مناظرات المستبصرين ::: 136 ـ 150
(136)
بأن ما تقوله لا يصحُّ ؟
    قال : هات نسمع منك.

    رضاعة الكبير في الموطأ والبخاري
    قلت : هل تعرف رضاعة الكبير ؟
    قال : وما هي رضاعة الكبير ؟
    قلت : باختصار أنّه يمكن لزوجتك أن ترضعني أنا فأصبح بعد تلك الرضاعة ربيبك ، ويمكن لي أن أستحلَّ منها ما يستحلُّ الولد من والدته.
    فضحك عند سماعه هذه الأطروحة ، وقال مستغرباً : كيف ؟ أنت ترضع من زوجتي أنا ؟ لا يحقُّ لك ذلك.
    قلت : هذا من نصف دينك الذي تقول به أمُّ المؤمنين عائشة.
    قال : لا ، لا ، ما سمعت بهذا أبداً ، لعلّك تمزح.
    قلت : أنا لا أمزح في مثل هذه الأبحاث العلميّة ، وكيف أمزح باتهام أم المؤمنين عائشة ؟ ولكن أنا قدمت من باريس ، وليس معي إلاَّ كتاب : ثم اهتديت ، وأنت ـ ما شاء الله ـ عندك هنا مكتبة ضخمة ، وبالتأكيد إن فيها صحيح مسلم ، وموطأ الإمام مالك.
    قال : نعم ، عندي هذه الكتب ، وهل فيها هذا الحديث ؟
    قلت : نعم ، سأترك لك المجال لتقرأ بنفسك على راحة البال ، وتعطيني بعد ذلك رأيك.
    قال : دلَّني على الحديث في أيِّ موضع من الكتاب ؟


(137)
    قلت : اقرأ باب رضاعة الكبير في الكتابين (1) ، وغداً أعطني النتيجة ، وقمت أعتدر للخروج فقد مضى نصف الليل أو أكثر.
    قال : وفي صباح اليوم التالي جاء الجامعة كالعادة لفطور الصباح ، وتأخَّر الشيخ علي أكثر من ساعة ، وكدنا نكمل الإفطار وإذا به يدخل علينا ، ويبدِّد
1 ـ جاء في كتاب الموطأ لمالك : 2/605 ح 12 عن ابن شهاب ، أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ... كان تبنَّى سالماً الذي يقال له : سالم مولى أبي حذيفة ، كما تبنَّى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زيد بن حارثة ، وأنكح أبو حذيفة سالماً ، وهو يرى أنه ابنه ، فلمَّا أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل ... ردَّ كل واحد من أولئك إلى أبيه .. فجاءت سهلة بنت سهيل ، وهي امرأة أبي حذيفة ـ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالت : يا رسول الله ! كنّا نرى سالماً ولداً ، وكان يدخل عليَّ وأنا فضل ، وليس لنا إلاَّ بيت واحد ، فماذاترى في شأنه ؟ فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها ) وكانت تراه ابناً من الرضاعة ، فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحبُّ أن يدخل عليها من الرجال ، فكانت تأمر أختها أمَّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق ، وبنات أخيها أن يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرجال.
وأبى سائر أزواج النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس ، وقلن : والله ، ما نرى الذي أمر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سهلة بنت سهيل إلاَّ رخصة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في رضاعة سالم وحده ، لا والله ، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد ، فعلى هذا كان أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في رضاعة الكبير.
وجاء في صحيح مسلم : 4/169 : عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قالت أم سلمة لعائشة : إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحبُّ أن يدخل عليَّ ، قال : فقالت عائشة : أما لك في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أسوة .. إلخ.
وعن زينب بنت أبي سلمة تقول : سمعت أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تقول لعائشة : والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة ، فقالت : لم ؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالت : يا رسول الله ! والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ، قالت : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أرضعيه ، فقالت : إنه ذو لحية ، فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة ، فقالت : والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة.
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تقول : أبى سائر أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة .. إلخ.


(138)
حيرتنا ، وعندما وصل إليَّ مسلِّماً ضحك ، وقال : أرضعيه ولو كان ذا لحية.
    وفهمت أنه اطّلع على الموضوع من شتّى جوانبه ، وفرحت لذلك ، ودعوناه للجلوس وتناول الإفطار متسائلين : ما الذي أبطأه عن الموعد المعتاد ؟
    قال : لم أنم إلاَّ قليلا ، فقد سهرت بعدكم ، واطّلعت على قصة رضاعة الكبير في كل من صحيح مسلم وموطأ مالك ، فحيَّرتني وطار النوم من عيني ، فلم أنم إلاَّ بعد صلاة الفجر.

    الشيخ علي يعلن تشيعه واستبصاره
    قلت : فهل ما زلت على رأيك في أخذك نصف الدين عن الحميراء ؟
    قال : أعوذ بالله ، هذا لا يجوز أبداً ، أنا من اليوم شيعيٌّ ، لا أتّبع إلاَّ عليّاً ( عليه السلام ).
    قال أخوه الشيخ محمّد : أتدري ـ يا دكتور ـ أننا من سلالة عليٍّ كرَّم الله وجهه ؟
    قلت : إذن فأنتم أحقُّ بجدِّكم من غيركم ، قال الله تعالى : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (1).
    وفرح الإخوة الكويتيون بهذا الاستبصار المفاجئ ، وكذلك الدكتور الخطيب ، وأخرج الشيخ علي الكتب إلى الطلبة ، وبدأ الدكتور الخطيب وأخوه عثمان ينشطان بحرّيّة ، ويعملان بكل جهودهم ، ولم يمض أسبوع واحد حتى استبصر أكثر من مائتين من الطلبة.
    وجاء يوم الفراق للرجوع إلى باريس ، وخرج أكثرهم يودِّعونني ، وفي
1 ـ سورة الأنفال ، الآية : 75.

(139)
مقدِّمتهم الشيخ علي وأخوه الشيخ محمّد ، وقبل دخولي الطائرة عانقت الشيخ ، وقلت له أمام الجميع : سامحني إن كنت أسأت لك ، أو صدر مني شيءٌ تكرهه ، فأنا أرجوك العفو.
    قال : العفو العفو ، أنت سيِّدنا ، وقد هديتنا إلى صراط الله المستقيم ، فجزاك الله عنّا خيراً ، ونتمنَّى أن لا تنسانا من زيارتك.
    قلت : أتشهد أمام الحاضرين أنّك استبصرت للحقِّ وغيَّرت عقيدتك ؟
    قال بصوت عال : أشهد أنني تشيَّعت ، وإمامي هو عليُّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، والله على ما أقول شهيد.
    عانقته مرَّة أخرى بحرارة أكثر ، وقبَّلت رأسه ، وفاضت أعيننا وأعين الحاضرين من الدمع ، وهم يكبِّرون صائحين : اللهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد (1).
1 ـ كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني السماوي : 253 ـ 261.

(140)
مناظرة
الدكتور التيجاني مع الشيخ المفتي عزيز الرحمان في بومباي
في المراد من ( أهل البيت ( عليهم السلام ) ) في آية التطهير
    قال الدكتور التيجاني في رحلته إلى الهند : طلب مني ـ أي السيد شرف الدين صاحب دار النشر للمنشورات الإسلامية ـ إن كان بإمكاني زيارة مفتي الجماعة الإسلامية في بومباي فهو سني وله أتباع كثيرون يأتمرون بكل أوامره ، ولوا أقنعته هو فسيكون فتح عظيم لكل المسلمين في الهند. قلت : ما اسمه ؟ أليس هو أبو الحسن الندوي ؟
    قال : لا ، أبو الحسن الندوي يقيم الآن في دلهي ، أما هذا فاسمه عزيز الرحمن ، وهو الكل هنا.
    قلت : أنا لا أرى مانعاً في لقائه إن كان يرغب في ذلك طبعاً.
    قال : لا عليك أنا عندي معه علاقة وديّة وسأرتّب الأمور ، فأين أتّصل بك ؟
    قلت : عند السيّد محمّد الموسوي.
    قال : عندي رقم تليفونه فأتّصل بك حالماً أتفاهم وأتفق مع الجماعة ـ إلى أن قال : وبعد يومين فقط ، جاءني السيد محمّد الموسوي إلى مقرّ إقامتي


(141)
وأعلمني بأن الجماعة في انتظاري وأن السيد شرف الدين قادم ليأخذني عندهم ، فهيأت نفسي للخروج ووقف السيّد الموسوي يقرأ على رأسي بعض الأدعية المأثورة عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وفهمت بأنه متخوّف عليّ ، وخصوصاً بعدما قدم السيّد شرف الدين فحذّره السيّد الموسوي وأوصاه بي قائلا : لولاك أنت وثقتي فيك لما تركت السيّد التيجاني يذهب إليهم ، فطمنه السيد شرف الدين قائلا : يحصل خير إن شاء الله.
    وذهبت بصحبة السيد شرف الدين إلى الجامع الكبير في مدينة بومباي ودخلنا من باب صغير خلف الجامع وصعدنا طابقين ومشينا كثيراً حتى وصلنا إلى مقرّ الجماعة.
    سلّمنا عليهم وكانوا خمسة يحيطون بالشيخ المفتي عزيز الرحمان وكلّهم يلبسون اللّباس السعودي ولحاهم تكشف هويّتهم السلفية ، وكان في أفواههم ورق أو حشيش يلوكونه بأسنانهم ويمتصوّن عصارته ثم يبصقون من حين لآخر في أواني وضعت إلى جانب كلّ واحد منهم.
    واشمأزت نفسي لأول وهلة رأيتهم فيها وما شعرت إلاّ بالنّفور وفهمت بأن الجماعة يبادلوني نفس الشعور ، وزيادة خصوصاً وأنا أشاهدهم يبصقون لونا أحمر ظننت أنه دم ، وعرفت فيما بعد بأنه عصير الورق الذي يمضغونه.
    وقلت في نفسي : هذا يذكّرني بالحشّاشين وبالغلابة الذين شاهدتهم في اليمن وفي موريطانيا والمغرب وفي كينيا الذين يخدّرون عقولهم بهذا النّوع من « القات » ليسبحوا في بحر النسيان والخيال فهل هؤلاء العلماء الذين دعوني للنّقاش العلميّ يخدّرون عقولهم أيضاً فكيف سأناقشهم وموازينهم العقليّة مختلّة ؟


(142)
    جلست معهم وأنا أبتسم لكل واحد منهم فلا أرى إلاّ وجوها كالحة تنظر إليّ شزرا وكأنها حيوانات مفترسة تريد أن تنقضّ عليّ وتفتك بي.
    دعوت السيّد شرف الدين للجلوس بجانبي فأسرع وأخذ بيدي وقدّمني للجماعة وهو يقول : السيد الدكتور التيجاني صاحب كتاب « ثم اهتديت ».
    ضحك أحدهم قائلا : ثم اهتدى إلى ماذا ؟ إلى الضلالة بلا شك.
    وقلت في نفسي : هذه أول لكمة ، فما عليك يا تيجاني إلاّ بالصبر وتحمّل الأذى ما دمت ورطّت نفسك وجئت إليهم تمشي على قدميك.
    قلت : سامحك الله ، أنا اهتديت لأهل البيت ، العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) فإذا كان أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً هم ضلالة ، فقولك هذا لا يغضبني بل يزيدني شرفا وافتخارا.
    تكلّم الثاني قائلا : هكذا الشيعة دائماً يكذبون على الله ويؤولون القرآن على حسب مزاجهم ، فالقرآن يقول صراحة بأن أهل البيت هم نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهم يقولون : أهل البيت هم أئمّة الشيّعة.
    قلت : نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصدق منا جميعاً فهنّ اللائي قلن صراحة بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة.
    ضحك شيخهم الكبير عزيز الرحمان حتى بدت نواجذه وهو يقول : في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزول القرآن ما كان هناك شيعة فضلا عن أئمّتهم ، فكيف يقول نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة ؟
    فرحت في داخلي وقلت : الحمد لله إن الجماعة لم تغب عقولهم بعد بهذا الحشيش الذي يملأ أفواههم فقلت : لا يا سيّدي الشيخ أنا لم أقصد اللّفظ ولكنّي قصدت المعنى.


(143)
    فزاد ضحكه واستعجابه وقال : وهل عند الشيعة أن اللّفظ يخالف المعنى ؟
    قال الذي بجانبه : إنه النّفاق الذي يسمونه التقية.
    بدأت أملّ هذا النقاش الذي لا زال في بدايته ، ولكنّي تجلّدت ولم أبالي بالمتكلّم الجديد وتوجهت لشيخهم الكبير ظنّا منّي بأنه أذكاهم وأعلمهم ، وإذا قدرّ له أن يقتنع بكلامي فسيكون فتحاً كبيراً.
    قلت : يا سيدي الشيخ دعني أشرح الموضوع بطريقة أخرى ، إن عائشة وأم سلمة أمهات المؤمنين وهنّ نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالتا بأن الآية لم تنزل فينا بل نزلت في محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وهؤلاء الأشخاص اتّخذهم الشيعة أئمّة لهم ، فلا يتّقون إلا فيهم ولا يقتدون إلاّ بهم ، وهذا هو قصدي من اللّفظ الذي لا يخالف المعنى.
    فضحك بقهقهة حتى شرق بالسّعال وقال : فاطمة ( عليها السلام ) إمام الشيعة ؟ قال رسول الله : « لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة » فكيف تكون فاطمة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ؟
    وضحك هو وكلّ الحاضرين ، وغمزني السيّد شرف الدين أن اصبر على استهزائهم.
    التفت إلي أحدهم وقال : الشيعة كلّهم منافقون ويتستّرون بمحبّة أهل البيت ( عليهم السلام ) لهدم الإسلام وتخريبه ، ولذلك كان أهل البيت يلعنون الشيعة ويحذّرون المسلمين منهم ومن دسائسهم.
    قلت : متى وأين وجدت أهل البيت ( عليهم السلام ) يلعنون الشيّعة ؟
    قال : في نهج البلاغة سيّدنا علي كرّم الله وجهه يلعنهم ويشتمهم.
    قلت : أولا سيّدنا علي ( عليه السلام ) لم يلعن شيعته ولكن ذمّ الذين تخاذلوا عن


(144)
الجهاد في سبيل الله ، فهذا هو الموجود في نهج البلاغة ، أمّا ثانياً فأنا أطلب منكم أن تتفاهموا فيما بينكم على أهل البيت ، وتشخّصوهم هل هم نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما ادعيتم منذ قليل أم هو سيّدنا علي ( عليه السلام ) كما تقولون الآن ؟
    فتكلّم أحدهم وكأنه أراد أن ينقذهم من الورطة التي وقعوا فيها فقال : العجيب في الأمر أن الشيعة من حماقتهم يحتجّون بنهج البلاغة ، وهو عندهم كالقرآن الكريم ، وهذا الكتاب يلعنهم ويشتمهم ويكشف كلّ فضائحهم.
    وتكلّم الذي بجانبه يؤيّده فقال : الشيعة هم المجوس الذين دخلوا في الإسلام ليتآمروا على المسلمين ، وهم الذين قتلوا سيّدنا عمر وسيّدنا عثمان وسيّدنا علي ( عليه السلام ).
    قلت : دعونا من الشيعة فأنا لست لسان الدّفاع عنهم ، وناقشوني أنا فأنا لا أمثل إلاّ نفسي ، وقد كنت مالكيّا ولكن بعد البحث والتنقيب اكتشفت بأني كنت مضلّلا ، وبأن أهل البيت ( عليه السلام ) هم أحقّ بالاتباع من غيرهم وقد سمّاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سفينة النّجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ، فإن كانت لكم حجّة غير هذه فأقنعوني بها وأعطوني الأدلّة كي اتّبعكم ، وأكن لكم من الشّاكرين ، وإن لم تكن عندكم حجّة ولا دليل ، فاسمعوني واسألوني عسى أن تهتدوا.
    قالوا : كيف نستمع إليك وأنت جاهل لا تعرف آيات القرآن ولا أحكامه ؟
    قلت : فلنحتكم إلى البخاري ومسلم وهما أصحّ الكتب عندكم بعد كتاب الله ، وسأعطيكم الأدلّة من البخاري ومسلم على أن أهل البيت ( عليهم السلام ) ليسوا نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإنما هم أئمّة الشيعة.
    قالوا : كلّ حديث تحتجّون به في البخاري ومسلم هو مدسوس من الشيعة.


(145)
    ضحكت لهذا القول الرّخيص وقلت : إذا ، ما بقي لكم شيء تعتمدون عليه ما دام الشيعة قد دسوّا في كتبكم وفي صحاحكم ، فلا عبرة لها ولا لمذهبكم القائم عليها.
    واستحسن السيّد شرف الدين هذا المنطق فلم يملك نفسه أن ضحك وضحكت معه.

    ترضي البعض على معاوية ويزيد
    وتكلّم أحدهم وتعمّد التهريج والاستفزاز فقال : من لا يؤمن بخلافة الرّاشدين سيّدنا أبو بكر وسيّدنا عمر وسيّدنا عثمان وسيّدنا علي ( عليه السلام ) وسيّدنا معاوية وسيّدنا يزيد رضي الله عنهم فليس بمسلم وإنما هو شيعيّ رافضي عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
    استغربت لهذا المنطق المتناقض وقلت : معقول أن يترضى أهل السنة على أبي بكر وعمر وعثمان ولكن على يزيد وأبيه معاوية ، فهذا أمر غريب لم أسمع به إلاّ في الهند ، ففي كل بقعة من الدنيا أهل السنّة يقولون قولتهم الشهيرة « العن يزيد ولا تزيد » ، فكيف يترضى المسلمون في الهند عن يزيد.
    التفت إلى الشيخ الكبير عزيز الرحمان وسألته أتوافقون هذا على ما قاله ؟
    فقالوا جميعاً : بأنهم متّفقون على ذلك لأنهم صحابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن يسبّ الصّحابة فهو من الزّنادقة الذين يجب قتلهم.
    وعرفت وقتها بأن لا فائدة من مواصلة الحديث معهم وفهمت بأنهم يريدون استفزازي وإثارتي لكي ينتقموا منّي ، ويقتلوني بدعوى سبّ الصحابة إذا أقاموا عليّ شاهدين منهم.


(146)
    ورأيت في أعينهم شرّاً ، وخفت على نفسي وطلبت من مرافقي السيّد شرف الدين أن يرجعني إلى السيّد الموسوي الذي ينتظرنا مدّعيا أنه سيأتي بنفسه إلينا إذا ما تأخرنا عنه ، وأخرجني السيّد شرف الدين بسرعة وهو يقول إليّ على الدّرج : أسرع يا دكتور قبل أن تحل بنا مصيبة ، وأسرعت مهرولا وراءه وأنا لا أصدّق النّجاة.
    ولمّا خرجنا خارج المسجد تنفّس وتنفّست معه ، فاعتذر إليّ على ما وقع وتحسّر كثيراً على هؤلاء الذين كان يعتقد بصلاحهم وغزارة علومهم ، وحمد الله مرّة أخرى على سلامتي منهم ، خرجت من عندهم فرحا بنجاتي وأحسست في داخلي بأني ولدت من جديد ، ولكنّي ساخط متأسف على ما وصلت إليه حالة المسلمين في الهند ، وخصوصاً الذين يتزعّمون مراكز الصّدارة ويتسمّون بالعلماء ، وقلت في نفسي : إذا كان العلماء بهذه الدّرجة من التعصّب الأعمى والجهل المركّب ، فكيف تكون حالة عامّة الناس وجهّالهم الذين لا يعرفون غير لغة الخناجر والسّكاكين (1).
1 ـ كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 269 ـ 273.

(147)
مناظرة
الدكتور التيجاني مع أبي ياسين في طهران
في روايات أبي هريرة
    قال الدكتور التيجاني : في إحدى المؤتمرات الإسلامية التي حضرتها في طهران تعرّفت على الأخ محمود الطّاهري الذي يقيم في السويّد وهو تونسي.
    كنّا في ليلة الجمعة نقرأ دعاء كميل ولاحظت كثرة البكاء وشدة التّأثر على الأخ محمود ورقّ له قلبي ، واختليت به بعد الدّعاء فعرّفني على نفسه وأنه من جهة صفاقس كما عبّر عن إعجابه بهذا الدعاء الذي سمعه لأول مرّة ، وأخذ ( يناقشني في ) عدّة مسائل ، ولم يفارقني تلك اللّيلة حتى استبصر قبل الفجر فعلّمته وضوء أهل البيت ( عليه السلام ) وصلّيت أمامه وهو يصلّي خلفي ، ونمنا بعدها في الغرفة نفسها.
    أعلمني بأنه قدم من السويد بصحبة مجموعة تضمّ تونسيّين ومعهم جزائري واحد ، وألحّ عليّ أن أسهر في الليلة التالية مع المجموعة وافتح لهم موضوع التشيع لعلّهم يهتدون ، اتّفقنا على أن يعمل هو على جمعهم في غرفته ثم يدعوني لأتعرّف عليهم خلال سهرة علميّة.
    واجتمعنا وتعارفنا ، عرفوا بأني تونسيّ متشيّع فالبعض يسمع عنّي وكان


(148)
يتمنّى رؤيتي ، وتعرّفت عليهم فمنهم الأخ عبد الرحمان الشطّي الذي يدير رابطة المسلمين في ستوكهولم العاصمة السويدية ، ومعه بعض أعضائها ومنهم الأخ الجزائري رشيد بدرة وبدران غزال وكمال مبذر والأخ الأمين بن سعيد ، وكذلك السيد أبو حيدر ، والذين لم يحضر منهم إلاّ رشيد بدرة والأمين بن سعيد.
    بدأنا نتحدّث عن الشيعة والفرق بينها وبين أهل السنّة والجماعة ، واستعرضت معهم تاريخ المسلمين باختصار ، كما استعرضت معهم الأحاديث النبوية الصحيحة الدّاعية للتمسّك بأهل البيت ( عليهم السلام ).
    كان الحاضرون كلّهم منسجمون يصغون إليّ بإعجاب عدا واحد منهم يكنّى أبو يس ويقول بأنه أمير الجماعة ، يفهم من حديثه واعتراضاته بأنه متأثر بكتب إحسان إلهي ظهير الباكستاني الذي يتحامل على الشيعة ، فكان ينتقد الشيعة ، ولكن بدهاء واضح يحاول تغطيته من حين لآخر بقوله : نحن دعاة الوحدة الإسلامية التي ينادي بها الإمام الخميني ولا نحبّ إثارة الفتن بين المسلمين خصوصاً في هذا الوقت الذي تكالب فيه الشرق والغرب على محق الإسلام.
    فأرجوك وأطلب من فضلك أن توقف الحديث ولا تواصل فنحن في غنى عن هذا ونعمل بقوله تعالى : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).
    واعتذرت للحاضرين إن كنت أسأت إليهم في شيء لأني ما كنت لأتكلّم في مثل هذا لولا دعوتهم لي وسؤالهم إيّاي.
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 141.

(149)
    وتدخل بعض الحاضرين بالخصوص محمود الطاهري الذي ألح على مواصلة البحث حتى يتجلى الحق ونفهم الواقع الذي نعيشه.
    فقال له أبو يس : أي حق وأي واقع ، هو يريد ( مشيرا إلي ) هدم عقيدتنا من الأساس ، أنا أعرف سياسته إنه بدأ كلامه بالطعن في المنافقين وسينتهي بكم بعد ذلك في طعن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وفي أكبر راوية للإسلام أبي هريرة وعائشة أم المؤمنين ، وكان يتكلّم بحدّة ووجهه مصفرّ اللّون.
    قلت : سامحك الله يا أخي نحن نريد بحثا علميا ولا نريد ملاكمة ، ولماذا أنت تحكم على الإسلام من خلال هؤلاء الرّجال ، والمفروض أنك تحكم على هؤلاء الرجال من خلال الإسلام ، وهذا عين ما قاله الإمام علي ( عليه السلام ) : لا يعرف الحق بالرجال إعرف الحق تعرف أهله (1) ، فماذا علينا لو حكمنا على هؤلاء النّاس بأحكام القرآن والسنّة.
    قال : أيّ سنّة ، أنت ترفض السنّة ولا تأخذ منها إلاّ ما يعجبك وأنا قرأت ما يقوله الشيعة في أبي هريرة يقولون عنه : كذّاب والعياذ بالله.
    قلت : لا تتسرّع ، وإذا أردت أن تعرف قول السنّة في أبي هريرة فهو كقول الشيعة تماما لا يختلف بعضهم عن بعض ، ولو صبرت قليلا وسمحت لنا بإخراج الأدلة فسوف تغيّر رأيك في الرجل.
    قال ضاحكا : هذا أمر غريب كيف يطعن أهل السنة في أبي هريرة ويعدّونه راوية الإسلام ، ويأخذون عنه أكثر الأحاديث ؟ هذا عجيب.
    استغرب الحاضرون أيضاً وقالوا : لأول مرّة نسمع بمثل هذا.
1 ـ روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 31 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 40/126.

(150)
    قلت : إذاً موعدنا في الليلة القادمة إن شاء الله بعد صلاة العشاء وسآتيكم ( بالأدلة ) المقنعة.
    والتقينا في الليلة الثانية وقد جلبت معي من مكتبة المؤتمر التي تعرض الكتب الإسلامية للبيع بأثمان رمزية ، جلبت كتاب الموطّأ للإمام مالك وكتاب صحيح البخاري ، وكان محمود الطاهري فرحا مسرورا منتظرا المفاجأة وقد نقل إليّ قول أمير الجماعة أبو يس الذي حاول أن يثبّط همّتهم ويحلّ عزيمتهم لإلغاء اللّقاء ، ولكن الجماعة أصرّوا على الحضور لكي يعرفوا الأدلّة التي وعدتهم بها ، واضطرّ أبو يس للحضور معهم خوفا عليهم أن يتشيّعوا.
    بدأت السهرة بافتتاح قصير من الأخ محمود الطاهري الذي عبّر عن تمسّك الجماعة بمواصلة البحث للوصول إلى الحقيقة ، فهذه الفرصة التي أتاحها الله لهم لزيارة إيران الإسلام لعلّها تكون ابتلاءً لهم ، وبدأت كلامي بحمد الله والثّناء الذي بشرّ عباده الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ، وقلت لهم : لا شكّ أنكم متشوقون لمطالعة الأدلّة التي وعدتكم بها ، ولكنّي وكما تعلمون أني عابر سبيل مثلكم وليست مكتبتي تحت يدي ، ومع ذلك فقد جئتكم بكتابين وجدتهما هنا وهما لإمامين جليلين من أئمّة أهل السنّة والجماعة ، أما الأول فهو موطّأ الإمام مالك الذي يقولون عنه ـ رواية عن الشافعي ـ : ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب الله أصحّ من كتاب مالك (1).
    أمّا الثاني فهو صحيح البخاري وهو غنّي عن التعريف فهو عمدة أهل السنّة والجماعة ، وسوف أطلب أحد المتطوّعين منكم للقراءة ، فتطوّع أحدهم
1 ـ كتاب الموطأ ، الإمام مالك : 1/3 ، تنوير الحوالك ، السيوطي : 7.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس