مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 121 ـ 130
(121)
الدّار) (1) وقال عزّ من قائل : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّار ). (2)
    فإذا كان المعاد عودَ الإنسان بالبدن العنصري فيكون عوداً إلى النشأة الأُولى لا النشأة الأُخرى ، وعوداً إلى الدار الأُولى لا إلى عقبى الدار.
    والجواب : انّ صدق العناوين المتقدّمة ليس رهن أنّ المعاد مثالي أو روحي ، بل تصدق وإن كان المعاد عنصريّاً وماديّاً ، ويكفي في تسمية أحدهما بالأُولى والآخر بالأُخرى ، انّ الأُولى دار العمل والسعي ، والثانية دار الحصاد ، يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « وانّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ». (3)
    أضف إلى ذلك انّ تسمية أحدهما بالأُولى والآخر بالأُخرى لأجل أنّ الإنسان في الدار الآخرة أكمل ممّا عليه في دار الدنيا ، لأنّ تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُولى تعلّق تدبيري فيكون ارتباطها بالبدن ارتباطاً وثيقاً إذ لولاها لفسد البدن ، وهذا بخلاف دار الآخرة فانّ تعلّقها بالبدن بغية نيل الجزاء المادي ، أو نيل الثواب والعقاب ، ولذلك تختلف الحياة في النشأة الأُخرى عن الحياة في النشأة الدنيا من حيث الكمال.
    والحاصل : انّ الدنيا والآخرة موطنان للإنسان غير أنّ أحدهما أكمل وألطف من الآخر.

الشبهة الخامسة : لزوم التناسخ
    إنّ للتناسخ أقساماً ، والمراد هنا تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ إعادة الإنسان
1 ـ الرعد : 22.
2 ـ الرعد : 24.
3. نهج البلاغة : الخطبة 42.


(122)
بعينه وجمع أشلائه وأعضائه وصيرورته إنساناً سويّاً من حيث الظاهر استعد لأن يفاض عليه من اللّه سبحانه نفس ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تتعلّق به نفسه المستنسخة لأجل نيل الثواب أو العقاب ، فيلزم تعلّق نفسين ببدن واحد.
    يقول صدر المتألّهين : إنّ مفسدة التناسخ بحسب المعنى ـ كما ذكره ـ واردة هاهنا بلا مرية ، وهي لزوم كون بدن واحد ذا نفسين ، فانّ تلك الأجزاء لو كانت قابليتها لتعلّق النفس حين التفرّق باقية ، لم تفارق عنها النفس ، فكان زيد حال الموت حياً وقد فرض ميتاً ، وإن لم تكن باقية فاحتاجت في قبولها للنفس إلى انضمام أمر إليها به يستعد للقبول فإذا انضم إليها ذلك الأمر وصارت مستعدة باستعداد آخر جديد لابدّ أن يفاض عليها من المبدأ الجواد فيض جديد وروح مستأنف ، فإذا تعلّق بها الروح المعاد أيضاً كان لبدن واحد روحان وهو ممتنع. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ هذه الشبهة إنّما تتم بناء على خلق الأرواح قبل الأبدان ، ، فلو قلنا بهذا الأصل لكان للشبهة مجال ، لأنّ إحياء الإنسان وجمع أشلائه وأعضائه يستدعي تعلّق الروح به من العالم العلوي فلو تعلّقت به النفس المستنسخة لكان تناسخاً.
    وأمّا لو قلنا بأنّ الروح هي نتيجة الحركة الجوهرية للمادة ، وأنّ الجنين في مدارج تكامله وحركته يصل إلى مرتبة يتبدل إلى أمر مجرّد ، دون أن ينقص من المادة شيء ، فليست الروح شيئاً مخلوقاً من ذي قبل ، وإنّما هي نتيجة تكامل المادة وتحولها إلى أمر مجرد له صلة بالمادة ، ويتكامل حسب تكامل الجنين في رحم أُمّه ، كما يتكامل بعد خروجه منه.
    وهذا هو الذي ارتضاه صدر المتألّهين وهو صدر الآراء ، وعلى ضوء هذا فالشبهة لا تصمد أمام النقاش ، لأنّه لو كان المعاد أمراً تدريجياً وعود الإنسان إلى
1 ـ الأسفار : 9 / 170.

(123)
عالم الحياة نظير نشأته في هذه الدنيا يلزم هنا التناسخ وتعلّق نفسين ، إحداهما نتيجة الحركة الجوهرية الثانية والتكامل التدريجي للمادة ، والأُخرى نفسه المستنسخة المتكونة من الحركة الجوهرية الأُولى للمادة.
    وأمّا إذا كان المعاد أمراً دفعياً كما هو الظاهر من الآيات الكريمة ، فليس هناك إلاّنفس واحدة وهي نفسه المستنسخة ، وأمّا النفس الأُخرى فهي وليدة الحركة والتكامل التدريجي ، والمفروض انّه لم يكن هناك أي حركة وتدريج وتكامل ، بل كان إنشاءً ثانياً للبدن السوي بحيث يصلح لتعلّق النفس به.
    ويدل على أنّ المعاد ، دفعي لا تدريجي آيات الذكر الحكيم :
    قال سبحانه : ( فَإِذا هُمْ مِنَ الأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُون ). (1)
    وقال تعالى : ( خشّعاً أَبْصارهم يخرجُونَ مِنَ الأَجداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنتشر ). (2)
    وقال عزّ من قائل : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْداثِ سراعاً كأَنَّهُمْ إِلى نصب يوفضون ). (3)
    وقال سبحانه : ( ثُمَّ نُفِخَ فيهِ أُخرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُون ). (4)
    وقال : ( هَل يَنْظُرُونَ إِلاّ الساعة أن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُون ). (5)
    إلى غير ذلك من الآيات.
    نعم لو قلنا بما ذهب إليه المشّاء من خلق الأرواح قبل الأبدان ، فإذا صارت
1 ـ يس : 51.
2 ـ القمر : 7.
3 ـ المعارج : 43.
4 ـ الزمر : 68.
5 ـ الزخرف : 66.


(124)
النطفة بدناً سوياً تتعلّق بها الروح من العالم العلوي ، وعند ذلك يلزم تعلّق نفسين إحداهما النفس المستنسخة ، والثانية النفس التي استعدت لهبوطها إلى البدن.
    ولكن الشبهة طبقاً لهذا الأصل أيضاً غير صحيحة ، إذ لا صلة بين الروح الثانية وهذا البدن ، مع وجود الصلة بين البدن السوي والروح المستنسخة.
    وعلى كلّ حال ، فلنعطف أنظار القارئ إلى هذه النكتة وهي انّ المعاد العنصري خال عن المفاسد المترتبة على القول بالتناسخ.
    لأنّ القول بالتناسخ منطق المنكرين للمعاد ، فعود الإنسان إلى هذه الدار مرّة تلو أُخرى سيَخْلِفُ القول بالمعاد ويغني عن الإيمان به ، ولا أثر لهذا المنطق في القول بالمعاد في النشأة الأُخرى.
    كما أن القول بالتناسخ يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ التناسخ هو عود الإنسان عن طريق تعلّق الروح بالنطفة وتكاملها وحركتها وبلوغها إلى أن تتبدل إلى روح مجرّدة فهذا يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، إحداهما النفس المستنسخة ، والأُخرى النفس المتولّدة من الحركة الجوهرية الثانية. وهو محال ، لأنّ النفس المستنسخة حينما تركت البدن كانت نفساً كاملة مدركة للكليات ، فكيف يمكن أن تتعلّق تلك النفس مع ما لها من المنزلة ، بخلية في الرحم أي بالعلقة والمضغة حتى تمرّ على هذه المراحل ويكون البدن سوياً قابلاً لتعلّق المستنسخة به ؟!
    والعجب انّه ( قدس سره ) قد تنبه إلى بعض ما ذكرنا ، حيث قال : إنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الجوهرية الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها. (1)
1 ـ الأسفار : 9/205 ـ 206.

(125)
الشبهة السادسة : المعاد العنصري وظواهر الآيات
    إنّ ظواهر بعض الآيات وإن كانت تنسجم مع المعاد الجسماني ، غير أنّ ثمة آيات أُخرى لا تنسجم مع كون المعاد هو البدن العنصري السابق ، وذلك لأنّه سبحانه يستخدم لفظة « انشأ » و « مثل » ، و من الواضح أنّ الإنشاء عبارة عن الإيجاد بلا مثال سابق ، كما أنّ لفظة « مثل » تحكي عن كون المعاد ليس نفس المنشأ أوّلاً ، بل مثله ، قال سبحانه : ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوت وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِأَكُمْ فِيما لا تَعْلَمُون ) (1) ، وقال عزّمن قائل : ( نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدَنا أَسْرهُمْ وَاذا شِئْنا بَدَّلنا أمثالَهم تبديلاً ). (2)
    قال صدر المتألّهين بعد تفسير الآيات : ولا يخفى على ذي بصيرة أنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى اللّه أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (3)
    والجواب : انّ مادة الإنشاء كما تستعمل في الإيجاد بلا مثال تستعمل في مطلق الإيجاد أيضاً ، وإن كان له مثال سابق ، قال سبحانه :
    ( هُوَ الَّذي يُريكُمُ الْبَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَحابَ الثقال ) (4) فإنّ إنشاء السحاب بمعنى إيجاد فهو بالنسبة إلى شخصها إيجاد ، وبالنسبة إلى نظائرها إيجاد مع سبق مثال له ، وعلى ذلك فإطلاق الإنشاء على إعادة الإنسان بملاك الإيجاد وانّه خلق ثان وإيجاد بعد الإيجاد.
1 ـ الواقعة : 61.
2 ـ الإنسان : 28.
3 ـ الأسفار : 9/153.
4 ـ الرعد : 12.


(126)
    وأمّا لفظ « مثل » فلا يدل إلاّعلى وجود التغاير بين المثلين ، وإلاّانتفت الاثنينية ، وأمّا تفسير التفاوت بالقول بانّ الإيجاد الأوّل عنصريّ ، والثاني غير عنصري فهذا مما لا يدل عليه استعمال المثل في الآية ، بل غاية ما يستفاد منها هو وجود التغاير والاثنينية ، وأمّا ما هو ملاك التفاوت والاثنينية فلا تدل الآية عليه.

الشبهة السابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا
    إذا كان المعاد عنصرياً ، وعاد الإنسان إلى الحشر بنفس البدن الدنيوي فهذا يكون عوداً إلى الدنيا بعد خروجه عنها ، ولا يكون رجوعاً إلى اللّه وقرباً منه ، وكيف يعد ذلك المعاد غاية للخلقة ؟ وهذا ما أشار إليه صدر المتألّهين ، بقوله : ولم يتفطنوا بأنّ هذا حشر في الدنيا لا في النشأة الأُخرى وعود إلى الدار الأُولى ، دار العمل والتحصيل لا إلى الدار العقبى ودار الجزاء والتكميل. (1)
    إنّ كون المعاد رجوعاً إلى اللّه أو اقتراباً منه وغاية للخلقة يعود إلى نفسه لا إلى بدنه ، فهي التي تتحمل هذه الصفات لابدنه ، فسواء تعلّقت بالبدن العنصري أو البدن المثالي ، فرجوعها إلى اللّه رهن تكاملها لا خروجها من البدن العنصري وتعلّقها بالبدن المثالي ، وإن استغربت من هذا الكلام فلاحظ النفس في هذه الدار فالنفس موجود طبيعي لها أصل في الطبيعة ، كما انّ إدراكها الصورة الجسمية المجرّدة يجعلها موجوداً مثالياً لها أصل في عالم المثال ، كما أنّ إدراكها للكليات والحقائق المرسلة موجود عقلائي لها أصل في عالم العقول.
    وبالجملة كون الحياة الأُخروية غاية ورجوعاً إلى اللّه يتبلور في أمرين متحققين في الحياة الأُخروية.
    أ. تجسم أعماله وتبلور أفعاله وما تواجه من جزاء الخير والشر.
1 ـ الأسفار : 9/153.

(127)
    ب. انتهاء القوى والاستعدادات إلى الكمال ، ووقوف الحركة الاستكمالية للإنسان.
    وهذان الأمران غير متحققين في الدنيا وإنّما يتحققان في الآخرة ، كما أنّهما ينسجمان مع حشر البدن العنصري ، أمّا تجسّم الأعمال وتبلورها فهو ينسجم مع الحشر المثالي أو البرزخي ، وأمّا توقّف الحركة عن الاستكمال ، فلما عرفت من أنّ تعلّق النفس بالبدن في اليوم الآخر لأجل نيل الثواب والعقاب لا للتدبير ، وبذلك يختلف تعلّقها بالبدن في الآخرة عن تعلّقها به في الدنيا ، وبالتالي لا ينفك ذلك التعلّق عن الحركة الاستكمالية في النشأة الأُولى ولكن تنتهي الحركة الاستكمالية في النشأة الأُخرى ، وما ذلك إلاّ لتغاير التعلّقين.

الشبهة الثامنة : النفس يوم القيامة قائمة بذاتها
    إنّما سمّي يوم الآخرة بيوم القيامة ، لأنّ الروح فيه تنسلخ عن هذا البدن الطبيعي مستغنياً عنه في وجوده قائماً بذاته ، والبدن الأُخروي قائم بالروح في تلك النشأة والروح قائمة بالبدن الطبيعي هاهنا لضعف وجودها الدنيوي وقوة وجودها الأُخروي ، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون البدن الأُخروي مثل البدن الدنيوي لما عرفت انّ الروح لأجل ضعف وجودها الدنيوي قائمة بالبدن الطبيعي بخلاف الروح بوجودها الأُخروي فانّها لقوة وجودها قائمة بنفسها ، والبدن قائم بالروح.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ النفس في يوم القيامة قائمة بذاتها لا بالبدن على خلاف ما في الدنيا ، أمر لم يقم عليه برهان ، وإنّما اتخذه المستدل أصلاً موضوعياً وبنى عليه الدليل ، من خلال إطلاق لفظة « القيامة » والتي توحي إلى قيام النفس بذاتها ، مع أنّه لا دليل عليه بل إطلاق القيامة على ذلك اليوم لأجل


(128)
قيام الحساب والاشهاد والروح ( الروح الأمين ) والناس ، قال سبحانه :
    1. ( يَومَ يَقُومُ الحِساب ). (1)
    2. ( يَوْمَ يَقُومُ الأَشهاد ). (2)
    3. ( يَومَ يَقُومُ الرُّوح وَالمَلائِكة صَفاً ). (3)
    4. ( يَوْمَ يَقُومُ النّاس لربّ العالمين ). (4)
    وهذه الآيات تفسر وجه تسمية ذلك اليوم ، بيوم القيامة وانّ التسمية جاءت لأجل قيام الحساب وغيره.

الشبهة التاسعة : استغراب الحياة المثالية
    لما كان إثبات نحو آخر من الوجود يخالف هذا الوجود الطبيعي الوضعي ، وإثبات نشأة أُخرى باطنة تباين هذه النشأة الظاهرة ، أمراً صعب الإدراك مستعصياً على أذهان أكثر الناس جحدوه وأنكروه ، وأيضاً لألفهم بهذه الأجساد وشهواتها ولذّاتها يصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة ، ولذلك لم يتدبروا في تحقيقها وكيفيتها بل أعرضوا عنها وعن آياتها ، كما قال تعالى : ( وَكَأَيِّن مِن آية في السَّماوات والأَرض يمّرون عليها وَهُمْ عَنْها مُعرضون ) (5) ، ورضوا بالحياة الدُّنيا واطمأنّوا بها وأخلدوا إلى الأَرض كما قال تعالى : ( ولكنّه أخْلَدَ إلَى الأَرضِ واتَّبَعَ هَواهُ ) (6).
1 ـ إبراهيم : 41.
2 ـ غافر : 51.
3. النبأ : 38.
4 ـ المطففين : 6.
5 ـ يوسف : 105.
6 ـ الأعراف : 176.


(129)
    ونحن رأينا كثيراً من المنتسبين إلى العلم والشريعة انقبضوا عن إثبات عالم التجرّد واشمأزّت قلوبهم عن ذكر العقل والنفس والروح ، ومدح ذلك العالم وخدمة الأجساد وشهواتها المحسوسة ودثورها وانقطاعها وأكثرهم توهموا الآخرة كالدنيا ونعيمها كنعيم الآخرة إلاّ أنّها أوفر وأدوم وأبقى. (1)
    وحاصل هذه الشبهة يرجع إلى أمرين :
    أ. انّ إنكار المشركين المعاد لأجل كون الحياة الأُخروية فوق الحس ، وهذا لا ينسجم مع كون المعاد عنصرياً.
    ب. هؤلاء المنكرون لفرط حبهم بالبدن وآثاره كان من الصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة.
    يلاحظ على الأمر الأوّل : أنّ المشركين كانوا يستوحشون من إحياء البدن العنصري تارة أُخرى ، ولأجل ذلك كانوا ينسبون القائل بذلك إلى الجنون و الخلط.
    إنّ إحياء الأموات ليس أمراً سهلاً حتى يصدقه كلّ من خوطب به ، بل أمر يصعب فهمه على السذج من العقول يقول سبحانه : ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا هَل نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُل يُنبِّئَكُمْ إِذا مُزّقتُمْ كُلّ مُمَزَّق إِنّكُمْ لَفِي خَلْق جَديد * أَفْتَرى على اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّة ) (2) فالذي كانت تستغربه الأفهام الساذجة هو إحياء البدن البالي ، وهذا ينسجم مع المعاد العنصري.
    ولأجل رفع تعجبهم وتقريب المطلب إلى أفهامهم يضرب القرآن بكلّ مثل في هذا الباب كما سبق ذكره.
1 ـ الأسفار : 9/157 ـ 158.
2 ـ سبأ : 7 ـ 8.


(130)
    وأمّا الأمر الثاني ، فلأنّ إنكارهم لم يكن مبنياً على أنّ المعاد الذي يدعو إليه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعد مغايراً لهذه الحياة الدنيا ، بل كان إنكارهم لأجل خوفهم من سوء الحساب والجزاء لا من تغاير الحياتين واختلافهما ، يقول سبحانه : ( انَّ الَّذينَ يضلّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسُوا يَومَ الحِساب ) (1) وقال سبحانه : ( انّهُم كانُوا لا يَرجُونَ حِساباً ). (2)
    والحاصل أنّ التغاير بين الحياتين لا يكون داعياً إلى الإنكار خصوصاً إذا كانت الحياة الثانية أكمل من الأُولى وانّ الذي يجر المنكر إلى إنكار المعاد هو خوفه من نصب الموازين بالقسط والجزاء بما عمل ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

الشبهة العاشرة : تعلّق النفس بالبدن العنصري رهن مرجّح
    إنّ تعلّق النفس بالبدن أمر طبيعي منشأه الملازمة التامة والاستعداد الكامل للمادة المخصِّص لها بهذه النفس دون غيرها ، ولابدّ أن يكون هذا التخصص والاستعداد ممّا لم يوجد إلاّ لهذه المادة الواحدة بالقياس إلى النفس المعينة الواحدة لئلا يلزم التخصص بلا مخصص ، أو تعلّق نفس واحدة ببدنين ، على أنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها ، فعلى هذا لا معنى لبقاء المناسبة الذاتية للأجزاء الترابية إليها. (3)
    والجواب : أنّ المناسبة بين النفس والأجزاء الترابية وإن كانت منتفية إلاّ أنّها
1 ـ ص : 26.
2 ـ النبأ : 27.
3 ـ الأسفار : 9/206.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس