مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 111 ـ 120
(111)
الجزء جزءاً من العضوين ، وهو محال.
    وأما الثاني : فلأنّه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثمّ تتحلّل تلك الأجزاء ، ويعصي في أجزاء أُخرى ، فإذا أُعيد في تلك الأجزاء بعينها وأثابها على الطاعة لزم إيصال الحقّ إلى غير مستحقه. (1)
    وقد لخصها سعد الدين التفتازاني ، وقال : لو أكل إنسان إنساناً وصار غذاء له جزءاً من بدنه فالأجزاء المأكولة إمّا أن تعاد في بدن الآكل ، أو في بدن المأكول ، وأيّاً ما كان لا يكون أحدهما بعينه معاداً بتمامه ، على أنّه لا أولوية لجعلها جزءاً من بدن أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل لجعلها جزءاً من كلّ منهما ، وأيضاً إذا كان الآكل كافراً والمأكول مؤمناً يلزم تنعيم الأجزاء العاصية أو تعذيب الأجزاء المطيعة. (2)

إجابة المتكلّمين عن الشبهة
    وقد أجاب المتكلّمون عن الشبهة بالأصل الذي اختاروه في تفسير المعاد الجسماني ، وهو :
    انّ لكلّ مكلّف أجزاء أصيلة لا يمكن أن تصير جزءاً من غيرها ، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها ، فإذا أُعيدت جعلت أجزاءً أصلية لما كانت أصلية له أوّلاً ، وتلك الأجزاء هي التي تعاد ، وهي باقية من أوّل العمر إلى آخره. (3)
    واختاره التفتازاني أيضاً حيث قال :
    انّا نعني بالحشر إعادة الأجزاء الأصلية الباقية من أوّل العمر إلى آخره ، لا
1 ـ كشف المراد : 260 ، ط مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام ).
2 ـ شرح المقاصد : 2/213 ، ط الآستانة.
3 ـ كشف المراد : 260.


(112)
الحاصلة بالتغذية ، فالمعاد من كلّ من الآكل والمأكول الأجزاء الأصلية الحاصلة في أوّل الفطرة من غير لزوم فساد. (1)
    وقد عرفت عدم ثبوت أصل النظرية من أنّ لكلّ إنسان أجزاء صلبة أصلية لا تكون جزءاً للغير ، فيسقط الجواب مادام لم يثبت الأصل.

إجابة صدر المتألّهين عن الشبهة
    أجاب الحكماء عن الشبهة بمسألة انّ تشخّص كلّ إنسان إنّما يكون بنفسه لا ببدنه ، وأنّ البدن المعتبر فيه أمر مبهم لا تحصُّل له إلاّ بنفسه ، وليس له من هذه الحيثية تعيّن ولا ذات ثابتة ، ولا يلزم من كون بدن زيد محشوراً أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولاً لسبع أو إنسان آخر ، محشوراً ، بل كلّما يتعلّق به نفسه هو بعينه بدنه الذي كان ، فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أن يبعث أبدان من القبور إذا رأى أحد كلّواحد واحد منها يقول هذا فلان بعينه ، أو هذا بدن فلان ، ولا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدَّل الوجود والهوية ، كما لا يلزم أن يكون مشوّه الخلق ، والأقطع والأعمى والهرم محشوراً على ما كان من نقصان الخلقة وتشويه البنية كما ورد في الأحاديث. (2)
    وما ذكره من الجواب هو اللائح من قوله سبحانه : ( قالُوا أَءِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْض ءَإِنّا لَفي خَلْق جَديد بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ * قُل يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوتِ الَّذي وكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ ترجعُون ). (3)
    فانّ الشبهة جاءت في صدر الآية تحت عنوان الضلال في الأرض ، أعني
1 ـ شرح المقاصد : 2/213 ، ط الآستانة.
2 ـ الأسفار : 9/199 ـ 200.
3 ـ السجدة : 10 ـ 11.


(113)
قولهم : ( أَءِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْض ) وجاء الجواب في قوله : ( قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَك المَوت ) ، ولا تحسم مادة الإشكال إلاّ بالتفسير التالي ، وهو :
    إنّ ضلال أجزاء البدن في الأرض وتبعثرها لا يخل بالمعاد الجسماني ، ولا يكون دليلاً على محو الشخصية ، لأنّ الأصل في الإنسان هو الروح فالشخصية تدور مدار بقاء الروح ، فعندئذ لو حشر مع بدن عنصري حينها ستحفظ شخصيته ووحدته سواء أكان البدن الذي عاشت معه النفس في الدنيا أم الآخرة ، لأنّ البدن آلة لإدراك الألم ، والمؤلم حقيقة هي النفس والبدن أداة لإيلامها ، فلا فرق بين كون البدن نفس البدن الدنيوي أو غيرها.
    ويتضح ذلك من خلال القول انّ النفس ربما لا تتألم بالآلام الجسمانية إلاّ عن طريق البدن ، فالضرب على البدن لأجل إيلام الروح دون البدن فلا يكون الضرب على غير البدن الذي عاشت معه ظلماً وخارجاً عن الحدّ.
    هذا ما يمكن به توجيه كلام الحكماء.
    أقول : ولنا تقرير آخر في دفع هذه الشبهة ، وقبل الخوض ننبّه على أنّ الشبهة يمكن أن تقرر بوجهين :
    الوجه الأوّل : انّه إذا صار جزء من بدن الإنسان ، عضواً لبدن إنسان آخر ، فحشر كلا الإنسانين ، يستلزم وجود النقص في واحد منهما.
    الوجه الثاني : انّ حشرهما بأيّ صورة كانت مخالف للعدل الإلهي ، حيث يمكن أن يكون الإنسان الأوّل مطيعاً والثاني عاصياً ، فيلزم أن يعذب جزء من بدن الإنسان المؤمن في نار جهنم إذا صار عضواً لبدن الكافر.
    وهانحن نصب البحث على الإشكال الأوّل ثمّ نرجع إلى الاشكال الثاني ، فنقول :


(114)
    إنّ تحوّل جزء من بدن إنسان إلى بدن إنسان آخر بالمباشرة نادراً ما يتفق ، وإنّما الشائع هو التحول من خلال تحول البدن الإنساني إلى تراب ومن ثمّ انتقاله إلى نبات وحيوان ثمّ يتغذى بها الإنسان ، وبناء عليه فانّ الصور المفروضة أربع :
    أ. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول بنفس الجزء المستهلك.
    ب. أن يحشر آكله به دون المأكول.
    ج. على العكس.
    د. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول دون الجزء المستهلك.
    أمّا الصورة الأُولى فهي افتراض محال ، لاستلزامه كون شيء واحد في زمان واحد في محلين. وكلّ من الصورة الثانية والثالثة تستلزم نقصاً في المحشور امّا في الآكل أو في المأكول.
    وفي الصورة الرابعة يستلزم النقص في كلا المحشورين.
    وربّما يتصور أن لازم الصورتين الثانية والثالثة أن يكون المحشور أحد البدنين فقط ، لافتراض انّ بدن أحدهما صار جزءاً لبدن الآخر فلم يبق للإنسان الأوّل بدن يحشر به.
    ولكن هذا التصور من الوهن بمكان ، لأنّه قلّما يتّفق أن يكون بدن الإنسان بتمام أجزائه بدناً لإنسان آخر ، إذ الغالب تحوّل جزء ضئيل من بدن المأكول إلى بدن الآكل ، لا كلّ الأجزاء.
    هذه هي صور الشبهة وإليك الجواب عنها :
    لا شكّ انّ الصورة الأُولى والرابعة خارجة عن نطاق البحث ، فالأُولى تستلزم المحال ، و الرابعة مجرّد افتراض لم يتفوّه بها أحد ، فتنحصر الشبهة في الصورتين الثانية والثالثة ، فعندئذ نقول :


(115)
    إنّ للصورتين الثانية والثالثة فروضاً مختلفة :
    1. أثبت العلم الحديث انّ بدن الإنسان في تحوّل وتغيّر مستمر ، فهو في ظل هذا التحوّل ذو أبدان كثيرة ، وقيل انّ خلايا البدن الإنساني تتغير برمتها كلّ ثمان سنين.
    2. إذا افترضنا انّ البدن الأخير وماتقدمه من الأبدان صادف المانع وأصبح جزءاً لإنسان آخر ، ولو من خلال تحول البدن إلى تراب ونبات وحيوان ، ولكن ليس عامّة الأجزاء من كلّ بدن مأكولاً لفرد آخر ، وإنّما يتحول جزء من كل بدن ، فعند ذلك يحشر بأي بدن شاء اللّه وإن كان بدناً نحيلاً ، لأنّه يكفي في المعاد انّ البدن الأُخروي نفس البدن الدنيوي ولم يدل دليل على العينية من حيث السمن والضعف.
    3. لو افترضنا ـ و إن كان الفرض من النُدرة بمكان ـ أن تتحول أغلب الأجزاء من كلّ بدن إلى بدن إنسان آخر بحيث لا يكون الباقي كافياً في تشكيل بدن الآكل ، وعندئذ لا مانع من إكمال البدن بالاستعانة بأجزاء ترابية وهوائية أُخرى ، ولا يعدّ ذلك نقضاً في الحشر ، لما عرفت من أنّ الملاك هو صدق العينية عرفاً لا عقلاً ، ولذلك يعبر سبحانه عن ذلك بقوله : ( أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوات وَالأَرْض بِقادِر على أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاّقُ الْعَلِيم ) (1) بناء على أنّ الضمير في « مثلهم » يرجع إلى الإنسان ، وقال عزّ من قائل : ( أَوَ لَمْ يَرَوا أنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَق السَّماواتِ وَالأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فيهِ فَأَبى الظّالِمُونَ إِلاّكَفُوراً ). (2)
    وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « وإذا قبضه ( أي روح المؤمن ) اللّه إليه سيّر تلك
1 ـ يس : 81.
2 ـ الإسراء : 99.


(116)
الروح إلى الجنة في صورة كصورته ، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت عليها في الدنيا ». (1)
    وإلى هذا الجواب يشير صدر المتألّهين بقوله : لا عبرة بخصوصية البدن وانّ تشخصه والمعتبر في الشخص المحشور جسمية ما أية جسمية كانت ، وانّ البدن الأُخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها لا أنّ النفس يحدث من المادة بحسب هيئاتها واستعداداتها كما في الدنيا. (2)
    وما ذكره ينطبق على ما ذكرنا إذا أراد من البدن ، البدن العنصري ، لكنّه ( قدس سره ) كما عرفت يصرح بالبدن البرزخي ويقول : وانّ البدن الأُخروى ينشأ من النفس بحسب صفاتها.
    هذا كلّه حول الشبهة من المنظار الأوّل ، وإليك دراسة الشبهة من منظار العدل الإلهي.

شبهة الآكل والمأكول من منظار العدل الإلهي
    كان التقرير السابق للشبهة من منظار عدم وفاء المادة لحشر كلّ إنسان على النحو الأكمل.
    ولكن البحث في المقام يركز على أنّه إذا كان المؤمن مأكولاً للكافر ، يلزم تعذيب المؤمن بتعذيب الكافر ، أو بالعكس. ونجيب عن هذا التقرير بوجهين :
    الوجه الأوّل : انّه إذا صار عضو من بدن المؤمن جزءاً لبدن الكافر يكون تعذيبه تعذيباً للكافر لا للمؤمن ، لأنّ الجزء في ظل الحركة الجوهرية انقطعت صلته بالمأكول واندكّ في الآكل على نحو صار جزءاً منه ، فتعذيبه أو تنعيمه يرجع
1 ـ البحار : 6/229 ، الحديث 32 ، من أحاديث باب أحوال البرزخ.
2 ـ الأسفار : 9/200.


(117)
إلى الآكل لا إلى المأكول ، ونظيره زرع الأعضاء الرائج في الطب الحديث فانّ الكلية مثلاً إذا أخذت من بدن شخص وزرعت في بدن شخص آخر على نحو التحمت مع سائر الأعضاء ، فتعذيبه وتنعيمه يرجع إلى المأكول لا إلى الآكل.
    الوجه الثاني : انّ الشبهة نابعة من التفكير المادي ، حيث يحصر واقع الإنسان في اللحم والجلد والعظام ، مع أنّ واقع الإنسان شيء أعمق من ذلك ، وهو روحه ونفسه ، فإذا صار عضو من الإنسان جزءاً من إنسان آخر انقطعت صلة الروح عن الجزء المقطوع فلا يكون مدبَّراً للنفس ، فتكون الآلام واللّذات منصبَّة على الآكل لا على المأكول ، ولعل هذا البحث المبسوط ، فيه الكفاية لذوي الألباب.
    وأنا بدوري أعتذر للقرّاء الكرام من إطالة الكلام في هذا المقام.

الشبهة الثالثة : ما هو الهدف من الجزاء ؟
    إذا كان الهدف من إعادة الإنسان ليجزى بما عمل من خير أو شر ، فما هو السر وراء تعذيب المجرم ؟ فانّ هناك احتمالات عدّة :
    الأوّل : التشفّي وتسكين الآلام.
    الثاني : تأديب المجرم.
    الثالث : أن يكون التعذيب عبرة وعظة للآخرين.
    وهذه الفروض إنّما تصحّ في التعذيب الدنيوي ، فولي الدم يقتص من القاتل للتشفي وتسكين آلامه ، كما أنّ تأديب المجرم غاية تختص بالدنيا ، فانّ القاضي والحاكم يؤدّب المجرم بالضرب والسجن أو غيرها ليصلح حاله ، في مستقبل حياته.
    كما أنّ أخذ العبرة من تعذيب الغير أمر يختص بالدنيا لئلاّ يقترف الآخرون


(118)
الجرائم ، كما هو الحال في قوله : ( وَيَشْهَد عَذابَهُما طائِفةٌ مِنَ المُؤْمِنينَ ). (1)
    فإذا كانت الغايات الثلاث ممّا تتحقق في الحياة الدنيا ، فيكون التعذيب في الآخرة أمراً عبثاً لا غاية له.
    ثمّ إنّ المستشكل عطف الثواب الأُخروي على العذاب الدنيوي فزعم انّه أيضاً بلا غاية ، وقال :
    وأمّا الالتذاذ فهو أيضاً باطل ، لأنّ اللذة الجسمانية لا حقيقة لها ، وإنّما هو دفع الألم بالاستقراء وانّه لو ترك على حاله ولم يعد لم يكن له ألم فهذا الغرض حاصل بدون الإعادة فلا فائدة فيها. (2)
    والجواب : انّ المستشكل زعم أنّ المعاد أمر ممكن فسأل عن غايته وأغراضه ، فإذا انتفى الغرض فيه حكم ببطلانه ، وهذا أمر بعيد عن الصواب ، فالمعاد أمر ضروري حسب الأدلة الستة ، وفيه العلّة الفاعلية والغائية ، ومعها كيف يكون أمراً عبثاً ؟! وكفى في العلّة الغائية انّها مظهر لعدله سبحانه ، ومجلى لقسطه على وجه يكون تركه أمراً قبيحاً ، بل هو مجلى لوعده ووعيده.
    وأمّا ما ذكره أخيراً من عدم أصالة اللذة الجسمانية ، وإنّما هو دافع للألم كالأكل الذي هو دافع لألم الجوع ، فلا أساس له من الصحة ، فهل يتصور انّ الالتذاذ من خلال النظر إلى المناظر الجميلة والحدائق المكتظة بالأشجار أمر لا حقيقة له ، بل هو رافع للألم فحسب ؟!
    وثمّة جواب آخر وهو : انّ ما ذكره من الإشكال إنّما يتم في الجزاء الجعلي ، فيسأل عن حكمتها وغاياتها بأحد الوجوه ، وأمّا إذا كان الجزاء خارجاً عن هذا الإطار وكان من لوازم وجود الملكات التي اكتسبها الإنسان طيلة حياته على نحو
1 ـ النور : 2.
2 ـ شرح المواقف : 8/296 ; شرح المقاصد : 2/214 ، ط الآستانة.


(119)
تكون الصور الجميلة الملِذَّة أو الصور القبيحة المؤلمة من لوازم الملكات المكتسبة التي تعد جزءاً لبدن الإنسان ، فالسؤال عندئذ ساقط من أصله لأنّها من لوازم الوجود ، واللازم لا يُعلَّل ، كما أنّ الزوجية من لوازم الأربعة فإيجاد الأربعة إيجاد للزوجية ، كما أنّ إعادة الإنسان بماله من الملكات إعادة للوازمه بلا حاجة إلى جعل آخر.
    وهناك جواب ثالث وهو : انّ الجزاء خيره وشره صور برزخية للأعمال الدنيوية التي يكتسبها الإنسان طيلة حياته ، وكأنّ للعمل كالصلاة والصوم وجودين ، وجوداً دنيويّاً ووجوداً أُخرويّاً ، فالصلاة في هذه النشأة أذكار وحركات ، وفي النشأة الأُخرى نور وقربة ، كما أنّ الصوم في هذه النشأة إمساك ، وفي النشأة الأُخرى جُنّة من النار.
    فليس الجزاء خيره وشره أمراً مخلوقاً ، بل إعادة لنفس الأعمال لكن بوجودها البرزخي ، ولا مانع من أن يكون لشيء واقعية واحدة وتجليات مختلفة ، فالذهب والفضة المكنزان يتجلّيان في هذه النشأة بصورة برّاقة تسرّ الناظرين ، وفي النشأة الأُخرى بصورة نار تكوى بها جلودهم وظهورهم ، فالنار الأُخروية التي تكوى بها هي نفس الكنز المحتكر ولكن لها تجليات حسب اختلاف النظر ، وإليه يشير سبحانه ويقول : ( وَالَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَليم * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُون ). (1)
    فقوله سبحانه : ( هذا ما كنزتم ) إشارة إلى النار التي تكوى بها الجباه والجنوب ، فالنار حسب الرؤية القرآنية هي نفس الذهب أو الفضة ولكن تجلّت بوجود برزخي.
1 ـ التوبة : 34 ـ 35.

(120)
    وهناك احتجاج للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على من أنكر عذاب القبر في هذه الدنيا.
    أخرج العاصمي في كتابه « زين الفتى في شرح سورة ( هل أتى ) » من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن مهشاد يرفعه ، أنّ رجلاً أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت ، فقال : إنّكم تزعمون النار يعرض على هذا وانّه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسَّ منها حرارة النار ؟ فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره ، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه ، قال للرجل : أعد المسألة. فأعادها ، ثمّ قال عثمان بن عفان : أجب الرجل عنها يا أبا الحسن ، فقال علي ( عليه السلام ) : ائتوني بزند وحجر ، والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدَّح منهما النار ، ثمّ قال للرجل : ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ، ثمّ قال : ضع يدك على الزند ، فوضعها عليه ، فقال : هل أحسست منهما حرارة النار ؟ فبهت الرجل ، فقال عثمان : لولا علي لهلك عثمان. (1)
    ثمّ إنّ مسألة تجسم الأعمال بمعانيها المختلفة بحث قرآني سنمر عليه في الفصول اللاحقة.

الشبهة الرابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا
    إنّ الذكر الحكيم يصف المعاد بالنشأة الأُخرى أو دار العقبى وما شابههما ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَشأَة الآخرة ) (2) وقال سبحانه : ( وَأنَّ عَلَيْهِ النَشأَةَ الأُخرى ) (3) ويقول سبحانه : ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنةِ السَّيئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبى
1 ـ الغدير : 8/214.
2 ـ العنكبوت : 20.
3 ـ النجم : 47.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس