مناظرات المستبصرين ::: 31 ـ 45
(31)
للمعبود وهو الله يعني تكون الغاية من السجود والخضوع هو الله سبحانه ، أمّا السجود على الله فهو كفر محض ، فسجود الشيعة على التربة ليس شركاً !

    لماذا السجود على التربة
    فأجابني أحدهم وهو أعلمهم قائلا : أحسنت يا فضيلة الشيخ على هذا التحليل اللطيف ، ولنا أن نسألك ما سبب إصرار الشيعة على السجود على التربة ، ولم لا تسجدون على سائر الأشياء كما تسجدون على التربة ؟
    فأجبته : ذلك عملا بالحديث المتفق عليه بالإجماع جميع فرق المسلمين وهو قوله ( صلى الله عليه وآله ) : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (1) ، فالتراب الخالص هو الذي يجوز السجود عليه باتفاق جميع طوائف المسلمين ، ولذلك نسجد دائماً على التراب الذي اتفق المسلمون جميعاً على صحة السجود عليه.
    فسألني : وكيف اتفق المسلمون عليه ؟
    فأجبته : أول ما جاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة وأمر ببناء مسجد فيها ، هل كان المسجد مفروشاً بفرش ؟
    فأجابني : كلاّ لم يكن مفروشاً.
    قلت : فعلى أي شيء كان يسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمون ؟
    أجابني : على أرض المسجد المفروشة بالتراب.
    قلت : ومن بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وأمير المؤمنين
1 ـ راجع : مسند أحمد بن حنبل : 1/301 ، صحيح البخاري : 1/86 سنن الترمذي : 1/199 ح 316 ، السنن الكبرى للبيهقي : 2/433 ، وسائل الشيعة : 3/350 ح 3839 و 3840 وص 351 ح 3841 وج 5 ص 117 ح 6083 و 6068.

(32)
علي ( عليه السلام ) هل كان المسجد مفروشاً بفرش ؟
    فأجابني أيضاً : كلاّ.
    قلت : فعلى أي شيء كان المسلمون يسجدون في صلواتهم في المسجد ؟
    أجابني : على أرض مفروشة بالتراب.
    فقلت : إذن جميع صلوات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانت على الأرض وكان يسجد على التراب ، وكذلك المسلمون في زمانه وبعده كانوا يسجدون على التراب ، فالسجود على التراب صحيح قطعاً ، ومعاشر الشيعة إذ تسجد على التراب تأسياً برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتكون صلواتهم صحيحة قطعاً.
    فأورد عليَّ : بأن الشيعة لم لا تسجد على غير التربة التي يحملونها معهم من سائر مواضع الأرض أو غيرها من التراب ؟
    فأجبته : أولا : أن الشيعة تجوّز السجود على كل أرض سواء في ذلك المتحجر منها أو التراب.
    ثانياً : حيث إنه يشترط في محل السجود الطهارة من النجاسة ، فلا يجوز السجود على أرض نجسة ، أو تراب غير طاهر ، لذلك يحملون معهم قطعة من الطين الجاف الطاهر تفصياً عن السجود على ما لا يعلم طهارته من نجاسته ، مع العلم أنهم يجوّزون السجود على تراب أو أرض لا يعلم بنجاسته.
    فأورد عليَّ : إن كانت الشيعة يريدون بذلك السجود على التراب الطاهر الخالص فلم لا يحملون معهم تراباً يسجدون عليه ؟
    فأجبته : حيث إن حمل التراب يوجب وسخ الثياب لأنه أينما وضع من الثوب فلا بد أن يوسخه ، لذلك نمزجه بشيء من الماء ثم ندعه ليجف حتى لا يوجب حمله وسخ الثوب.


(33)
    السجود على التراب أكثر دلالة على الخشوع
    ثم أن السجود على قطعة من الطين الجاف أكثر دلالة على الخضوع (1) والتواضع لله ، فإن السجود هو غاية الخضوع ، ولذا لا يجوز السجود لغير الله سبحانه ، فإذا كان الهدف من السجود هو الخضوع لله ، فكلما كان مظهر السجود أكثر في الخضوع لا شك أنه يكون أحسن ، ومن أجل ذلك استحب أن يكون موضع السجود أخفض من موضع اليدين والرجلين ، لأن ذلك أكثر دلالة على الخضوع لله تعالى.
    وكذلك يستحب أن يعفر الأنف بالـتراب في حال السجدة (2) لأن ذلك أشد دلالة على التواضع والخضوع لله تعالى ، ولذلك فالسجود على الأرض أو على قطعة من الطين الجاف أحسن من السجود على غير هما مما يجوز السجود عليه ، لأن في ذلك وضع أشرف مواضع الجسد ، وهو الجبهة على الأرض خضوعاً لله تعالى وتصاغراً أمام عظمته.
    أما أن يضع الإنسان في حال السجدة جبهته على سجاد ثمين ، أو على معادن كالذهب والفضة وأمثالهما أو على ثوب غالي القيمة ، فذلك مما يقلل من الخضوع والتواضع وربما أدى إلى عدم التصاغر أمام الله العظيم.
1 ـ عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ( في حديث ) قال : السجود على الأرض أفضل
لأنّه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزّ وجلّ ، وعن إسحاق بن الفضيل أنه سأل أبا عبدالله ( عليه السلام ) عن السجود على الحصير والبواري ؟ فقال : لا بأس ، وإن يسجد على الأرض أحب إليَّ ، فإنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يحبّ ذلك أن يمكن جبهته من الأرض ، فأنا أُحبُ لك ما كان رسول
الله يحبّه. وسائل الشيعة للحر العاملي : 3/608 ـ 609 ( ب 17 من أبواب ما يُسجد عليه ح 1 و 4 ).
2 ـ وسائل الشيعة : 4/954 ( ب 4 من أبواب السجود ).


(34)
    إذن فهل يمكن أن يعتبر السجود على ما يزيد من تواضع الإنسان أمام ربه شركاً وكفراً !؟ والسجود على ما يذهب بالخضوع لله تعالى تقرباً من الله ؟! إنْ ذلك إلاّ قول زور.
    ثم سألني : فما هذه الكلمات المكتوبة على التربة التي تسجد الشيعة عليها ؟ فأجبته.
    أوّلا : إنه ليس جميع أقسام التربة مكتوباً عليها شيء ، فإن هناك كثيراً من التربات ليس عليها حرف واحد.
    وثانياً : المكتوب على بعضها سبحان ربي الأعلى وبحمده ، رمزاً لذكر السجود ، وعلى بعضها إن هذه التربة متخذة من تراب أرض كربلاء المقدسة ، بالله عليك أسأل من فضيلتك هل في ذلك بأس ؟ وهل يعد ذلك شركاً ؟ أو هل ذلك يخرج التربة عن كونها تراباً جائز السجود عليه ؟! فأجابني كلا !

    السرّ في السجود على التربة الحسينيّة
    ثم سألني : ما هذه الخصوصية في تربة أرض كربلاء ، حيث إن أكثر الشيعة مقيدون بالسجود عليها مهما أمكن ؟
    قلت : السر في ذلك أنه ورد في الحديث الشريف : السجود على تربة أبي عبدالله ( عليه السلام ) يخرق الحجب السبع (1) ، يعني أن السجود عليها يوجب قبول الصلاة
1 ـ روي عن معاوية بن عمار قال : كان لأبي عبدالله ( عليه السلام ) خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبدالله ( عليه السلام ) فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه ، ثم قال ( عليه السلام ) : إن السجود على تربة أبي عبدالله ( عليه السلام ) يخرق الحُجب السبع. راجع : مصباح المتهجد : 677 ، الدعوات للراوندي : 188 ح 519 ، وسائل الشيعة للحر العاملي : 3/608 ح 3 ( ب 16 من أبواب ما يسجد عليه ) ، بحار الأنوار للمجلسي : 82/153 ح 14 و ج 98 ص 135 ح 74.

(35)
وصعودها إلى السماء ، وما ذلك إلا لإدراك أفضلية ليست في تربة غير كربلاء المقدسة
    فأورد عليَّ : هل السجود على تربة الحسين ( عليه السلام ) تجعل الصلاة مقبولة عند الله تعالى ولو كانت الصلاة باطلة ؟
    فأجبته : إن الشيعة تقول : بأن الصلاة الفاقدة لشرط من شرائط الصحة باطلة غير مقبولة ، ولكن الصلاة الجامعة لجميع شرائط الصحة قد تكون مقبولة عند الله تعالى وقد تكون غير مقبولة ، أي لا يثاب عليها ، فإذا كانت الصلاة الصحيحة على تربة الحسين ( عليه السلام ) قبلت ويثاب عليها ، فالصحة شيء والقبول شيء آخر.

    أرض كربلاء أشرف البقاع
    فسألني : وهل أرض كربلاء المقدسة أشرف من جميع بقاع الأرض (1) حتى أرض مكة المعظمة والمدينة ، حتى يكون السجود عليها أفضل ؟ (2)
1 ـ راجع : بحار الأنوار للمجلسي : 98/106 ب 15.
2 ـ ونحن أيضاً إذا رجعنا إلى كتب السيرة والتأريخ وجدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ الذي لنا به أسوة حسنة ـ كان يقدس هذه التربة الشريفة حتى احتفظ بها وكان يشمها كما يشم الطيب ، وقد سلمها إلى اُمّ سلمة ، وإليك بعض الأخبار في ذلك :
1 ـ عن اُمّ سلمة قالت : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يمسح رأس الحسين ( عليه السلام ) ويبكي ؟ فقلت : ما بكاؤك ؟ فقال : إن جبرئيل أخبرني أن ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء قالت : ثمّ ناولني كفاً من تراب أحمر وقال : إن هذا من تربة الأرض التي يقتل بها فمتى صار دماً فاعلمي أنه قتل ، قالت أم سلمة فوضعت التراب في قارورة عندي وكنت أقول إن يوماً يتحول فيها دماً ليوم عظيم. راجع : ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 147.
2 ـ وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : دخلت على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعيناه تفيضان قلت : يا نبي الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال : قام من عندي جبرئيل ( عليه السلام ) قبل وحدثني أن الحسين ( عليه السلام ) يُقتل بشط الفرات ، قال : فقال : هل لك إلى أن أشمك من تربته قلت : نعم فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا.
راجع : مسند أحمد بن حنبل : 1/85 ، مسند أبي يعلى : 1/298 ح 363 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/187 ـ 188 ، تهذيب الكمال ، المزي : 6/407 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد الله الطبري : 148.
3 ـ وروي لما أتى جبرئيل بالتربة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من موضع يهراق فيه دم أحد ولديه ولم يخبر باسمه شمها وقال : هذه رائحة ابني الحسين ( عليه السلام ) وبكى ! فقال : جبرئيل صدقت. وغيرها من الأحاديث ، وإن شئت المزيد في ذلك فراجع : ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري : 146 ـ 148 ، مقتل الحسين ( عليه السلام ) للخوارزمي : 1/158 ـ 162 و 170 ( الفصل الثامن ) ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 3/11 ـ 12 ح 12.


(36)
    فقلت : وما المانع من ذلك ؟

    إن الله عوض الحسين ( عليه السلام ) باستشهاده بثلاث
    قال : إن تربة مكة التي لم تزل منذ نزول آدم ( عليه السلام ) إلى أرض مكة ، وأرض المدينة المنورة التي تحتضن جسد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) تكونان في المنزلة دون منزلة كربلاء ؟! قال : هذا أمر غريب ، وهل الحسين بن علي ( عليه السلام ) أفضل من جده الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ؟
    قلت : كلا إن عظمة الحسين ( عليه السلام ) من عظمة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وشرف الحسين من شرف الرسول ، ومكانة الحسين عند الله تعالى إنما هي لأجل أنه إمام سار على دين جده الرسول ( صلى الله عليه وآله ) حتى استشهد في ذلك ، لا .. ليست منزلة الحسين إلا جزءاً من منزلة الرسول ، ولكن حيث إن الحسين ( عليه السلام ) قتل هو وأهل بيته وأنصاره


(37)
في سبيل إقامة الإسلام وإرساء قواعده ، وحفظها عن تلاعب متبعي الشهوات عوَّضه الله تعالى باستشهاده ثلاثة أمور :
    الأوّل : استجابة الدعاء تحت قبته.
    الثاني : الأئمة ( عليهم السلام ) من ذريته.
    الثالث : الشفاء في تربته (1).
    فعظم الله تعالى تربته لأنه قتل في سبيل الله أفجع قتلة ، وقُتل معه أولاده وإخوته وأصحابه وسبي حريمه ، وغير ذلك من المصائب التي نزلت به من أجل الدين ، فهل في ذلك مانع ؟ أم هل في تفضيل تربة كربلاء على سائر بقاع الأرض حتى على أرض المدينة معناه أن الحسين ( عليه السلام ) أفضل من جده الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بل الأمر بالعكس فتعظيم تربة الحسين تعظيم للحسين ، وتعظيم الحسين ( عليه السلام ) ، تعظيم لله ولجده رسول الله ( عليه السلام ).

    الإعتراف بالحقّ
    فقام أحدهم عن مجلسه وعليه آثار البشاشة والسرور ( فشكرني ) كثيراً وطلب مني بعض مؤلفات الشيعة بعد أن قال : مولاي إفاداتك هذا صحيح ، وإني كنت أتخيَّل أن الشيعة يفضلون الحسين ( عليه السلام ) حتى على جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والآن عرفت الحقيقة وأشكرك على هذه المناظرة اللطيفة والإلفاتات الطيبة التي زوَّدتنا بها ، وسوف أحمل معي أبداً قطعة من أرض كربلاء المقدسة لأسجد عليها أينما
1 ـ فقد روي عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر ، وجعفر بن محمد ( عليهما السلام ) يقولان : إن الله تعالى عوض الحسين ( عليه السلام ) من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدُّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره ... الحديث راجع : بحار الأنوار للمجلسي : 44/221 ح 1.

(38)
صليت ، كما أني سأدع السجود على غير التراب ومخصوصاً التربة الحسينية

    فلسفة إقامة المأتم والعزاء على الإمام الحسين ( عليه السلام )
    ثم قلت : وأما قولك : إجراء الشيعة التعازي على الإمام الحسين ( عليه السلام ) هو بدعة فهذا كلام باطل فاسد ! ولا أدري لماذا تنقمون على الشيعة بإقامتهم التعازي على شهيد الحق والإنسانية الإمام بن الإمام حفيد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلالة الزهراء البتول ( عليها السلام ) سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) في مصابه العظيم الذي زلزلت لها أظلة العرش مع أظلة الخلائق ، والحادثة المروعة التي لم يسبقها في العالم الإسلامي ولا في غيره سابق ولا يلحقها لاحق ، إذ أنه جَلَلٌ عمَّ خطبه العظيم جميع الأمة الإسلامية حتى الجن والطير والوحش راجع كتب المقاتل تعرف (1) ، وبعضكم يعترض على الشيعة بأن الحسين ( عليه السلام ) قتل منذ زمن بعيد يربو على 13 قرناً ، فأيُّ فائدة في البكاء عليه واللطم على الصدور والضرب بالسلاسل بحيث يسيل الدم.
    فاعلموا أن عمل الشيعة هذا هوعين الصواب أولا : لو أنهم لم يستمروا على إقامة ذكرى سيد الشهداء ( عليه السلام ) لأنكرتموه كما أنكرتم يوم الغدير ، وحديثه المشهور المعترف به المؤالف والمخالف فرواه أكثر من مائة وثمانين صحابياً ، فيهم البدري وغيره ومن التابعين أكثر فأكثر ، فالشيعة لم يأتوا بشيء إذاً.
    ثانياً : الشيعة اقتفوا أثر أئمتهم ( عليهم السلام ) في ذكرى أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) ، فلو وقفتم على كتب الشيعة لما أوردتم علينا نقداً ، وأُلفتُ نظركم إلى كتاب مقدمة
1 ـ راجع : مقتل الحسين ( عليه السلام ) للخوارزمي : 2/89 ـ 101.

(39)
المجالس الفاخرة للإمام شرف الدين ، وإقناع اللائم على إقامة المآتم للإمام السيد محسن الأمين العاملي ـ رحمهما الله ـ ففيهما من الحجج ما يقنع الجميع.
    وانظروا أيضاً إلى ص 576 من مصابيح الجنان للحجة السيد الكاشاني إذ قال فيه : ينبغي للمسلمين إذا دخل شهر المحرم أن يستشعروا الحزن والكآبة ، وأن يعقدوا المجالس والمآتم لذكرى ما جرى على سيد الشهداء وأهل بيته والصفوة من أصحابه من الظلم والعدوان ، وهو أمر مندوب إليه ومرغب فيه ، على أن في ذلك تعظيماً لشعائر الله تعالى ، وامتثالاً لأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واقتداءً بالأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، ويدل عليه ما ورد عن الرضا ( عليه السلام ) وهو الإمام الثامن من أوصياء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : كان أبي ـ وهو الكاظم ، الإمام السابع من أوصياء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ـ : إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصبيته وحزنه وبكائه ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلّى الله عليه (1) ، ويستفاد منه رجحان كل ما له دخل في الحزن والكآبة (2) من غير أن يشتمل على فعل محرم.
    ثم قال : ويستحب البكاء وإجراء التعازي على سيد الشهداء ( عليه السلام ) وإسالة الدموع عليه لا سيما في العشر الأوّل من المحرم ، فإن البكاء عليه من الأمور الحسنة المندوبة ، ومن موجبات السعادة الأبدية والزلفى إلى المهيمن سبحانه ،
1 ـ راجع : أمالي الشيخ الصدوق : 111 ح 2 ، بحار الأنوار للمجلسي : 44/284 ح 17.
2 ـ فقد روى الشيخ المفيد ( رحمه الله ) بسنده عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : كلُّ الجزع والبكاء مكروه ، سوى الجزع والبكاء على الحسين ( عليه السلام ) ، وجاء عن الرضا ( عليه السلام ) في حديث : قال ( عليه السلام ) : فعلى مثل الحسين فليبك الباكون الخ. بحار الأنوار للمجلسي : 44/280 ح 9 وص 284 ح 17.


(40)
ويكفي في رجحانه الأحاديث المعتبرة المروية عن الحجج الطاهرة وهي كثيرة جداً نحيلك على مظانها (1).
    إلى أن قال : وأما الذين يعيبون الشيعة بذلك فلا يعبأ بقولهم إذ إنهم حائدون عن جادة الإنصاف ، وقاسطون عن طريق الصواب ، مع هذه النصوص الكثيرة المتواترة الواردة عن الأئمة السلف خاصة عن أئمة العترة الطاهرة من أهل البيت ( عليهم السلام ) وهم أحد الثقلين الذين لا يضل المتمسك بهما ، على أن في ذلك من المواساة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وابنته الصديقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ).
    وقد اتفقت الطوائف الإسلامية على اختلاف مذاهبها على جواز التفجع لفقد الأحبة والعظماء ، جرت عليها سيرتهم العملية وإجماعهم وكان عليه السلف وتشهد بذلك الموسوعات الضخمة المشحونة بأقوالهم وأفعالهم سواء في ذلك الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) وغيرهم من سائر المسلمين ، فمن راجع كتبهم يجد نصوصهم في هذا المورد بكثرة مدهشة.
    فنحن إذ نجد الأدلة النقلية والعقلية متوفرة ، نُجدد ذكرى مصاب سيد
1 ـ ومن ذلك ما روي عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : من تذكر مصابنا وبكى لما ارتُكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ، ومن ذُكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
وروي عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : نفس المهموم لظلمنا تسبيح ، وهمّه لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله ، ثمّ قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب.
وروي عن محمد بن أبي عمارة الكوفي ، قال : سمعت جعفر بن محمد ( عليه السلام ) يقول : من دمعت عينه فينا دمعة لدم سفك لنا أو حقّ لنا نقصناه ، أو عرض انتهك لنا ، أو لأحد من شيعتنا ، بوأه الله تعالى بها في الجنة حُقباً. راجع : بحار الأنوار للمجلسي : 44/278 ـ 296 ب 34.


(41)
الشهداء وريحانة الرسول الإمام الحسين ( عليه السلام ) غير مكترثين بالتقولات الشاذة التي لا وزن لها ، راجين بذلك من الله الثواب ومن رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الشفاعة يوم الحساب ، إنتهى ما جاء في مصابيح الجنان للكاشاني.
    ثم أيها الإخوان إن الشيعة مقتدون بسلفهم الصالح إذ جاء في حديث معتبر مأثور أن علياً زين العابدين بن الحسين ( عليه السلام ) لما عاد من أسره هو ومن معه من أسارى أهل البيت ( عليهم السلام ) من دمشق جعلوا طريقهم على العراق ولما وصلوا كربلاء أخذ هو ومن معه في البكاء يندبون الحسين ( عليه السلام ).
    فأي بأس على الشيعة في أمثال هذه الأعمال المقدسة المحبوبة عند الله ورسوله والصفوة من آله ؟
    لكن البأس كل البأس والنقد الشديد موجه عليكم ، وهو أنكم أخذتم ببدعة يزيد بن معاوية الطليق ابن الطليق ، إذ أنه جعل في كل سنة في العشر الأول من المحرم عيداً يقيم فيه الأفراح وينصب الزينة ، وتقام المهرجانات ويسميه عيد النصر والفوز (1) ، وأشفعه ببدعة أخرى تدل على خسته ودنائته فإنه قد أتى بمومسة تشبه في صفتها جدته هند بنت عتبة فيجمع الأخساء من بني شجرته
1 ـ ويقول الشريف الرضي عليه الرحمة في ذلك :
كانت مآتم بالعراق تعدها أموية بالشام من أعيادها
مناقب آل أبي طالب : 3/268.
ويقول : أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية بعد ذكر ما جرى على الحسين ( عليه السلام ) في يوم عاشوراء ، فأما بنو أمية فقد لبسوا فيه ما تجدد ، وتزينوا واكتحلوا وعيدوا ، وأقاموا الولائم والضيافات ، وأطعموا الحلاوات والطيبات ، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم ، وبقي فيهم بعد زواله عنهم ، وأمّا الشيعة فإنّهم ينوحون ويبكون أسفاً لقتل سيد الشهداء ( عليه السلام ) فيه .. [ الكنى والألقاب ، الشيخ عباس القمي : 1/431 ].


(42)
الملعونة ، ويأتي بآلة الطرب والخمر وكل ما يلزمه من الأشياء وتعزف الموسيقى ..
    فأي الفريقين أحق بالأمن يا مسلمون ؟! فدعوا الشيعة وشأنهم ! فإنهم هم الفرقة ـ الناجية ـ التي عناها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الثلاث والسبعين فرقة (1) ، لذلك اعتنقنا هذا المذهب الشريف وتركنا المذهب السني.
    ولما وصلت إلى هنا شكرني جميع من في المجلس ، ثم قالوا : كنا لا ندري أن مذهب الشيعة هكذا ، بل كنا نسمع عنهم بأنهم ليسوا على حق ، بل هم كفرة فجرة مشركون.
    فقلت : لا ، إنما هو كما أخبرتكم ، وستعرفون مذهب الشيعة بعد وقوفكم على كتبها ، والذنب ذنبكم في تقصيركم عن الوقوف على مؤلفات الشيعة ، ولماذا ثم إني أبين أن هذه التهم الموجهة إلى الشيعة الأبرار تبعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخدنة أمير المؤمنين علي وذريته العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) ليس لها واقعٌ ، وإنما هي أكذوبات بحتة اختلقتها عليهم الآثمون من أعداء المسلمين المسمّين أنفسهم بالمسلمين ، فعليكم أن تتحروا الحقيقة دائماً ، ولا تعتنوا بكل ما تسمعون ضد الشيعة دون أن تبحثوا عن واقعه وحقيقته ، وهذا ما أرجوه منكم.
    ثم قاموا وودّعوني جميعهم ، وذهب كل منهم إلى محله بعد أن جاؤا غضاباً ، فرجعوا فرحين مسرورين ، وأخيراً بلغني من بعض من أثق به أن بعضهم اعتنق المذهب الشريف مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والحمد لله على هذه النعمة الكبرى ، وهي ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) (2).
1 ـ إشارة إلى الحديث المروي عنه ( صلى الله عليه وآله ) : ستفترق اُمّتي ... الخ.
2 ـ كتاب لماذا اخترت مذهب الشيعة ، الأنطاكي : 341 ـ 352.


(43)
مناظرة
الشيخ الأنطاكي مع عالم شافعي من الشام في أن
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أحقّ الناس بالخلافة
    يقول الشيخ الأنطاكي : بعد اشتهار أمرنا بالتشيع أتاني أحد أعاظم علماء الشافعية المشهورين بالعلم والفضيلة في مدينة حلب الشهباء ، وسألني بكل لطف لماذا أخذتم بمذهب الشيعة وتركتم مذهبكم ؟ وما هو السبب الداعي لكم واعتمادكم عليه ؟ وما هو دليلكم على أحقية علي ( عليه السلام ) من أبي بكر ؟
    فناظرته كثيرا ، وقد وقعت المناظرة فيما بيننا مرارا وأخيرا اقتنع الرجل.
    ومن جملة المناظرة أنه سألني عن بيان الأحقيّة في أمر الخلافة هل أبو بكر أحقُ أم علي ؟
    فأجبته : إن هذا شيء واضح جداً بأن الخلافة الحقّة لأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فور وفاة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم من بعده إلى الحسن المجتبى ( عليه السلام ) ثم إلى الحسين الشهيد بكربلاء ( عليه السلام ) ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) ، ثم إلى محمد بن علي الباقر ( عليهما السلام ) ، ثم إلى جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) ، ثم إلى موسى بن جعفر الكاظم ( عليهما السلام ) ثم إلى علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) ، ثم إلى محمد بن علي الجواد ( عليهما السلام ) ثم إلى علي بن محمد الهادي ( عليهما السلام ) ، ثم إلى الحسن بن علي


(44)
العسكري ( عليهما السلام ) ، ثم إلى الحجة بن الحسن المهدي الإمام الغائب المنتظر ـ عجل اللّه فرجه ـ.

    الاحتجاج بآية الولاية
    ودليل الشيعة على ذلك الكتاب الكريم ، والسنّة الثابتة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الطرفين ، وكتبهم مليئة من الحجج والبراهين الرصينة ، ويثبتون مدعاهم من كتبكم ومؤلفاتكم ، إلا أنكم أعرضتم عن الرجوع إلى مؤلفات الشيعة والوقوف على ما فيها ، وهذا نوع من التعصب الأعمى ؟
    أما الكتاب : فقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).
    وأن هذه الأية نزلت في ولاية عليّ ( عليه السلام ) بلا ريب ، بإجماع الشيعة وأكثر علماء السنة في كتب التفسير كالطبري ، والرازي ، وابن كثير ، وغيرهم ، فإنهم قالوا بنزولها في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
    ومما لا يخفى على ذي مسكة بأن اللّه جلّ وعلا هو الّذي يرسل الرسل إلى الاُمم لا يتوقف أمرهم على إرضاء الناس ، وكذلك أمر الوصاية تكون من اللّه لا بالشورى ولا بأهل الحل والعقد ولا بالانتخاب أبدا ، لأن الوصاية ركن من أركان الدين ، واللّه جلّ وعلا لا يدع ركنا من أركان الدين إلى الأمة تتجاذبه أهواؤهم كل يجر إلى قرصه ، بل لا بد من أن يكون القائم بأمر اللّه بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منصوصاً عليه من اللّه لا ينقص عن الرسل ولا يزيد ، معصوماً عن
1 ـ سورة المائدة ، الآية : 55.

(45)
الخطأ.
    فالآية نص صريح في ولاية على ( عليه السلام ) (1) ، وقد أجمعت الشيعة وأكثر المفسرين من السنّة أيضا أن الّذي أعطى الزكاة حال الركوع هو عليّ ( عليه السلام ) بلا خلاف ، فتثبت ولايته أي خلافته بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الأية.

    دعوى إنفاق أبي بكر أمواله
    فأوردَ عليَّ حجةً يدّعىْ بها تدعيم خلافة أبي بكر. فقال : إن أبا بكر أحق بالخلافة ، إذ أنه أنفق أموالاً كثيرة قدمها إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وزوجه ابنته ، وقام إماما في الجماعة أيام مرض النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فأجبته قائلاً : أما إنفاق أمواله ، دعوى تحتاج إلى دليل يثبتها ، ونحن لا نعترف بهذا الانفاق ولا نُقرُّ به ، ثم نقول : من أين اكتسب هذه الأموال الطائلة ، ومن الذي أمره به ، ولنا أن نسألك : هل الانفاق كان في مكة أم المدينة ؟ (2)
1 ـ يقول المقداد السيوري عليه الرحمة في شرح الباب الحادي عشر ، ص 96 : إن المراد بـ ( الذين آمنوا ) في الآية هو بعض المؤمنين لوجهين :
الوجه الأوّل : أنه لو لا ذلك لكان كل واحد ولياً لنفسه ـ وهو باطل ـ
الوجه الثاني : أنه وصفهم بوصف غير حاصل لكلهم ، وهو إيتاء الزكاة حال الركوع ، إذاً الجملة هنا حالية.
فعلى هذا أن المراد بذلك البعض هو علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) خاصة للنقل الصحيح ، واتفاق أكثر المفسرين على أنه كان يصلي ، فسأله سائل فأعطاه خاتماً راكعاً ، وإذا كان ( عليه السلام ) أولى بالتصرف فينا ، تعين أن يكون هو الإمام ، لأنّا لا نعني بالإمام إلاّ ذلك.
2 ـ قال أبو القاسم الكوفي عليه الرحمة في كتاب الاستغاثة : 2/29 : معلقاً على الحديث الذي روته العامة : ما نفعني مال كمال أبي بكر ... فما يكون عند ذوي الفهم من الكذب شيء أوضح منه لأن من أنفق هذا المال العظيم على رجل محال أن لا يعرف موطنه وموضعه ، وحيث أنفقه ، ولسنا نعرف لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) موطناً غير مكة والمدينة ، فإن زعموا أن أبا بكر أنفق هذا المال بمكة قبل الهجرة قيل لهم : على ما أنفق هذا المال ، وفيمَ صرفه ، أكان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الحشم بمكة والعيال ما أنفق عليهم هذا المال كله من مدة ما أسلم أبو بكر إلى وقت هجرته فهذا بيِّن المحال ... وكانت خديجة ( عليها السلام ) باقية عنده إلى سنة الهجرة لا يحتاج مع مالها إلى مال غيرها ... فإن أهل الأثر مجمعون على أن خديجة أيسر قريش ، وأكثرهم مالا وتجارة ...
فإنّ قالوا : إنه أنفقه عليه بالمدينة بعد الهجرة فقد علم أهل الآثار أن أبا بكر ورد المدينة وهو محتاج إلى مواساة الأنصار في الدور والمال ، وفتح الله بعد الهجرة على رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من غنائم الكفار وبلدانهم ما كان بذلك أغنى .. وقد رووا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .. كان في أوقات كثيرة يشد الحجر من المجاعة على بطنه ، ويطوي الأيّام الثلاثة والسبعة لم يطعم فيهن طعاماً إلى أن فتح الله عليه البلدان .. فيا سبحان الله ما أعظم تخرصهم على الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
مناظرات المستبصرين ::: فهرس