتوبة في لوح خاص يجازيهم بها ، فما يذهب عليه شيء ولا يخطأ ولا ينسى.

الشبهة الرابعة : الصلة بين الحياتين : الدنيوية والأُخروية
    هذه الشبهة هي الأخيرة من الشبهات الأربع التي انتخبناها ، وحاصلها : انّ الموت فناء للإنسان وإعدام له ، فبموته تبطل شخصيته وكيانه ، فإذا تعلّقت مشيئته سبحانه بإحيائه ليجزيه وفق أعماله فلا صلة بين الحياتين ولا بين الشخصين ، فكيف يمكن القول بأنّ المعاد هو نفس الإنسان الذي مات وبطلت شخصيته ؟
    وهذه الشبهة هي التي يبيّنها قوله تعالى عنهم : ( أإِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْضِ أءِنّا لَفِي خَلْق جَديد ). (2)
1 ـ طه : 51 ـ 52.
2 ـ السجدة : 10.


(56)
    وهذه الآية وإن لم تكن صريحة في بيان الشبهة ، لكن يوضّحها ما أجاب به سبحانه عنها ، بقوله :
    ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُون ) و قد مرّ بيانه.
    ( قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ). (1)
    ولا يقف الإنسان على حقيقة الجواب إلاّ بإمعان النظر في قوله : ( يتوفّاكم ) ، فليس المراد من التوفّي هو الموت كما هو الدارج على الألسن ، بل المراد منه هو الأخذ ، وقد فسره به ابن منظور في لسان العرب. (2)
    ويفسره أمين الإسلام الطبرسي ، بقوله : أي يقبض أرواحكم جميعاً. (3)
    وعلى ذلك فالقرآن يرد على الشبهة بأنّ حقيقة الإنسان عبارة عمّا يأخذه ملك الموت الذي وكّل بأخذه بأجمعه وهو شيء لا يضلَّ في الأرض ، وأمّا الضالّ في الأرض كالعظام البالية والأجزاء المتلاشية فهي طارئة على الإنسان.
    فإذا كانت حقيقة الإنسان محفوظة عند الربّ بأجمعها ، فالإتيان به يوم الحشر إتيان لنفس الإنسان الذي عاش في الحياة الدنيا.
    وإن شئت قلت : الإنسان مؤلف من بدن وروح ، فالبدن قشر والروح هو الأصل ، والحافظ للوحدة بين البدنين هو الروح ، فإذا كانت الروح باقية في كلتا النشأتين فلا تضرُّ بشخصيته ، فيصدق على المحيا في النشأة الأُخرى ، انّه نفس الإنسان الذي عاش في نشأة الدنيا.
    ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الآية ليست ناظرة إلى بيان أنّ المعاد
1 ـ السجدة : 11.
2 ـ لسان العرب : 15 ، مادة وفى.
3 ـ مجمع البيان : 4/328.


(57)
روحاني لا جسماني بل هي ساكتة عن هذا الأمر ، وإنّما يعلم ذلك من خلال الآيات الأُخرى الدالّة على أنّ المعاد روحاني وجسماني.
    بل هي ناظرة إلى دفع الشبهة العالقة في الأذهان ، وهي كيف يمكن جزاء الإنسان في النشأة الأُخرى بالأعمال التي اكتسبها في النشأة الدنيا مع أنّه بموته بطلت شخصيته وانفصمت وحدته.
    فيجيب سبحانه بأنّ الحافظ للوحدة ، هو وحدة الروح والنفس ، في أيّ بدن دخلت ، وبأي بدن حشرت ، فهناك صلة قويمة بين الحياتين.
    نعم دلّت الآيات على أنّه سبحانه سيجمع عظامه ورفاته فينشئ نفس ما أنشأه في الحياة الدنيوية.
    قال سبحانه : ( قُلْ يُحْييها الَّذي أَنشأها أَوّلَ مرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليم ). (1)
    هذا هو جواب الذكر الحكيم عن الشبهة ، وهو مبني على تجرّد الروح عند الموت الذي يصحح بقاءه وإن فسدت مادته وتناثرت أوصاله ، وهذا الجواب مدعم بدلائل عقلية دامغة ، وإليك بيانها :

البرهان الأوّل : ثبات الشخصية في دوّامة التغيير
    إنّ الإنسان منذ نعومة أظفاره إلى ريعان شبابه إلى كهولته وشيخوخته في دوامة التغيّرات والتحوّلات ، وهو أمر ملموس لكلّ إنسان.
    وعلى الرغم من ذلك فثمة أمر ثابت غير متغير يواكبه في جميع تلك التغييرات والتحولات وإليه ينسب أفعاله كلّها التي صدرت منه طيلة حياته ، وهذا الأمر الثابت يعبّر عنه ب ـ « أنا ».ويقول كنت طفلاً رضيعاً ثمّ صرت مراهقاً ثمّ
1 ـ يس : 79.

(58)
شاباً ثمّ كهلاً وشيخاً هرماً ، وهذا يدل على أنّ المنسوب إليه أمر ثابت في منأى عن طروء التحول والتغير عليه ، وما هذا شأنه فهو مجرّد لا مادي.
    وبتعبير آخر : انّ الجانب المادي للإنسان عبارة عن البدن الذي يتألف من خلايا كثيرة التي لم تزل في تحول و تغير مستمر ، وهذه الخلايا تقطع أشواطاً طويلة حتى تصل إلى الهرم ثمّ تموت وتحل محلها خلايا أُخرى جديدة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يلمس كلّ إنسان انّ ثمة أمر ثابت لا يتغير بتغير الزمان ويكون محوراً لتلك التغييرات ، وهو عبارة عن بقاء ذاته وشخصيته وانيّته عبر الزمان.
    فثبت من ذلك أمران :
    أ. الجانب المادي في مهبِّ التغيّرات والتحوّلات.
    ب. الجانب الروحي والنفسي ثابت غير خاضع للتغيّر.
    فنستنتج من هاتين المقدمتين : انّ النفس الإنسانية التي تدور عليها شخصيته وذاته أمر غير مادي بشهادة انّها غير خاضعة لآثار المادة.

البرهان الثاني : علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه
    إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كلّ شيء حتى عن بدنه وأعضائه وما حوله من الأشياء ولكن لا يغفل أبداً عن نفسه سليماً كان أم سقيماً ، وهذا يدل على أنّ المغفول عنه غير اللا مغفول عنه.
    توضيحه : تخيّل نفسك في حديقة غنّاء زاهرة وأنت مستلق لا تُبصر أطرافك ، ولا تنتبه إلى شيء ، ولا تتلامس أعضاؤك ، لئلاّ تحس بها ، بل تكون منفرجة ومرتخية في هواء طلق ، لا تحس فيه بكيفية غريبة من حرّ أو برد أو ما


(59)
شابهه ممّا هو خارج عن بدنك ، فانّك في مثل تلك الحالة تغفل عن كلّ شيء حتى عن أعضائك الظاهرة وقواك الداخلية فضلاً عن الأشياءالتي حولك ، إلاّ عن ذاتك فلو كانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك ، للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عن أعضائك والتجربة أثبتت خلافه. (1)

البرهان الثالث : عدم الانقسام في الشخصية
    إنّ من آثار المادة هو التجزئة والانقسام ، فكلّ أمر مادي حتى الجزء الذي يسمّونه بما لا يتجزّأ أمر منقسم عند العقل وإن تعذر تقسيمه بالأجهزة الحديثة ، فما يسمّى في الفيزياء بالجزء الذي لا يتجزّأ هو مصطلح علمي أسموه بذلك لعدم استطاعة الأجهزة تجزئته ، ولكنّه عند العقل جزء يتجزّأ كما ذكرنا.
    وبناء على هذا الأصل فكلّ موجود مادي قابل للانقسام ولكن الشخصية الإنسانية التي تكون محوراً لأفعاله وأوصافه لا تقبل التجزئة والتقسيم فلا يتصور لشخصيته التي يعبر عنها ب ـ « أنا » أجزاء ، وهذا دليل على أنّ الشخصية الإنسانية رغم ازدواجها مع المادة غير خاضعة لأحكامها ، فهي أمر ثابت غير منقسم ، وما هذا شأنه أمر مجرّد غير مادي.
    إنّ هذه البراهين الساطعة تدعم وجهة النظر القائلة انّ الإنسان لا يفنى بموته وإنّما الفاني غير الباقي ، و أنّ النفس أمر مجرد فما ينسب إليها أيضاً مثله.
    مثلاً انّ حبك لولدك وبغضك لعدوك ممّا لا يقبل الانقسام وإن كانا
1 ـ هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات : 2/92; وفي كتاب الشفاء قسم الطبيعيات في موردين ، ص 282 و 464.

(60)
يقبلان الشدة والضعف ، فالنفس والنفسانيات أو الروح والروحيات أُمور فوق المادة لا تخضع لآثارها.

القرآن وخلود النفس
    إنّ الذكر الحكيم يؤكّد على خلود الروح وبقائها ، والآيات في هذا المضمار على قسمين : قسم يدل بصراحة على التجرّد ، وقسم آخر ظاهر فيه ، وإليك نقل شيء من القسمين :
    القسم الأوّل : ما هو صريح في خلود الروح ، يقول سبحانه :
    1. ( اللّهُ يَتَوفَّى الأَنْفُسَ حينَ مَوتِها وَالّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتي قَضى عَلَيْهَا الْمَوتَ وَيُرسِلُ الأُخرى إِلى أَجَل مُسَمًّى إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَتَفَكَّرُون ). (1)
    ودلالة الآية مبنية على إمعان النظر في لفظة « التوفّي » وهي بمعنى الأخذ والقبض لا الإماتة ، وعلى ذلك فالآية تدل على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه سبحانه حتى عند الموت والنوم.
    فيمسكه إن كتب عليه الموت ويرسله إن لم يكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى ، فلو كان الإنسان متمحضاً في المادة وآثارها فلا معنى « للأخذ » و « الإمساك » و « الإرسال ».
    2. ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِنَ اللّهِ وَفَضْل وَأنَّ اللّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنينَ ). (2)
1 ـ الزمر : 42.
2 ـ آل عمران : 169 ـ 171.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس