مناظرات المستبصرين ::: 391 ـ 405
(391)
    قلت متعجِّباً : مكتبتنا سنّيّة ، فكيف أبحث فيها عن الشيعة ؟
    قال : من دلائل صدق التشيُّع أنه يستدلُّ على صحّته من كتب وروايات علماء السنة ، فإن فيها ما يظهر حقَّهم بأجلى الصور (1).
    قلت : إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة ؟
    قال : لا ، فإن للشيعة مصادر خاصّة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة ، كلّها مرويَّة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكنّهم لا يحتجُّون على أهل السنة بروايات مصادرهم ؛ لأنها غير ملزمة لهم ، فلابد أن يحتجُّوا عليهم بما يثقون به ؛ أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.
    سرَّني كلامه ، وزاد تفاعلي للبحث ، قلت له : إذن كيف أبدأ ؟
    قال : هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي ؟
    قلت : نعم ، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.
    قال : من هذه ابدأ ، ثمَّ تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التأريخ ، فإن في هذه الكتب أحاديث دالّة على وجوب اتّباع مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ).
    وبدأ يسرد لي أمثلة منها ، مع ذكر المصدر ورقم المجلَّد والصفحة ، توقَّفت
1 ـ وهذه الشهادة من الأستاذ عبد المنعم شهادة حقٍّ ، وقد سمعناها كثيراً ، وإليك كلام بعض المستبصرين الفضلاء ، وهو السيد حسين الرجاء ، إذ يقول عن الشيعة الإماميّة : لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخصّ وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخص صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة ، وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنّة من كتبهم ، ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيع. راجع كتاب المتحوِّلون ، هشام آل قطيط : 367.

(392)
حائراً أسمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل ، ممَّا جعلني أشكُّ في كتب السنّة ، ولكن سرعان ما قطع عنّي هذا الشكَّ بقوله : سجِّل هذه الأحاديث عندك ، ثمَّ ابحثها في المكتبة ، ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله.

    البحث في مكتبة الجامعة
    بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي في مكتبة جامعتنا تأكَّد لي صدق مقالته ، وفوجئت بأحاديث أخرى أكثر منها دلالة على وجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ممَّا جعلني أعيش في حالة من الصدمة ، لم نسمع بهذه الأحاديث من قبل.
    فعرضتها على زملائي في الكلّيّة حتى يشاركوني في هذه الأزمة ، فتفاعل البعض ، ولم يكترث لها البعض الآخر ، ولكنّني صمَّمت على مواصلة البحث ولو كلَّفني ذلك كل عمري ، وعندما جاء يوم الخميس انطلقت لعبد المنعم ، فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء ، وقال : يجب عليك ألا تتعجَّل ، وأن تواصل البحث بكل وعي.
    ثمَّ بدأنا في بحوث أخرى لم أكن أعرفها ، وقبل رجوعي إلى الجامعة طلب منّي عدّة أمور أبحثها ، وهكذا دواليك إلى مدّة من الزمن ، وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغيَّر من فترة إلى أخرى ، فأحياناً أحتدُّ معه في الكلام ، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة ، فكنت ـ مثلا ـ عندما أراجع بعض المصادر وأتأكَّد من وجودها أقول له : إن هذه الأحاديث غير موجودة ، ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك سوى الشعور بالانهزام وحبِّ الانتصار.
    وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن


(393)
أتوقَّعها ، وكنت في طوال هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي.
    إلى أن يقول الشيخ معتصم : وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى اتّضح لي الحقُّ وانكشف الباطل ؛ لما في هذين السفرين من أدلّة واضحة ، وبراهين ساطعة بأحقّيّة مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وازدادت قوَّتي في النقاش والبحث حتى كشف الله نور الحق في قلبي ، وأعلنت تشيعي (1).
1 ـ المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 274 ـ 279.

(394)
مناظرة
الشيخ معتصم السوداني مع بعض السلفيين في
وجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) والأدلّة على إمامة أميرالمؤمنين ( عليه السلام )
    الشيعة والتشيع حديث الساعة بين طلبة الجامعة
    قال الشيخ معتصم السوداني تحت عنوان ( مع الوهّابيّة في أركان النقاش ) : دارت في الساحة الفكريّة في مدينة عطبره أحداث ساخنة ، بعد أن سيطر الطرح الشيعيُّ على مستوى المناظرات وأركان النقاش ، خاصة بين طلبة جامعة وادي النيل ، فكان حديث الساعة : الشيعة والتشيُّع حتى في الأماكن العامة ، هذا ممَّا أشعل نار الحقد الوهّابيّ ، فكثّفوا هجومهم على الشيعة في كل منابرهم ، وعندما علموا أن مصدر التشيّع في المدينة هو جامعة وادي النيل ، عملوا على حجز دار الطلاب ، وهي دار كبيرة تقام فيها نشاطات الطلاب الثقافيّة والسياسيّة ، لمدّة يومين وهما : الخميس والجمعة ، وكان برنامجهم يشتمل على معرض كتاب وملصقات وعرض فيديو ، كلُّها تعرِّض بالشيعة ، بالإضافة إلى محاضرة في اليوم الأول بعنوان : « وجاء دور المجوس » وكان المحاضر مستعاراً من مدينة أخرى وهي ( مدني ) جنوب الخرطوم ، وفي اليوم التالي كان ركن النقاش بعنوان : ( هذا أو الطوفان ) ويختلف ركن النقاش عن المحاضرة بأنّه


(395)
يغلب عليه طابع النقاش والجدال والحدّيّة أكثر من المحاضرة.
    وكان قصدهم من هذا الجهد هو تشديد الضربة على الشيعة ، حتى ينتهي وجودهم في المدينة ، أو على الأقل يحدثوا قطيعة بين الشيعة والمجتمع ، ولذلك عندما فشلوا في الردّ على الشيعة رفعوا شعارات الولاء والبراءة ، وأمروا الناس بمقاطعة الشيعة في كل أمور الحياة.

    الحوار العلمي الساخن في مواجهة السلفيين في دار الطلاب
    وعندما اكتشفنا نواياهم قرّرنا أن يكون ردّنا عليهم وعلى افتراءاتهم قويّاً ومحكماً ، وأن يكون أكثر علميّة ، ولا ننصاع لتهكُّماتهم ومهاتراتهم ، وخاصة أن الجوَّ الذي سوف يكون فيه الحوار هو جوٌّ مثقَّف وواعي بأهمّيّة البرهان والدليل.
    وعندما جاء يوم الخميس زرنا الدار في الساعة الخامسة مساءً حتى نقف على آخر التطوُّرات ، فوجدنا أن الدار كلَّها معدّة لذلك ، فقد حشدوا فيها المعارض والملصقات ومكبّرات الصوت وكراسي ، ولحى طويلة تملأ الدار ، وقد كان الجوُّ مهيباً ، وهم ينظرون إلينا ويتهامزون ويتغامزون ، ولكنّا كسرنا حاجز الهيبة ، وتجوّلنا في أجنحته ، نتصفّح عناوين الكتب ، ونقرأ شعاراتهم التي كتبت بخط عريض في كفر الشيعة وبعدهم عن الدين ، فهي تحكم في الواقع على جهالة الوهابيّة ، وبعدهم عن الإسلام الصحيح ، فكان الأصدقاء يضحكون على هذه العقول السخيفة التي سطَّرت هذه الكلمات ، وعندما حان وقت المغرب ذهبنا لنصلّي جماعة ، ثمَّ نأخذ احتياطاتنا اللازمة في تأمين أنفسنا من اعتداءاتهم ، وتوزيع برامج النقاش بيننا ، وكيفيَّة الانتشار ، واتّخاذ المناطق المهمّة في الجلوس وغيرها ، وبالفعل تمَّ ذلك ، واتخذت أنا أول مقعد في مقابل


(396)
المتحدِّث الوهابي مباشرةً.

    دعوى أن الصحابة كلهم عدول
    وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم وتقديم المتحدِّث ، شرع المحاضر في حديثه وكان يحتوي على الآتي :
    اختلف المسلمون إلى مذاهب عديدة ، وهذا مصداق لحديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثني وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، وقيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (1).
    وهذا الحديث نصّ صريح على أن طريق النجاة هو الأخذ بمنهج السلف الصالح ، فهم الذين فهموا الدين ونقلوه ، وحفظوا القرآن وفسرّوه ، ولا يجوز أن نقدِّم رأينا على كلامهم ، بل نتمسّك بهم ، ونعضُّ على سنّتهم بالنواجذ.
    إنّ الشيعة عندما أرادوا أن يطعنوا في الدين طعنوا في الصحابة ، والطعن في الناقل هو الطعن في المنقول ، فشكّكوا في عدالة الصحابة وجرحوهم ، مع أنّ الجرح والتعديل لا يجوز في حقّهم ؛ لأنّهم وثَّقهم الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2).
1 ـ تذكرة الموضوعات ، الفتني : 15 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 1/150 ، فتح القدير ، الشوكاني : 1/371.
2 ـ وهذا ما يروِّج له كبار القوم أمثال : ابن الأثير وابن حجر والنووي وابن حزم ومن تبعهم على ذلك ، وقد تقدَّم قول ابن الأثير أنه قال في مقدِّمة كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة : 1/3 : والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاَّ الجرح والتعديل ، فإنهم كلهم عدول لا يتطرَّق الجرح إليهم ؛ لأن الله عزَّوجلَّ ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زكَّياهم وعدَّلاهم...


(397)

وقال ابن حجر في الإصابة : 1/22 : قال الإمام النووي : الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم ، بإجماع من يعتدُّ به ، وقال إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنّهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لا نحصرت الشريعة على عصره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولما استرسلت سائر الأعصار.
وقال الخطيب البغدادي في الكفاية : ص 64 مبوِّباً على عدالتهم : ما جاء في تعديل الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للصحابة ، وأنّه لا يحتاج إلى سؤال عنهم ، وإنما يجب فيمن دونهم : كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يلزم العمل به إلاَّ بعد ثبوت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نصّ القرآن.
وقال ابن حزم في المحلّى : 9/362 : فالصحابة كلهم عدول ، فإذا ثبتت صحة صحبته فهو عدل مقطوع بعدالته ؛ لقول الله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ) الآية. سورة الفتح ، الآية : 29.
وأمَّا أبو حنيفة فله رأي في ذلك ، قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 4/68 : روى أبو يوسف أنَّه قال أبو حنيفة : الصحابة كلُّهم عدول ما عدا رجالا ، ثمَّ عدَّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.
أقول : لو كان كل الصحابة عدولا كما يزعم هؤلاء ، وقد زكَّاهم الله تعالى لما رمى بعضهم بعضاً بالكذب والافتراء ، ولما قاتل بعضهم بعضاً ، ولما اعتدى بعضهم على بعض ، ولصدَّق بعضهم بعضاً ، هذا ولم تكن الصحابة في يوم ما يعتقدون في أنفسهم هذا الاعتقاد من النزاهة والطهارة ، كيف وحال الصحابة يشهد بعدم ذلك ؟ فلو كانت الصحابة كلهم عدولا لما خفي عليهم هذا الأمر ، ولا حتجّوا بالآية الشريفة على هذه الدعوى ، ولا حتجَّ بعضهم على بعض دفاعاً عن نفسه بما زعمه هؤلاء من التزكية ، وهذا لم يحصل إطلاقاً ، والآية الشريفة ليست مطلقة كي تشمل جميع الصحابة فراجع سبب نزولها.
وأمَّا قول إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لا نحصرت الشريعة على عصره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولما استرسلت سائر الأعصار.
فهو أول الكلام ؛ فإنّا لا نسلِّم انحصار الشريعة بهم ومن طريقهم ، وذلك لوجود عترة النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) الذين أمرنا بالتمسُّك بهم في حديث السفينة وحديث الثقلين وغيرهما ، وثانياً : لو سلَّمنا توقُّفها فهي لا تتوقَّف على جميع الصحابة ، بل من ثبتت وثاقته وتزكيته.


(398)
    الحديث عن أثر التشيع في السودان
    إنّ فرقة الشيعة ابتكرتها اليهوديَّة ، ولذلك نجد أن مؤسّسها يهوديٌّ اسمه عبدالله بن سبأ ، وهو دخيل على الإسلام وما كان يقصد إلاَّ الفتنة ، فغلوا جماعته
قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة في البحار : 28/36 : اعلم أن أكثر العامة على أن الصحابة كلهم عدول ، وقيل : هم كغيرهم مطلقاً ، وقيل : هم كغيرهم إلى حين ظهور الفتن بين علي ( عليه السلام ) ومعاوية ، وأمَّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، وقالت المعتزلة : هم عدول إلاَّ من علم أنه قاتل علياً ( عليه السلام ) فإنه مردود ، وذهبت الإمامية إلى أنهم كسائر الناس من أن فيهم المنافق والفاسق والضال .. إلخ.
وقال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه الغدير : 10/96 ، في حال أبي محجن الثقفي : وما أدراك ما الثقفي ؟! كان يدمن الخمر ، منهمكاً في الشراب ، حدَّه عمر في سبع مرَّات ، ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلا فهرب منه ، وهو صاحب الشعر الدائر السائر :
إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة ولا تدفنَّني بالفلاة فإني تروِّي عظامي بعد موتي عروقها أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقها
هذا أبو محجن فانظر ماذاترى ، وأنت بين أمرين : إمَّا أن تأخذ بكتاب الله وفيه قوله تعالى : ( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا ) وإمَّا أن تجنح إلى ما جاء به القوم من خرافة : الصحابة كلهم عدول ، لا يستوي الحسنة ولا السيئة ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، لا يستوي الخبيث والطيب ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) سورة السجدة ، الآية : 18.
وقال الأستاذ محمود أبو ريّة ( رحمه الله ) في كتابه أضواء على السنّة المحمديّة : 353 : وإذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول ، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعاً معصومين عن الخطأ والسهو والنسيان ، فإن هناك كثيراً من المحقِّقين لم يأخذوا بهذه العدالة المطلقة لجميع الصحابة ، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي : إنها أغلبيّة لا عامة ، وإنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو والهوى ، ويؤيِّدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلاَّ بشر ، يقع منهم ما يقع من غيرهم ، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية ، ويعزِّزون حكمهم بما وقع في عهده من المنافقين والكذَّابين ، وبما وقع بعده من الحروب والفتن والخصومات التي لا تزال آثارها إلى اليوم ، وستبقى إلى ما بعد هذا اليوم.


(399)
في عليٍّ ( عليه السلام ) وألّهوه حتى أحرقهم بالنار ، وهذا دليل كاف على أن علياً بريءٌ منهم.
    إنّ الشيعة دخيلة على السودان ، وهو شعب سنّي أصيل ، وهذا من مساوئ الحكومة الحاكمة ، فإنها فتحت المجال لهم ، وكان من المفترض أن تقف في وجوههم وتردَّ كيدهم.
    ومن مساوئ الشيعة أيضاً أنهم يؤمنون بزواج المتعة ، وهو زواج جاهليٌّ أبطله الإسلام ، ولكنهم يدّعون أنّه لم يحرّمه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن حرَّمه عمر بن الخطاب.
    ولم يخرج كلامه من هذه النقاط ، وبعد أن ختم حديثه ، وزَّع جماعته قطعاً ورقيّةً حتى تكتب فيها الأسئلة ، ولكنّها طريقة غير مجدية في حقّنا ، فرفعت يدي ، وطلبت أن أسأل مباشرةً ، فوافق على ذلك.

    طلب المناظرة مع المُحاضِر
    وبعد أن أمسكت بلاقطة الصوت ، شكرته على إتاحته الفرصة لنا ، وقلت له : إنّ لي ملاحظات على كل كلامك ، ولكن أن أسألك وأنت تجيب فهذه مسألة غير منصفة ، فأخيّرك بين أمرين : إمّا تعقد معي مناظرة ، وإمّا أن تسمح لي بالكلام حتى أعقّب على كل المحاضرة ، فأيَّهما تختار ؟
    سكت مدّة من الزمن ، وقال : أسمح لك بخمس دقائق.
    قلت : لا تكفي.
    قال : عشر دقائق.
    قلت : أيضاً لا تكفي ، وأنا أرى أن تكون مناظرة ، حتى لا تكون محدّدة


(400)
بزمن ، ونحن مستعدُّون أن نجلس معك أسبوعاً كاملا ، ونطرح كل العقائد الشيعيّة من الألف إلى الياء.
    قال : إن المناظرة لابدَّ أن تنسَّق مع جماعة أنصار السنّة المحمديَّة في الجامعة.
    قلت : أنا أريدها معك أنت شخصيّاً ، فلا تحتاج إلى تنسيق.
    قال : تكلَّم براحتك .. وكأنه هاربٌ من المناظرة.

    مفهوم التشيع ونشاءته التاريخية
    وبعدما فسح لي المجال للتحدّث ، رأيت أنّه من الأنسب أن لا أعتمد على منهجيّة الردِّ وحسب ، وإنما أقوم بتوضيح عام لمفهوم التشيُّع ونشوئه التاريخي ومصادره ، بمثابة مقدّمة تأصيليّة.
    فقلت : إنّ التشيُّع ليس وليد اللحظة ، ولا وليد حالة تأريخيّة معيَّنة كما يقول البعض : إنّ التشيّع نشأ بعد حرب الجمل ، أو كما يقال : التشيّع أصبح خطّاً في الأمّة الإسلاميّة بعد حادثة كربلاء الأليمة التي ولَّدت تيَّاراً عاطفيَّاً عنيفاً في نفوس المسلمين ، ممَّا جعلهم يتبنّون أهل البيت ( عليهم السلام ) باعتبارهم قيادةً للمسلمين ، وليس كما يقول المجحفون إنّ التشيُّع وليد الذهنيّة اليهوديَّة التي تمثَّلت في شخصيَّة عبدالله بن سبأ.
    إن الناظر إلى التشيُّع بروح موضوعيَّة ، يرى أنه ضارب جذوره في عمق الرسالة المحمديَّة ، فهو كمفهوم واضح من خلال النصّ القرآني ، والأحاديث النبويّة ، فإنّه لا يتجاوز أن يكون نظرة عميقة في سنن الله سبحانه وتعالى ، التي نستخلص منها ضرورة اصطفاء أئمّة وقادة ربانيين ، يتكفَّلون بقيادة البشريّة إلى


(401)
نور الهداية ، فالضرورة العقليّة تحتّم وجود إمام من قبل الله ليقود هذه الأمة ، وتؤيِّد هذه الضرورة العقليّة النصوص الشرعيّة التي نجدها ظاهره في تنصيب الأئمة واصطفاء القادة ، فما من مجتمع بشريٍّ مرَّ على تأريخ الإنسانية إلاّ وكان فيه قيادة إلهيَّة تمثِّل حجّة الله على العباد ، فقد أرسل الله مائة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ كما في بعض الروايات ، ولكل نبيٍّ وصيّ يحفظ خطَّ الرسالة من بعد النبيِّ.
    وما لاقته الأمّة الإسلاميَّة من تمذهب وفرقة ما كان إلاَّ لفقدان المرجعيَّة الواحدة ، المصطفاة من قبل الله ، وممّا ثبت بالضرورة أنّ فترة وجود الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان المسلمون كياناً واحداً ؛ لوجود رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينهم ، وكذلك إذا فرضنا وجوده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى اليوم لكانت الأمّة الإسلاميّة جسداً واحداً ، فيتّضح بذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يمثّل صمّام أمان لهذه الأمّة ، فمجرَّد ما انفلت صمَّام الأمان انفلت الوضع من بعده ، فماذا كان يمثّل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
    كان يمثّل المرجعيّة المعصومة والقيادة الواحدة ، فيثبت من ذلك أنّ الطريق الوحيد لعصمة الأمّة هو وجود قيادة إلهيَّة معصومة ، وهذا ما تتبنّاه الشّيعة ، ومن هنا كان من الضروريِّ أن ينصب الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إماماً لقيادة المسلمين ، والذي ينكر التنصيب ـ بمعنى أنّ الله لم يعيِّن إماماً ـ يكون بذلك نسب سبب الضلالة إلى الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فهذا هو مفهوم الإمامة ، ولا أتصوَّر أنّ أحداً من المسلمين ينكر الإمامة كضرورة ومفهوم ، ولكنّ الخلاف كل الخلاف في مصاديق الإمامة الخارجيَّة ، فإنّ الشيعة تعتقد أنّ الإمامة جارية في ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، ولم يكن هذا مجرّد افتراض جادت به قريحة الشيعة ، وإنما هو نص قرآني وحديث


(402)
نبوي ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما جاء في الحاكم : أوحى إليَّ في عليٍّ ثلاثة : أنّه سيِّد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرِّ المحجَّلين (1) ، وحديث جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو آخذٌ بضبع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهو يقول : هذا إمام البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله (2) ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : مرحباً بسيِّد الموحِّدين ، وإمام المتقين ، وعن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الأئمة من ولدي ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله ، هم العروة الوثقى ، والوسيلة إلى الله جلَّ وعلا (3) ، ومئات الأحاديث.
    فما ذنب الشيعة بعد ذلك إذا والوا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وأخذوا دينهم منه ، فهو المسار الطبيعي للرسالة ، ولو لاه لم يعرف للدين معنى.
    ولذلك نجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أكّد كثيراً على ضرورة الإمامة ، وإمامة عليِّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالذات ، وهذا هو التشيُّع ، فهل لكم معنى آخر للتشيُّع حتى تنسبوه إلى عبدالله بن سبأ ؟! بل كلمة الشيعة نفسها لم تكن مصطلحاً غريباً على
1 ـ المستدرك ، الحاكم : 3/137 ـ 138 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، المناقب ، الخوارزمي : 328 ح 340 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/302 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 1/69 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1/78 و9/121 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/169 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 4/153.
2 ـ المستدرك ، الحاكم : 3/129 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 3/181 ، رقم : 1203 و4/441 ، رقم : 2231 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 57 ، المناقب ، الخوارزمي : 177 ح 215 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/226 و383 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/602 ح 32909 ، فيض القدير ، المناوي : 4/469 ح 5591.
3 ـ ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 2/318 ح 918.


(403)
الأمّة الإسلاميّة ، فقد عمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على تثبيت هذا المصطلح وتأصيله في ذهنيَّة الأمّة الإسلاميّة ، كما جاء في حديث جابر قال : كنّا عند النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأقبل عليٌّ ( عليه السلام ) ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « والذي نفسي بيده ، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » فأنزل قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) ، وكما جاء عن ابن عباس قال : لمَّا أنزل الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيَّين ، ويأتي عدوُّك غضاباً مقمحين (2).
    وغير هذه الروايات الواضحة في تحديد مسار الأمَّة بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لذلك نجد أنّ لهذه الروايات مصاديق وترجمة خارجيَّة من مجموعة من الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد ، حتى أصبح لفظ الشيعة لقباً لهم. ذكر أبو حاتم في كتابه الزينة : إنّ أوّل اسم لمذهب ظهر في الإسلام هو الشيعة ، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان الفارسي (3).
    هذا بالإضافة لوجود كثير من الآيات والأحاديث التي توجب اتّباع أهل
1 ـ سورة البيِّنة ، الآية : 7.
2 ـ شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2/460 ـ 461 ح 1126 ، النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 4/106 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 6/379 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 92 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 2/452 ح 254 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 246 ، الآية الحادية عشر.
3 ـ ذكره في باب الألفاظ المتداولة بين أهل العلم.


(404)
البيت ( عليهم السلام ) خاصّة ، وأخذ الدين عنهم ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1).
    من الضروريِّ أن لا يكون الله طهّرهم من الذنوب عبثاً ، وإنّما تطهيرهم مقدِّمة لاتّباعهم وأخذ الدين منهم ، كما جاء في الحديث : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (2).
    وهذا يدلُّ على أن البعد عن الضلالة لا يتحقّق إلاَّ باتّباعهم وأخذ الدين منهم ، حتى السلف الصالح لا يسمّى صالحاً إلاَّ إذا أخذ دينه عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فبأيِّ حجّة بعد ذلك تقول : إن أخذ الدين لابد أن يكون عن طريق السلف ؟ وأيَّ سلف تقصد ؟ هل الذين لم يتفقوا في أبسط الأحكام الفقهيّة كاختلافهم في قطع يد السارق ، فهل تقطع من أصل الأصابع كما قال بعض الصحابة أو من الكفّ ، أو من المرفق ، أو من الكتف كما قال آخرون (3) ؟
    فمن الضروريِّ أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بلَّغ حكماً واحداً لا أحكاماً متعدّدةً ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة هم الذين أخطأوا ، فكيف نعتمد على قولهم ، وندين الله تعالى باتّباعهم ؟

    هل هناك دليل على وجوب اتباع السلف ؟
    فإذن ليس كما ذهبت أنّ الطريق هو متابعة كل السلف الذين اقتتلوا ،
1 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 33.
2 ـ تقدمت تخريجاته في المناظرة الخامسة.
3 ـ راجع : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، وتفسير الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) سورة المائدة ، الآية : 38.


(405)
وكفَّروا بعضهم ، وإنّما يؤخذ الدين عن شريحة خاصة كفل الله عصمتهم من الاختلاف ، وهم أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين تواترت الروايات في حقِّهم ، ووجوب اتباعهم.
    أسألك بالله إن كنت صادقاً فيما تقول ، أن تثبت لي دليلا واحداً يقتضي بوجوب اتباع السلف ؟! واستدلالك ببعض الآيات كقوله تعالى : وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) (1) فإنها لا يمكن أن تحمل على مطلق السلف ، وإنّما هي عامّة ، وتخصيصها يحتاج إلى دليل ، ولا توجد قرائن تخصّصها إلاَّ ما جاء في حقِّ أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ولا يمكن أن تحملها على مطلق السلف كما ثبت من وقوع الاختلاف بينهم.
    ولا نقبل استدلالك بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) (2) فإنّها لا تتجاوز أن تكون مدحاً ، وإن تنازلنا وسلّمنا بظهورها فيما تدّعي فإن الظهور لا يقابل النصوص الواضحة القاطعة بوجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ).
    ونحن ندري أنّ مشكلتكم ليست الأدلّة والبراهين الواضحة في وجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأنكم لم تكونوا سلفيين بمحض إرادتكم ، وإنَّما هذا ما ورثتموه من التاريخ الجائر للحكمين الأموي والعباسي ، الذي عمل جهده حتى يورث الأمَّة تيَّاراً يواجه أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وإلاّ ما كرّرت أنت نفس مالاكه علماؤك الأقدمون ، الذين صنعتهم السلطات الجائرة ، ليشوِّهوا صورة التشيُّع.
1 ـ سورة النساء ، الآية : 115.
2 ـ سورة الفتح ، الآية : 29.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس