مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 131 ـ 140
(131)
موجودة بين النفس والبدن المُعاد. وبما أنّ المُعاد في دار العقبى هو نفس البدن الدنيوي الذي تعلّقت به النفس في هذه النشأة ، فتتعلّق به النفس في النشأة الآخرة.
    نعم البدن المُعاد وإن لم يكن عين البدن الدنيوي إلاّ أنّه مثله ، فيشتمل على كافة الخصوصيات الموجودة في البدن الدنيوي ، وهذه الخصوصيات كافية في إيجاد المرجح لتعلّق النفس بذلك البدن دون الآخر.
    فاللّه سبحانه عندما يُعيد البدن الدنيوي فإنّما يعيده بكافة الخصوصيات المتحقّقة في هذه النشأة غير النفس ، وهذا المقدار يكفي في المرجحية وإخراج التعلّق عن كونه تعلّقاً بلا مرجح.

الشبهة الحادية عشرة : رجوع الفعلية إلى القوة
    إنّ النفس الإنسانية تتكامل شيئاً فشيئاً في الحياة الدنيا تحت ظل الحركة الجوهرية فتصل من الأدنى إلى الأعلى حتى تقع انتهاء الأكوان الصورية من النفس وعند ذلك تتبدل قواها إلى الفعلية وطاقاتها إلى الوجود الواقعي ، فلو أُعيد إلى الدنيا يلزم رجوع الفعلية إلى القوة وهو أمر على خلاف الحكمة.
    يقول صدر المتألّهين : إنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى اللّه أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (1)
    إنّ هذا الإشكال أي استلزام المعاد العنصري رجوع الفعليات إلى القوى لا يختص بالمعاد ، بل يعم الخلقة الابتدائية عند من يقول بخلق الأرواح قبل الأبدان ، فانّ الروح المجرّد موجود متكامل نفذ طاقاته وانقلب قواه إلى الفعلية ، فلو تعلّق
1 ـ الأسفار : 9/153.

(132)
بالجنين السويّ يلزم تنزله من المقام الأعلى إلى المقام الأدنى حتى ينسجم مع البدن ، وإلاّلكان التعلّق أمراً محالاً لعدم الإنسجام بين البدن والروح. وهذا الإشكال هو الذي حاول الشيخ الرئيس أن يجيب عنه بعدما طرح الإشكال مبسطاً ، وقال في قصيدته المعروفة بالعينيّة :
هبطت إليك من المحل الأرفع محجوبة عن كلّ مقلة عارف وصلت على كره إليك وربما انفت وما ألفت فلمّا و اصلت واظنها نسيت عهوداً بالحمى ورقاء ذات تعزِّز وتمنِّع وهي التي سفرت ولم تتبرقع كرهت فراقك وهي ذات تفجع ألفت مجاورة الخراب البلقع ومنازلاً بفراقها لم تقنع (1)
    إلى آخر ما قال ...
    إنّ الإشكال مبني على أنّ الروح بخروجها عن البدن موجود متكامل ومجرّد محض ، ليس فيها أيّة قوة وطاقة فلذلك تفقد ملاك تعلّقها بالبدن ، وأمّا إذا قلنا بانّ النفس في هذه الدنيا مجرّد ممزوج مع القوة ، فهي بما انّ ـ ها تتأثر باللذائذ والآلام المادية ، موجود طبيعي ، وبما أنّها تخلق صوراً بلا مادة كالصورة الذهنية موجود مثالي ، وبما انّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة موجود عقلاني.
    فعلى ذلك فإنّ النفس لها أُصول في العوالم الثلاثة ، فلا مانع من أن تتعلّق بالبدن المادي والهوية الطبيعية.
    لا شكّ انّ الحياة الأُخروية أكمل من الحياة الدنيوية ، لكن مدار الكمال ليس كون إحداهما مادية والأُخرى مجرّدة كاملة ، وإنّما يتحقّق التفاوت بأُمور أُخرى
1 ـ الكنى والألقاب : 1/321.

(133)
نظير ما يلي :
    1. انّ الخمر في هذه الحياة مسكر ومطفئ لمصباح العقل بخلافه في الدار الآخرة.
    قال سبحانه : ( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْس مِنْ مَعِينِ * بَيْضاءَ لَذَّة لِلشّارِبينَ * لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ). (1)
    2. انّ الفواكه واللبن وما أشبهها يتسارع إليها الفساد في هذه الدنيا بخلافه في الدار الآخرة ، قال سبحانه : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيْها أَنْهارٌ مِنْ ماء غْيرِ آسِن وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَن لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْر لَذَّة لِلشّارِبينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَل مُصَفّى ). (2)
    3. انّ الحياة في النشأة الأُولى منقطعة ، بخلاف الآخرة فانّ الحياة فيها خالدة ، قال سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيها الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوتَةَ الأُولى ). (3)
    وقال سبحانه : ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُجَهَنَّمَ لا يُقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ). (4)
    4. انّ الإنسان في هذه النشأة يمتلك الحواس التي يستعين بها للارتباط بمحيطه كالإحساس بالحرارة والبرودة مثلاً مع أنّها في الآخرة ليست كذلك ، قال سبحانه : ( لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ). (5)
    وعلى ضوء ذلك فالاختلاف بين الحياتين ليس رهن كون إحداهما مادية
1 ـ الصافات : 45 ـ 47.
2 ـ محمد : 15.
3 ـ الدخان : 56.
4 ـ فاطر : 36.
5 ـ الدهر : 13.


(134)
والأُخرى مجردة مثالية ، بل يكفي كونها من سنخ واحد ولكن على نحو أكمل ممّا نشاهده في هذه الدنيا.
    كيف يمكن أن يقال إنّ خروج النفس عن البدن آية تكاملها ونفاد قواها واستعدادها مع أنّ أكثر أنواع الموت انتشاراً هو الموت الاخترامي لا الطبيعي ؟
    وللسيد العلاّمة الطباطبائي كلام مفصل في نقد هذه الشبهة ، إذ يقول :
    إنّ عود الميت إلى حياته الدنيا ثانياً في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه ، بيان ذلك : أنّ المحصل من الحس والبرهان أنّ الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فانّه يتحرك إلى الحيوانية ، فيتصور بالصورة الحيوانية ، وهي صورة مجرّدة بالتجرّد البرزخي ، وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوّة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادي فتصير إيّاه إلاّ أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسداً لاحراك به.
    ثمّ إنّ الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها ، وأحوال علمية تترتب عليها ، تنتقش النفس بكلّ واحد من تلك الأحوال بصدورها منها ، ولا يزال نقش عن نقش ، وإذا تراكمت من هذه النقوش ماهي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلة للزوال ، وملكة راسخة ، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيواناً خاصاً ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة ، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية ، ولو أنّ النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلّقة


(135)
بالمادة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصاً إن عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتداً به ، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية ، ثمّ إنّ الحيوانية إذا وقعت في صراط الإنسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرداً عن المادة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرّد العقلي ، وتحققت له صورة الإنسان بالفعل ، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حدّما ذكر في الحيوان.
    ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية إلى حدّ ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.
    إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلّقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجرّدة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً وهي مع التعلّق ثانياً حافظة لتجرّدها ، والذي كان لها بالموت أنّ الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها ، فإذا عادت النفس إلى تعلّقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منها رجوعاً قهقري وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص ، ومن الفعل إلى القوة. (1)
    ولأجل إيضاح الموضوع نقول :
1 ـ الميزان : 1/206 ـ 207.

(136)
    إنّ هناك فرقاً بين النفس المجرّدة التي كانت كذلك منذ بدء أمرها وبين النفس المجرّدة التي يكون تجردها حصيلة تكامل البدن ووقوعه في السير التكاملي للحركة الجوهرية ، فالنفس على النحو الأوّل أي المخلوق مجرّداً من بدء خلقها لا يمكن تعلّقها بالبدن ، لأنّها تفقد الانسجام المطلوب بينها وبين البدن ، بخلاف النفس الثانية التي يكون تجردها حصيلة الحركة الجوهرية.
    فانّها تحتفظ بشيء من استعداداتها وقابلياتها عند مفارقتها للبدن ، وبذلك تحافظ على انسجامها عند تعلقها بالبدن.
    أضف إلى ذلك أنّ تعلّق المجرّد بالمادي إنّما يعد نقصاً إذا صار سبباً لنزوله من الدرجة العالية إلى الدرجة السافلة ، وأمّا إذا كان الشيء الواحد ذا درجات ومراتب فلا مانع من أن يتعلق بالمادة بمالها من الدرجة الدانية ، وقد عرفت أنّ النفس في وحدتها موجود طبيعي مثالي عقلاني.
    بل يمكن أن يقال : إنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري يوم القيامة كتعلّق عالم الشهادة بعالم الغيب وعالم الطبيعة بعالم النفوس والعقول ، فكما أنّ العالمين مدبرتان لعالم الطبيعة ومع ذلك لا يلزم وقوعهما في قوس النزول ، فهكذا الحال عند تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لا يستلزم وقوعها في القوس النزولي.
    على أنّ ثمّة احتمالاً آخر وهو انّ تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لأجل إمكان درك الثواب والعقاب الماديين ، إذ ثمة نوع من الثواب والعقاب لا يمكن أن تدركها النفس إلاّ أن تكون متعلقة بالبدن وتكون كاللباس حين الخلع.
    إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من استعراض الشبهات المطروحة على هذا الصعيد مع نقدها ومناقشتها.


(137)
الفصل العاشر :
المعاد الروحاني من منظار الحكماء
    قد مرّ آنفاً على أنّ ثمة محاور عديدة للبحث ، وهي كالتالي :
    1. أقوال الحكماء والمتكلّمين في المعاد.
    2. ما هو الملاك لوصف المعاد بالجسمانية والروحانية ؟
    3. المعاد من حيث الكيفية من منظار القرآن الكريم.
    4. آراء الحكماء والمتكلّمين في المعاد الجسماني.
    5. المعاد الروحاني من منظار الحكماء.
    6. المعاد الجسماني والتناسخ.
    وقد استوفينا الكلام في المحاور الأربعة الماضية ، وبقي الكلام في المحورين الأخيرين اللّذين سنعقد لهما الفصلين التاليين.
    قد تقدّم انّ للمعاد الروحاني ملاكين :
    أحدهما : حشر الأرواح مجرّدة عن الأبدان.
    والآخر : حشر الإنسان بغية إدراك اللذائذ العقلية.
    وقد عرفت أنّ المعاد الروحاني بالمعنى الأوّل وإن كان ممكناً ولكنّه غير


(138)
واقع ، لأنّ حشر الأرواح إنّما يتمُّ مع الأبدان. وأمّا المعاد الروحاني بالمعنى الثاني فملاك وصفه بالروحانية ليس هو حشر الروح مجرّدة عن البدن ، بل الملاك دركه اللذائذ العقلية التي لا تدرك بالحواس سواء أكان المحشور هو الروح أو الروح والبدن ، وهذا النوع من المعاد ممكن وواقع.
    توضيحه : انّ مقتضى الحكمة الإلهية والرحمة الواسعة إيصال كلّ ممكن إلى كماله المطلوب ، فثمة فئة من الناس لا همَّ لها سوى نيل اللذائذ المادية وتتلخص السعادة عندها فيها ، فليس لها معاد سوى الجسماني لا تتجاوز عنه ، ولكن ثمة فئة أُخرى لها همة قعساء لكسب الكمالات المعنوية بغية التقرّب إلى الحقّ فمقتضى رحمته الواسعة إيصال هذه الفئة أيضاً إلى كمالها المطلوب.
    وبعبارة أُخرى : انّ السعداء والكُمّل في العلم والعمل يكتسبون حياة معنوية حسب ما يقومون به من صالح الأعمال ، ولكن صلة الإنسان بالمادة تحول دون ظهور تلك الكمالات المعنوية ، لكنّها تتجسد يوم القيامة عند رفع الحجب ، فعندئذ يطلب القربة إلى الحقّ والاتصال بالموجودات النورانية في النشأة الآخرة.
    وهذا النوع من الحياة المعنوية المنتهية إلى المشاهدات القلبية هو حصيلة المعرفة الدنيوية ، ولذلك قيل : المعرفة بذر المشاهدة ، وقد أشار إلى ما ذكرنا الحكيم السبزواري في كلامه هذا : انّ الخلق طبقات ، فالمجازاة متفاوتة ، فلكل منها محبوب ومرغوب وجزاء يليق بحالها ، واللذائذ الحسية والمبتهجات الصورية للكُمّل في العلم والعمل كالظل غير الملتفت إليه بالذات والتفاتهم بباطن ذواتهم وما فوقهم. (1)
    نعم هذا النوع من المعاد لا يعم جميع الناس لما عرفت من انقسام الناس إلى
1 ـ شرح المنظومة ، بحث المعاد ، الفريدة الثانية.

(139)
قسمين بين من أخلد إلى الأرض ولا يبغي سوى نيل اللذات الحسية ، وبين من لا يهمه إلاّاللذات العقلية وما يناسب تلك القوّة من الكمال.
    ذهب المحقّقون من الحكماء إلى أنّ حقيقة اللذة هي الإدراك أي إدراك الشيء الملائم للمدرك ، فلو كان المدرِك أمراً حسياً فكماله إدراك الأُمور الحسية ، وإن كان المدرِك قوة عقلية ونفساً مجردة فكماله هو دركه الصور والمعاني الكلية وقربه من الحقّ ولقائه ومشاهدة الجواهر النورية.
    يقول صدر المتألّهين : إنّ نفوسنا إذا استكملت وقويت وبطلت علاقتها بالبدن ورجعت إلى ذاتها الحقيقية وذات مبدعها ، تكون لها من البهجة والسعادة ما لا يمكن أن يوصف أو يقاس به اللذات الحسية ، وذلك لأنّ أسباب هذه اللذة أقوى وأتم وأكثر وألزم للّذات المبتهجة.
    امّا أنّها أقوى فلأنّ أسباب اللّذة هي الإدراك والمدرِك والمدرَك ، وقوة الإدراك بقوة المدرِك ، والقوة العقلية أقوى من القوة الحسية ومدركاتها أقوى. (1)
    ويقول أيضاً : فانّ الصور العقلية إذا عقلها العقل يستكمل بها ويصير ذاتها كما علمت ، بل كان بعضها قبل أن يقع الشعور به مقدماً لذات العقل وكان غافلاً عنه لاشتغاله بغيره فإذا استشعر وتنبّه يرى ذلك البهاء والجمال في ذاته فصار مبتهجاً بذاته غاية البهجة.
    وهذه اللذة شبيهة بالبهجة التي للمبدأ الأوّل بذاته ، وبلذات المقربين بذواتهم وذات مبدئهم ... ونحن لا نشتهي تلك اللذات مادمنا متعلّقين بهذه الأبدان. (2)
    إلى أن قال : إذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن وزال هذا الشوب
1 ـ الأسفار : 9/122.
2 ـ الأسفار : 9/123.


(140)
صارت المعقولات مشاهدة ، والشعور بها حضوراً ، والعلم عيناً ، والإدراك رؤية عقلية ، فكان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم وأفضل من كلّ خير وسعادة ، وقد عرفت أنّ اللذيذ بالحقيقة هو الوجود وخصوصاً الوجود العقلي لخلوصه عن شوب العدم ، وخصوصاً المعشوق الحقيقي والكمال الأتم الواجبي لأنّه حقيقة الوجود المتضمنة لجميع الجهات الوجودية ، فالالتذاذ به هو أفضل اللذات وأفضل الراحات بل هي راحة التي لا ألم معها. (1)
    وقد تحصل من كل ذلك أنّ المانع من المشاهدات واللّذات العقلية هو تعلّق الإنسان بالبدن والخلود إلى الأرض ، فإذا تخلّص منه حينها يفسح له المجال لدرك هذا النوع من الجزاء.
    ويمكن أن يقال : إذا كان المانع من نيل هذه الدرجات هو تعلّق النفس بالبدن فهذا النوع من التعلّق موجود في النشأة الآخرة لما عرفت من أنّ المعاد عنصري لا مثالي ؟
    والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، لأنّ البدن المحشور وإن كان عنصرياً ولكنّه أكمل وألطف من البدن الدنيوي فلا يكون مانعاً عن نيل ذلك النوع من الجزاء.
    على أنّك وقفت على اختلاف التعلّقين ، فتعلق النفس بالبدن في هذه النشأة لغاية التدبير ولكن تعلّقه في النشأة الأُخرى استخدامه لأجل نيل الجزاء الحسي.
    وهناك احتمال ثالث يذكره المتكلّم الطائر الصيت الفاضل المقداد ( المتوفّى عام 828 هـ ) وهو أنّ النفس بعد انفكاكها عن البدن تتقوى في عالم البرزخ في الفترة بين الموت والحشر ، فبعد التعلّق بالبدن يكون استعدادها أقوى لتقبل
1 ـ الأسفار : 9/125.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس