مختصر البصائر ::: 241 ـ 255
(241)
فَهْمَ ذلك ولم يعرفوا حدود ما سمعوا ، فوضعوا حدود تلك الأشياء مقايسة برأيهم ومنتهى عقولهم ، ولم يضعوها على حدود ما اُمروا كذباً وافتراءً على الله تعالى وعلى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجرأة على المعاصي ، فكفى بهذا لهم جهلاً ، ولو أنّهم وضعوها على حدودها التي حُدّت لهم وقبلوها ، لم يكن به بأس ولكن حرّفوها وتعدّوا الحق ، وكذّبوا فيها ، وتهاونوا بأمر الله وطاعته.
    ولكن اُخبرك أنّ الله عزّ وجلّ حدّها بحدودها لئلاّ يتعدّى حدود الله أحد ، ولو كان الأمر كما ذكروا لعذر الناس بجهل ما لم يعرفوا حدّ ما حدّ لهم فيه ، ولكان المقصّر والمتعدّي حدود الله معذوراً إذا لم يعرفوها ، ولكن جعلها الله عزّ وجلّ حدوداً محدودة (1) لايتعدّاها إلاّ مشرك كافر ، قال الله عزّ وجلّ ( تلك حدودُ الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فاُولئك هم الظالمون ) (2).
    واُخبرك حقّاً يقيناً أنّ الله تبارك وتعالى اختار الإسلام لنفسه ديناً ورضيه لخلقه ، فلم يقبل من أحد عملاً إلاّ به ( وبه بعث أنبياءه ورسله ، ثم قال ( وبالحقّ أنزلناه وبالحق نزل ) (3) فعليه وبه بعث أنبياءه ورسله ونبيّه محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) ) (4) ، فأصل الدين معرفة الرسل وولايتهم. وإنّ الله عزّ وجلّ أحلّ حلالاً ، وحرّم حراماً فجعل حلاله حلالاً إلى يوم القيامة ، وجعل حرامه حراماً إلى يوم القيامة.
    فمعرفة الرسل وولايتهم وطاعتهم هي الحلال ، فالمحلّل ما حلّلوا ، والمحرّم
1 ـ في نسخة « س وض » : لحدوده.
2 ـ البقرة 2 : 229.
3 ـ الاسراء 17 : 105.
4 ـ في نسخة « س وض » : وقد بعث أنبياءه وبعث محمّداً ( صلى الله عليه وآله ). بدل ما بين القوسين.


(242)
ما حرّموا ، وهم أصله ، ومنهم الفروع الحلال ، فمن فروعهم أمرهم شيعتهم وأهل ولايتهم بالحلال ، من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، والعمرة ، وتعظيم حرمات الله عزّ وجلّ وشعائره ومشاعره ، وتعظيم البيت الحرام ، والمسجد الحرام ، والشهر الحرام ، والطهر ، والاغتسال من الجنابة ، ومكارم الأخلاق ومحاسنها ، وجميع البرّ ، وذكر الله ذلك في كتابه فقال ( إنّ الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون ) (1).
    فعدوّهم هم الحرام المحرّم ، وأولياءهم هم الداخلون في أمرهم إلى يوم القيامة ، وهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والخمر ، والميسر ، والربا ، والزنا ، والميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، فهم الحرام المحرّم ، وأصل كلّ حرام ، ( وهم الشرّ وأصل كلّ شر ) (2) ، ومنهم فروع الشرّ كلّه.
    ومن تلك الفروع استحلالهم الحرام وإتيانهم إيّاها ، ومن فروعهم تكذيب الأنبياء ( عليهم السلام ) وجحود الأوصياء ( عليهم السلام ) ، وركوب الفواحش من الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر والمسكر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والخديعة ، والخيانة ، وركوب المحارم كلّها ، وانتهاك المعاصي.
    وإنّما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى (3) ـ يعني مودّة ذوي
1 ـ النحل 16 : 90.
2 ـ في نسخة « س وض » : وهم الشرّ وأصل الشرّ وكلّ الشرّ.
3 ـ في معادن الحكمة عن البصائر زيادة : فالأنبياء وأوصياؤهم هم العدل والإحسان ، وايتاء ذي القربى. ولم ترد العبارة في البصائر المطبوع.


(243)
القربى ـ وابتغاء (1) طاعتهم ، ( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) (2) وهم أعداء الأنبياء ( عليهم السلام ) وأوصياء الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وهم المنهيّ عنهم وعن مودّتهم وطاعتهم ( يعظكم ـ بهذا ـ لعلّكم تذكّرون ) (3).
    واُخبرك أنّي لو قلت لك : إنّ الفاحشة ، والخمر ، والزنا ، والميتة ، والدم ، ولحم الخنزير هو رجل ، وأنا أعلم إنّ الله عزّ وجلّ قد حرّم هذا الأصل وحرّم فروعه ونهى عنه ، وجعل ولايته كمن عبد من دون الله وثناً وشركاء ، ومن دعا إلى عبادة نفسه كفرعون إذ قال : ( أنا ربّكم الأعلى ) (4) فهذا كلّه على وجه إن شئت قلت : هو رجل وهو إلى جهنّم ، وكلّ من شايعهم على ذلك فإنّهم (5) مثل قول الله عزّ وجلّ ( إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) (6) لصدقت ، ثمّ إنّي لو قلت : إنّه فلان وهو ذلك كلّه لصدقت ، إنّ فلاناً هو المعبود من دون الله والمتعدّي لحدود الله التي نهى عنها أن تُتعدّى.
    ثمّ اُخبرك أنّ أصل الدين هو رجل وذلك الرجل هو اليقين ، وهو الإيمان ، وهو إمام أهل زمانه ، فمن عرفه عرف الله ودينه ( ومن أنكره أنكر الله ودينه ، ومن جهله جهل الله ودينه ) (7) ، ولا يُعرف الله ودينه وشرائعه بغير ذلك الإمام ، كذلك جرى بأنّ معرفة الرجال دين الله عزّ وجلّ.
1 ـ في نسخة « س وض » : واتّباع.
2 و 3 ـ النحل 16 : 90.
4 ـ النازعات 79 : 24.
5 ـ في نسخة « ض » والبصائر : فافهم.
6 ـ البقرة 2 : 173 والنحل 16 : 115.
7 ـ ما بين القوسين لم يرد في نسخة « س ».


(244)
    والمعرفة على وجهين : معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين الله (1) ، فهذه المعرفة الباطنة الثابتة بعينها ، الموجب حقّها ، المستوجب عليها الشكر لله ، الذي منّ عليكم بها منّاً من الله ، يمنّ به على من يشاء من عباده مع المعرفة الظاهرة.
    ومعرفة في الظاهر ، فأهل المعرفة في الظاهر الذين علموا أمرنا بالحق على غير علم به ، ( لا يستحقّ أهلها ما يستحقّ أهل المعرفة بالباطن (2) على بصيرتهم ، ولا يصلوا بتلك المعرفة المقصّرة إلى حق معرفة الله ، كما قال في كتابه ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلاّ من شهد بالحق وهم يعلمون ) (3) فمن شهد شهادة الحقّ لايعقد عليه قلبه ، ( ولايبصر ما يتكلّم به ، لم يثبه الله عليه ثواب من عقد عليه قلبه على بصيرة فيه ) (4).
    وكذلك من تكلّم بجور لايعقد عليه قلبه ، لا يعاقب عليه عقوبة من عقد قلبه وثبت عليه على بصيرة ، وقد عرفت كيف كان حال أهل المعرفة في الظاهر ، والإقرار بالحق على غير علم في قديم الدهر وحديثه ، إلى أن انتهى (5) الأمر إلى نبي الله ( صلى الله عليه وآله ) وبعده إلى من صاروا (6) ، وإلى ما انتهت به معرفتهم ، وإنّما عرفوا بمعرفة أعمالهم ، ودينهم الذي دانوا به الله عزّ وجلّ ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وقد يقال :
1 ـ في البصائر زيادة : ويوصل بها إلى معرفة الله.
2 ـ في المختصر المطبوع والبصائر : لا يلحق بأهل المعرفة في الباطن. بدل ما بين القوسين.
3 ـ الزخرف 43 : 86.
4 ـ في نسخة « ض وس » : ولا يتبصّر بها لم يثبه الله عليها ثواب من عقد عليها قلبه وأبصرها. بدل ما بين القوسين.
5 ـ في نسخة « ض » : انتهاء ، بدل : أن انتهى.
6 ـ في معادن الحكمة عن البصائر زيادة : أوصياءه ، ولم ترد في البصائر.


(245)
إنّه من دخل في هذا الأمر بغير يقين ولا بصيرة ، خرج منه كما دخل فيه ، رزقنا الله وإيّاك معرفة ثابتة على بصيرة.
    واُخبرك أنّي لو قلت : إنّ الصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ، والحجّ ، والعمرة ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والطهر ، والاغتسال من الجنابة ، وكلّ فريضة كان ذلك هو النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي جاء به من عند ربّه ، ( لصدقت لأنّ ذلك كلّه إنّما يعرف ) (1) بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولولا معرفة ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) والإقرار به ، والتسليم له ، ما عرفت ذلك ، فذلك من الله عزّ وجلّ على من يمنّ به عليه ، ولولا ذلك لم أعرف شيئاً من هذا.
    فهذا كلّـه ذلـك النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأصلـه ، وهو فرعه ، وهو دعاني إليه ، ودلّني عليه ، وعرّفنيه ، وأمرني به ، وأوجب له عليّ الطاعة ، فيما أمرني به لايسعني جهله ، وكيـف يسعني جهـل من هـو فيما بيني وبين الله عزّ وجلّ ، وكيف يستقيم لي
ـ لولا أنّي أصـف أنّ ديني هـو الـذي أتـاني بـه ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) ـ أن أصف أنّ الدين غيره.
    وكيف لا يكون هو معرفة الرجل ، وإنّما هو الرجل الذي جاء به عن الله عزّ وجلّ ، وإنّما أنكر دين الله عزّ وجلّ من أنكره ، بأن قال : ( أبعث الله بشراً رّسولاً ) (2) ثمّ قال : ( أبشر يهدوننا فكفروا ) (3) بذلك الرجل وكذّبوا به ( وتولّوا
1 ـ في نسخة « س وض » : لأنّك إنّما عرفت ذلك كلّه. بدل ما بين القوسين.
2 ـ الاسراء 17 : 94.
3 ـ التغابن 64 : 6.


(246)
ـ عنه ـ وهم معرضون ) (1) ، ( وقالوا لولا اُنزل عليه ملك ) (2) فقال لهم الله تبارك وتعالى ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ) (3) ثمّ قال في آية اُخرى ( ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثمّ لاينظرون * ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ) (4) والله تبارك وتعالى إنما أحبّ أن يعرف بالرجال ، وأن يطاع بطاعتهم فجعلهم سبيله ، ووجه الذي يؤتى منه ، لا يقبل من العباد غير ذلك ( لايُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ) (5).
    وقال فيما أوجب من محبّته لذلك ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً ) (6) فمن قال لك : إنّ هذه الفريضة كلّها هي رجل ، وهو لا يعرف حدّ ما يتكلّم به فقد صدق ، ومن قال على الصفة التي ذكرت بغير الطاعة لا يغني التمسّك بالأصل بترك الفرع شيئاً ، كما لا تغني شهادة أن لا إله إلاّ الله بترك شهادة أنّ محمّداً رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
    ولم يبعث الله نبيّاً قط إلاّ بالبرّ (7) والعدل ، والمكارم ، ومحاسن الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، والنهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فالباطن منها ولاية
1 ـ التوبة 9 : 76.
2 ـ الأنعام 6 : 8.
3 ـ الأنعام 6 : 91.
4 ـ الأنعام 6 : 8 ـ 9.
5 ـ الأنبياء 21 : 23.
6 ـ النساء 4 : 80.
7 ـ في نسختي « س وض » : باللين.


(247)
أهل الباطل ، والظاهر منها فروعهم.
    ولم يبعث الله نبيّاً قط يدعو إلى معرفة ليس معها طاعة في أمر أو نهي ، وإنّما يتقبّل الله من العباد العمل بالفرائض التي افترضها على حدودها ، مع معرفة من جاءهم بها من عنده ودعاهم إليه ، فأوّل ذلك معرفة من دعا إليه ، ثمّ طاعته فيما افترض فيما يقرّ به (1) ممّن لا طاعة له ، وإنّه من عرف أطاع ، ومن أطاع حرّم الحرام ، ظاهره وباطنه ، ولا يكون تحريم الباطن واستحلال الظاهر ، إنّما حرّم الظاهر بالباطن ، والباطن بالظاهر معاً جميعاً ، ولا يكون الأصل والفرع ، وباطن الحرام حرام وظاهره حلال ، ولايحرّم الباطن ويستحلّ الظاهر.
    وكذلك لا يستقيم أن يعرف صلاة الباطن ولايعرف صلاة الظاهر ، ولا الزكاة ، ولا الصوم ، ولا الحجّ ، ولا العمرة ، ولا المسجد الحرام ، ولا جميع حرمات الله ( ولا شعائر الله ) (2) ، وأن تترك بمعرفة الباطن لأنّ باطنه ظهره ، ولا يستقيم واحد منهما إلاّ بصاحبه إذا كان الباطن حراماً خبيثاً ، فالظاهر منه حرام خبيث ، إنّما يشبّه الباطن بالظاهر.
    من زعم أنّ ذلك أنّها (3) المعرفة ، وأنّه إذا عرف اكتفى بغير طاعة فقد كذب وأشرك ، وذلك لم يعرف ولم يطع ، وإنّما قيل : إعرف واعمل ما شئت من الخير فإنّه يقبل ذلك منه ، ولايقبل ذلك منك بغير معرفة ، فإذا عرفت فاعمل لنفسك ما شئت من الطاعة والخير قلّ أو كثر ، ( بعد أن لاتترك شيئاً من الفرائض والسنن
1 ـ في نسخة « س وض » : فيما اُمر به ، بدل : فيما يقرّ به.
2 ـ في نسخة « ض » : وشعائره.
3 ـ في البصائر : إنّما هي.


(248)
الواجبة ) (1) ، فإنّه مقبول منك مع جميع أعمالك.
    واُخبرك أنّه من عرف أطاع ، فإذا عرف صلّى وصام وزكّى وحجّ واعتمر وعظّم حرمات الله كلّها ، ولم يدع منها شيئاً وعمل بالبرّ كلّه ، ومكارم الأخلاق كلّها ، واجتنب ( سيّئها ، ومبتدأ كلّ ذلك ) (2) هو النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) أصله ، وهو أصل هذا كلّه ، لأنّه هو جاء به ودلّ عليه وأمر به ، ولايقبل الله عزّ وجلّ من أحد شيئاً إلاّ به ، فمن عرفه اجتنب الكبائر ، وحرّم الفواحش كلّها ما ظهر منها وما بطن ، وحرّم المحارم كلّها ، لأنّه بمعرفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وطاعته دخل فيما دخل فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وخرج ممّا خرج منه (3).
    ومن زعم أنّه يحلّل الحلال ويحرّم الحرام بغير معرفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يحلّل لله حلالاً ، ولم يحرّم له حراماً ، وإنّه من صلّى وزكّى وحجّ واعتمر ، وفعل البرّ كلّه بغير معرفة من افترض الله طاعته ، فإنّه لم يقبل منه شيئاً من ذلك ، ولم يصلّ ، ولم يصم ، ولم يزكّ ، ولم يحجّ ، ولم يعتمر ، ولم يغتسل من الجنابة ، ولم يتطهّر ، ولم يحرّم لله حراماً ، ولم يحلّل لله حلالاً ، وليس له صلاة وإن ركع وسجد ، ولا له زكاة وإن أخرج من كلّ أربعين درهماً درهماً ، ولا له حجّ ولا عمرة ، وإنّما يقبل ذلك كلّه بمعرفة رجل وهو من أمر الله خلقه بطاعته والأخذ عنه ، فمن عرفه وأخذ عنه فقد أطاع الله عزّ وجلّ.
    وأمّا ما ذكرت أنّهم يستحلّون نكاح ذوات الأرحام التي حرّم الله عزّ وجلّ في كتابه ، فإنّهم زعموا أنّه إنّما حرّم وعنى بذلك النكاح نكاح نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ،
1 ـ ما بين القوسين لم يرد في البصائر.
2 ـ في نسخة « ض » : مبتدئاً ، وكلّ ذلك. بدل مابين القوسين.
3 ـ في البصائر زيادة : النبي ( صلى الله عليه وآله ).


(249)
فإنّ أحقّ ما يُبدأ به تعظيم حقّ الله وكرامته ، وكرامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتعظيم شأنه ، وما حرّم الله على تابعيه ونكاح نسائه من بعده بقوله تعالى ( ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنّ ذلكم كان عند الله عظيماً ) (1) وقال تبارك وتعالى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امّهاتهم ) (2) وهو أبٌ لهم ، ثمّ قال ( و لاتنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلاّ ما قد سلف إنّه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً ) (3) فمن حرّم نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) لتحريم الله ذلك ، فقد حرّم ما حرّم الله في كتابه من الاُمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات وبنات الأخ وبنات الاُخت ، وما حرّم الله من الرضاع (4) لأنّ تحريم ذلك كتحريم نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فمن استحلّ ما حرمّ الله عزّ وجلّ من نكاح ما حرّم الله فقد أشرك بالله إذا اتخذ ذلك ديناً.
    وأمّا ما ذكرت أنـّهم (5) يترادفون المرأة الواحدة فأعوذ بالله أن يكون ذلك من دين الله عزّ وجلّ ودين رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، إنّما دينه أن يحلّ ما أحلّ الله ، ويحرم ما حرّم الله ، وإنّ ممّا أحلّ الله المتعة من النساء في كتابه ، والمتعة من الحج أحلّهما ثمّ لم يحرّمهما.
1 ـ الأحزاب 33 : 53.
2 ـ الأحزاب 33 : 6.
3 ـ النساء 4 : 22.
4 ـ اقتباس من قوله تعالى في سورة النساء آية 23 ( حرّمت عليكم اُمّهتُكم وبناتُكم وأخواتُكم وعمّتُكم وخلتُكم وبنات الأخ وبناتُ الاُخت واُمّهتُكم الّتي أرضعنكم وأخواتُكم من الرّضعةَ ).
5 ـ في البصائر : أنّ الشيعة.


(250)
    فإذا أراد الرجل المسلم أن يتمتّع من المرأة ( فعل ما شاء وعلى كتاب الله وسنّة نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) ) (1) ، نكاحاً غير سفاح ، تراضيا على ما أحبّا من الاُجرة والأجل (2) ، كما قال الله عزّ وجلّ ( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ اجورهنّ فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) (3) إن هما أحبّا مدّا في الأجل على ذلك الأجر ، أو ما أحبّا في آخر يوم من أجلها ، قبل أن ينقضي الأجل قبل غروب الشمس مدّا فيه وزادا في الأجل ما أحبّا ، فإن مضى آخر يوم منه لم يصلح إلاّ بأمر مستقبل ، وليس بينهما عدّة إلاّ لرجل سواه ، فإن أرادت سواه اعتدّت خمسة وأربعين يوماً ، وليس بينهما ميراث.
    ثمّ إن شاءت تمتّعت من آخر فهذا حلال لها إلى يوم القيامة ، إن شاءت تمتّعت منه أبداً ، وإن شاءت من عشرين بعد أن تعتدّ من كلّ واحد فارقته خمسة وأربعين يوماً ، فلها ذلك ما بقيت الدنيا ، كلّ هذا حلال لها على حدود الله التي بيّنها على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه ) (4).
    وإذا أردت المتعة في الحج فاحرم من العقيق واجعلها متعة ، فمتى ما قدمت مكة طفت بالبيت واستلمت الحجر الأسود ، وفتحت به وختمت سبعة أشواط ، ثمّ تصلّي ركعتين عند مقام ابراهيم ( عليه السلام ) ، ثمّ اخرج من المسجد فاسعَ بين الصفا والمروة (5) سبعة أشواط ، تفتح بالصفا وتختم بالمروة. فإذا فعلت ذلك قصّرت حتّى
1 ـ في البصائر : فعلى كتاب الله وسنّته. بدل ما بين القوسين.
2 ـ والأجل ، لم يرد في نسختي « س وض ».
3 ـ النساء 4 : 24.
4 ـ الطلاق 65 : 1.
5 ـ الصفا والمروة : وهما جبلان بين بطحاء مكّة والمسجد ، أمّا الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي هو طريق وسوق ، ومن وقف على الصفا كان بحذاء الحجر الأسود ، والمشعر الحرام بين الصفا والمروة.
وأمّا علّة تسميتهما بهذين الأسمين ، فقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « سمّي الصفا صفا لأنّ المصطفى آدم هبط عليه ، فقطع للجبل اسم من اسم آدم ( عليه السلام ) ، يقول الله تعالى ( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ) وهبطت حواء على المروة لأن المرأة هبطت عليها ، فقطع للجبل إسم من اسم المرأة ». معجم البلدان 3 : 411 ، علل الشرائع : 431 / 1 ـ باب 165. والآية في سورة آل عمران 3 آية 33.


(251)
إذا كان يوم التروية (1) صنعت ما صنعت في العقيق (2) ، ثمّ أحرمت بين الركن (3) والمقام (4) بالحجّ ، فلاتزال محرماً حتّى تقف بالموقف ، ثمم ترمي الجمرات ، وتذبح (5) وتحلّ وتغتسل ، ثمّ تزور البيت ، فإذا أنت فعلت ذلك فقد حللت ، وهو قول الله عزّ وجلّ ( فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) (6) أن تذبح ذبحاً.
1 ـ يوم التروية : يوم قبل يوم عرفة ، وهو الثامن من ذي الحجة ، سمّي به لأنّ الحجّاج يتروّون فيه من الماء وينهضون إلى منى ولا ماء بها ، فيتزوّدون ريّهم من الماء ، أي يسقون ويستقون. لسان العرب 14 : 347 ـ روي.
2 ـ العقيق : قالت العرب : كل مسيل ماء شقّه السيل في الأرض فأنهره ووسّعه فهو عقيق ، وقال الأصمعي : الأعقّة أربعة منها : عقيق بناحية المدينة وفيه عيون ونخل. معجم البلدان 4 : 138 ـ 139.
3 ـ الركن : وهو الركن اليماني من أركان الكعبة. معجم البلدان 3 : 64.
4 ـ المقام : في المسجد الحرام ، وهو الحجر الذي قام عليه ابراهيم ( عليه السلام ) حين رفع بناء البيت. معجم البلدان 5 : 164.
5 ـ في البصائر زيادة : وتحلق.
6 ـ البقرة 2 : 196.


(252)
    وأمّا ما ذكرت أنّهم يستحلّون الشهادات بعضهم لبعض على غيرهم ، فإنّ ذلك لايجوز ولايحلّ ، وليس هو على ما تأوّلوا لقول الله عزّ وجلّ ( يا أيّها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) (1) فذلك إذا كان مسافراً وحضره الموت أشهد اثنين ذوا عدل من أهل دينه ، فإن لم يجد فآخران ممّن يقرأ القرآن من غير أهل ولايته ( تحبسونهما من بعد الصلاة فيُقسِمان بالله إن ارتبتم لانشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولانكتم شهادة الله إنّا إذاً لمن الآثمين * فإن عُثر على أنّهما استحقّا إثماً فآخرانِ يقومانِ مقامَهُما من الّذينَ استحق عليهم الأوليانِ ـ من أهل ولايته ـ فيُقسِمانِ بالله لشهادتُنا أحقّ من شهادتِهما وما اعتدينا إنّا إذاً لمن الظالمين * ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهِها أو يخافوا أن تُردَّ أيمان بعد أيمانهم واتّقوا الله واسمعوا ) (2).
    وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقضي بشهادة رجل واحد مع يمين المدّعي ولايبطل حقّ مسلم ، ولا يردّ شهادة مؤمن ، فإذا أخذ يمين المدّعي وشهادة الرجل الواحد قضى له بحقّه ، وليس يعمل اليوم بهذا وقد ترك ، فإذا كان للرجل المسلم قِبَل آخر حقّ فجحده ولم يكن له شاهد غير واحد ، فهو إذا رفعه إلى بعض ولاة الجور أبطلوا حقّه ، ولم يقضوا فيه بقضاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد كان في الحقّ أن لايبطل حقّ رجل مسلم ، وكان يستخرج الله على يديه حقّ رجل مسلم ، ويأجره الله عزّ وجلّ
1 ـ المائدة 5 : 106.
2 ـ المائدة 5 : 106 ـ 108.


(253)
ويجيء (1) عدلاً ، كأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل به.
    وأمّا ما ذكرت في آخر كتابك أنّهم يزعمون أنّ الله ربّ العالمين هو النبيّ محمّد ( صلى الله عليه وآله ) وأنّك ( شبّهت قولهم بقول ) (2) الّذين قالوا في عيسى ( عليه السلام ) ما قالوا ، فقد عرفت أنّ السنن والأمثال قائمة لم يكن شيء فيما مضى إلاّ سيكون مثله ، حتّى لو كانت هناك شاة برشاء (3) كان هاهنا مثلها ، ولتعلم أنّه سيضلّ قوم على ضلالة من كان قبلهم ، فكتبت تسألني عن مثل ذلك وما هو وما أرادوا به.
    واُخبرك أنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق لاشريك له ، له الخلق والأمر والدنيا والآخرة ، وهو ربّ كلّ شيء وخالقه ، خلق الخلق وأوجب (4) أن يعرفوه بأنبيائه ، فاحتجّ عليهم بهم ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) هو الدليل على الله عزّ وجلّ ، وهو عبد مخلوق مربوب اصطفاه الله لنفسه برسالته وأكرمه (5) بها ، فجعله خليفته في أرضه وفي خليقته ، ولسانه فيهم ، وأمينه عليهم ، وخازنه في السماوات والأرض ، قوله قول الله عزّ وجلّ ، لا يقول على الله إلاّ الحق ، من أطاعه أطاع الله ، ومن عصاه عصى الله ، وهو مولى كلّ من كان الله ربّه ووليّه ، من أبى أن يقرّ له بالطاعة فقد أبى أن يقرّ لربّه بالطاعة والعبودية ، ومن أقرّ بطاعته أطاع الله وهداه ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) مولى الخلق جميعاً ، عـرفوا ذلك أو أنكروه ، وهـو الوالد المـبرور ، فمن أحبّه وأطاعه فهو الولد البار ،
1 ـ في نسخة « س » : ويحيي.
2 ـ في نسخة « س » : سمعت قولهم يقول. بدل ما بين القوسين.
3 ـ شاة برشاء : في لونها نُقط مختلفة. لسان العرب 6 : 264 ـ برش.
4 ـ في البصائر : وأحبّ.
5 ـ في نسخة « س وض » : وألزمه.


(254)
وهو مجانب الكبائر.
    وقد بيّنت لك ما سألتني عنه وقد علمت أنّ قوماً سمعوا صفتنا هذه فلم يعقلوها ، بل حرّفوها ووضعوها على غير حدودها على نحو ما قد بلغك ، وما قد كتبت به إليّ ، وقد بريء الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) منهم وممّن يصفون من أعمالهم الخبيثة وينسبونها إلينا ، وإنّا نقول بها ونأمرهم بالأخذ بها ، فقد رمانا الناس بها والله يحكم بيننا وبينهم فإنّه يقول ( إنّ الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنَتُهم وأيدِيهِم وأرجُلُهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفّيهم اللهُ دينَهُم الحقّ ويعلمونَ أنّ اللهَ هو الحقّ المبين ) (1).
    وأمّا ما كتبت به ونحوه وتخوّفت أن تكون صفتهم من صفته فقد أكرمه الله عزّ وجلّ عن ذلك ، تعالى ربّنا عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، صفتي هذه هي صفة صاحبنا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهي صفة من وصفه من بعده ، وعنه أخذنا ذلك ، وبه نقتدي ، فجزاه الله عنّا أفضل الجزاء ، فإنّ جزاءه على الله عزّ وجلّ.
    فتفهّم كتابي هذا والعزّة لله جميعاً والقوّة به وصلّى الله على محمّد عبده ورسوله وعلى آله وعترته وسلّم تسليماً كثيراً » (2).
    [ 248/5 ] أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن العبّاس بن معروف ، عن عبدالله بن
1 ـ النور 24 : 23 ـ 25.
2 ـ بصائر الدرجات : 526 / 1 ، ونقله عنه المجلسي في البحار 24 : 286 / 1 ، والفيض الكاشاني في معادن الحكمة في مكاتيب الأئمّة ( عليهم السلام ) 2 : 91 ـ 103.


(255)
محمّد الحجّال ، عن حبيب بن المعلّى الخثعمي ، قال : ذكرت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) ما يقول أبو الخطّاب ، فقال : « إحك لي ما يقول » قلت : يقول في قول الله عزّ وجلّ ( وإذا ذُكر الله وحده ) (1) : إنّه أمير المؤمنين صلوات الله عليه ( واذا ذكر الذين من دونه ) (2) فلان وفلان.
    فقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : « من قال هذا فهو مشرك بالله عزّ وجلّ ـ ثلاثاً ـ ، أنا إلى الله منه بريء ـ ثلاثاً ـ بل عنى الله بذلك نفسه » قال : وأخبرته بالآية الاُخرى التي في ( حم ) قوله عزّ وجلّ ( ذلكم بأنّه إذا دعي الله وحده كفرتم ) (3) ثمّ قلت : زعم أنّه يعني بذلك أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
    فقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) « من قال هذا فهو مشرك بالله ـ ثلاثاً ـ أنا إلى الله منه بريء ـ ثلاثاً ـ بل عنى الله بذلك نفسه ـ ثلاثاً (4) ـ ».
1 و 2 ـ الزمر 39 : 45.
3 ـ غافر 40 : 12.
4 ـ بصائر الدرجات : 536 / 4 ، وعنه في البحار 24 : 302 / 10.
مختصر البصائر ::: فهرس