مناظرات المستبصرين ::: 61 ـ 75
(61)
« العلامة الحلي ( رضي الله عنه ) » (1) ، فأخذ الكتاب يتصفحه في مجلسه فأكبره وأعجبه هذا السفر العظيم.
    ثم قال لي : هل تعلم أن فضيلتك أدخلت عليَّ الريب في المذاهب الأربعة ؟ وملت إلى مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) لكن أريد منك تزويدي ببعض كتب الشيعة.
    فقدمت جملة منها له ، ومنها كتب الإمام شرف الدين ، ودلائل الصدق ، والغدير وأمثالها ، وأرشدته إلى سائر كتب الشيعة.
    ثم ودعني وقام شاكرا حامدا قاصدا إلى محله وهو متزلزل العقيدة وذهب ، ثم بعد أيام أتتني رسالة شكر منه من الأزهر الشريف ، وأخبرني فيها بأنه قد اعتنق مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) وصار شيعيا ، ووعدني أن يكتب رسالة في أحقية مذهب الشيعة (2).
1 ـ هو الحسن بن يوسف المطهر الحلي عليه الرحمة ، المتوفى سنة 637 هـ.
2 ـ كتاب لماذا اخترت مذهب الشيعة ، الأنطاكي : 332.


(62)
مناظرة
الدكتور التيجاني (1) مع أحد علماء الزيتونة (2)
في حديث الغدير ودلالاته
    يقول الدكتور التيجاني : والعجيب الغريب أنّ أغلب المسلمين عندما تذكرله حديث الغدير ، لا يعرفه أو قل : لمْ يسمع به ، والأعجب من هذا كيف يدّعي علماء أهل السنّة بعد هذا الحديث المجمع على صحّته ، بأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستخلف وترك الأمر شورى بين المسلمين ، فهل هناك للخلافة
1 ـ هو الدكتور محمّد التيجاني السماوي التونسي ، حفظ القرآن في سن مبكر ، نشأ وترعرع على طريقة الصوفية التيجانية ، ثم اعتنق المذهب الشيعي بعد بحث طويل ، وقد جرت بينه وبين بعض العلماء مناظرات ومحاورات حين زيارته للنجف الأشرف ، وقد شرح كيفية استبصاره في كتابه القيم ( ثم اهتديت ) ، وله عدة مؤلفات قيمة ، حصل على شهادة الدكتورا ، في الفلسفة من جامعة السوربون ـ باريس.
والدكتور التيجاني يُعد أحد أكبر المتشيعين والمستبصرين الذين لهم الأثر الكبير في نصرة المذهب ، وذلك من خلال مؤلفاته ومحاوراته ومناظراته حتى أصبح معروفاً في العالم الإسلامي ، إذ ما زال ينشر التشيع كل ما سنحت له الفرصة ، وهو جريء بمحاوراته مع علماء المذاهب الإسلامية ، وقد تشيع على يديه الآلاف من الناس ، فجزاه الله خير الجزاء ، وثبته على طريق الحق ، وسدده إنه سميع الدعاء.
2 ـ الزيتونة : جامع في تونس بنته عطف أرملة المستنصر الحفصي ـ 1283 ـ خارج باب البحر ( المنجد قسم الأعلام : ص 341 ).


(63)
حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد اللّه ؟؟
    وإني لأذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونة في بلادنا عندما ذكرتُ له حديث الغدير محتجّا به على خلافة الإمام عليّ ( عليه السلام ) فاعترف بصحّته ، بل وزاد في الحبل وصلة فأطلعني على تفسيره للقرآن الذي ألّفه بنفسه ، والذي يذكر فيه حديث الغدير ويصححه ، ويقول بعد ذلك :
    « وتزعم الشيعة بأن هذا الحديث هو نصّ على خلافة سيدنا علي ـ كرّم اللّه وجهه ـ ، وهو باطل عند أهل السنّة والجماعة لإنه يتنافى مع خلافة سيّدنا أبي بكر الصدّيق ، وسيّدنا عمر الفاروق ، وسيّدنا عثمان ذي النورين ، فلا بدّ من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى المحب والناصر ، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم ، وهذا ما فهمه الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام ، وهذا ما أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين ، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا الحديث لأنهم لا يعترفون بخلافة الخلفاء ! ويطعنون في صحابة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ! « وهذا وحده كاف لردّ أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم » انتهى كلامه في الكتاب.
    سألته : هل الحادثة وقعتْ بالفعل في غدير خم ؟
    أجاب : لو لم تكن وقعتْ ما كان ليرويها العلماء والمحدّثون !
    قلتُ : فهل يليق برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يجمع أصحابه في حرّ الشمس المُحرِقة ، ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم : بأنّ علي محبّكم وناصركم ؟ فهل ترضون بهذا التأويل ؟
    أجاب : إن بعض الصحابة اشتكى عليِّا ( عليه السلام ) وكان فيهم من يحقد عليه ويبغضه ، فأراد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يزيل حقدهم ، فقال لهم : بأنّ عليا محبّكم وناصركم ، لكي يحبّوه ولا يبغضوه.


(64)
    قلتُ : هذا لا يتطلّب إيقافهم جميعا والصلاة بهم وبدأ الخطبة بقوله : ألستُ أولى بكم من أنفسكم ، لتوضيح معنى المولى ، وإذا كان الأمر كما تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن اشتكى منهم عليَّا : « إنّه محبّكم وناصركم » ، وينتهي الأمر بدون أن يحبس في الشمس ، تلك الحشود الهائلة ، وهي أكثر من مائة ألف فيهم الشيوخ والنساء ، فالعاقل لا يقنع بذلك أبدا !
    فقال : وهل العاقل يصدّق بأنّ مائة ألف صحابي لم يفهموا ما فهمتَ أنتَ والشيعة ؟؟
    قلتُ : أولاً لم يكن يسكن المدينة المنوّرة إلاّ قليلٌ منهم.
    وثانيا : إنهم فهموا بالضبط ما فهمتُه أنا والشيعة ، ولذلك روى العلماء بأن أبا بكر وعمر كانا من المهنّئين لعلي بقولهم : بخ بخ لك يابن أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن (1).
    قال : فلماذا لم يبايعوه إذاً بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ أتراهم عصوا وخالفوا أمر النبيّ ؟ أستغفر اللّه من هذا القول !
    قلتُ : إذا كان العلماء من أهل السنّة يشهدون في كتبهم بأنّ بعضهم ـ أعني من الصحابة ـ كانوا يخالفون أوامر النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ في حياته وبحضرته (2) ، فلا
1 ـ راجع : مسند أحمد بن حنبل : 4/281 ، المصنف ، ابن أبي شيبة : 7/503 ح 55 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/221 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5/229 ، ذخائر العقبى ، الطبري : 67.
2 ـ فقد اخرج البخاري في صحيحه ، ومسلم أيضاً عدة مخالفات لهم ، كما في صلح الحديبية ، وكما في مرض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي رزية يوم الخميس كما يسميها ابن عبّاس وغير ذلك من المخالفات وخير من كتب في هذا الموضوع هو الحجّة السيد شرف الدين العاملي ( قدس سره ) فراجع كتابه القيم ( النص والاجتهاد ) فإنه استقصى الكثير من المواضع التي خولف فيها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).


(65)
غرابة في ترك أوامره بعد وفاته ، وإذا كان أغلبهم يطعنُ في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنّه ، رغم أنها سريّة محدودة ولمدّة قصيرة فكيف يقبلون تأمير عليّ ( عليه السلام ) على صغر سنّه ولمدّة الحياة ، وللخلافة المطلقة ؟ ولقد شهِدتَ أنتَ بنفسك بأن بعضهم كان يبغض عليَّا ( عليه السلام ) ويحقد عليه !!
    أجابني متحرّجا : لو كان الإمام على ـ كرّم اللّه وجهه ورضي اللّه عنه ـ يعلَمُ أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استخلفه ، ما كان ليسكتَ عن حقّه ! وهو الشجاع الذي لا يخشى أحدا ويهابه كل الصحابة.
    قلتُ : سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه ، لأنك لم تقتنع بالأحاديث النبوية الصحيحة ، وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظا على كرامة السلف الصالح ، فكيف أُقنعك بسكوت الإمام على ( عليه السلام ) أو باحتجاجه عليهم بحقّه في الخلافة ؟
    ابتسم الرّجل قائلاً : أنا واللّه من الذين يفضّلون سيدنا عليّا ـ كرّم اللّه وجهه ـ على غيره ، ولو كان الأمر بيدي لما قدّمتُ عليه أحدا من الصحابة ، لأنه باب مدينة العلم ، وهو أسد اللّه الغالب ، ولكن مشيئة اللّه سبحانه ، هو الذي يقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء ، ( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (1).
    ابتسمتُ بدوري له ، وقلتُ : وهذا أيضا موضوع آخر يجرّنا للحديث عن القضاء والقدر ، وقد سبق لنا أن تحدّثنا فيه وبقي كلٌ منّا على رأيه ، وإنّي لأعجب يا سيدي لماذا كلّما تحدثتُ مع عالم من علماء أهل السنّة وأفحمته بالحجّة سرعان ما يتهرّب من الموضوع إلى موضوع آخر لا علاقة له بالبحث الذي نحن
1 ـ سورة الأنبياء ، الآية : 23.

(66)
بصدده.
    قال : وأنا باق على رأيي لا أغيّره.
    ودّعته وانصرفتُ. بقيتُ أفكّر مليَّا لماذا لا أجدُ واحدا من علمائنا يكمل معي هذا المشوار ويوقف الباب على رجله ، كما يقول المثل الشائع عندنا.
    فالبعض يبدأ الحديث ، وعندما يجد نفسه عاجزا عن إقامة الدّليل على أقواله يتملّص بقوله : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ) (1) والبعض يقول : ما لنا ولإثارة الفتن والأحقاد ، فالمهم أنّ السنّة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي ، والبعض يقول بإيجاز : يا أخي اتّق اللّه في الصحابة ، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث العلمي وإنارة السبيل ، والرجوع للحق الذي ليس بعده إلاّ الضّلال ؟ وأين هؤلاء من أسلوب القرآن الذي يدعو الناس لإقامة الدّليل : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2) مع العلم بأنهم لو يتوقّفون عن طعنهم وتهجمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتّى بالتي هي أحسن (3).
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 134.
2 ـ سورة البقرة ، الآية : 111.
3 ـ مع الصادقين ، الدكتور التيجاني : 58.


(67)
مناظرة
الدكتور التيجاني مع أحد العلماء
في الاجتهاد والبحث لمعرفة الحق
    يقول الدكتور التيجاني : قلت لأحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الأبرياء ، وهتك الأعراض ، وتحكمون بأنّه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد. وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأباح المدينة (1) لجيشه وتحكمون بأنّه اجتهد وأخطأ وله
1 ـ راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/259 ، الأخبار الطوال ، الدينوري : 265 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 11/316 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/241 و243 و255.
قال ابن جر في الإصابة : 6/232 : قد افحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة وأسرف في قتل الكبير والصغير حتّى سموه مسرفاً ، وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك ، والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون...الخ.
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق : 58/108 عن مغيرة ، قال : أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام ، فزعم المغيرة أنه اُفتض منها ألف عذراء.
وقال السيوطي في تأريخ الخلفاء : 195 : وفيه : قتل فيها خلق من الصحابه ومن غيرهم ، وافتض فيها ألف عذراء ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من أخاف أهل المدينة أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وقال ابن حبان في كتاب الثقات : 2/313 ـ 314 : وقد بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزني إلى المدينة .. فقتل بالمدينة خلفاً من أولاد المهاجرين والأنصار ، واستباح المدينة ثلاثة أيام نهباً وقتلا ، فسميت هذه الوقعة وقعة الحرة.


(68)
أجر واحد ، حتى قال بعضكم : « قُتل الحسين بسيف جدّه » (1) لتبرير فعل يزيد. فلماذا لا أجتهد أنا في البحث ؟ وهو ما يجرّني للشك في الصحابة وتعرية البعض منهم ، وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) ، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر واحد ، على أنّ انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السبّ والشتم واللّعن ، وإنّما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضّالة ، وهذا واجبي وواجب كل مسلم ، واللّه سبحانه يعلم السرائر وما تخفي الصدور.
    أجابني العالم قائلاً : يا بني لقد أُغلق باب الاجتهاد من زمان.
    فقلت : ومن أغلقه ؟
    قال : الأئمة الأربعة.
    فقلت متحرّرا : الحمد للّه إذ لم يكن اللّه هو الذي أغلقه ولا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا الخلفاء الراشدون الذين « أمرنا بالاقتداء بهم » فليس على حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا.
    فقال : لا يمكنك الإجتهاد إلاّ إذا عرفت سبعة عشر علماً ، منها علم التفسير واللّغة والنحو والصرف والبلاغة والأحاديث والتاريخ وغير ذلك.
    وقاطعته قائلاً : أنا لن أجتهد لأبيّن للناس أحكام القرآن والسنّة ، أو لأكون صاحب مذهب في الإسلام ، كلا ، ولكن لأعرف مَنْ على الحق ومَنْ على الباطل ، ولمعرفة إن كان الإمام على ( عليه السلام ) على الحق ، أو معاوية مثلاً ، ولا يتطلّب
1 ـ راجع : فيض القدير ، المناوي : 1/265 و5/313 ، العواصم من القواصم ، ابن العربي : 232.

(69)
ذلك الإحاطة بسبعة عشر علما ؟! ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتى أتبيّن الحقيقة.
    قال : وما يهمّك أن تعرف ذلك : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).
    قلت : أتقرأ « ولا تسألون » بفتح التّاء أم بضمّها ؟
    قال : تُسألون ، بالضمّ.
    قلت : الحمد للّه ، لو كانت بالفتح لامتنع البحث ، وما دامت بالضم فمعناها أنّ اللّه سبحانه سوف لن يحاسبنا عمّا فعلوا ، وذلك كقوله تعالى : ( كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (2) ، و ( وَأَن لَّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ) (3).
    وقد حثّنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الأمم السابقة ولنستخلص منها العبرة ، وقد حكى اللّه لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الأنبياء السابقين وشعوبهم ، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل.
    أمّا قولك : « وما يهمني من هذا البحث » ؟
    فأجيب عليه بقولي : يهمني :
    أولاً : لكي أعرف ولىَّ اللّه فأواليه ، وأعرف عدوَّ اللّه فأعاديه ، وهذا ما طلبه مني القرآن ، بل أوجبه علىَّ.
    ثانيا : يهمّني أن أعرف كيف أعبد اللّه وأتقرّب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جلّ وعلا ، لا كما يريدها مالك أو أبو حنيفة أو غيرهم من
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 134.
2 ـ سورة المدثر ، الآية : 38.
3 ـ سورة النجم ، الآية : 39.


(70)
المجتهدين لأنّي وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصّلاة (1) بينما يقول أبو حنيفة بوجوبها (2) ، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها !
    وبما أنّ الصلاة هي عمود الدّين إنْ قُبِلت قُبل ما سواها وإن رُدّت ردّ ما سواها ، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة ، كما أنّ الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنّة بغسلهما ! بينما نقرأ في القرآن ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (3) وهي صريحة في المسح ، فيكف تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويردّ قول ذاك بدون بحث ودليل ؟

    الإختلاف بين المذاهب الأربعة
    قال : بإمكانك أن تأخذ من كلّ مذهب ما يعجبك لأنها مذاهب إسلامية ، وكلّهم من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ملتمس.
    قلت : أخاف أن أكون ممن قال اللّه فيهم : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (4). يا سيدي أنا لا أعتقد بأنّ المذاهب كلّها على حق ما دام الواحد منهم يبيح الشيء ويحرّمه الآخر ، فلا يمكن أن يكون الشيء ، حراما وحلالاً في آن واحد ، والرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يتناقض في أحكامه لأنّه « وحي من القرآن » ، ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (5). وبما أنّ
1 ـ الفقه على المذاهب الأربعة ، الجزيري : 1/257.
2 ـ نفس المصدر السابق : 1/257.
3 ـ سورة المائدة ، الآية : 6.
4 ـ سورة الجاثية ، الآية : 23.
5 ـ سورة النساء ، الآية : 82.


(71)
المذاهب الأربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند اللّه ، ولا من عند رسوله ، لأنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يناقض القرآن.

    الصحابة في ميزان البحث والتحقيق
    ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيّا وحجتي مقبولة قال : أنصحك لوجه اللّه تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين ، فهم أعمدة الإسلام الأربعة إذا هدّمت عمودا منها سقط البناء !!
    قلت : أستغفر اللّه يا سيدي فأين رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الإسلام ؟
    أجاب : رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو ذاك البناء ! هو الإسلام كلّه.
    ابتسمت من هذا التحليل وقلت : أستغفر اللّه مرة أخرى يا سيدي الشيخ ! فأنت تقول من حيث لا تشعر : بأنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن ليستقيم إلاّ بهؤلاء الأربعة بينما يقول اللّه تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (1). فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الأربعة ولا من غيرهم ، وقد قال اللّه تعالى في هذا الصّدد : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ) (2).
    قال : هذا ما تعلّمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا
1 ـ سورة الفتح ، الآية : 28.
2 ـ سورة البقرة ، الآية : 151.


(72)
نناقش ، ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد ! أصبحتم تشكّون في كل شيء ، وتشكّكون في الدين ! وهذه من علامات الساعة ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لن تقوم الساعة إلاّ على شرار الخلق (1).
    فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل ، أعوذ باللّه أن أشكّ في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت باللّه وحده لا شريك له ، وملائكته وكتبه ورسله ، وآمنت بأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو أفضل الأنبياء والمرسلين ، وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتّهمني بهذا ؟
    قال : أتهمك بأكثر من هذا ! لأنّك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لو وزن إيمان أمّتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر (2).
    وقال في حقّ سيدنا عمر : عرضت على أمتي وهي ترتدي قمصاً لم تبلغ الثدي ، وعرض على عمر وهو يجرّ قميصه ، قالوا : ما أوّلته يا رسول اللّه ؟ قال : الدين (3).
    وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر ! ألم تعلم بأنّ أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق !!
    ماذا أقول لهذا العالم المدّعي العلم الذي أخذته العزّة بالإثم ، فتحوّل من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء ، وبثّ الإشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به ، والذين احمرّت أعينهم وانتفخت أوداجهم ، ولاحظت
1 ـ صحيح مسلم : 6/54 ، المستدرك ، الحاكم : 4/456.
2 ـ تذكرة الموضوعات ، الفتني : 93 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2/165 ، ح 2130.
3 ـ مسند أحمد بن حنبل : 3/86 ، صحيح البخاري : 1/11 ، تهذيب الكمال ، المزي : 21/325.


(73)
في وجوههم الشر.
    فما كان منّي إلاّ أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للإمام مالك وصحيح البخاري ، وقلت : يا سيدي إنّ الذي بعثني على هذا الشك هو رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه ، وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول اللّه إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : بلى ولكن لا أدري ما تُحدثون بعدي ! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال : إنّنا لكائنون بعدك (1).
    ثم فتحت صحيح البخاري وفيه : دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال ـ حين رآها ـ : من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه ، قالت أسماء : نعم ، قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منكم ، فغضبت وقالت : كلا واللّه ، كنتم مع رسول اللّه يطعم جائعكم ، ويعظ جاهلكم ، وكنّا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ، وذلك في اللّه وفي رسوله ، وأيم اللّه لا أطعم طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونحن كنّا نؤذى ونخاف ، وسأذكر ذلك للنبي أسأله واللّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه !
    فلمّا جاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالت : يا نبي اللّه ، عمر قال : كذا وكذا.
    قال : فما قلت له. قالت : كذا وكذا.
    قال : ليس بأحقّ بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل
1 ـ كتاب الموطأ ، مالك : 2/461 ـ 462 ح 32 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15/38.

(74)
السفينة هجرتان ، قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم ممّا قال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1).
    وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيّرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ، ينتظرون ردّ العالم الذي صُدم ، فما كان منه إلاّ أن رفع حاجبيه علامة التعجّب وقال : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ) (2).
    فقلت : إذا كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو أوّل من شكّ في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنّه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقرّ بتفضيل عمر بن الخطّاب على أسماء بنت عميس بل فضّلها عليه ، فمن حقّي أن أشك وأن لا أفضّل أحدا حتى أتبيّن وأعرف الحقيقة ، ومن المعلوم أنّ هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها ، لأنّهما أقرب من أحاديث الفضائل المزعومة.
    قال الحاضرون : وكيف ذلك ؟
    قلت : إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يشهد على أبي بكر ، وقال له إنّني لا أدري ماذا تحدثون بعدي ! فهذا معقول جداً ، وقد قرّر ذلك القرآن الكريم ، والتاريخ يشهد أنّهم بدّلوا بعده ، ولذلك بكى أبو بكر ، وقد بدّل وأغضب فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بنت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد بدّل حتى ندم قبل وفاته (3) وتمنى أن لا يكون بشرا.
1 ـ صحيح البخاري : 5/80 ، صحيح مسلم : 8/172 ـ 173 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/104.
2 ـ سورة طه ، الآية : 114.
3 ـ روى اليعقوبي وغيره أن أبا بكر قال عند موته : وليتني لم افتش بيت فاطمة ( عليها السلام ) بنت رسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأدخله الرجال ، ولو كان أغلق عليَّ الحرب ..
راجع : تاريخ اليعقوبي : 2/137 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/62 ح 43 ، تاريخ الطبري : 2/619 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/418 ، مروج الذهب ، المسعودي : 2/301 ـ 302 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 36 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/47 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5/203.


(75)
    أمّا الحديث الذي يقول : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر ، فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل قضى أربعين سنة من عمره يشرك باللّه ، ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمّة محمّد بأسرها ، وفيها أولياء اللّه الصالحين والشهداء ، والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلّها جهادا في سبيل اللّه ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث ؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا.
    ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء فاطمة بنت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، تغضب عليه وتدعو اللّه عليه في كل صلاه تصلّيها (1).
    ولم يرد العالم بشي ، ولكنّ بعض الجالسين قالوا : لقد بعث واللّه هذا الحديث الشك فينا ؟!
    عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده ؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم !!
    وكفاني أحدهم الردّ عليه ، إذ قال : كلا ، إنّ الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملاً ، واتّبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبيّن لنا الآن أنّ ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث !! ووافقه على
1 ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/31 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 104 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/214 ، أعلام النساء ، كحالة : 4/123 ـ 124.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس