مناظرات المستبصرين ::: 226 ـ 240
(226)
ولايتهم ، فأخذ يدقُّ نواقيس الخطر ، ويؤلِّب ذوي الشأن ليتصدَّوا لحركة التشيُّع التي عمَّت أرجاء السودان ، وأن على المسؤولين أن يقفوا في وجه هذا المدّ ، وأنه بهذا البيان يكون قد أدَّى ما عليه ؛ إذ لا يملك أن يفعل بهذا الصدد أكثر من التحذير.
    لقد فات على الدكتور أن التشيُّع بما هو جوهر الدين قد صمد عبر التأريخ في وجه أعنف حملات الطمس والتشويه ، واستعصى على كل المؤامرات التي استهدفته منذ وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإلى الآن ، وهو المذهب الوحيد الذي ظلَّ أمره في ازدياد ؛ لما يستبطن من حقّ ، ولتمسُّك أهله به ، ولقدرته على مواكبة العصر ، والوفاء بمتطلَّبات الزمن ، بينما اندثر غيره من المذاهب ، أو كاد ، حتى المذاهب الأربعة لم يعد التمسُّك بها إلاَّ تقليديّاً وشكليّاً ، ولم تعد قادرة على الوقوف أمام دعاوى التجديد الفقهيّ ، وفتح أبواب الاجتهاد التي تنطلق من هنا وهناك ..
    والذي لا يعرفه الدكتور أو يتجاهله هو أن الولاء لأهل البيت ( عليهم السلام ) أسبق في دخوله إلى السودان من جميع الحركات السلفيَّة بما فيها حركة الإخوان ، وأن السودانيين قد عرفوا لأهل البيت ( عليهم السلام ) حقَّهم في ذات الوقت الذي عرفوا فيه الإسلام ، وأن البنية الاجتماعيَّة في السودان لا يهدِّدها انخراط الشباب في سلك التشيُّع لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، الذين هم قوام الدين ، ونظام الأمّة ، ولكن ما يهدِّد المجتمع في دينه وحضارته هو انتماؤهم إلى تلك الجماعات الموتورة ، التي ورثت الحقد عن الخوارج وأهل الفتن وبني أمية وأئمَّة القشريين من لدن ابن تيمية إلى محمّد بن عبد الوهاب وأتباعه (1).
1 ـ المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 663 ـ 666.

(227)
مناظرة
الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني قبل تشيُّعه
مع ابن عمِّه المتشيِّع في الإمامة ووجوب البحث عن الحقيقة
    قال الأستاذ عبد المنعم حسن تحت عنوان ( حوار في بداية الطريق ) : كنت قلقاً جدّاً وأنا أحاول تجنُّب أيِّ حوار مع ابن عمِّي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسَّد في سلوكه أدباً وأخلاقاً ومنطقاً ، مما جعلني أفكِّر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة ، رغم قناعتي بأنَّ ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة ، أو ربَّما نزوة عابرة جعلته يتبنَّى هذه الأفكار الغريبه.
    قلقي كان نابعاً من تخوُّفي لأن أتأثَّر بفكرته ، أو ربَّما أجد أنها تجبرني على الاعتراف بها ، وبالتالي أخالف ما عليه الناس ، وما وجدت عليه آبائي ، وسأكون شاذّاً في المجتمع ، وربَّما اتُّهمت بأني مارق من الدين كما اتّهم ، ولكني تجاوزت كل ذلك ، وقرَّرت أن أخوض معه حواراً ، لعلّني أجد منفذاً أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه ، خصوصاً وأني قرأت كتباً لا بأس بها ضدَّ الشيعة والتشيُّع ، ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله ، فبدأت معه الحوار.
    قلت له : الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيّاً ، فما هي


(228)
الضمانات التي تمنعك من أن تغيِّر مذهبك غداً ؟
    قال : الآية الكريمة تقول : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وأنا من أنصار الدليل أينما مال أميل ، وقد أفرغت وسعي ، وتوصَّلت إلى أن الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والدليل على صحّته أن الأدلّة التي يسوقها أصحابه مما اتّفق عليه جميع المسلمين.
    قلت : لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة ؟
    قال : أوّلا : من قال لك إنه لا يوجد غيري ؟!
    وثانياً : وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلا على صحّة أو خطأ ما توصَّلت إليه ، إن المسألة تكمن في نفس وجدان الحقيقة والحقّ ، ومن ثَمَّ اتّباعه ، ولا شأن لي بغيري ، لأن الله يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (2).
    قلت له : لو افترضنا صحّة مذهب الشيعة ذلك يعني أن 90% من المسلمين على خطأ ؛ لأن كل المسلمين يؤمنون بمذهب أهل السنّة والجماعة ، فأين هذا التشيُّع من عامة الناس ؟

    الكثرة ليست معياراً للحق
    قال : الشيعة ليست بهذه القلّة التي تتصوَّرها ، فهم يمثِّلون غالبيَّة في كثير من الدول ، ثمَّ إن الكثرة والقلّة ليست معياراً للحقّ ، بل القرآن كثيراً ما يذمُّ
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 111.
2 ـ سورة المائدة ، الآية : 5.


(229)
الكثرة ، يقول تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (1) ، ويقول : ( وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (2) ، ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (3) ، وبذلك لا تكون الكثرة دليلا على أنهم على حقٍّ.
    أمَّا التشيُّع كمنهج سماويٍّ فهو موجود ، بدليل أني شيعيٌّ ، وإذا وجِّه الإشكال إلى عدم انتشار التشيُّع فهذا يتوجَّه أيضاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أوَّل دعوته وحتى وفاته ؛ إذ أن الإسلام لم يكن منتشراً ، ومع ذلك فهو الحقُّ المنزل من قبل الله تعالى.
    قلت متعجِّباً : وهل تريدني أن أسلِّم بأن آباءنا وأجدادنا الذين عرفناهم متديِّنين طريقهم غير الذي أمر به الله ؟!
    ابتسم قائلا : أنا لست في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين ، فالله أعلم بهم ، ولكن أذكِّرك بأن القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد ، يقول تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (4).

    أخذ الدين عن طريق أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام )
    شعرت بأن الحوار قد أخذ منحىً عاماً ، وأن حجّته بدت في هذا المجال قويَّة ومدعَّمة بآيات قرآنية ، فقرَّرت أن أناقش معه مفردات معتقده التي قرأت
1 ـ سورة الزخرف ، الآية : 78.
2 ـ سورة الأعراف ، الآية : 17.
3 ـ سورة سبأ ، الآية : 13.
4 ـ سورة البقرة ، الآية : 170.


(230)
نقدها من الكتب ، وتركتها كورقة أخيرة في النهاية ؛ لأني على ثقة من أنه لا يستطيع الإجابة عليها ، ولقد أضفت إليها رأيي الخاص ، ولأغيِّر مجرى الحديث إلى حيث أريد قلت له : حسناً ، ماذا تقول الشيعة ؟!
    هنا اعتدل في جلسته وقال : الشيعة يقولون : إن هذا الدين الخاتم لا يجوز لنا أخذه إلاَّ عن طريق أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ويعتبرون أن هذا هو عين التمسُّك بسنَّته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو المطلوب من كل إنسان.
    قلت ساخراً : كلُّنا نتّبع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا أحد يرى أنه خلاف ما جاء به عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.
    قال : الأمر ليس مجرَّد ادّعاء ، إنّما يجب إثبات ذلك بالدليل ، ونحن كشيعة نرى أن المسألة الأساسيّة التي ابتليت بها الأمّة هي مسألة الإمامة والقيادة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والتي اختصَّ بها عليٌّ ( عليه السلام ) كوصيٍّ وخليفة ، ومن بعده أئمَّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وواحدة من مستلزمات هذه الوصاية والإمامة الخلافة السياسيّة ، ومن أهل البيت فقط يصح أخذ الدين ، أمَّا ما أخذ من غيرهم فلا نقول إنه باطل مطلقاً ، ولكنّه حقٌّ مخلوط بباطل ، ونحن مأمورون بأخذ الحقِّ فقط دون غيره.
    قلت : وما جدوائيَّة البحث حول قضيَّة مرَّت عليها قرون ؟ وهل يفيدنا إذا ما كان عليٌّ ( عليه السلام ) هو الخليفة أم أبو بكر ؟!

    ابتداء افتراق الأمة لما غصبت الخلافة من علي ( عليه السلام )
    سكت قليلا ثمَّ قال : عندما ننظر ـ يا أخي ـ لكل مشكلة ، يجب البحث عن جذور تلك المشكلة حتى نحلِّلها ، وما عليه المسلمون اليوم من فرقة وشتات وضياع إنما هو ناتج عن ذلك اليوم الذي حجبت فيه الخلافة عن علي بن أبي


(231)
طالب ( عليه السلام ) ، وأعطيت لغيره بلا حقٍّ ، ومن هناك ابتدأ افتراق الأمّة ، والآن أنا أمامك أقول لك : إن الشيعة على حقٍّ ، وأنت ترى خلاف ذلك ، من هنا جاءت ضرورة البحث في الماضي لنعرف أين الأصل ، ومن الذي خالف.
    هنا أخذتني العزّة ، وقرَّرت الهجوم عليه من كل جانب ، فانهلت عليه بالأسئلة مقاطعاً : إذن أنتم تشكِّكون في الصحابة ؟!
    أجاب بهدوء : نحن لسنا في مقام التشكيك في أحد ، ما نقوله أن كل من اتّبع الحق من الصحابة أو غيرهم على رؤوسنا ، نقدِّسهم ، نحترمهم ، وكل من خالف النهج السماويّ القويم فلن نسمح لأنفسنا أخذ معالم ديننا منه.

    الصحابة ومسألة الخلافة
    فقلت له : لا أريدك أن تناقشني في عموميَّات ! من غير المعقول أن كل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر خالفوا قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ! أتدري ماذا يعني ذلك ؟يعني أن نشكِّك في كل ديننا ، فكيف تجوِّزون لأنفسكم ذلك ؟ وأرجو ألا تستعمل معي التقيَّة المعروفة عندكم.
    أجاب : أولا : التقيَّة شرعيَّة من الكتاب والسنة ، ولها مجالها ، وهي ليست واجبة في كل الأحوال ، إنما لها ظروفها الخاصة ، وأنا لا أمثِّل كل الشيعة ، بإمكانك أن تطّلع على كتب الشيعة ، فلن تجد غير كلامي هذا.
    أما بالنسبة للصحابة فالأمر لا يصل إلى مستوى التشكيك في الدين إلاَّ إذا كان الدين عندك ملخَّصاً في الصحابة.
    قاطعته : إنهم هم الذين نقلوا لنا الدين.
    قال : بحثنا الآن حول نقلهم ، وهذا أوَّل الكلام وبيت القصيد ، أنتم


(232)
تجرحون الرجال في علم الجرح والتعديل ، وتبدأون عمليَّة معرفة أحوال الرجال من القرون المتأخِّرة بعد عهد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ونحن الشيعة نبدأ ممن كان حول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ لأن منهم من كان منافقاً ، وآخر كان لا يفقه شيئاً. وهكذا.
    أضف إلى ذلك : من الذي قال : إن الجميع قد بايع أبا بكر ؟ ارجع لكتب التاريخ ستجد أن أوَّل المعترضين كان علياً ( عليه السلام ) ، ومعه مجموعة من الصحابة.
    قلت : لو كان الأمر كما تدّعون لنصر الله عليّاً وخذل أبا بكر ، وهذا دليل على أن الله اختار للأمّة أبا بكر.
    قال : بقولك هذا تلغي فلسفة الابتلاء التي يمتحن الله بها العباد ، إن الله يبيِّن الطريق للناس فقط ، ثمَّ يدعهم ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، والله لا يجبر الناس ، وإلاَّ نكون من الذين يقولون بالجبر فنسقط الثواب والعقاب ، ونتيجة كلامك هذا أن أيَّ شخص يتحكَّم في رقابنا يجب أن نهتف له ، ونعتبره تأييداً من الله ، وهذا ما لا يعقل.

    ضرورة البحث في مسألة الإمامة أولا ثم الأصول الاُخرى
    ورميت آخر سهم في جعبتي قائلا : إنكم تغالون في أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتقولون إنهم معصومون ، كما أنكم تبيحون زواج المتعة ، وتجمعون في الصلاة ، وتصلّون للحجر ، والأخير رأيته بعيني ، يعني لم أقرأه في كتاب فقط.
    قال : أخي ! هذه فروع بإمكاني أن أناقشها معك ، ولكن من المنهجيَّة أن تبحث أولا حول الأصل الذي يتبعه الفرع أوتوماتيكياً ، فأنت عندما تريد أن تدعو شخصاً غير مؤمن بالله إلى الإسلام لن تبدأ معه بكيفيَّة الوضوء والصلاة ، بل لابدَّ من إقناعه بوجود الله تعالى ، ثمَّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثمَّ تفرِّع على ذلك.


(233)
    فأطلب منك ـ أخي ـ أن تبحث بتجرُّد ، وسترى نور الحقيقة.
    انتهينا من جلسة الحوار هذه وأنا متعجِّب من هذه الثقة التي يملكها ، وفكَّرت في البحث ، ولكن ليس لكي أقتنع ، وإنما لأملك أدلّة أقوى أدحض بها حججه ، وبعد فترة قرَّرت ألا أدخل معه في نقاش حتى أكون بعيداً عن المشاكل ، وحتى لا أتأثَّر بهذه الأفكار الغريبة ، والتي أرى شخصاً عن قرب يتبنَّاها.
    ثمَّ كانت البداية التي جعلتني أنطلق في البحث ... (1).
1 ـ بنور فاطمة اهتديت ، عبد المنعم حسن : 55 ـ 59.

(234)
مناظرة
الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني
مع بعض أصدقائه حول العصمة في حديث الثقلين
    قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : جرى حوار بيني وبين أحد الأصدقاء حول عصمة الإمام ، قال لي : أنتم مغالون تبالغون في حبِّ أهل البيت ( عليهم السلام ) حتى ادّعيتم أنهم معصومون ، ومفوَّضون بالتشريع ، ونحن لا نرى سوى عصمة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قلت : أولا : أهل السنة والجماعة لا يقولون بأن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معصوم في كل شيء ، بل في أمر التبليغ فقط ، ولا ندري كيف يحدِّدون ويصنّفون الأمور الواردة عن النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيٌّ منها من الدين ، وأيٌّ من غيره ، وذلك بخلاف قول الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المطلقة ، ولا فرق في ذلك بين أمور التشريع وغيرها.
    أمَّا عصمة أهل البيت ( عليهم السلام ) فالآية واضحة في دلالتها ، يقول تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) الآية (2).
1 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 33.
2 ـ روى الحاكم النيسابوري ، عن أم سلمة قالت : في بيتي نزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قالت : فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي.
قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/146.


(235)
    أضف إلى ذلك مجموعة الأحاديث التي نستشفُّ منها بوضوح دلائل العصمة ، وحسبك في ذلك حديث الثقلين (1) ، بعد أن ثبتت صحّته لدى جمهور المسلمين سنَّةً وشيعةً.
    قال : هذا الحديث لا يدلُّ على العصمة ، فهو فقط يخبرنا بالرجوع لأهل البيت ( عليهم السلام ).
    قلت : بل الحديث أوضح من أن يبحث فيه عن العصمة ؛ إذ أن صحّة الحديث يؤكِّد عصمتهم ، وإليك البيان ، وسألته : ما قولك في القرآن ؟
    قال : ماذا تقصد ؟!
    قلت : هل يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه ؟
    قال : لا.
    قلت : إن اقتران أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكتاب ، والتصريح بعدم الافتراق عنه يدلُّ على عصمتهم ؛ إذ أن صدور أيِّ مخالفة للشريعة منهم سواء كان عمداً أم سهواً أم غفلة يعتبر افتراقاً عن القرآن ، لو قلنا بأنهم يفترقون عنه ولو للحظة فهذا تكذيب للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الذي أخبر عن الله عزَّوجلَّ بعدم وقوع الافتراق ، وتجويز الكذب على النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متعمِّداً مناف لعصمته حتى في مجال التبليغ ، وقد أكَّد على الحديث في أكثر من موضع.
1 ـ تقدَّم مع تخريجاته.

(236)
    أضف إلى ذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اعتبر التمسُّك بهم عاصماً من الضلالة دائماً وأبداً ، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة لن التأبيديَّة ، فإذا كان هنالك مجال لضلالتهم ولو للحظة فكيف يكون التمسُّك بهم عاصماً ؟!
    هذا عن العصمة ، أمَّا ما قلته عن التفويض فلا أحد من الشيعة يقول به ، إنما هو قول أعداء الدين الذين حاولوا تشويه الصورة النقيَّة للتشيُّع ، وأنت إذا أردت أن تتعرَّف على معتقدات الشيعة فيجب عليك الاطّلاع عليها من كتبهم وأقوال علمائهم ، لا من كتب وأقوال المناوئين لهم ، الذين لا يتورَّعون عن الكذب والافتراء ، ومعروف عند الشيعة أن الأئمة يقولون بما قاله الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وها هو الإمام أميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) يقول : علَّمني رسول الله ألف باب من العلم ، يفتح لي من كل باب ألف باب (1).
    فهم لا يقولون بالتفويض ، بل أهل السنة والجماعة هم الذين فوَّضوا الصحابة في التشريع ، حتى أمضوا اجتهادات الصحابة الواضحة مقابل النصوص المؤكَّدة.
    بعد هذا الحوار أخذ صاحبي يبحث له عن مخرج ، وبدأ يقفز بالحديث هنا وهناك ، ويحاول أن يجد ثغرة يصطادني بها ، وعندما لم يجد قال لي : يا أخي ! أنا مفوِّض أمري إلى الله ، نحن أهل تسليم.
    قلت : التسليم لا يكون إلاَّ للحقِّ ، أمَّا التفويض لله فلا يلغي إرادتك ويجمِّد عقلك ، إذا كنت تصبو إلى الحقيقة واصل بحثك عنها ، ثمَّ فوِّض الأمر إلى الله
1 ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/385 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 1/231 ح 71 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 113.

(237)
يهديك إلى الصراط المستقيم ، أمَّا أن تكون لا تدري أعلى حقٍّ أنت أم على غيره ، ثمَّ تفوِّض الأمر ، هذا تبرير لا يقبل شرعاً ولا عقلا ... وتركته وذهبت (1).

    حديث الثقلين وآية التطهير يدلان على عصمة أهل البيت ( عليهم السلام )
    وقال الأستاذ عبد المنعم قبل هذه المناظرة في كتابه : وحديث العترة يثبت فيما يثبت عصمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ؛ لأن الذي لا يفارق القرآن ولا يفترق عنه يعني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مثل القرآن تماماً ، ولو كان هنالك ثمَّة احتمال ـ ولو ضئيل جدّاً ـ بافتراق أهل البيت ( عليهم السلام ) عن القرآن لما أكَّد لنا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كلامه أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، وبهذا المعنى نفهم آية التطهير التي نزلت في أهل البيت ( عليهم السلام ) ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).
    ولقد أجمعت مصادر التفسير والحديث على نزول هذه الآية في خمسة : النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، كما جاء في صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) (3).
    والآية ناطقة بعصمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ممّا يؤهِّلهم دون غيرهم للقيام بدور
1 ـ بنور فاطمة ( عليها السلام ) اهتديت ، عبد المنعم حسن : 142 ـ 144.
2 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 33.
3 ـ راجع : صحيح مسلم : 7/130 ، سنن الترمذي : 50/31 ح 3259 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/331 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 2/149 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7/501 ، ح 39 ـ 41 ، صحيح ابن حبان : 15/432 ـ 433 ، المستدرك ، الحاكم : 3/133 و147 و148 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3/54 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/91.


(238)
الإمامة ، لحفظ الشريعة الإسلاميَّة ، وممارسة دور الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القياديّ في الأمّة ، والذي لا يتأتَّى إلاَّ لمعصوم مصطفى من السماء ، وهذا ما لخَّصته آية التطهير ، والتي صدِّرت بأداة الحصر ( إنَّما ) وهي من أقوى أدوات الحصر ، وفيها إذهاب الرجس عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والرجس يعني مطلق الذنوب والآثام والأدناس ، والقيام بالتطهير بإرادة الله تعالى .. كل ذلك مؤدّاه عصمة أهل البيت ( عليهم السلام ).
    ومن أوضح الواضحات التي لا تقبل الجدل عندنا في السودان أن أصحاب الكساء ـ أو أصحاب العباء ـ هم الخمسة الذين نزلت فيهم آية التطهير كما تواتر في الأحاديث (1).
1 ـ بنور فاطمة ( عليها السلام ) اهتديت ، عبد المنعم حسن : 141 ـ 142.

(239)
مناظرة
الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة
في التوحيد والتوسُّل وصفات الله تعالى
    قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني في حواره مع البعض ، وسبب تأليفه كتابه القيِّم ( بنور فاطمة ( عليها السلام ) اهتديت ) تحت عنوان ( لماذا هذا الكتاب ) : ذهبت في يوم من الأيام إلى أحد أصدقائي لزيارته ، فأخذنا الحديث إلى حيث الشيعة والتشيُّع ، فتجاذبنا أطراف الحديث حول هذا الموضوع ... وفي أثناء تداولنا للموضوع دخل علينا شابٌّ في مقتبل العمر ... ألقى علينا تحيَّة الإسلام ، ثمَّ جلس وبدأ يستمع ، ونحن نواصل الحوار ، انتبهت إليه وقد بدت عليه علامات الحيرة ، ثمَّ تدخَّل في النقاش بقوله : يبدو أن بعض الفرق الضالّة أثَّرت عليك يا أخي ! وأخذ يتفنَّن في المهنة التي يجيدها وأمثاله من توزيع أصناف الكفر والضلال والزندقة على كل الطوائف الإسلاميَّة عدا الوهابيّة ، كنت منذ دخوله قد علمت أنه وهابيٌّ ، وذلك من ثوبه الذي كاد أن يصل إلى ركبتيه من القصر ... قبل أن يتمَّ كلامه ارتفع أذان المغرب ، توقّفنا عن النقاش حتى نصلِّي ثمَّ نعود بعد الصلاة.
    بعد الصلاة بادرني قائلا : من أيِّ الفرق أنت ؟! يبدو أنك من جماعة


(240)
الشيعة ؟!
    قلت : تهمة لا أنكرها ، وشرف لا أدّعيه ، فما كان منه إلاَّ أن أرعد وأزبد وثارت ثائرته.
    قلت له ـ وقد تجمَّع بعض أقارب صديقي حولنا ـ : إذا كان لديك إشكال تفضَّل بطرحه بأدب ، ولنجعله مناظرة مصغَّرة أو حواراً ـ وهو سلاحهم الذي يهدِّدون به الآخرين اغتراراً منهم بقوَّة مقدرتهم على الاحتجاج ـ.
    وافق المغرور ، فقلت له : من أين نبدأ ؟ ما رأيك أن نبدأ بالتوحيد الذي تتمشدقون به ، وبسبب فهمكم الخاطئ له تضعون كل الناس في جبهة المشركين ؟

    التوسل وتعظيم الأولياء ليسا من الشرك في شيء
    فوافق أيضاً ، وبدأ الحوار والجميع يستمع ، قلت : ما تقولون في الله خالق الكون وصفاته ؟
    قال : نحن نقول : لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، ولا تجوز عبادة غيره.
    قلت : وهل يختلف اثنان من المسلمين في ذلك ؟
    قال : الجميع يقول بذلك ، ولكن تطبيقهم خلاف قولهم ؛ إذ أنهم في الواقع مشركون ؛ لأنهم يتوسَّلون بالأموات ، ويخضعون لغير الله ، ويشركون به في طلب الحاجات ، والخضوع لغير الله ، وغيرها من الأشياء التي ذكرتها تعني عبادة غيره تعالى.
    قلت : حسناً ، طالما الجميع يقول بأن الله واحد أحد فرد صمد ، ولا يجوز عبادة غيره بأيِّ حال من الأحوال فهذا جَيّد ، ويخرج الجميع من دائرة الشرك ، إلاَّ
مناظرات المستبصرين ::: فهرس