|
|||
(376)
واحدة » فلم يحر جواباً.
قال الرضا ( عليه السلام ) : « لا بأس أتمم مسألتك » قال سليمان : قلت : إنّ الإرادة صفة من صفاته ، قال ( عليه السلام ) : « كم تردّد عليّ أنّها صفة من صفاته ، فصفته محدثة أو لم تزل ؟ » قال سليمان : محدثة ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « الله أكبر ، فالإرادة محدثة وإن كانت صفة من صفاته لم تزل » فلم يردّ شيئاً. قال الرضا ( عليه السلام ) : « إنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً » قال سليمان : ليس الأشياء إرادة ولم يرد شيئاً ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « وسوست يا سليمان ، فقد فعل وخلق ما لم يرد خلقه ولا فعله ، وهذه صفة من لا يدري ما فعل ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً » قال سليمان : يا سيدي قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم ، قال المأمون : ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والترداد اقطع هذا وخذ في غيره إذ لست تقوى على غير هذا الردّ. قال الرضا ( عليه السلام ) : « دعه يا أمير المؤمنين لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجّة ، تكلّم يا سليمان » قال : قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « لا بأس أخبرني عن معنى هذه أمعنىً واحداً أو معان مختلفة ؟ » قال سليمان : بل معنىً واحداً. قال الرضا ( عليه السلام ) : « فمعنى الإرادات كلّها معنىً واحداً ؟ » قال سليمان : نعم ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « فإن كان معناها معنىً واحداً كانت إرادة القيام إرادة القعود ، وإرادة الحياة إرادة الموت ، وإذا كانت إرادته واحدة لم يتقدّم بعضها بعضاً ، ولم يخالف بعضها بعضاً ، وكان شيئاً واحداً » قال سليمان : إنّ معناها مختلف. قال ( عليه السلام ) : « فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أم غيرها ؟ » قال سليمان : بل هو الإرادة ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « فالمريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة ؟ » قال : يا (377)
سيّدي ليس الإرادة المريد ، قال ( عليه السلام ) : « فالإرادة محدثة وإلاّ فمعه غيره ، إفهم وزد في مسألتك » قال سليمان : فإنّها اسم من أسمائه ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « هل سمّى نفسه بذلك ؟ » قال سليمان : لا ، لم يسمّ نفسه بذلك ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « فليس لك أن تسمّيه بما لم يسمّ به نفسه » قال : قد وصف نفسه بأنّه مريد.
قال الرضا ( عليه السلام ) : « ليس صفته نفسه أنّه مريد إخباراً عن أنّه إرادة ، ولا إخباراً عن أنّ الارادة اسم من أسمائه » قال سليمان : لأنّ إرادته علمه. قال الرضا ( عليه السلام ) : « يا جاهل فإذا علم الشيء فقد أراده ؟ » قال سليمان : أجل قال ( عليه السلام ) : « فإذا لم يرده لم يعلمه ؟ » قال سليمان : أجل ، قال ( عليه السلام ) : « من أين قلت ذاك ، وما الدليل على أنّ إرادته علمه ؟ وقد يعلم ما لا يريده أبداً ، وذلك قوله عزّ وجلّ ( ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك ) (1) فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبداً » قال سليمان : إنّه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً. قال الرضا ( عليه السلام ) : « هذا قول اليهود ، فكيف قال الله عزّ وجلّ ( ادعوني استجب لكم ) (2) » قال سليمان : إنّما عنى بذلك أنّه قادر عليه. قال ( عليه السلام ) : « أفيعد بما لا يفي به ؟! فكيف قال عزّ وجلّ ( يزيد في الخلق ما يشاء ) (3) وقال عزّ وجلّ ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب ) (4) وقد فرغ من الأمر » فلم يحر جواباً. 1 ـ الإسراء 17 : 86. 2 ـ المؤمن 40 : 60. 3 ـ فاطر 35 : 1. 4 ـ الرعد 13 : 39. (378)
قال الرضا ( عليه السلام ) : « يا سليمان هل تعلم أنّ إنساناً يكون ولا يريد أن يخلق إنساناً أبداً ، وأنّ انساناً يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم ؟ » قال سليمان : نعم.
قال الرضا ( عليه السلام ) : « فيعلم أنّه يكون ما يريد أن يكون ، أو يعلم أنّه يكون ما لا يريد أن يكون ؟! » قال : يعلم أنّهما يكونان جميعاً. قال الرضا ( عليه السلام ) : « إذاً يعلم أنّ إنساناً حيٌّ ميّت ، قائم قاعد ، أعمى بصير في حال واحد ، وهذا هو المحال ». قال : جعلت فداك فإنّه يعلم أنّه يكون أحدهما دون الآخر. قال ( عليه السلام ) : « لا بأس ، فأيّهما يكون الذي أراد أن يكون ، أو الذي لم يرد أن يكون ؟ » قال سليمان : الذي أراد أن يكون ، فضحك الرضا ( عليه السلام ) والمأمون وأصحاب المقالات. قال الرضا ( عليه السلام ) : « غلطت وتركت قولك : أنّه يعلم أنّ إنساناً يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم ، وأنّه يخلق خلقاً ، وأنّه لا يريد أن يخلقهم ، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون ، فإنّما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون » قال سليمان : فإنّما قولي : إنّ الإرادة ليست هو ولا غيره. قال الرضا ( عليه السلام ) : « يا جاهل إذا قلت : ليست هو فقد جعلتها غيره ، وإذا قلت : ليست هي غيره ، فقد جعلتها هو » قال سليمان : فهو يعلم كيف يصنع الشيء ؟ قال ( عليه السلام ) : « نعم » قال سليمان : فإنّ ذلك إثبات للشيء. قال الرضا ( عليه السلام ) : « أحلت ، لأنّ الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن ، ويحسن الخياطة وإن لم يخط ، ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبداً ». ثمّ قال له : « يا سليمان هل تعلم أنّه واحد لا شيء معه ؟ » قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : « أفيكون ذلك إثباتاً للشيء ؟ » قال سليمان : ليس يعلم أنّه واحد لا شيء معه. (379)
قال الرضا ( عليه السلام ) : « أفتعلم أنت ذاك ؟ » قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : « فأنت يا سليمان أعلم منه إذاً » قال سليمان : المسألة محال ، قال ( عليه السلام ) : « محال عندك ، أنّه واحد لا شيء معه ، وأنّه سميع بصير حكيم قادر ؟ » قال : نعم ، قال الرضا ( عليه السلام ) : « فكيف أخبر الله عزّ وجلّ أنّه واحد حيٌّ ، سميع بصير ، عليم خبير ، وهو لا يعلم ذلك ، وهذا ردّ ما قال وتكذيبه ، تعالى الله عن ذلك ».
ثمّ قال له الرضا ( عليه السلام ) : « فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو ؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه ؟ فإنّما هو متحيّر ، تعالى الله عن ذلك » قال سليمان : فإنّ الإرادة القدرة ؟ قال الرضا ( عليه السلام ) : « وهو عزّ وجلّ يقدر على ما لا يريده أبداً ولا بدّ من ذلك ، لأنّه قال تبارك وتعالى ( ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك ) (1) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته » فانقطع سليمان ، فقال المأمون عند ذلك : يا سليمان هذا أعلم هاشمي ، ثمّ تفرّق القوم (2). [ 438/10 ] وبإسنادي إلى محمّد بن يعقوب الكليني ( رحمه الله ) قال : حدّثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبدالرحمن قال : قال لي أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) : « يا يونس لا تقل بقول القدرية ، فإنّ القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنّة ، ولا بقول أهل النار ، ولا بقول إبليس ، فإنّ أهل الجنّة قالوا ( الحمد لله 1 ـ الاسراء 17 : 86. 2 ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 179/1 ، التوحيد : 441/1 ، وأورده الطبرسي باختصار في الاحتجاج 2 : 365/284. (380)
الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) (1) وقال أهل النار ( ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوماً ضالّين ) (2) وقال إبليس ( ربّ بما أغويتني ) (3) » فقلت : والله ما أقول بقولهم ، ولكنّي أقول : لا يكون إلاّ بما شاء الله عزّ وجلّ وأراد وقدّر وقضى.
قال : فقال ( عليه السلام ) : « يا يونس ليس هكذا ، لا يكون إلاّ ما شاء الله عزّ وجلّ ، وأراد وقدّر وقضى ، يا يونس تعلم ما المشيئة ؟ » فقلت : لا ، فقال : « هي الذكر الأول ، فتعلم ما الإرادة ؟ » قلت : لا ، قال : « هي العزيمة على ما يشاء » قال : فتعلم ما القدر ؟ قلت : لا ، قال : « هو الهندسة ، ووضع الحدود من البقاء والفناء » قال : ثمّ قال : « والقضاء هو الإبرام واقامة العين » قال : فاستأذنته أن اُقبّل رأسه ، وقلت : فتحت لي شيئاً كنت عنه في غفلة (4). 1 ـ الأعراف 7 : 43. 2 ـ المؤمنون 23 : 106. 3 ـ الحجر 15 : 39. 4 ـ الكافي 1 : 157/4 ، وعنه في البحار 5 : 116/49. (381)
أحاديث الذرّ
قال الله عزّ وجلّ ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذرّيةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) (1).
يقول العبد الضعيف ، الفقير إلى ربّه الغني حسن بن سليمان بن محمّد الحلّي : رويت عن الشيخ الفقيه الشهيد السعيد أبي عبدالله محمّد بن مكّي الشامي ، عن السيّد عبدالمطلب بن الأعرج الحسيني ، عن الحسن بن يوسف بن المطهر ، عن أبيه ، عن السيّد فخار بن معد الموسوي ، عن شاذان بن جبرئيل ، عن العماد الطبري ، عن أبي علي ابن الشيخ أبي جعفر الطوسي ، عن أبيه ، عن الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان ، عن الصدوق محمّد بن علي بن بابويه ، عن محمّد بن عصام الكليني وعلي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق. [ 439/1 ] عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن أبي علي الأشعري ومحمّد بن يحيى ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن علي بن الحكم ، عن أبان بن عثمان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « لو علم الناس كيف كان ابتداء الخلق ما اختلف اثنان ، إنّ الله 1 ـ الأعراف 7 : 172 ـ 173. (382)
تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق ، قال : كن ماءً عذباً أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي ، وكن ملحاً اُجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي ، ثمّ ( أمرهما فامتزجا ) (1) فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر ، والكافر المؤمن.
ثمّ أخذ طيناً من أديم الأرض وعركه عركاً شديداً فإذا هم كالذرّ يدبّون ، فقال لأصحاب اليمين : إلى الجنّة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا اُبالي ، ثمّ أمر ناراً فاُسعرت ، فقال لأصحاب الشمال : ادخلوها فهابوها ، وقال لأصحاب اليمين : ادخلوها ، فدخلوها فقال : كوني برداً وسلاماً ، فكانت برداً وسلاماً ، فقال أصحاب الشمال : يا ربّ أقلنا ، قال : قد أقلتكم فادخلوها ، فذهبوا (2) فهابوها. فثمّ ثبتت الطاعة والمعصية ، فلايستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء » (3). [ 440/2 ] وبالإسناد عن محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن اُذينة ، عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قوله جلّ وعزّ ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم ) (4) الآية ، فقال ـ وأبوه يسمع ـ : « حدّثني أبي أنّ الله جلّ وعزّ قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم ( عليه السلام ) فصبّ عليها الماء العذب الفرات ، ثمّ تركها أربعين صباحاً ، ثمّ صبّ عليها الماء المالح الاُجاج فتركها أربعين صباحاً ، فلمّا اختمرت الطينة أخذها فعركها عركاً 1 ـ في نسخة « س » : أمرهما أن امتزجا فامتزجا. 2 ـ في نسخة « س » زيادة : أن يدخلوها. 3 ـ الكافي 2 : 6/1 ، وأورده البرقي في المحاسن 1 : 438/418. 4 ـ الأعراف 7 : 172. (383)
شديداً ، فخرجوا كالذرّ من يمينه وشماله وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار ، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً ، وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها » (1).
[ 441/3 ] وبالإسناد عن محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن أبان بن عثمان ، عن محمّد بن علي الحلبي ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : « إنّ الله جلّ وعزّ لمّا أراد أن يخلق آدم ( عليه السلام ) أرسل الماء على الطين ، ثمّ قبض قبضة فعركها (2) ثمّ فرّقها فرقتين بيده ، ثمّ ذرأهم فإذا هم يدبّون ، ثمّ رفع لهم ناراً فأمر أهل الشمال أن يدخلوها ، فذهبوا إليها فهابوها (3) ولم يدخلوها ، ثمّ أمر أهل اليمين أن يدخلوها فذهبوا فدخلوها ، فأمر الله عزّ وجلّ النار فكانت عليهم برداً وسلاماً. فلمّا رأى ذلك أهل الشمال قالوا : يا ربّ أقلنا فأقالهم ، ثمّ قال لهم : ادخلوها فذهبوا فقاموا عليها ولم يدخلوها ، فأعادهم طيناً وخلق منها آدم ( عليه السلام ). وقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء. قال : فترون أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أول من دخل تلك النار فذلك قوله عزّ وجلّ ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين ) (4) » (5). يقول عبدالله وفقيره ومسكينه حسن بن سليمان المدّعي محبّته ومحبّة 1 ـ الكافي 2 : 7/2 ، وأورده العياشي في تفسيره 2 : 39/109. 2 ـ عَرَكَ الشيء : دَلَكَه وحَكَّه. القاموس المحيط 3 : 312 ـ عرك. 3 ـ في نسخة « ض وس وق » : فقاموا ، وما في المتن من النسخة المطبوعة. 4 ـ الزخرف 43 : 81. 5 ـ الكافي 2 : 7/3. (384)
رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته وإن لم يكن معه بيّنة :
قوله ( عليه السلام ) : « فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ». ظاهره الجبر وليس هو المراد ، لما ثبت وتحقّق من مذهب آل محمّد صلوات الله عليه وعليهم وسلامه لكونه ينافي الثواب والعقاب. والجواب عن هذا : الظاهر أنّه ( عليه السلام ) أخبر عن الأمر الباطن ، الذي جرى في علم الله سبحانه مما يؤول أمر خلقه إليه ويختم لهم به ، وكان سببه طاعة من أطاعه ، ومعصية من عصاه في بدء الخلقة وهم ذرّ ، كما بيّن ( عليه السلام ) وشرح في الحديث ، ولا يلزم من إخباره بهذا العلم الذي علّمه الله تعالى إيّاه وأظهر عليه ، وحدّث هو ( عليه السلام ) به وانتقل من الغيب إلى الشهادة ، ومن السرّ إلى العلانية ، رفع القدرة والاختيار عن المكلّفين ، فإنّ التكليف إنّما هو جار على الظاهر دون الباطن الذي هو في علمه سبحانه ، وإنّا اُمرنا بتصديقه والإذعان له ، ولهذا أمثلة كثيرة : منها : ما ورد في الحديث : « إنّ ولد الزنا لا ينجب » (1) فهو إخبار بما يختم له به ، ويصير أمره إليه ، وهو من سرّ الله الذي يُظهر عليه من يشاء من عباده ، ولا تنافي هذه الأخبار التكليف بل تجامعه ، لأنّ التكليف على الظاهر وتحقّقه قدرة المكلّف ، وهذا إخبار عن الأمر الباطن وليس يدخل تحت قدرته. ومنها : ما أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن مشركي أهل مكّة وإنّهم لا يسلمون ، ومن يُقتل منهم ببدر ويرمى بالقليب مع أنّهم مكلّفون بالإسلام ، والرسول ( صلى الله عليه وآله ) يدعوهم إليه ويأمرهم به. 1 ـ انظر المحتضر للمصنّف : 56. (385)
ومنها : حاجة أهل الفقر والمسكنة واضطرارهم ، ففي الباطن من الله سبحانه ، لأنّه هو المغني المفقر بالإجماع ، لأنّه سبحانه وتعالى الخالق الرازق ، المغني المفقر ، ومن ادّعى سواه كفر به ، وفي الظاهر ما ورد في الحديث : « ما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غني » (1) ويسمّى الغني : قاتل الفقير إذ منعه حقّه ، ويعاقب عليه لاختياره لذلك ولا منافاة بينهما.
ومنها : قتل المقتول ، ففي الباطن ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ) (2) وهو عبد مأمور لا يتوفّى نفساً إلاّ بإذن ربّه سبحانه ، وفي الظاهر : القاتل الذي تولّى إزهاق نفس المقتول هو الفاعل للقتل ، وباختياره فعله ، ثمّ يثاب أو يعاقب أو يكون مباحاً ، ولا ينافي باطن هذا الأمر ظاهره. ومنها : الغلاء بسبب الاحتكار ، ففي الباطن هو سبحانه المغلّي والمرخّص للأسعار ؛ لأنّه قسّم أرزاق عباده على السعة والضيق ، ففي الحديث عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال : « لقد نفث الروح الأمين في روعي أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل ما كتب لها » (3) ولا يجوز أن ينسب الرزق إلاّ إليه سعته وضيقه ، وإن كان في الظاهر يُلام المحتكر ويذّم ويعاقب ، لأنّه اختار الاحتكار على البيع ، ولا منافاة بين هذين الأمرين. ومنها : الأمر الجليل الكبير الذي أمر الله عباده بالإقرار به وتصديقه ، لنصّ الكتاب العزيز عليه ، وورود الأحاديث الصحيحة به ، ولا يجوز ردّ ما ثبت في 1 ـ نهج البلاغة 3 : 231/328. 2 ـ السجدة 32 : 11. 3 ـ الكافي 2 : 74/2 ، وفيه : حتى تستكمل رزقها. (386)
الكتاب والسنّة ، وليس فيه منافاة للعقول المستصبحة بنور هدى آل محمّد صلوات الله عليه وعليهم ، وعلومهم التي خصّهم بها ربّهم ، وأمر من سواهم بسؤالهم كما قال تعالى ( فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (1) فهم أهل الذكر ، والذكر هنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) بنصّ الصادق ( عليه السلام ) (2) ، وهو التصديق بقضاء الله وقدره والرضا بهما ، ففي الحديث القدسي المرويّ : « من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليتخذ ربّاً (3) سواي » (4) وهو من أسرار الله سبحانه التي لم يطّلع عليها سواه ، أو من أراد من حججه من أراد.
[ 442/4 ] وبالإسناد المتقدّم المتصل إلى الصدوق محمّد بن علي بن بابويه ( رحمه الله ) عن مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال في القدر : « ألا إنّ القدر سرّ من سرّ الله ، وستر من ستر الله ، وحرز من حرز الله ، مرفوع في حجاب الله ، مطويّ عن خلق الله ، مختوم بخاتم الله ، سابق في علم الله ، وضع الله العباد عن علمه ، ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم ؛ لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربانيّة ، ولا بقدرة الصمدانيّة ، ولا بعظمة النورانيّة ، ولا بعزّة الوحدانية ، لأنّه بحر زاخر خالص لله عزّ وجلّ ، عمقه ما بين السماء والأرض ، عرضه ما بين المشرق والمغرب ، أسود كالليل الدامس ، كثير الحيّات والحيتان ، يعلو مرّة ، ويسفل اُخرى ، في قعره شمس تضيء ، ولا ينبغي أن يطّلع إليها إلاّ الواحد الفرد ، فمن تطلّع إليها فقد ضادّ الله في حكمه ، ونازعه في 1 ـ النحل 16 : 43. 2 ـ الكافي 1 : 210/1 و2 و4 ، وانظر نظيره في تفسير البرهان 3 : 423 ـ 428. 3 ـ في نسخة « ض وق » : إلهاً. 4 ـ دعوات الراوندي : 169/471 ، روضة الواعظين : 30. (387)
سلطانه ، وكشف عن سره وستره ، وباءَ بغضب من الله ، ومأواه جهنّم وبئس المصير » (1).
ولقوله ( عليه السلام ) (2) : « فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ». تأويل آخر : وهو صعوبة الإنتقال من إحدى الحالتين إلى الاُخرى لا التعذّر الكلّي ، والإمتناع من الوقوع كما جاء في وصيّة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « يا علي ثلاث لا يطيقها أحد من هذه الاُمّة : المواساة للأخ في ماله ، وإنصاف الناس من نفسه ، وذكر الله على كلّ حال » (3) يريد ( صلى الله عليه وآله ) بعدم الطاقة : الصعوبة والمشقّة ، لامتناع الوقوع لتكليفهم بها ، بنصوص أهل البيت صلوات الله عليهم. وأيضاً ما روي عن مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد » (4) وما عنى ( عليه السلام ) بعدم القدرة سلبها بالكلّية ، إنّما أراد الصعوبة والمشقّة والتعسّر. ونقول : إنّ أحاديث الرسول وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم تحذو حذو القرآن العزيز ، ففيها المحكم والمتشابه ، والخاصّ والعام ، والناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمفصّل ، إلى غير ذلك ، ولا يحلّ لمؤمن أن يردّ الحديث إن صحّ طريقه أو لم يصحّ بما 1 ـ التوحيد : 383/32. 2 ـ توضيح آخر للحديث المتقدّم رقم 441. 3 ـ الخصال : 125/ قطعة من حديث 122. 4 ـ نهج البلاغة 3 : 78 ـ 79/ خطبة 45 ، وفيه طعمه بدل : طعامه. (388)
يكون فيه ، ممّا لا يستبين معناه ويتّضح كالقرآن العزيز.
وقال : قال الصادق ( عليه السلام ) : « وَقِفْ عند كلّ ما اشتبه عليك ، فإنّ الوقوف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال » (1) ومن أعظم الاهوال ردّ علم آل محمّد عليه وعليهم السلام. وفي الحديث عن الصادق ( عليه السلام ) أنّ رجلاً قال له : يابن رسول الله الرجل يعرف بالكذب يأتينا عنكم بالحديث وما نعرفه أنردّه عليه ؟ قال : « يقول لكم إنّ جعفر بن محمّد يقول : إنّ الليل ليس بليل والنهار ليس بنهار » قال ما يبلغ إلى هذا ، فقال ( عليه السلام ) : « إن قال لك إن جعفر بن محمّد يقول : إنّ الليل ليس بليل والنهار ليس بنهار فلا تكذّبه ، فإنّك إنّما كذّبت جعفر بن محمّد ، قال الله سبحانه وتعالى ( وما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً ) (2) » (3). وما يعلم السامع ما قصد بالحديث. وفي الحديث : « بُعثنا معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم » (4) فمن ثمّ وجب التسليم وحرم الردّ ، لتعدّد درجات العقل وكثرتها ، لكن كلّ ما خالف الكتاب العزيز والسنّة المتّفق عليها لا يجوز الأخذ به ، ولا يحلّ تكذيبه وتكذيب 1 ـ أورده الشريف الرضي في نهج البلاغة 3 : 44 ، وفيه « فإنّ الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ». والطوسي في التهذيب 7 : 474/ ذيل حديث 112 وفيه : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ». والبرقي في المحاسن 1 : 340/101 ، والعياشي في تفسيره 1 : 8/2. 2 ـ الاسراء 17 : 85. 3 ـ البحار 2 : 211/110. وتقدّم برقم 239. 4 ـ أورده البرقي في المحاسن 1 : 310/17 ، والصدوق في الأمالي 504/ ذيل حديث 6 ، والطوسي في أماليه : 481/1050 ، وفيهنّ : إنّا معاشر الأنبياء اُمرنا..... (389)
راويه (1) إلاّ أن يردّه إلى إمام معصوم ، ويصحّ النقل عنه بالردّ فيجوز حينئذ.
رجعنا إلى أصل الباب [ 443/5 ] وبالإسناد عن محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن داود العجلي ، عن زرارة ، عن حمران ، عن أبي جعفر (2) ( عليه السلام ) قال : « إنّ الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق ، خلق ماءً عذباً وماءً مالحاً اُجاجاً ، فامتزج الماءان » أخذ طيناً من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً ، فقال لأصحاب اليمين ـ وهم كالذرّ يدبّون ـ : إلى الجنّة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا اُبالي ، ثمّ قال ( ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ) (3). قال : ثمّ أخذ الميثاق على النبيّين ، فقال : ألست بربّكم وأنّ محمّداً رسولي ، وأنّ علياً هذا أمير المؤمنين ؟ قالوا : بلى ، فثبتت لهم النبوّة ، وأخذ الميثاق على اُولي العزم : أنّني ربّكم ، ومحمّد رسولي ، وعلي أمير المؤمنين ، وأوصياؤه من بعده ولاة أمري ، وخزّان علمي ، وأنّ المهدي أنتصر به لديني ، واُظهر به دولتي ، وأنتقم به من أعدائي ، واُعبد به طوعاً وكرهاً ، قالوا : أقررنا يا ربّ وشهدنا » (4). [ 444/6 ] وبالإسناد عن محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد وعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن 1 ـ في نسخة « ق » : ولا يحل تكذيب رواته ، وفي « ض » : ولا يحل تكذيب راويه. 2 ـ في نسخة « ض » : عن أبي عبدالله ( عليه السلام ). 3 ـ الأعراف 7 : 172. 4 ـ الكافي 2 : 8/1 ، وللحديث تكملة ، وأورده الصفّار في بصائر الدرجات : 70/2 ، باختلاف. (390)
حبيب السجستاني (1) ، قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : « إنّ الله جلّ وعزّ لمّا أخرج ذرّية آدم ( عليه السلام ) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبيّة له وبالنبوّة لكلّ نبي ، فكان أوّل من أخذ له عليهم الميثاق نبوّة محمّد بن عبدالله ( صلى الله عليه وآله ).
ثمّ قال الله عزّ وجلّ لآدم : اُنظر (2) ما ترى ؟ قال : فنظر آدم ( عليه السلام ) إلى ذرّيّته وهم ذرّ قد ملؤا السماء ، فقال آدم ( عليه السلام ) : يا ربّ ما أكثر ذرّيّتي ولأمر ما خلقتهم ، فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم ؟ قال الله عزّ وجلّ : يعبدونني (3) ولا يشركون بي شيئاً ، ويؤمنون برسلي ويتّبعونهم. قال آدم ( عليه السلام ) : يا ربّ فمالي أرى بعض الذرّية أعظم من بعض ، وبعضهم له نور كثير ، وبعضهم له نور قليل ، وبعضهم ليس له نور ؟ قال الله عزّ وجلّ : كذلك خلقتهم لأبلوهم في كلّ حالاتهم ، قال آدم ( عليه السلام ) : يا ربّ فتأذن لي في الكلام فأتكلّم ؟ قال الله عزّ وجلّ له : تكلّم فإنّ روحك من روحي ، وطبيعتك خلاف كينونيّتي ، قال آدم ( عليه السلام ) : يا ربّ فلو كنت خلقتهم على مثال واحد ، وقدر واحد ، وطبيعة واحدة ، وجبلّة (4) واحدة ، وألوان واحدة ، وأعمار واحدة ، وأرزاق واحدة ، سواء لم يبغ بعضهم على بعض ، ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ، ولا اختلاف في شيء من 1 ـ حبيب السجستاني : عدّه البرقي في أصحاب الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، وفي أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) قائلاً : حبيب بن المعلّى سجستاني ، وزاد الشيخ عليه الإمام السجاد علي بن الحسين ( عليه السلام ). رجال البرقي : 15 و18 ، رجال الطوسي : 88/24 و116/32 و172/120. 2 ـ في نسخة « س » زيادة : ما بين السماء والأرض. 3 ـ في نسخة « ض » : يصدّقونني. 4 ـ الجبلّة : الخلقة. الصحاح 4 : 1651 ـ جَبَل. |
|||
|