مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 331 ـ 340
(331)
تجسّم الأعمال بواقعها الأُخروي كي لا تكون هناك ذريعة للمجرم.
    فكما أنّ للأعمال ظهورين ، فهكذا الحال للملكات التي يكتسبها الإنسان في هذه الدنيا ، فتارة يكتسب ملكة الإطاعة والعدل ، وأُخرى يكتسب ملكة التمرد والعصيان ، فلكلّ من الملكتين ظهور دنيوي وظهور أُخروي يتنعم الإنسان بواحدة منهما ويعذب بالأُخرى ، وهكذا الحال في النيات.
    يقول الحكيم السبزواري في هذا الصدد :
فاعتبار خُلقه الإنسانُ فهو وإن وحد دنيا ، وزعا بهيمة مع كون شهوة غضب مكرٌ فشيطانٌ وإذ سجية مَلَكٌ أو أعجمُ أو شيطان أربعة عقبى فكان سبعاً شيمته وان عليه قد غلب سنيّة فصورة بهيّة (1)
    هذا إجمال ما ذكره أهل المعرفة في تجسّم الأعمال ، وعلى ضوء ذلك فليس للجنة ولا للنار حقيقة وراء تجسّم الأعمال التي اكتسبها الإنسان.
    ويمكن أن يقال أنّ تجسّم الأعمال يشكل حيزاً من الجنة والنار ، ولكن لهما حقيقة أوسع من تجسم الأعمال.
    فلنذكر من الآيات والروايات ما يدل عليه.
1 ـ منظومة السبزواري : 347 ، الفريدة الرابعة من المقصد الثالث.

(332)
تجسّم الأعمال على ضوء القرآن والروايات
    إنّ هناك طائفة من الآيات تدل بوضوح على أنّ ما اكتسبه الإنسان من خير أو شر يجده أمامه يوم القيامة فيجزى به.
    1. قال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوء تَوَدُّ لَو أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعيداً ). (1)
    2. ( وَوُضِعَ الكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمّا فيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً إِلاّ أَحْصيها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ). (2)
    3. ( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ). (3)
    فهذه الآيات تثبت انّ نفس الأعمال التي اكتسبها واقترفها الإنسان يجدها أمامه يوم القيامة بأعيانها وتحضر بواقعها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في كيفية الظهور وإلاّ فالعمل نفس العمل ، والواقعية محفوظة وظهورها مختلف.
    هذه الآيات الثلاث أوضح ما في الباب للدلالة على تجسّم الأعمال ، فانّ الآية الأُولى تصرِّح بحضور عمل الإنسان من خير وشر في النشأة الأُخرى ، وأمّا كيفية التجسم فتستفاد من الآية الثانية والثالثة فهما صريحتان في أنّ عمل السوء ـ أعني : كتمان الحقيق ـ ة في مقابل ثمن بخس ، أو أكل مال اليتيم ظلماً ـ يتجسّم بصورة النار ، فكأنّ للعمل الدنيوي ظهورين ، ظهور في الدنيا وهو ما يشاهده كلّ إنسان ، وظهور في الآخرة هو تجلّيه بصورة النار المحرقة.
1 ـ آل عمران : 30.
2 ـ الكهف : 49.
3 ـ التكوير : 14.


(333)
    ويؤيد ذلك انّه سبحانه يصف الآخرة بأنّها يوم تبلى السرائر ، ويقول : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِر ). (1) فكأنّ الحقيقة اختفت تحت اللثام فأضحت سراً مستوراً وفي ذلك اليوم تزول كافة الحُجُب وتظهر الحقيقة في أنصع صورها.
    4. ( يَوْمَ تَرى الْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَيمانِهِمْ بُشراكُمُ الْيَومَ جَنّاتٌ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُخالِدينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوزُ الْعَظِيم ). (2)
    وظاهر الآية انّ نور المؤمنين يسعى أمامهم في ذلك الطريق المظلم ، وليس للنور مبدأ سوى وجودهم الذي يشع نوراً ويضيء الطريق كما تضيء مصابيح الحافلة ، الطريقَ لسائقها فيسير على ضوئها.
    ولأجل انّه لم يكن لنور المؤمنين الساطع مبدأ سوى وجودهم ، يسألهم المنافقون عن النظر إليهم بغية الانتفاع من نورهم كما يحكي عنهم سبحانه بقوله : ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ). (3)
    ولما كان النور هو تجسيد للعمل الصالح الذي اكتسبه المؤمن والمؤمنة في النشأة الأُولى يجابون بقولهم : ( قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ) (4) معرباً عن أنّ هذا النور هو ظهور لما قاموا به من الأعمال الصالحة ، فمن لم يغتنم الدنيا في إقامة الأعمال الصالحة فهو محروم من هذا النور.
    وليس أمرهم بالرجوع إلى الدنيا والتماس النور إلاّ أمراً تعجيزياً ، كقوله سبحانه : ( وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ ). (5)
1 ـ الطارق : 9.
2 ـ الحديد : 12.
3 ـ الحديد : 13.
4 ـ الحديد : 13.
5 ـ البقرة : 23.


(334)
    5. ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة ولا يُنْفِقُونَها في سَبيلِ اللّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَليم * يَوْمَ يُحمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُون ). (1)
    والآية صريحة في أنّ الذهب والفضة يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباه المكنزين وجلودهم وظهورهم.
    كما أنّها صريحة في أنّ النار نفس ما اكتنزوه في النشأة الأُولى ، فكأنّ للكنز ظهورين : ظهوراً بصورة الفلز وآخر بصورة النار المكوية ، وهذا هو الذي ركزنا اهتمامنا عليه في صدر البحث ، وهو انّ لكلّ عمل من خير وشر ظهورين ووجودين حسب اختلاف النشآت.
    6. ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيطوّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَة ). (2)
    وظهور هذه الآية كظهور الآية السابقة وهو انّ ما كان يبخل به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما يظهر في النشأة الأُخرى بهيئة سلسلة من نار تُطوِّق العنق وتلتف حوله وتقحمه النار.
    7. ( يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَتَكُنْ في صَخْرَة أَو في السَّماواتِ أَوْ في الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ ). (3)
    وظاهر الآية أنّ نفس العمل يؤتى به يوم القيامة ، فيؤتى بالصلاة والزكاة بثوبهما المناسب للنشأة الأُخروية ، وهكذا الحال في الأعمال الطالحة.
1 ـ التوبة : 34 ـ 35.
2 ـ آل عمران : 180.
3 ـ لقمان : 16.


(335)
    8. ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة شَراً يَرَهُ ). (1)
    فالضمير في قوله : ( يره ) يرجع إلى العمل المستفاد من قوله : ( يعمل ) أو إلى الخير والشر ، وعلى كلا التقديرين فالإنسان يرى عمله من صالح وطالح ، فيرى السرقة والنميمة بوجودهما المناسب لتلك النشأة كما يرى الإحسان والعمل والخير بظهورها المناسب لتلك النشأة.
    قال سبحانه : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعدَّتْ لِلِكافِرينَ ). (2)
    9. وفي آية أُخرى يقول : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعصُون اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُون ). (3)
    ويقول سبحانه : ( إِنّ الَّذينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَولادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النّار ). (4)
    ويقول أيضاً : ( إِنَّكُمْ وَماتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُون ). (5)
    فهذه الآيات تعد العصاة والأصنام والأوثان ( الحجارة ) وقوداً لنار جهنم ، والوقود ما تشعل به النار ، فيصير وجود الإنسان والأصنام المعبودة بؤرة نار تؤجج به نار الجحيم.
1 ـ الزلزلة : 7 ـ 8.
2 ـ البقرة : 24.
3 ـ التحريم : 6.
4 ـ آل عمران : 10.
5 ـ الأنبياء : 98.


(336)
    10. ( مَنْ جاءَ بِالسَّيِئَة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ هَل تُجْزَونَ إِلاّما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ). (1) ويقول سبحانه : ( فَاليَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَونَ إِلاّما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ). (2)
    فالآيتان ظاهرتان في أنّ الجزاء هو نفس العمل وليس الجزاء شيئاً وراء العمل فبظهوره حسب النشأة الأُخرى يجزى به الإنسان من صالح وطالح.
    11. ( لَقَدْكُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَدِيد ). (3)
    فالآية تؤكد على أنّ الإنسان كان في غفلة من يوم الوعيد ، وانّ لكلّ نفس سائقاً وشهيداً ، فهذه الحقيقة كانت مستورة عن الإنسان في هذه النشأة ويرتفع الغطاء عن بصره وبصيرته فيرى ما خفي عليه ويتذكر وإن كان لا يجدي نفعاً ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ يَتَذَّكَرُ الإِنْسانُ وَأَنّى لَهُ الذِّكْرى ). (4)
    هذه هي الآيات التي يستنبط منها تجسّم الأعمال ، وهي بحاجة إلى دراسة أوسع ممّا ذكرنا.
    ففي هذه النشأة تتبدل الأفعال التي يقوم بها الإنسان إلى طاقة على خلاف ما في الآخرة ، فتلك النشأة عبارة عن تبدل الطاقة المتجسمة بالأفعال إلى الأجسام الأُخروية والجواهر غير الدنيوية.

تجسّم الأعمال في الروايات
    ثمة أحاديث تؤيد ما دلّت عليها الآيات القرآنية ، نأتي بنماذج منها :
1 ـ النحل : 90.
2 ـ يس : 54.
3 ـ ق : 22.
4 ـ القمر : 23.


(337)
    1. قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « اتّقوا الظلم فانّها ظلمات يوم القيامة ». (1)
    وكأنّ الظلم يتجلّ ـ ى في الآخرة بصورة الظلمة ، فللظلم ظهوران دنيوي وأُخروي.
    2.وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « فإذا أُخرجوا من قبورهم خرج مع كلّ إنسان عمله الذي كان عمله في دار الدنيا ، لأنّ عمل كلّ إنسان يصحبه في قبره ». (2)
    3. وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ضمن وصاياه لقيس بن عاصم : « إنّه لابدّ لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ ، وتُدْفَن معه وأنتَ ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثمّ لا يُحشَر إلاّ معك ولا تُبعث إلاّمعه ولا تُسأل إلاّ عنه فلا تجعله إلاّ صالحاً ». (3)
    4. قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم ». (4)
    5. روى أبو بصير قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السلام ) يقول : « من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة ». (5)
    فكأنّ ما يأكله في هذه الدنيا يتجلّى في الآخرة بهيئة جذوة من النار.
    6. وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « عش ما شئت فإنّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ». (6)
1 ـ الكافي : 2/332 ، باب الظلم من كتاب الكفر والإيمان ، الحديث 11.
2 ـ البرهان : 4/87 في تفسير قوله ( ونفخ في الصور ) من سورة الزمر.
3 ـ أمالي الصدوق : المجلس الأوّل ، الحديث 4.
4 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم : الحكمة 6.
5 ـ الكافي : 2/333 ، باب الظلم من كتاب الإيمان والكفر ، الحديث 15.
6 ـ الكافي : 3/255 ، باب النوادر من كتاب الجنائز ، الحديث 17.


(338)
    وقوله : « واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه » دليل على أنّ الإنسان يلاقي نفس العمل ، وحمله على لقاء جزائه خلاف الظاهر.
    7. وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « ما من موضع قبر إلاّوقد ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات » إلى أن قال : « فإذا دخله عبد مؤمن ، قال : مرحباً وأهلاً ، أما واللّه لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري ، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك ، قال : فيفسح له مدّالبصر ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة ، قال أو يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط أحسن منه فيقول : يا عبد اللّه ما رأيت شيئاً قط أحسن منك فيقول : أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه ، وعملك الصالح الذي كنت تعمله ». (1)
    والحديث صريح في تجسّم العمل الصالح بصورة إنسان جميل.
    8.وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في حديث طويل : « إذا بعث اللّه المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه ، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة ، قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من اللّه عزّوجلّ حتى يقف بين يدي اللّه عزّوجلّ فيحاسبه حساباً يسيراً ، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : يرحمك اللّه نعم الخارج ، خرجت معي من قبري ، وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من اللّه حتى رأيت ذلك ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني اللّه عزّوجلّ منه لأُبشّرك ». (2)
    9. وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستُ صور ، فيهن صورة هي أحسنهنّ وجهاً ، وأبهاهنّ هيئة ، وأطيبهنّ ريحاً ،
1 ـ الكافي : 3/241 ، باب ما ينطق به موضع القبر من كتاب الجنائز ، الحديث 1.
2 ـ البحار : 7/197 ، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 69.


(339)
وأنطقهنّ صورة ، قال : فيقف صورة عن يمينه ، وأُخرى عن يساره ، وأُخرى بين يديه ، وأُخرى خلفه ، وأُخرى عند رجليه ، ويقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه ، فإن أُتي عن يمينه ، منعته التي عن يمينه ، ثمّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست ، قال : فتقول أحسنهنّ صورة من أنتم جزاكم اللّه عني خيراً ؟ فتقول التي عن يمين العبد : أنا الصلاة ، وتقول التي عن يساره : أنا الزكاة ، وتقول التي بين يديه ، أنا الصيام ، وتقول التي خلفه ، أنا الحج والعمرة ، وتقول التي عند رجليه : أنا بر من وصلت من إخوانك ، ثمّ يقلن : من أنت ؟ فأنت أحسننا وجهاً ، وأطيبنا ريحاً ، وأبهانا هيئة ، فتقول : أنا الولاية لآل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ». (1)
    10. روى الصدوق بسنده عن العلاء بن محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال قيس بن عاصم : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس ، فقلت : يا نبي اللّه عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم نعبر في البرية.
    فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يا قيس إنّ مع العز ذلاً ، و إنّ مع الحياة موتاً ، وإنّ مع الدنيا آخرة ، وإنّ لكلّ شيء حسيباً وعلى كلّ شيء رقيباً ، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً ولكلّ سيئة عقاباً ، ولكلّ أجل كتاباً ، وانّه لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتُدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ثمّ لا يحشر إلاّ معك ولا تبعث إلاّمعه ولا تُسأل إلاّ عنه ، فلا تجعله إلاّ صالحاً ، فانّه إن صلح آنست به ، وإن فسد لا تستوحش إلاّمنه وهو فعلك. (2)
    هذه هي بعض الأحاديث الدالة على تجسّم الأعمال ، ومن أراد الاستقصاء فعليه الرجوع إلى الجوامع الحديثية.
    وقد حان البحث في تجسم الأعمال من منظار العقل والعلم.
1 ـ المحاسن للبرقي : 1/288 ، الحديث 432.
2 ـ أمالي الصدوق : 12 ح4 ، المجلس الأوّل.


(340)
تجسّم الأعمال من منظار العقل والعلم
    إلى هنا وقفت على أدلة تجسّم الأعمال من جانب الكتاب والسنّة ، وإكمال البحث يفرض علينا طرحه على صعيد العقل والعلم.
    إنّ لفيفاً من المفسرين والمتكلّمين أنكروا تجسّم الأعمال وقالوا بامتناعه ، وأوّلوا ما ورد من الآيات والروايات في ذلك المقام ، والسبب الداعي إلى ذلك أمران :
    أ. انّ ما يقوم به الإنسان من الأعمال الصالحة والطالحة يفنى بعد تحقّقه ويذهب سدى ، فكيف يمكن إعادته بعد انعدامه ؟!
    ب. انّ الأعمال من مقولة العرض ، وهو قائم بالجوهر ، ومعنى تجسّمها هو تحقّق العرض بلا جوهر ، وهذا أمر محال.
    هذا هو الشيخ الطبرسي ينقل في تفسير قوله سبحانه : ( يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ منْ خَيْر مُحْضراً ) ، الكلام التالي :
    اختلف في كيفية وجود العمل محضراً ، فقيل : تجد صحائف الحسنات والسيئات ، عن أبي مسلم وغيره ، وهو اختيار القاضي.
    وقيل : ترى جزاء عملها من الثواب والعقاب ، فأمّا أعمالهم فهي أعراض قد بطلت ، ولا تجوز عليها الإعادة فيستحيل أن ترى محضرة. (1)
    وفي المقابل ، هناك من يرفض تلك النظرية ويصحّح تجسّمها بالبيان التالي :
    يقول بهاء الدين العاملي : إنّ الحيّات والعقارب ، بل والنيران التي تظهر في القبر والقيامة ، هي بعينها الأعمال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجلابيب ، كما أنّ الروح
1 ـ مجمع البيان : 1/431 ، ط صيدا.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس