مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 61 ـ 75
(61)
    وأمَّا أبان بن تغلب فمغث حقّاً بباطل فغلبك ، وأمَّا زرارة فقاسك فغلب قياسه قياسك ، وأمَّا الطيار فكان كالطير يقع ويقوم ، وأنت كالطير المقصوص لا نهوض لك ، وأمَّا هشام بن سالم فأحسن أن يقع ويطير ، وأمَّا هشام بن الحكم فتكلَّم بالحق فما سوَّغك بريقك.
    يا أخا أهل الشام ! إن الله أخذ ضغثاً من الحقِّ ، وضغثاً من الباطل فمغثهما ، ثمَّ أخرجهما إلى الناس ، ثمَّ بعث أنبياء يفرِّقون بينهما ، ففرَّقها الأنبياء والأوصياء ، وبعث الله الأنبياء ليعرِّفوا ذلك ، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضل الله ومن يختصّ ، ولو كان الحقُّ على حدة والباطل على حدة ، كل واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبيٍّ ولا وصيٍّ ، ولكنَّ الله خلطهما ، وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) من عباده.
    فقال الشامي : قد أفلح من جالسك.
    فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يجالسه جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، يصعد إلى السماء فيأتيه بالخبر من عند الجبّار ، فإن كان ذلك كذلك فهو كذلك.
    فقال الشامي : اجعلني من شيعتك وعلِّمني.
    فقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) لهشام : علِّمه ، فإنّي أحبُّ أن يكون تلماذاً لك.
    قال علي بن منصور وأبو مالك الحضرمي : رأينا الشاميَّ عند هشام بعد موت أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، ويأتي الشامي بهدايا أهل الشام ، وهشام يزوِّده هدايا أهل العراق. قال علي بن منصور : وكان الشاميُّ ذكيَّ القلب (1).
1 ـ اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 2/554 ـ 560 ح 494 ، بحار الأنوار : 47/407 ـ 409 ح 11.

(62)
    المناظرة العاشرة
مناظرة
الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع يحيى بن الضحاك السمرقندي
    قال الشيخ الصدوق عليه الرحمة : ذكر ما كلم به الرضا ( عليه السلام ) يحيى بن الضحاك السمرقندي في الإمامة عند المأمون ، حدثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال : حدثني محمّد بن يحيى الصولي قال : .. كان المأمون في باطنه يحب سقطات الرضا ( عليه السلام ) وأن يعلوه المحتج ، وإن أظهر غير ذلك ، فاجتمع عنده الفقهاء والمتكلمون فدس إليهم أن ناظروه في الإمامة فقال لهم الرضا ( عليه السلام ) : اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه ، فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي ، ولم يكن بخراسان مثله ، فقال له الرضا ( عليه السلام ) : يا يحيى سل عما شئت.
    فقال : نتكلم في الإمامة ، كيف ادعيت لمن لم يؤم وتركت من أم ، ووقع الرضا به ؟
    فقال له ( عليه السلام ) : يا يحيى أخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه ، أو كذب صادقا على نفسه ، أيكون محقا مصيبا ، أم مبطلاً مخطياً ؟
    فسكت يحيى ، فقال له المأمون : أجبه.


(63)
    فقال : يعفيني أميرالمؤمنين من جوابه.
    فقال المأمون : يا أبا الحسن عرفنا الغرض في هذه المسألة.
    فقال ( عليه السلام ) : لابد ليحيى من أن يخبر عن أئمته : أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا ؟ فإن زعم أنهم كذبوا فلا أمانة لكذاب (1) ، وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم : وليتكم ولست بخيركم (2) ، وقال تاليه : كانت بيعته فلته فمن عاد لمثلها فاقتلوه (3) فو الله ما رضي لمن فعل مثل فعلهم إلاّ بالقتل ، فمن لم يكن بخير الناس والخيرية لا تقع إلاّ بنعوت منها : العلم ، ومنها الجهاد ، ومنها سائر الفضائل وليست فيه (4) ومن كانت بيعته فلته يجب القتل على من فعل مثلها ، كيف يقبل عهده غيره
1 ـ في الإحتجاج : فلا إمامة.
2 ـ روى عبد الرزاق الصنعاني : عن معمر رجل عن الحسن أن أبا بكر خطب فقال : أما والله ما أنا بخيركم ، ولقد كنت لقامي هذا كارها ، ولوددت لو أن فيكم من يكفيني ، فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا لا أقوم لها ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعصم بالوحي ، وكان معه ملك ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني ، لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم ، ألا فراعوني ! فإن استقمت فأعينوني ،. إن زغت فقوموني.
    راجع : المصنف ، عبد الرزاق الصنعاني : 11/336 ح 20701 و 20702 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 52 ، الطبقات الكبرى ، محمّد بن سعد : 3/212 ، تاريخ اليعقوبي : 2/127 ، الثقات ، ابن حبان : 2/157 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1/34 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/56 و 6/20 تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 30/301 ـ 303 ، تاريخ الطبري : 2/450 و 460 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5/269 و 334 ، السيرة النبوية ، ابن كثير : 4/493 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 5/589 ح 1405 ، و 599 ح 14062 و 607 ح 14073 ، تفسير القرطبي : 3/262.
3 ـ صحيح البخاري : 8/26 ، المصنف ، ابن أبي شيبة : 7/615 ـ 616 ح 5 ، و 8/570 ح 1 ، تأريخ اليعقوبي : 2/158 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/31 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 6/5 ، الثقات ، ابن حبان : 2/156 ، الفائق في غريب الحديث ، الزمخشري : 3/50.
4 ـ جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 17/156 : اعترض المرتضى رضي الله عنه فقال : أما قول أبي بكر : وليتكم ولست بخيركم ، فإن استقمت فاتبعوني ، وإن اعوججت فقوموني ، فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني ، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ، فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامه من وجهين :
    أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم ، ولا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية ، وقد بينا أن الإمام لابد أن يكون معصوما موفقا مسددا.
    والوجه الآخر : أن هذه صفة من لا يملك نفسه ، ولا يضبط غضبه ، ومن هو في نهاية الطيش والحدة والخرق والعجلة ، ولا خلاف أن الإمام يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف ، غير حاصل عليها ، وليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلها ، لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب ، وأن عادته بذلك جاريه ، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه ، ويزين له القبيح فلا يأتيه ، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب ، بل هو زيادة في التكليف ، ووجه يتضاعف معه الثواب .. الخ.


(64)
إلى غيره وهذه صورته ؟! ثم يقول على المنبر : إن لي شيطانا يعتريني ، فإذا مال بي فقوموني ، وإذا أخطأت فأرشدوني ، فليسوا أئمة بقولهم إن صدقوا أو كذبوا ، فما عند يحيى في هذا جواب ؟
    فعجب المأمون من كلامه وقال : يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك (1).
1 ـ عيون أخبار الرضا ، ( عليه السلام ) ، الصدوق : 1/255 ـ 256 ح 1 ، الإحتجاج ، الطبرسي : 2/234 ـ 235.

(65)
    المناظرة الحادية عشرة
مناظرة
فروة بن عمرو مع قيس بن مخرمة لمَّا بويع أبو بكر
    قام فروة بن عمرو الأنصاري ـ وكان يقود مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرسين ، ويصرم ألف وسق من تمر فيتصدَّق به على المساكين ـ فنادى : يا معشر قريش ! أخبروني هل فيكم رجل تحلّ له الخلافة ، وفيه ما في عليٍّ ( عليه السلام ) ؟
    فقال قيس بن مخرمة الزهري : ليس فينا من فيه ما في عليٍّ ( عليه السلام ).
    فقال له : صدقت ، فهل في علي ( عليه السلام ) ما ليس في أحد منكم ؟
    قال : نعم.
    قال : فما يصدُّكم عنه ؟
    قال : اجتماع الناس على أبي بكر.
    قال : أما والله ، لئن أصبتم سنَّتكم لقد أخطأتم سنَّة نبيِّكم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولو جعلتموها في أهل بيت نبيِّكم (1) لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم (2).
1 ـ في المسترشد للطبري : فلو جعلتموها في علي ( عليه السلام ).
2 ـ كشف المحجّة ، ابن طاووس : 177 ، المسترشد ، محمّد بن جرير الطبري ( الشيعي ) : 413 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 30/11 ـ 12.


(66)
    المناظرة الثانية عشرة
مناظرة
المقداد مع عبد الرحمن بن عوف بعد تولّي عثمان الخلافة
    قال الشعبي : حدَّثني عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي ، قال : كنت جالساً بالمدينة حيث بويع عثمان ، فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو ، فسمعته يقول : والله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت ( عليهم السلام ) !
    وكان عبد الرحمن بن عوف جالساً ، فقال : وما أنت وذاك يا مقداد ؟! قال المقداد : إنّي والله أحبُّهم لحبِّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإنّي لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمَّ انتزاعهم سلطانه من أهله.
    قال عبد الرحمن : أما والله لقد أجهدت نفسي لكم.
    قال المقداد : أما والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحقِّ وبه يعدلون ، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إيَّاهم ببدر واحد.
    فقال عبد الرحمن : ثكلتك أمُّك ، لا يسمعن هذا الكلام الناس ، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.
    قال المقداد : إن من دعا إلى الحقِّ وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب


(67)
فتنة ، ولكن من أقحم الناس في الباطل ، وآثر الهوى على الحقِّ ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.
    قال : فتربَّد وجه عبد الرحمن ، ثمَّ قال : لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي ولك شأن.
    قال المقداد : إياي تهدِّد يابن أم عبد الرحمن ؟!
    ثمَّ قام عن عبد الرحمن ، فانصرف.
    قال جندب بن عبدالله : فاتبعته ، وقلت له : يا عبدالله ! أنا من أعوانك.
    فقال : رحمك الله ! إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة.
    قال : فدخلت من فوري ذلك على عليٍّ ( عليه السلام ) ، فلمَّا جلست إليه قلت : يا أبا الحسن ! والله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر ، عنك.
    فقال : صبر جميل والله المستعان.
    فقلت : والله إنك لصبور !
    قال : فإن لم أصبر فما ذا أصنع ؟
    قلت : إنّي جلست إلى المقداد بن عمرو آنفاً وعبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا وكذا ، ثمَّ قام المقداد فاتبعته ، فقلت له كذا ، فقال لي كذا ، فقال علي ( عليه السلام ) : لقد صدق المقداد ، فما أصنع ؟
    فقلت : تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك ، وتخبرهم أنك أولى بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك ، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين ، فإن دانوا لك فذاك ، وإلاَّ قاتلتهم ، وكنت أولى بالعذر ، قتلت أو بقيت ، وكنت أعلى عند الله حجَّة.
    فقال : أترجو ـ يا جندب ـ أن يبايعني من كل عشرة واحد ؟


(68)
    قلت : أرجو ذلك.
    قال : لكنّي لا أرجو ذلك ، لا والله ولا من المائة واحد ، وسأخبرك ، إن الناس إنّما ينظرون إلى قريش فيقولون : هم قوم محمَّد وقبيله ، وأمَّا قريش بينها فتقول : إن آل محمَّد يرون لهم على الناس بنبوَّته فضلا ، ويرون أنهم أولياء هذا الأمر دون قريش ، ودون غيرهم من الناس ، وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبداً ، ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها ، لا والله لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبداً !
    فقلت : جعلت فداك يابن عمِّ رسول الله ! لقد صدَّعت قلبي بهذا القول ، أفلا أرجع إلى المصر ، فأوذن الناس بمقالتك ، وأدعو الناس إليك ؟
    فقال : يا جندب ! ليس هذا زمان ذاك.
    قال : فانصرفت إلى العراق ، فكنت أذكر فضل علي ( عليه السلام ) على الناس ، فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك ، فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ، فيقوم عنّي ويدعني (1).
1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/56 ـ 58.

(69)
    المناظرة الثالثة عشرة
مناظرة
ابن عباس مع عمر
    عن نبيط بن شريط قال : خرجت مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ومعنا عبدالله ابن عباس ، فلمَّا صرنا إلى بعض حيطان الأنصار وجدنا عمر جالساً وحده ينكت الأرض ، فقال له علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : يا أميرالمؤمنين ! ما الذي أجلسك وحدك هاهنا ؟ فقال : لأمر همَّني.
    قال عليٌّ : أفتريد أحدنا ؟
    قال عمر : إن كان فعبد الله.
    فتخلَّف معه عبدالله بن عباس ، ومضيت مع عليٍّ ، وأبطأ علينا ابن عباس ثم لحق بنا ، فقال له علي ( عليه السلام ) : ما وراءك ؟
    قال : يا أبا الحسن ! أعجوبة من عجائب أميرالمؤمنين أخبرك بها واكتم عليَّ.
    فقال : هلمَّ.
    قال : لمَّا أن ولَّيت قال عمر ـ وهو ينظر إلى أثرك ـ : آه آه آه.
    فقلت : ممَّ تأوُّهك يا أميرالمؤمنين ؟


(70)
    قال : من أجل صاحبك ـ يا ابن عباس ـ وقد أعطي ما لم يعطه أحد من آل النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولو لا ثلاث هنَّ فيه ما كان لهذا الأمر من أحد سواه.
    قلت : ما هنَّ يا أميرالمؤمنين ؟
    قال : كثرة دعابته ، وبغض قريش له ، وصغر سنِّه.
    قال : فما رددتَ عليه ؟
    قال : داخلني ما يداخل ابن العمِّ لابن عمِّه ، فقلت : يا أميرالمؤمنين ! أمَّا كثرة دعابته فقد كان النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يداعب فلا يقول إلاَّ حقاً ، وأين أنت حيث كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ونحن حوله صبيان وكهول وشيوخ وشبَّان ، ويقول للصبيِّ : ( سناقا ، سناقا ) ولكل ما يعلمه الله يشتمل على قلبه (1).
    وأمَّا بغض قريش له فوالله ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في الله حتى أظهر الله دينه ، فقصم أقرانها ، وكسر آلهتها ، وأثكل نساءها ، لامه من لامه.
    وأمَّا صغر سنِّه فقد علمت أن الله تعالى حيث أنزل على رسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (2) وجَّه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صاحبه ليبلِّغ عنه ، فأمره الله أن لا يبلِّغ عنه ألاَّ رجل من أهله ، فوجَّهه في أثره ، فهل استصغر الله سنَّه ؟
    فقال عمر لابن عباس : أمسك عليَّ ، واكتم ، فإن سمعتها من غيرك لم أنم بين لابتيها (3).
1 ـ وفي الهامش : ( دل كل ما يعمله أنه يشتمل على قلبه ).
2 ـ سورة التوبة ، الآية : 1.
3 ـ فرائد المسطين ، الجويني : 1/334 ـ 336.


(71)
    المناظرة الرابعة عشرة
مناظرة
سعد بن أبي وقاص مع معاوية
في حرمة قتال أميرالمؤمنين ( عليه السلام )
    روى ابن عساكر بالإسناد عن عبيدالله بن عبد الله المديني قال : حجَّ معاوية بن أبي سفيان فمرَّ بالمدينة ، فجلس في مجلس فيه سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عباس ، فالتفت إلى عبد الله ابن عباس فقال : يا أبا عباس ! إنك لم تعرف حقَّنا من باطل غيرنا ، فكنت علينا ولم تكن معنا ، وأنا ابن عمِّ المقتول ظلماً ـ يعني عثمان بن عفان ـ وكنت أحقَّ بهذا الأمر من غيري.
    فقال ابن عباس : اللهم إن كان هكذا فهذا ـ وأومأ إلى ابن عمر ـ أحقُّ بها منك ; لأن أباه قتل قبل ابن عمك.
    فقال معاوية : ولا سواء : إن أبا هذا قتله المشركون ، وابن عمي قتله المسلمون.
    فقال ابن عباس : هم والله أبعد لك ، وأدحض لحجّتك.
    فتركه ، وأقبل على سعد فقال : يا أبا إسحاق ! أنت الذي لم تعرف حقَّنا ، وجلس فلم يكن معنا ولا علينا.


(72)
    قال : فقال سعد : إني رأيت الدنيا قد أظلمت ، فقلت لبعيري : إخ ، فأنختها حتى انكشفت.
    قال : فقال معاوية : لقد قرأت ما بين اللوحين ، ما قرأت في كتاب الله عزَّوجلَّ : إخ.
    قال : فقال سعد : أمَّا إذا أبيت فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لعلي : أنت مع الحق والحق معك حيثما دار.
    قال : فقال معاوية : لتأتيني على هذا ببيِّنة.
    قال : فقال سعد : هذه أم سلمة تشهد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقاموا جميعاً فدخلوا على أم سلمة ، فقالوا : يا أم المؤمنين ! إن الأكاذيب قد كثرت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا سعد يذكر عن النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما لم نسمعه.
    أنه قال ـ يعني لعلي ( عليه السلام ) ـ : أنت مع الحق والحق معك حيثما دار.
    فقالت أم سلمة : في بيتي هذا قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي.
    قال : فقال معاوية لسعد : يا أبا اسحاق ! ما كنت ألوم الآن إذ سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجلست عن علي ( عليه السلام ) ، لو سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكنت خادماً لعلي حتى أموت (1).
    ولا يسوغ لمعاوية أن يتذرَّع بعدم معرفة علي ( عليه السلام ) وفضله ، وحرمة قتاله ، وأنه على الحق ، والمتتبِّع لكلمات معاوية في حق علي ( عليه السلام ) يلمس جيّداً أنه كان يعرف الكثير من فضل علي ( عليه السلام ) ، ويعرف حرمته ، ومع ذلك لا يتورَّع عن عداوته
1 ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 20/360 ـ 361 ، مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، محمّد بن سليمان الكوفي : 1/421 ـ 423 ح 330.

(73)
وقتاله وشتمه ، غير أن الحقد الدفين أصمَّه وصدَّه عن الحق وأعمى بصيرته.
    قال المسعودي بعد رواية ابن أبي نجيح : ووجدت في وجه آخر من الروايات ـ وذلك في كتاب علي بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار ـ عن ابن عائشة وغيره : ان سعداً لمَّا قال هذه المقالة لمعاوية (1) ونهض ليقوم ضرط له معاوية ، وقال له : اقعد حتى تسمع جواب ما قلت ، ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن ، فهلا نصرته ؟ ولم قعدت عن بيعته ؟ فاني لو سمعت من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليٍّ ما عشت.
    فقال سعد : والله إني لأحقُّ بموضعك منك.
    فقال معاوية : يأبى عليك بنو عذرة ، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة (2).
    وفي رواية ابن كثير في تأريخه قال : دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية ، فقال له : مالك لم تقاتل علياً ؟
    فقال : اني مرَّت بي ريح مظلمة ، فقلت : أخ أخ ، فأنخت راحلتي حتى انجلت عنّي ، ثمَّ عرفت الطريق فسرت.
    فقال معاوية : ليس في كتاب الله أخ أخ ، ولكن قال الله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (3) فو الله ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية.
1 ـ يعني ذكره بعض فضائل علي ( عليه السلام ) وما سمعه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حقه.
2 ـ مروج الذهب ، المسعودي : 3/15 ، وحكى شطراً منه سبط ابن الجوزي في تذكرته : 27.
3 ـ سورة الحجرات ، الآية : 9.


(74)
    فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيَّ بعدي (1).
    فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟
    فقال : فلان وفلان وأم سلمة.
    فقال معاوية : أما إني لو سمعته منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما قاتلت علياً.
    قال : وفي رواية من وجه آخر : إن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية ، وإنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها ، فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد ، فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليٍّ ( عليه السلام ) حتى يموت أو أموت (2).
1 ـ فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 12 ـ 14 ، صحيح مسلم : 7/120 ـ 121 ، سنن الترمذي : 5/302 ح 3808 و 304 ح 3813 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3/23 ـ 24 ، المستدرك ، الحاكم : 2/337 ـ 338 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، و 3/108 ـ 109 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة و 3/133 أيضاً ، السنن الكبرى ، البيهقي : 9/40 ، المصنَّف ، عبد الرزاق : 5/405 ـ 406 ح 9745. وغير ذلك من المصادر الكثيرة ، كما أن هذا الحديث يعدُّ من المتواترات.
2 ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/83 ـ 84.


(75)
    المناظرة الخامسة عشرة
مناظرة
ابن عباس مع عتاب بن الأعور
    قال ابن شهر آشوب في أمر الخوارج واجتماعهم لقتال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : وكانوا اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة والبصرة وغيرهما ، ونادى مناديهم : إن أميرالمؤمنين شبث بن ربعي ، وأمير الصلاة عبدالله بن الكوَّاء ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعرضوا الناس ، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت ، وكان عامله ( عليه السلام ) على النهروان.
    فقال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : يا ابن عباس ! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا ؟
    فلمَّا وصل إليهم قالوا : ويلك يا ابن عباس ! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب ؟ وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور الثعلبي.
    فقال ابن عباس : من بنى الإسلام ؟
    فقال : الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فقال : النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحكم أموره ودخل بين حدوده أم لا ؟
    قال : بلى.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس