مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 61 ـ 70
(61)
    وصراحة الآية غير قابلة للإنكار حيث تعدّهم أحياء أوّلاً ، وتحكم عليهم بالرزق وتثبت لهم آثاراً نفسية كالفرح والاستبشار وعدم الخوف والحزن.
    ونظيره قوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ). (1)
    وربما يتراءى من بعض الذين أخلدوا إلى المادة ، تفسير حياة الشهداء بخلود ذكراهم في المجتمع والأندية والمحافل ، ولكنّه تفسير بعيد عن الصواب ، إذ لو كان المراد هو هذا فما معنى قوله سبحانه : ( يرزقون ) ، ( فرحين ) ، ( يستبشرون ) ، بل وما معنى قوله : ( ولكن لا تشعرون ) فانّ الحياة بالمعنى الذي ذُكر أمر يشعر بها كلّ الناس ؟!
    3. ( وحاقَ بِآل فِرْعَونَ سُوءُ العَذاب * النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيها غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَومَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشَدَّ العَذَاب ). (2)
    نرى أنّه سبحانه يحكم على آل فرعون بأنّهم يعرضون على النار كلّ يوم وليلة قبل يوم القيامة ولكنّهم يدخلون في النار حين تقوم الساعة ، فلو كان الموت بطلاناً للشخصية فما معنى عرضهم على النار صباحاً ومساءً ؟
    4. ( مِمّا خَطيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْصاراً ). (3)
    فالآية تحكي عن أنّ قوم نوح ( عليه السلام ) بعدما غرقوا أُدخلوا النار بلا تراخ ، فلو كان المراد من دخول النار هو نار القيامة لا يصح التعبير عنه بالفاء ، في قوله : ( فَأُدْخِلُوا ناراً ) الحاكية عن الاتصال ، وعلى ذلك فالمراد من النار هي النار
1 ـ البقرة : 154.
2 ـ غافر : 45 ـ 46.
3 ـ نوح : 25.


(62)
الموجودة في النشأة البرزخية.
    إلى غير ذلك من الآيات الصريحة عن خلود الشخصية الإنسانية وبقائها بعد موته.
    القسم الثاني : ما هو غير صريح في خلود الروح وإن كان ظاهراً في تجرّده وخلوده.
    1. ( فَالْيَومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آية ). (1)
    نرى أنّه سبحانه يخصّ النجاة ببدنه ، وهو يعرب عن أنّ هناك شيئاً آخر لم يشمله النجاة.
    أضف إلى ذلك خطابه سبحانه بقوله : ( نُنَجيكَ بِبَدَنِكَ ) حيث يدل على أنّ هناك واقعية وراء البدن يكلمها ويخاطبها ويُعْلِمْها بأنّ النجاة يشمل البدن لا غير.
    2. ( فَعَقَرُوا النّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِين * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دارِهِمْ جاثِمين * فَتَولّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحين ). (2)
    فهذه الآية والآية التالية تدلاّن على بقاء الروح بعد الموت ووجود الصلة بين النشأتين الدنيوية ، والبرزخية ، وإليك الآية الثانية :
    ( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنوا فيها الَّذينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالاتِ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
1 ـ يونس : 92.
2 ـ الأعراف : 77 ـ 79.


(63)
فَكَيْفَ آسى على قَوم كافِرين ). (1) ودلالة الآيتين على نمط واحد حيث إنّ كلاً من صالح وشعيب يخاطبان قومهما بعد هلاكهم ويقولان : ( ياقَوْمِ لَقَدْأَبْلَغْتُكُمْ ) فلو كان الموت فناء الشخصية ، فما معنى هذا الخطاب الجدي والذي يوضحه دخول الفاء على قوله : « فتولى » والذي يعرب عن تأخّر التولّي والمحاورة عن هلاكهم ؟!
    3. ( وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمن آلهةً يُعْبَدُونَ ). (2)
    والآية تأمر النبي بسؤال المتقدمين من الرسل في شأن التوحيد ، والسؤال فرع وجود المسؤول أوّلاً وإمكان الاتصال ثانياً ، فالآية ظاهرة في وجود أرواح الأنبياء وإمكان الإتصال بهم.
    وهناك آيات أُخرى صريحة أو ظاهرة في خلود الروح وإمكان الاتصال بها ، اقتصرنا على ما ذكرنا روماً للاختصار.
1 ـ الأعراف : 92 ـ 93.
2 ـ الزخرف : 45.


(64)
الفصل الخامس :
ذكر نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة
    إنّ للمتّقين مراتب ودرجات ، فاليقين بأنّ النار حارة أمر يقبل الاشتداد ، فتارة نتصور النار ونعلم بأنّها حارة ، وأُخرى نشاهدها عن كثب ، وثالثة نقترب منها ونحس حرارتها ، ولاختلاف درجات اليقين صار العلم بشيء واحد يوصف تارة بعلم اليقين ، وأُخرى بحقّ اليقين ، وثالثة بعين اليقين.
    يقول سبحانه : ( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقين * لَتَرَونَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عينَ الْيَقين ). (1)
    وعلى ضوء ذلك فيصح لإنسان مذعن بإمكان إحياء الموتى أن يطلب من اللّه سبحانه زيادة اليقين بمشاهدة الإحياء بأُم عينيه و ما هذا إلاّ عملاً ، بقوله سبحانه : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً ). (2)
    فما جاء في الذكر الحكيم من إحياء الموتى للأنبياء والصالحين كان من هذا القبيل ، وإليك ذكرَها على وجه الإيجاز.
1 ـ التكاثر : 5 ـ 7.
2 ـ طه : 114.


(65)
1. إبراهيم ( عليه السلام ) وإحياء الموتى
    ذكر المفسرون انّ إبراهيم ( عليه السلام ) رأى جيفة تفترسها السباع ويأكل منها سباع البر ودواب البحر ، فسأل اللّه سبحانه ، وقال : يا ربّ ، قد علمت أنّك تجمعها من بطون السباع والطير ودواب البحر فأرني كيف تحييها لأُعاين ذلك.
    يقول سبحانه : ( وَإِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحيي الْمَوتَى قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَم أَنَّ اللّهَ عَزيزٌ حَكيم ). (1)
    وما ذكرنا من شأن النزول يكشف عن هدف إبراهيم ، وهو انّه كيف يمكن إحياء الميت بعد تشتّت أوصاله واختلاطها بأوصال حيوانات أُخرى ؟ فلذلك أمره سبحانه بأخذ طيور مختلفة فقطعها ومزقها ثمّ فرقهنّ على جبال ثمّ أخذ بمناقيرهنّ ثمّ دعاهنّ باسمه سبحانه فأتتن سعياً فكانت تجتمع ويأتلف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه حتى قامت احياءً بين يديه ، وبذلك ازداد يقين إبراهيم حيث عاين إمكان إعادة أجزاء بدن كلّ حيّ إليه وإن اختلط بحي آخر ، فلو أكلت سباع البراري وجوارح السماء وحيتان البحر ، بدن الإنسان فصار جزءاً لأبدانها ، فالاختلاط لا يكون مانعاً عن الإحياء والإعادة.
    وبعبارة أُخرى : لم يسأل إبراهيم ( عليه السلام ) عن أصل إحياء الموتى وإلاّلكفى في الإجابة بإحياء فرد واحد من الطيور و الإنسان ، بل كان يستهدف الوقوف على كيفية إعادة أجزاء كلّ ميت إليه بعد الاختلاط ، ولذلك أمره سبحانه بأخذ طيور أربعة وقطع رؤوسهنّ وخلط أعضائهنّ وتفريقهنّ على رؤوس الجبال ثمّ دعوتهنّ.
1 ـ البقرة : 260.

(66)
    وبذلك اطمئنّ قلب إبراهيم واذعن بأنّه سبحانه له القدرة على إعادة أجزاء بدن الميت وإن اختلطت أجزاؤه بأجزاء ميت آخر. و انّ اختلاط أجزاء الموتى أو ضلالتها في الأرض لا يمنع من الإعادة ، قال سبحانه : ( قَدْعَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأَرضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفيظ ). (1)
    ومن غريب التفسير ما ذكره صاحب المنار حيث قال في معنى الآية ما حاصله : خذ أربعة من الطير فضُمَّها إليك ، وآنسها بك ، حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوانات استعداداً لذلك ، ثمّ اجعل كلّ واحد منها على جبل ثمّ ادعها ، فانّها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها ، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم بكلمة التكوين : « كونوا أحياء » فيكونوا أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة ، إذ قال للسماوات والأرض : ( ائْتيا طَوعاً أَوْ كرهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعين ). (2)
    قال : والدليل على ذلك من الآية ، قوله تعالى : ( فَصُرْهُنّ ) فانّ معنى « أملهنّ » أي أوجد ميلاً بها ، و آنسها بك ، ويشهد به تعديته بإلى ، فإنّ صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الأمالة. (3)
    ما ذكره من التفسير بعيد عن الصواب لوجوه :
    الوجه الأوّل : انّ إبراهيم كان بصدد الوصول إلى معرفة تامة بحقيقة إحياء الموتى ، وطلب من اللّه سبحانه أن يرى الإحياء بأُم عينه ويشاهده عن كثب ، فلم يكن تشبيه الإحياء والتمثيل له يجدي نفعاً ، كأن يشبه دعوة إبراهيم الطيور ومجيئهن إليه ، بدعوة اللّه سبحانه الموتى ومجيئهم إليه.
1 ـ ق : 4.
2 ـ فصلت : 11.
3 ـ تفسير المنار : 3/55 ـ 58 ، وذكر وجوهاً في دعم هذه النظرية التي نقلها عن أبي مسلم وقد استحسنها في آخر كلامه ، وقال : « وللّه در أبي مسلم ما أدقّ فهمه وأشدَّ استقلاله فيه ».


(67)
    الوجه الثاني : لو كان المراد ما ذكره ، لكان اللازم أن يقول : « ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنَّ واحداً » بدل أن يقول : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزءاً ).
    الوجه الثالث : انّ لفظة ( فصرهنَّ ) إمّا من « صيّر » بمعنى الميل والأُنس ، فعندئذيكون الأمر بالقطع مقدراً ، فكأنّه يقول : « أملهنَّ إليك ثمّ اقطعهنَّ ».
    أو من « صرى » بمعنى القطع ، فعندئذ تكون متضمنة معنى الميل ، فكأنّه يقول : اقطعهنّ متمايلات إليك ، كتمايل كلّ طير إلى صاحبه.
    وعلى كلّ حال فالآية تدل صراحة على أنّ إبراهيم قطعهنّ وخلط أجزاءهنّ ، ثمّ فرقها على الجبال ، ثمّ دعاهنّ ، فأتينّه سعياً.

2. إحياء نفس عزير (1)
    يحكي الذكر الحكيم انّ رجلاً صالحاً مرّعلى قرية خاوية وقد سقطت سقوفها فتساءل في نفسه كيف يحيي اللّه أهلها بعد ما ماتوا ؟ ولم يقل ذلك إنكاراً ولا ارتياباً ، بل أحبَّ أن يريه اللّه إحياءها مشاهدة مثل قول إبراهيم ، فأماته اللّه مائة سنة ثمّ أحياه ، فسمع نداءً ( كم لبثت ) فقال : ( لَبِثْتُ يَوماً أَوْ بَعْض يَوم ) لأنّ اللّه أماته في أوّل النهار وأحياه بعد ـ مائة سنة ـ في آخر النهار ، فقال : ( يوماً ) ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : ( أَو بَعْض يوم ) فوافاه النداء : ( بَلْ لَبِثْتَ مائة سنة ) فانظر إلى طعامك و شرابك لم تغيره السنون ، ثمّ أمر بأن ينظر إلى حماره كيف تفرقت أجزاؤه وتبدّدت عظامه ، فجعل اللّه سبحانه إحياءه آية للناس وحجّة في البعث. ثمّ جمع اللّه عظام حماره وكساها لحماً وأحياه.
    يقول سبحانه : ( أَوْ كَالّذي مَرَّ عَلى قَرْيَة وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قال أَنّى
1 ـ المعروف انّ المحيى هو عزير ، ولكن ليس في الآية دليل عليه ، وما يدل عليه هو انّ السائل كان رجلاً صالحاً ، وأمّا انّه هو عزير فلا نقطع به.

(68)
يُحْيِي هذهِ اللّهُ بَعْدَ مَوتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائةَ عام ثُمَّ بَعَثَهُ قال كَمْ لَبِثْتَ قال لَبِثْتُ يَوماً أَوْبَعْضَ يوم قال بَلْ لَبِثْتَ مِائةَ عام فَانْظُر إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهُ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلنَجْعَلَكَ آيةً لِلنّاس وَانْظُر إِلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدير ). (1)
    والإمعان في قوله سبحانه : ( فَأَماتَهُ اللّه مائة عام ) يفيد أنّه أماته سبحانه ، ثمّ أحياه بعد تلك المدة.
    كما أنّ الإمعان في قوله : ( وَانْظُر إِلى العِظام ) سواء أُريد منه عظام حماره أو غيره ، يفيد انّه سبحانه كساها لحماً ثمّ أحياه ، فكان هناك إحياء لميتين.
    والعجب انّ الذي يتطرق إليه الفساد بسرعة كالطعام والشراب لم يتغير طيلة هذه المدة ولكن ما لا يتطرق إليه الفساد إلاّ بعد مدّة طويلة فقد تفرقت أجزاؤه وتلاشت أعضاؤه ، وبذلك ازداد إيمان الرجل الصالح بالبعث والحشر.
    بيد انّ صاحب المنار سلك في تفسير الآية نفس التفسير السابق فحمل الموت على السُّبات وهو النوم المستغرق الذي سمّاه اللّه سبحانه وفاة ، واستعان في تقريب مراده بأنّه قد ثبت في هذا الزمان انّ من الناس من تحفظ حياته زمناً طويلاً يكون فيه فاقد الحس والشعور ، فلبث الرجل الذي ضرب على سمعه مائة سنة غير محال في نظر العقل. (2)
    والتفسير بعيد عن الصواب ، وذلك لأنّ تفسير الموت بالسبات بحاجة إلى دليل ، والمتبادر من الإماتة هي الإماتة الحقيقية ، وقياس المقام بأصحاب الكهف قياس مع الفارق ، لأنّ المتبادر من الآيات هناك هو السبات والنوم ، يقول سبحانه : ( فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنينَ عَدداً ). (3)
1 ـ البقرة : 259.
2 ـ تفسير المنار : 3/50.
3 ـ الكهف : 11.


(69)
    ويقول أيضاً : ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيقاظاً وَهُمْ رقُود ) (1) بخلاف المقام.
    على أنّ ما ذكره لو صحّ في نفس الرجل الصالح لا يصح في حماره حيث إنّ الآية صريحة بأنّه سبحانه أماته ثمّ أحياه ونشز عظامه و كساها لحماً ، قال سبحانه : ( وَانْظُرْإِلَى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً ).

3. إحياء قوم من بني إسرائيل
    ذكر المفسّرون انّ قوماً من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو الجهاد لما رأوا انّ الموت كثر فيهم ، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابهم ، ثمّ أحياهم لمصالح مذكورة في الآية ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَإِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوت فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْل عَلى النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ ). (2)
    والرؤية في قوله : ( أَلَمْ تَرَ ) بمعنى العلم ، والمعنى : « ألم تعلم » والآية كما تثبت وقوع إحياء الموتى بعد إمكانه ، تثبت إمكان الرجعة إلى الدنيا على ما تتبنّاه الشيعة الإمامية كما هو الحال في إحياء عزير.
    وممّا يثير العجب ما ذكره صاحب المنار ، حيث قال : الآية مسوقة سوق المَثَل ، والمراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم ، فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، لهم كثرة وعزّة ، حذر الموت ، فقال لهم اللّه : موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت ، والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي ، وتمكّن الأعداء منهم ، وبقوا أمواتاً ثمّ أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ فيهم
1 ـ الكهف : 18.
2 ـ البقرة : 243.


(70)
فقاموا بحقوق أنفسهم واستغلوا في ذلك. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الظاهر انّ الآية تبيّن قصة واحدة ، وهي فرار قوم من الموت ، فأماتهم اللّه ، ثمّ أحياهم ، لا قصتين. بمعنى تشبيه من لم يدافعوا عن عزتهم ، وغُلبوا ، وبقوا كذلك حتى نفث في روعهم روح النهضة ، فقاموا للدفاع ، بقوم فرّوا من الموت الحقيقي ، فأماتهم اللّه موتاً حقيقياً ، ثمّ أحياهم ، ولو كانت الآية جارية مجرى المثل لوجب أن يكون هناك مشبه ومشبه به ، مع أنّ الآية لا تحتمل ذلك.
    ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عندما يريد التمثيل بمضمون آية ، يأتي بلفظ « مثل » ، ويقول : ( كَمَثَلِ الَّذي اسْتَوقَدَ ناراً ) (2) و ( إِنّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كماء أَنْزَلْناهُ ) (3) و ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ). (4)
    وثانياً : لو كان المراد من الموت ، موت الخزي ، ومن الحياة ، روح النهضة ، للزم على اللّه سبحانه مدحهم وذكرهم بالخير ، مع أنّه يذمهم في ذيل الآية ، فانّ فيها : ( وإنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْل عَلَى النّاسِ وَلكِنّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُون ). (5)
    ثمّ إنّ صاحب المنار استعان في ردّ نظرية الجمهور ، بقوله سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوت إِلاّ الْمَوتَةَ الأُولى ) (6) فلا حياة في هذه الدنيا إلاّ حياة واحدة. (7)
    ولكن عزب عنه انّ ما جاء في الآية يدلّ على سنّة اللّه تعالى في عموم الناس ،
1 ـ لاحظ تفسير المنار : 2/458 ـ 459.
2 ـ البقرة : 17.
3 ـ يونس : 24.
4 ـ الجمعة : 5.
5 ـ النمل : 73.
6 ـ الدخان : 56.
7 ـ تفسير المنار : 2/459.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس