مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 31 ـ 45
(31)
الفقار ولا فتى إلاَّ علي ، أم أنا ؟
    قال : بل أنت.
    قال : فأنشدك بالله ، أنت الذي ردَّت له الشمس لوقت صلاته فصلاَّها ثم توارت ، أم أنا ؟
    قال : بل أنت.
    قال : فأنشدك بالله ، أنت الذي حباك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) برايته يوم خيبر ففتح الله له ، أم أنا ؟
    قال : بل أنت.
    قال : فأنشدك بالله ، أنت الذي نفَّست عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كربته وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ود ، أم أنا ؟
    قال : بل أنت.
    إلى أن قال : فلم يزل ( عليه السلام ) يعدُّ عليه مناقبه التي جعل الله عزَّ وجلَّ له دونه ودون غيره ويقول له أبو بكر : بل أنت.
    قال : فبهذا وشبهه يستحقُّ القيام بأمور أمَّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال له علي ( عليه السلام ) : فما الذي غرَّك عن الله وعن رسوله وعن دينه ، وأنت خلوٌ ممّا يحتاج إليه أهل دينه ؟
    قال : فبكى أبو بكر وقال : صدقت يا أبا الحسن ، أنظرني يومي هذا ، فأدبِّر ما أنا فيه وما سمعت منك.
    قال : فقال له علي ( عليه السلام ) : لك ذلك يا أبا بكر ، فرجع من عنده ، وخلا بنفسه يومه ، ولم يأذن لأحد إلى الليل ، وعمر يتردَّد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي ( عليه السلام ) .. إلخ (1).
1 ـ الخصال ، الصدوق : 548 ـ 553 ح 30 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 29/3.

(32)
    المناظرة الثانية
مناظرة
الإمام الباقر ( عليه السلام ) مع هشام بن عبد الملك
    عن عمارة بن زيد الواقدي ، قال : حجَّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حجَّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقر وابنه جعفر ( عليهما السلام ) ، فقال جعفر في بعض كلامه : الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتّبعنا ، والشقيُّ من عادانا وخالفنا ، ومن الناس من يقول إنه يتولاّنا وهو يوالي أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربِّنا ولم يعمل به.
    قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) : فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق ، وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلمَّا وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ، ثمَّ أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصّته وقوف على أرجلهم سماطين متسلِّحين ، وقد نصب


(33)
البرجاس (1) حذاءه ، وأشياخ قومه يرمون.
    فلمَّا دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه ، وجلسنا قليلا ، فقال لأبي : يا أبا جعفر ! لو رميت مع أشياخ قومك الغرض ، وإنّما أراد أن يهتك بأبي ، ظنّاً منه أنه يقصر ويخطئ ولا يصيب إذا رمى ، فيشتفي منه بذلك ، فقال له : إنّي قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني.
    فقال : وحقِّ من أعزنا بدينه ونبيِّه محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا أعفيك ، ثمَّ أومأ إلى شيخ من بني أميَّة أن أعطه قوسك.
    فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثمَّ تناول منه سهماً فوضعه في كبد القوس ، ثمَّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثمَّ رمى فيه الثانية فشقَّ فوق سهمه إلى نصله ، ثمَّ تابع الرمي حتى شقَّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : أجدت يا أبا جعفر ، وأنت أرمى العرب والعجم ، كلاَّ ، زعمت أنك قد كبرت عن الرمي ، ثمَّ أدركته ندامة على ما قال.
    وكان هشام لا يكنّي أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمَّ به ، وأطرق إطراقة يرتأي فيه رأياً ، وأبي واقف بحذائه مواجهاً له ، وأنا وراء أبي ، فلمَّا طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهمَّ به ، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان ، يتبيَّن للناظر الغضب في وجهه ، فلمَّا نظر هشام ذلك من أبي قال له : يا محمّد ! اصعد ، فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه.
    فلمَّا دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثمَّ اعتنقني وأقعدني
1 ـ البرجاس : غرض في الهواء يرمى به.

(34)
عن يمين أبي ، ثمَّ أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمّد ! لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ، ولله درُّك ، من علَّمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلَّمته ؟
    فقال له أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ، ثمَّ تركته ، فلمَّا أراد أميرالمؤمنين منّي ذلك عدت إليه.
    فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي ، أين رمي جعفر من رميك ؟
    فقال : إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (1) ، والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.
    قال : فلمَّا سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولّت ، واحمرَّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثمَّ أطرق هنيئة ، ثمَّ رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟
    فقال أبي : نحن كذلك ، ولكنَّ الله ـ جلَّ ثناؤه ـ اختصّنا من مكنون سرِّه وخالص علمه ، بما لم يختص أحداً به غيرنا.
    فقال : أليس الله ـ جلَّ ثناؤه ـ بعث محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّة ، أبيضها وأسودها وأحمرها ، من أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافّة ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) إلى آخر الآية ، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيٌّ
1 ـ سورة المائدة ، الآية : 3.
2 ـ سورة آل عمران ، الآية : 180.


(35)
ولا أنتم أنبياء ؟
    فقال : من قوله تعالى لنبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) (1) فالذي أبداه فهو للناس كافّة ، والذي لم يحرِّك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصَّنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه عليّاً من دون أصحابه ، وأنزل الله بذلك قرآناً في قوله تعالى : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (2) ، فقال رسول الله لأصحابه : سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي (3) ، فلذلك قال علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ بالكوفة : علَّمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب (4) ، خصَّه به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكنون علمه ما خصَّه الله به ، فصار إلينا ، وتوارثناه من دون قومنا.
    فقال له هشام : إن عليّاً كان يدّعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادّعى ذلك ؟
    فقال أبي : إن الله ـ جلَّ ذكره ـ أنزل على نبيِّه كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، في قوله : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (5) ، وفي قوله : ( كُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين ) (6) ، وفي
1 ـ سورة القيامة ، الآية : 16.
2 ـ سورة الحاقة ، الآية : 12.
3 ـ مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، الكوفي : 1/142 ح 79 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2/361 ح 1007 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 38/349 ، خصائص الوحي المبين ، ابن البطريق : 171 ح 123 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/177 ح 36526 ، تفسسير القرطبي : 18/264 ، فتح القدير ، الشوكاني : 5/282.
4 ـ الكافي ، الكليني : 8/147 ح 123 ، الخصال ، الصدوق : 572 ح 1 ، تأريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/385 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 1/219 ح 35.
5 ـ سورة النحل ، الآية : 89.
6 ـ سورة يس ، الآية : 12.


(36)
قوله : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (1) ، وفي قوله : ( وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين ) (2) وأوحى الله تعالى إلى نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لا يبقي في غيبه وسرِّه ومكنون علمه شيئاً إلاَّ يناجي به عليّاً ، فأمره أن يؤلِّف القرآن من بعده ، ويتولَّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنّه منّي وأنا منه ، له مالي ، وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز موعدي.
    ثمَّ قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله (3) ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاَّ عند علي ( عليه السلام ) ، ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأصحابه : أقضاكم علي (4) ; أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر (5) ، أفيشهد له عمر ويجحد غيره ؟!
    فأطرق هشام طويلا ، ثمَّ رفع رأسه فقال : سل حاجتك.
    فقال : خلَّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي.
    فقال : قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم أكثر من يومك .. (6).
1 ـ سورة ، الأنعام ، الآية : 38.
2 ـ سورة ، النمل ، الآية : 75.
3 ـ مسند أحمد بن حنبل : 3/33 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/154 ، صحيح ابن حبان : 15/385 ، المستدرك ، الحاكم : 3/122 ـ 123 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر ، 42/451 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5/186 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 76.
4 ـ راجع : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 و 7/219. وسوف يأتي المزيد من التخريجات في مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم.
5 ـ تأويل مختلف الحديث ، ابن قتيبة : 152 ، المناقب ، الخوارزمي : 81 ح 65 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 ، 141 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 130 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 71 ، ينابيع المودّة ، القندوزي : 1/216 ح 28.
6 ـ دلائل الإمامة ، محمّد بن جرير الطبري ( الشيعي ) : 233 ـ 237 ح 26.


(37)
    المناظرة الثالثة
مناظرة
الإمام الباقر ( عليه السلام ) مع عمر بن عبد العزيز في الخلافة
    قال إبراهيم بن محمّد ، كاتب بغداد ، المشهور بابن أبي عون : قال عمر بن عبد العزيز : قد كلَّمت سائر الناس ، وأحبُّ أن أكلِّم الشيعة ، فشخص إليه أبو جعفر محمّد بن علي ( عليهما السلام ) ومعه زرارة بن أعين صاحبهم ، فقال له محمّد ( عليه السلام ) : أخبرني عن مقعدك الذي أقعدته ، أبإرث من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    قال : لا.
    قال : أفبوصيَّة منه ؟
    قال لا.
    قال : فبإجماع المسلمين أنه لا أحد أولى بها منك ؟
    قال : لا.
    قال : فلمَّا نهض أبو جعفر ( عليه السلام ) قال له زرارة : ما تقول فيه ؟
    قال : هو خير ممن كان قبله ، وإن ... (1) صاحب الترك خير منه (2).
1 ـ كلمة غير مفهومة.
2 ـ الأجوبة المسكتة ، إبراهيم بن محمّد كاتب بغداد المعروف بابن أبي عون الأنباري : 24 ـ 25 ، مخطوط ، رقم : 430 في مكتبة المرعشي النجفي ( قدس سره ).


(38)
    المناظرة الرابعة
مناظرة
الإمام الباقر ( عليه السلام ) مع الحروري (1)
    قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة : وجدت في بعض مؤلَّفات قدماء أصحابنا في الأخبار ما هذا لفظه : مناظرة الحروري والباقر ( عليه السلام ).
    قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال استحقَّ بها الإمامة.
    قال الباقر ( عليه السلام ) : ما هنَّ ؟
    قال : فإنّه أوَّل الصدّيقين ولا نعرفه حتى يقال : الصدّيق ، والثانية : صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الغار ، والثالثة : المتولّي أمر الصلاة ، والرابعة : ضجيعه في قبره.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : أخبرني عن هذه الخصال ، هنَّ لصاحبك بان بها من الناس أجمعين ؟
    قال : نعم.
1 ـ وسوف تأتي أيضاً مناظرة مؤمن الطاق مع الحروري ، وفيها مضامين شبيهة جدّاً بما في هذه المناظرة.

(39)
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ويحك ! هذه الخصال تظنُّ أنَّهنَّ مناقب لصاحبك وهي (1) مثالب له.
    أمَّا قوله : كان صدّيقاً ، فاسألوه من سمَّاه بهذا الاسم ؟
    قال الحروري : الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : اسأل الفقهاء هل أجمعوا على هذا من رواياتهم أن أبا بكر أول من آمن برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    قالت الجماعة : اللهمَّ لا ، وقد روينا أن ذلك علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
    قال الحروري : أو ليس قد زعمتم أن علي بن أبي طالب لم يشرك بالله في وقت من الأوقات ؟ فإن كان ما رويتم حقّاً فأحرى أن يستحقَّ هذا الاسم.
    قالت الجماعة : أجل.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : يا حروري ! إن كان سُمِّي صاحبك صدّيقاً بهذه الخصلة فقد استحقَّها غيره قبله ، فيكون المخصوص بهذا الاسم دون أبي بكر ; إذ كان أوَّل المؤمنين من جاء بالصدق وهو رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2) ، وكان عليٌّ ( عليه السلام ) هو المصدِّق.
    فانقطع الحروري.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : وأمَّا ما ذكرت أنه صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الغار فذلك رذيلة لا فضيلة من وجوه :
    الأول : أنّا لا نجد له في الآية مدحاً أكثر من خروجه معه وصحبته له ، وقد أخبر الله في كتابه أن الصحبة قد يكون للكافر مع المؤمن ، حيث يقول : ( قَالَ لَهُ
1 ـ في نسخة : وهن.
2 ـ في نسخة : ومن جاء بالصدق هو رسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).


(40)
صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ ) (1) ، وقوله : ( أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة ) (2) ، ولا مدح له في صحبته ; إذ لم يدفع عنه ضيماً ، ولم يحارب عنه عدوّاً.
    الثاني : قوله تعالى : ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (3) ، وذلك يدلُّ على قلقه وضرعه ، وقلَّة صبره ، وخوفه على نفسه ، وعدم وثوقه بما وعده الله ورسوله من السلامة والظفر ، ولم يرض بمساواته للنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى نهاه عن حاله.
    ثم إني أسألك عن حزنه هل كان رضاً لله تعالى أو سخطاً له ؟ فإن قلت : إنّه رضاً لله تعالى خصمت ; لأن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا ينهى عن شيء لله فيه رضاً ، وإن قلت : إنّه سخط فما فضل من نهاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن سخط الله ؟ وذلك أنّه إن كان أصاب في حزنه فقد أخطأ من نهاه ، وحاشا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يكون قد أخطأ ، فلم يبق إلاَّ أن حزنه كان خطأ ، فنهاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن خطأه.
    الثالث : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) تعريف لجاهل لم يعرف حقيقة ما يهم فيه (4) ، ولو لم يعرف النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فساد اعتقاده لم يحسن منه القول : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) ، وأيضاً فإن الله تعالى مع الخلق كلِّهم ، حيث خلقهم ورزقهم ، وهم في علمه كما قال الله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ) (5) ، فلا فضل لصاحبك في هذا الوجه.
1 ـ سورة الكهف ، الآية : 37.
2 ـ سورة سبأ ، الآية : 46.
3 ـ سورة التوبة ، الآية : 40.
4 ـ في نسخة : ما هم فيه.
5 ـ سورة المجادلة ، الآية : 7.


(41)
    والرابع : قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) (1) فيمن نزلت ؟
    قال : على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : فهل شاركه أبو بكر في السكينة ؟
    قال الحروري : نعم.
    قال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : كذبت ; لأنه لو كان شريكاً فيها لقال تعالى : عليهما ، فلمَّا قال : ( عليه ) دلَّ على اختصاصها بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما خصَّه بالتأييد بالملائكة ; لأن التأييد بالملائكة لا يكون لغير النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالإجماع ، ولو كان أبو بكر ممن يستحقُّ المشاركة هنا لأشركه الله فيها كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين ، حيث يقول : ( ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ممن يستحقُّ المشاركة ; لأنه لم يصبر مع النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير تسعة نفر : علي ( عليه السلام ) ، وستّة من بني هاشم ، وأبو دجانة الأنصاري ، وأيمن بن أم أيمن ، فبان بهذا أن أبا بكر لم يكن من المؤمنين ، ولو كان مؤمناً لأشركه مع النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في السكينة هنا ، كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين.
    فقال الحروري : قوما (3) فقد أخرجه من الإيمان.
    فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ما أنا قلته ، وإنّما قاله الله تعالى في محكم كتابه.
    قالت الجماعة : خصمت يا حروري.
1 ـ سورة التوبة ، الآية : 40.
2 ـ سورة التوبة ، الآية : 25 ـ 26.
3 ـ جاء في الهامش : لعلّ الصحيح : ( قوموا ) كما في نسخة ، والخطاب للحروري وجماعة الفقهاء الذين كانوا معه.


(42)
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : وأمَّا قولك في الصلاة بالناس فإن أبا بكر قد خرج تحت يد أسامة بن زيد بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإجماع الأمَّة ، وكان أسامة قد عسكر على أميال من المدينة ، فكيف يتقدَّر أن يأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رجلا قد أخرجه تحت يد أسامة ، وجعل أسامة أميراً عليه أن يصلّي بالناس بالمدينة ؟! ولم يأمر النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بردِّ ذلك الجيش ، بل كان يقول : نفِّذوا جيش أسامة ، لعن الله من تأخَّر عنه (1).
    ثمَّ أنتم تقولون : إن أبا بكر لمَّا تقدَّم بالناس ، وكبَّر ، وسمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التكبير خرج مسرعاً يتهادى (2) بين عليٍّ والفضل بن العباس ، وهو معصَّب الرأس ، ورجلاه يخطّان الأرض من الضعف قبل أن يركع بهم أبو بكر ، حتى جاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونحَّاه عن المحراب ، فلو كان النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمره بالصلاة لم يخرج إليه مسرعاً على ضعفه ذلك ، أن لا يتمَّ له ركوع ولا سجود ، فيكون ذلك حجّة له ، فدلَّ على أنه لم يكن أمره.
    والحديث الصحيح أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حال مرضه كان إذا حضر وقت الصلاة أتاه بلال ، فيقول : الصلاة يا رسول الله ، فإن قدر على الصلاة بنفسه تحامل وخرج ، وإلاّ أمر علياً ( عليه السلام ) يصلّي بالناس.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : الرابعة زعمت أنه ضجيعه في قبره ؟
1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/52 ، وقال الشهرستاني في الملل والنحل : 1/29 : الخلاف الثاني في مرضه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلَّف عنه ، فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتدَّ مرض النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه.
2 ـ أي مشى وهو يعتمد عليهما في مشيته.


(43)
    قال : نعم.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : وأين قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    قال الحروري : في بيته.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : أو ليس قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (1) ، فهل استأذنه في ذلك ؟
    قال الحروري : نعم.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : كذبت ; لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سدَّ بابه عن المسجد وباب صاحبه عمر ، فقال عمر : يا رسول الله ! اترك لي كوّة أنظرك منها ، قال له : ( ولا مثل قلامة ظفر ) فأخرجهما وسدَّ أبوابهما ، فأقم البيِّنة على أنَّه أذن لهما في ذلك ، فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : بأيِّ وحي وبأيِّ نص ؟
    قال : بما لا يدفع ; بميراث ابنتيهما.
    قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : أصبت ، أصبت يا حروري ! استحقّا بذلك تسعاً من ثمن ، وهو جزء من اثنين وسبعين جزءاً ; لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مات عن ابنته فاطمة ( عليها السلام ) وعن تسع نسوة ، وأنتم رويتم أن الأنبياء لا تورِّث.
    فانقطع الحروري (2).
1 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 53.
2 ـ بحار الأوار ، المجلسي : 27/321 ـ 325 ح 4.


(44)
    المناظرة الخامسة
مناظرة
الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع أبي حنيفة في أربعين مسألة
    قال الحسن بن زياد الفقيه : سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت ؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر ( عليه السلام ) ، لمَّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليَّ فقال : يا أبا حنيفة ! إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد ، فهيِّئ لنا من مسائلك الصعاب ، فهيَّأت له أربعين مسألة ، ثمَّ بعث إليَّ المنصور فأتيته ، فدخلت وجعفر جالس عن يمينه ، فلمَّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور ، ثمَّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبدالله ! أتعرف هذا ؟
    قال ( عليه السلام ) : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثمَّ أتبعها : قد أتانا ، ثمَّ قال : يا أبا حنيفة ! هات من مسائلك فاسأل أبا عبدالله ، فابتدأت أسأله ، فكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ، ونحن ـ يريد أهل البيت ( عليهم السلام ) ـ نقول كذا وكذا ، فربَّما تابعنا ، وربما تابع أهل المدينة ، وربما خالفنا معاً ، حتى أتيت على أربعين مسألة ، ما أخرم فيها مسألة.
    ثمَّ يقول أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلم الناس


(45)
بالاختلاف (1).
    وفي جامع مسانيد أبي حنيفة أنه قال : فجعلت أسأله ويجيب الإجابة الحسنة ويفحم حتى أجاب عن أربعين مسألة ، فرأيته أعلم الناس باختلاف الفقهاء ، فلذلك أحكم أنه أفقه من رأيت (2).
    قال أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) ، وكان يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ; فإنه لا يحدِّثكم بعدي بمثل حديثي (3).
1 ـ تأريخ الإسلام ، الذهبي : 9/89 ـ 90 ( حوادث سنة 141 ـ 160 هـ ) ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6/257 ـ 258 ، تهذيب الكمال ، المزي : 5/79 ـ 80.
2 ـ جامع مسانيد أبي حنيفة ، الخوارزمي : 1/222.
3 ـ عيون التواريخ ، محمّد بن شاكر بن أحمد الشافعي : 6/30 ، تهذيب الكمال ، المزي : 5/79 لكنَّه روى المقالة عن صالح ، بن أبي الأسود ، وكذلك في تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 1/166 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6/257.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس