مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 291 ـ 300
(291)
    سأل رجل أبا عبد اللّه ( عليه السلام ) وقال : قلت له : أي شيء أصحاب الأعراف ؟ قال : « استوت الحسنات والسيئات ، فإن أدخلهم اللّه الجنّة برحمته وإن عذبهم لم يظلمهم ». (1)
    وهذا القول لا يلائم ظاهر الآيات لما عرفت من أنّ أصحاب الأعراف هم الذين يهنّئون أصحاب الجنة ويباركون لهم دخولها ، كما ينددون بأصحاب النار ولا تصدر مثل هذا الكلمات إلاّ ممّن حاز على منزلة كبيرة لا ممّن تساوت حسناته وسيئاته.
    فما ذكره الشيخ الصدوق هو الأقوى حيث قال : والرجال هم النبي وأوصياؤه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه. (2)
1 ـ بحار الأنوار : 8/337 ، باب الأعراف من كتاب العدل والمعاد ، الحديث11.
2 ـ بحار الأنوار : 8/340 ، باب ذبح الموت ، من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 23.


(292)
الفصل الثالث والعشرون
خلق الجنة والنار
    اختلفت أقوال المتكلمين والمفسرين في أنّ الجنة والنار هل هما مخلوقتان بالفعل ، أو ستخلقان في المستقبل ؟ واختار كلٌ منهما طائفة.
    فأكثر المتكلّمين والمحدثين على الرأي الأوّل.
    قال الصدوق : اعتقادنا في الجنة والنار انّهما مخلوقتان وانّ النبي قد دخل الجنة ورأى النار حين عرج به. (1)
    قال المفيد : إنّ الجنة والنار في هذا الوقت مخلوقتان ، وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع والآثار ، وقد خالف في هذا القول المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية ، فزعم أكثر من سميناه انّ ما ذكرناه من خلقهما من قسم الجائز دون الواجب. (2)
    ووقفوا في الوارد به من الآثار ، وقال من بقي منهم بإحالة خلقهما ، واختلفوا في الاعتلال ، فقال أبو هاشم بن الجبائي : إنّ ذلك محال لأنّه لابدّ من فناء العالم قبل نشره وفناء بعض الأجسام فناء لسائرها ، وقد انعقد الإجماع على أنّ اللّه تعالى لا
1 ـ اعتقادات الصدوق : 89.
2 ـ لعلّ المراد من الجائز هو الممكن ومن الواجب المتحقق.


(293)
يفني الجنة والنار. وقال الآخرون وهم المتقدمون كأبي هاشم : خلقهما في هذا الوقت عبث ، لا معنى له واللّه تعالى لا يعبث في فعله ولا يقع منه الفساد. (1)
    وقال العلاّمة الحلّي في كشف المراد : اختلف الناس في أنّ الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا ؟ فذهب جماعة إلى الأوّل ، وهو قول أبي علي ، وذهب أبو هاشم والقاضي ( عبد الجبار ) إلى أنّهما غير مخلوقتين ، ثمّ نقل احتجاج كلّ على رأيه. (2)
    وقال التفتازاني : جمهور المسلمين على أنّ الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافاً لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار ومن يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا انّهما يخلقان يوم الجزاء. (3)
    وربّما نسب القول بعدم الخلقة إلى زرارة بن أعين. (4)
    ويظهر من السيد الشريف الرضي اختيار القول بعدم كونهما مخلوقتين ، وقد طرح الموضوع في تفسيره وبحث في أدلّة الطرفين وذهب إلى القول بعدم الخلقة. (5)
    وقد تحصل ممّا ذكرنا أنّ الأقوال ثلاثة :
    أ. القول بأنّهما مخلوقتان وهو المشهور.
    ب. القول بعدم خلقهما ولكن الخلقة ليست أمراً محالاً ، وهو للمعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية.
    ج. القول باستحالة خلقتهما ، وهو لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار من المعتزلة.
1 ـ أوائل المقالات : 102.
2 ـ كشف المراد : 298 ، ط مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام ).
3 ـ شرح المقاصد : 2/218 ، ط الآستانة.
4 ـ أوائل المقالات : قسم التعليقات ، بقلم فضل اللّه الزنجاني : 103.
5 ـ حقائق التأويل : 365.


(294)
أدلّة القول بالخلق
    واعلم أنّه سبحانه استعمل الجنة والنار في غير الجنة التي وعد بها المتقون ، أو النار التي أوعد بها المجرمون ، و يظهر ذلك من الإمعان في المراد منهما في غير واحد من الآيات ، وإليك بعض تلك الموارد :
    أ. يذكر سبحانه محادثة رجلين جعل لأحدهما جنتين من أعناب وحفّهما بنخل وجعل بينهما زرعاً ، يقول : ( وَلَولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلُّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ). (1)
    ومن الواضح انّ المراد من الجنة هي جنة الدنيا وما أكثرها.
    ب. يحكي سبحانه عن وجود جنتي سبأ ، ويقول : ( لَقَدْ كانَ لِسَبإ في مَسْكَنِهِمْ آيةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمين وَشِمال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَربٌّ غَفُور ) (2) ولا يحتمل أحد من المفسرين انّ المراد هو جنة الآخرة والجميع يفسرونه بجنان الدنيا.
    ج. يحكي سبحانه عن خلقة آدم في الجنة ، وقال : ( وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوجُكَ الجَنَّة وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِين ). (3)
    وقد استدل غير واحد من المتكلّمين والمفسرين بهذه الآية ونظيرتها ، على أنّهما مخلوقتان.
    قال التفتازاني : لنا وجهان :
1 ـ الكهف : 39.
2 ـ سبأ : 15.
3 ـ البقرة : 35.


(295)
    الأوّل : قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة ثمّ إخراجهما عنها بأكل الشجرة وكونهما يخصفان عليهما من ورق الجنة على ما نطق به الكتاب والسنّة وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين ، وحملها على بستان من بساتين الدنيا يجري مجرى التلاعب بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين. (1)
    ولكن هذا الاستدلال لا يصمد أمام النقاش لاحتمال أن يكون المراد من الجنة هي الدنيا لأنّ جنة الآخرة مكتوب عليها الخلود ، يقول سبحانه : ( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقُون ). (2)
    كما أنّ القرآن الكريم يصف الواردين عليها بأنّهم خالدون ، يقول سبحانه : ( وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ). (3)
    وعلى ضوء ذلك فلا عتب على من يحملها على جنة الدنيا.
    نعم ثمة احتمال آخر ربما يؤيد انّ المراد هو جنة الآخرة ، وذلك بنقد ما قيل من أنّه لو كان المراد هو جنة الآخرة لما خرج عنها وذلك بتخصيص الخلود بمن يدخل فيها لأجل عقيدته الصحيحة وأعماله الصالحة فهؤلاء هم الذين كتب عليهم الخلود ، وجزاؤهم غير مقطوع ، قال سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مادامَتِ السَّماواتُ وَالأَرْضُ إِلاّما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ). (4)
    وأمّا الذي أو التي ولد أو ولدت فيها فلا دليل على خلودهم ، فلا يكون خروج آدم ولا زوجه عنها منافياً لآيات الخلود.
1 ـ شرح المقاصد : 218 ، ط الآستانة.
2 ـ الفرقان : 15.
3 ـ البقرة : 25.
4 ـ هود : 108.


(296)
    وعلى كلّ حال فالآية صالحة للاستدلال لا على وجه يفيد القطع واليقين.
    وثمّة نكتة أُخرى وهي انّه ربما تطلق الجنة والنار ويراد منهما الجنة والنار البرزخيتان لا الجنة والنار الأُخرويتان ، فلا يصحّ الاستدلال بخلقة الأُولى على خلقة الثانية ، وإليك نماذج من تلك الآيات :
    أ. يحكي سبحانه عمّن جاء من أقصى المدينة مؤيداً لرسل عيسى ( عليه السلام ) ، وقال : ( وَجاءَمِنْ أَقْصَا المَدِينِةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَومِ اتَّبِعُوا المُرْسَلين ). (1)
    وحاول القوم الكافرون المنكرون لرسالة المسيح ضربه وقتله إلى أن وصلوا إلى أمنيتهم فقتلوه ، وعندئذ أُمر بالدخول في الجنة ، وقد حكاه سبحانه بقوله : ( قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمين * وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْد مِنَ السَّماءِوَما كُنّا مُنْزِلِين * إِنْ كانَتْ إِلاّصَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ). (2)
    ودراسة سياق الآيات يثبت بأنّ المراد من الجنة هي الجنة البرزخية ، والتي منها بلّغ هتافه لقومه وقال ما قال.
    ب. ( النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشَدَّ العَذاب ). (3)
    والمراد من النار هي النار البرزخية لقوله في ذيل الآية : ( وَيَومَ تَقُومُ السّاعَة ) وعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا الاستدلال بلفظ الجنة والنار على الإطلاق بل لابدّ من إمعان النظر ليعلم ما هو المراد منها.
1 ـ يس : 20.
2 ـ يس : 26 ـ 29.
3 ـ غافر : 46.


(297)
    نعم يمكن الاستدلال على خلقة الجنة والنار الأُخرويين بالآيات التالية :
    1. انّه سبحانه يصف معراج النبي وعروجه إلى السماء ورؤيته أمين الوحي عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى ، ويقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ). (1)
    بيان الاستدلال هو أنّ المراد من جنة المأوى هي الجنة الموعودة للمؤمنين التي يعبَّر عنها في بعض الآيات بجنات عدن ، والآية تحكي عن أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى أمين الوحي عند سدرة المنتهى التي تقع جنة المأوى في جنبها. فلو لم تكن الجنة مخلوقة لما صحّ الإخبار عنها بقوله : ( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ).
    2. انّه سبحانه يصف الجنة والنار بالاعداد ، وانّ الجنة أُعدّت للمتقين والنار للكافرين ، ولفظ الاعداد حاك عن وجودهما في ظرف الحكاية ، ولنذكر بعض الآيات :
    ـ ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقين ). (2)
    ـ ( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ). (3)
    ـ ( وَاتَّقُوا النّارَ الّتي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ). (4)
    ـ ( وَأَعدَّ لَهُمْ جَنّات تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهار ). (5)
    ـ ( وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً ). (6)
1 ـ النجم : 13 ـ 15.
2 ـ آل عمران : 133.
3 ـ الحديد : 21.
4 ـ آل عمران : 131.
5 ـ التوبة : 100.
6 ـ الأحزاب : 57.


(298)
    وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحقّقه مثل : ( وَنُفِخَ فِي الصُّور ) و ( نادى أَصحابُ الجَنَّةِ أَصحابَ النّار ) خلاف الظاهر فلا يعدل إليه بدون قرينة. (1)
    والحقّ انّ هذه الآيات صالحة للاستدلال إذا لم يكن هناك دليل قاطع للتأويل.
    وأمّا الروايات فهي دالة على كون الجنّة مخلوقة بالفعل :
    1. روى الصدوق في توحيده ، عن الهروي ، قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : يابن رسول اللّه أخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال : « نعم ، وانّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد دخل الجنّة ورأى النّار لمّا عرج به إلى السماء » قال : فقلت له : فانّ قوماً يقولون إنّهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين.
    فقال ( عليه السلام ) : « ما أُولئك منّا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنّة والنار فقد كذّب النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذبنا وليس من ولايتنا على شيء وخلد في نار جهنم ». (2)
    2. روى ابن عمارة ، عن أبيه ، قال : قال الصادق ( عليه السلام ) : « ليس من شيعتنا من أنكر أربعة أشياء : المعراج ، والمساءلة في القبر ، وخلق الجنة و النار ، والشفاعة ». (3)
    3. وروى الفضل عن الرضا ( عليه السلام ) ، قال : « من أقر بتوحيد اللّه ـ و ساق الحديث ، إلى أن قال : وأقر بالرجعة ، والمتعتين ، وآمن بالمعراج والمساءلة في القبر ، والحوض ، والشفاعة ، وخلق الجنّة والنار ، والصراط والميزان والبعث والنشور ، والجزاء والحساب ، فهو مؤمن حقاً ، وهو من شيعتنا أهل البيت ». (4)
1 ـ شرح المقاصد : 2/218 ـ 219 ، ط الآستانة.
2 ـ بحار الأنوار : 8/119 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد ، الحديث6.
3 ـ بحار الأنوار : 8/197 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 186.
4 ـ بحار الأنوار : 8/197 ، باب الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 187.


(299)
    هذه دلائل القائلين بخلق الجنة والنار فها نحن نتناول بالبحث دلائل المنكرين.

أدلّة المنكرين للخلق
    استدل القائلون بعدم الخلق بالنقل والعقل.
    أمّا النقل : فبالآيات التالية :
    انّه سبحانه يصف الجنّة بالأوصاف التالية :
    ( جَنَّةُ الخُلْد ) ، ويقول : ( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الّتي وُعِدَ المُتَّقُون ). (1)
    ويصف نعيمها : بأنّ أكلها وظلها دائمان ، يقول سبحانه : ( مَثَلُ الجَنَّة الّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهار أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ). (2)
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر يحكي بأنّ كلّ شيء هالك يوم القيامة إلاّوجهه وذاته ، يقول : ( كُلُّ شَيْء هالِكٌ إِلاّوَجْهَهُ ). (3)
    فلو كانت الجنة والنار مخلوقتين فعلاً يلزم تدميرهما وإهلاكهما يوم قيام الساعة وهو يناف الطائفة الأُولى من الآيات الواصفة لها ولنعيمها بالخلود.
    والجواب : انّ قوله سبحانه : ( كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) ناظر إلى النظام السائد في الدنيا ، وأمّا الموجودات الأُخروية فلا تشملها الآية ، والشاهد على ذلك انّه سبحانه يصف وراء الجنة والنار بالبقاء وعدم النفاد ، ويقول : ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدْ
1 ـ الفرقان : 15.
2 ـ الرعد : 35.
3 ـ القصص : 88.


(300)
وَما عِنْدَ اللّهِ باق ) (1) فما عند اللّه خالد لا يشمله الهلاك ونظيره ، قوله سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظ ) (2) فالكتاب الحفيظ مكتوب عليه بالبقاء وعدم النقص مع أنّه سبحانه ، يقول : ( كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) وهذا يدل على أنّ دائرة الهلاك لا تتجاوز العالم المادي الذي فيه الإنسان دون التجاوز إلى عالم البرزخ والنشأة الأُخروية ، يقول سبحانه : ( وَقالُوا ءَإِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْضِ ءَإِنّا لَفِي خَلْق جَدِيد بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ). (3)
    والآية الثانية بصدد الرد على منكر المعاد القائل بأنّ الموت ضلال الإنسان في الأرض وانعدام لشخصيته ، فلو جيئ به ثانياً فلا يكون عين الأوّل ، فيجيب سبحانه بأنّ ما يتشخّص به الإنسان هو روحه وهو ما يأخذه ملك الموت ، وهو محفوظ عندنا لا يطرأ عليه التبدل والتغيّر.
    وفي ضوء هذه الآيات يمكن أن يقال بأنّ ما دلّ على هلاك كلّ شيءإلاّ وجهه ، راجع إلى الأُمور الدنيوية والنظامات السائدة فيها ، من دون نظر إلى الأُمور الأُخروية.
    وأمّا العقل : فقد استدلوا على عدم الخلق بأنّ خلقها قبل يوم الجزاء عبث لا يليق بالحكيم. (4)
    والجواب : انّ المستدل خلط عدم العلم بالمصلحة بالعلم بعدمها ، فوضع الأوّل مكان الثاني ، فمن أين علم بأنّ خلقهما عبث ولعل هناك مصالح لا نحيط بها.
    على أنّ لخلقهما قبل الجزاء تأثيراً هامّاً في الوعد والوعيد.
1 ـ النحل : 96.
2 ـ ق : 4.
3 ـ السجدة : 10 ـ 11.
4 ـ شرح المقاصد : 2/219 ، ط الآستانة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس