مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 76 ـ 90
(76)
    قال : فالنبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقي في دار الإسلام أم ارتحل ؟
    قال : بل ارتحل.
    قال : فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت بعده ؟
    قال : بل بقيت.
    قال : وهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه ؟
    قال : نعم ، الذرِّيَّة والصحابة.
    قال : أفعمروها أو خربوها ؟
    قال : بل عمروها.
    قال : فالآن هي معمورة أم خراب ؟
    قال : بل خراب.
    قال : خربها ذرِّيَّته أم أمَّته ؟
    قال : بل أمَّته.
    قال : وأنت من الذرِّيَّة أو من الأمَّة ؟
    قال : من الأمَّة.
    قال : أنت من الأمَّة وخربت دار الإسلام ، فكيف ترجو الجنّة ؟
    وجرى بينهم كلام كثير (1).
    ورواها ابن الأعثم الكوفي ـ أيضاً ـ أكمل من السابقة ، قال : فبينا عليٌّ ـ كرَّم الله وجهه ـ مقيم بالكوفة ينتظر انقضاء المدّة التي كانت بينه وبين معاوية ، ثمَّ يرجع إلى محاربة أهل الشام ، إذ تحرَّكت طائفة من خاصَّة أصحابه في أربعة
1 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/369 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 33/388 ـ 389 ح 618.

(77)
آلاف فارس ، وهم من النسَّاك العبَّاد أصحاب البرانس ، فخرجوا عن الكوفة ، وتحزَّبوا ، وخالفوا عليّاً ـ كرَّم الله وجهه ـ وقالوا : لا حكم إلاَّ لله ، ولا طاعة لمن عصى الله ، قال : وانحاز إليهم ما ينيف عن ثمانية آلاف رجل ممن يرى رأيهم.
    قال : فصار القوم في اثني عشر ألفاً ، وساروا حتى نزلوا بحروراء ، وأمَّروا عليهم عبد الله بن الكوَّاء.
    قال : فدعا عليٌّ ( عليه السلام ) بعبد الله بن عباس فأرسله إليهم ، وقال : يا ابن عباس ! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا ؟
    قال : فأقبل عليهم ابن عباس حتى إذا أشرف عليهم ونظروا إليه ناداه بعضهم ، وقال : ويلك يا ابن عباس ! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب ؟
    فقال ابن عباس : إني لا أستطيع أن أكلِّم كلَّكم ، ولكن انظروا أيّكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليَّ حتى أكلِّمه.
    قال : فخرج إليه رجل منهم يقال له : عتاب بن الأعور الثعلبي حتى وقف قبالته ، وكأنَّ القرآن إنَّما كان ممثَّلا بين عينيه ، فجعل يقول ويحتجُّ ويتكلَّم بما يريد ، وابن عباس ساكت لا يكلِّمه بشيء ، حتى إذا فرغ من كلامه أقبل عليه ابن عباس ، فقال : إنّي أريد أن أضرب لك مثلا ، فإن كنت عاقلا فافهم.
    فقال الخارجي : قل ما بدالك.
    فقال له ابن عباس : خبرِّني عن دار الإسلام هذه ، هل تعلم لمن هي ؟ ومن بناها ؟
    فقال الخارجي : نعم ، هي لله عزَّ وجلَّ ، وهو الذي بناها على أيدي أنبيائه ( عليهم السلام ) وأهل طاعته ، ثمَّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا


(78)
تعبدوا إلاَّ إيّاه ، فآمن قوم وكفر قوم ، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فقال ابن عباس : صدقت ، ولكن خبِّرني عن محمّد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء ، هل أحكم عمارتها ، وبيَّن حدودها ، وأوقف الأمَّة على سبلها وعملها وشرايع أحكامها ومعالم دينها ؟
    قال الخارجي : نعم ، قد فعل محمّد ذلك.
    قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، هل بقي فيها أو رحل عنها ؟
    قال الخارجي : بل رحل عنها.
    قال ابن عباس : فخبِّرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بيِّنة الحدود ، أم رحل عنها وهي خربة لا عمران فيها ؟
    قال الخارجي : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة ، بيِّنة الحدود ، قائمة المنار.
    قال ابن عباس : صدقت الآن ، فخبِّرني هل كان لمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا ؟
    قال الخارجي : بلى ، قد كان له صحابة ، وأهل بيت ، ووصيٌّ ، وذرِّيَّة يقومون بعمارة هذه الدار من بعده.
    قال ابن عباس : ففعلوا أم لم يفعلوا ؟
    قال الخارجي : بلى ، قد فعلوا ، وعمروا هذه الدار من بعده.
    قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن هذه الدار من بعده ، هل هي اليوم على ما تركها محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كمال عمارتها ، وقوام حدودها ، أم هي خربة عاطلة الحدود ؟


(79)
    قال الخارجي : بل هي عاطلة الحدود ، خربة.
    قال ابن عباس : أفذرِّيَّته وليت هذه الخراب أم أمَّته ؟
    قال : بل أمَّته.
    قال ابن عباس : أفأنت من الأمَّة أو من الذرِّيَّة ؟
    قال : أنا من الأمَّة.
    قال ابن عباس : يا عتاب ! فخبِّرني الآن عنك ، كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمَّة قد أخربت دار الله ودار رسوله ( عليه السلام ) ، وعطَّلت حدودها ؟
    فقال الخارجي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! ويحك يا ابن عباس ! احتلت والله حتى أوقعتني في أمر عظيم ، وألزمتني الحجّة حتى جعلتني ممن أخرب دار الله ، ولكن ويحك يا ابن عباس ! فكيف الحيلة في التخليص مما أنا فيه ؟
    قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمَّة من دار الإسلام.
    قال : فدلَّني على السعي في ذلك.
    قال ابن عباس : إن أوَّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه.
    قال : صدقت يا ابن عباس ! والله ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحبُّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمِّك عليِّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) لو لا أنه حكَّم عبدالله بن قيس في حقٍّ هو له.
    قال ابن عباس : ويحك يا عتاب ! إنَّا وجدنا الحكومة في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، إنه قال تعالى : ( فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ

(80)
اللّهُ بَيْنَهُمَا ) (1) ، وقال تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ ) (2).
    قال : فصاحت الخوارج من كل ناحية ، وقالوا : فكأن عمرو بن العاص عندك من العدول ؟ وأنت تعلم أنه كان في الجاهليَّة رأساً ، وفي الإسلام ذنباً ، وهو الأبتر ابن الأبتر ، ممن قاتل محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفتن أمَّته من بعده.
    قال : فقال ابن عباس : يا هؤلاء ! إن عمرو بن العاص لم يكن حكماً ، أفتحتجُّون به علينا ؟ إنما كان حكماً لمعاوية ، وقد أراد أميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) أن يبعثني أنا فأكون له حكماً ، فأبيتم عليه ، وقلتم : قد رضينا بأبي موسى الأشعري ، وقد كان أبو موسى لعمري رضيّاً في نفسه وصحبته وإسلامه وسابقته ، غير أنه خدع فقال ما قال ، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى ، فاتقوا ربَّكم ، وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فإنّه وإن كان قاعداً عن طلب حقِّه فإنّما ينتظر انقضاء المدة ، ثمَّ يعود إلى محاربة القوم ، وليس علي ( عليه السلام ) ممن يقعد عن حقٍّ جعله الله له.
    قال : فصاحت الخوارج ، وقالوا : هيهات يا ابن عباس ! نحن لا نتولَّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً ، فارجع إليه وقل له : فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتجَّ عليه ونسمع كلامه .. (3).
1 ـ سورة النساء ، الآية : 35.
2 ـ سورة المائدة ، الآية : 95.
3 ـ كتاب الفتوح ، ابن الأعثم الكوفي : 4/89 ـ 95.


(81)
    المناظرة السادسة عشرة
مناظرة
ابن عباس مع عائشة في دفن الإمام الحسن ( عليه السلام )
عند جدِّه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومنع مروان بن الحكم من دفنه
    قال القرطبي : لمَّا مات الحسن ( عليه السلام ) أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأبت ذلك عائشة ، وركبت بغلة ، وجمعت إليها الناس ، فقال لها ابن عباس : كأنكِ أردتِ أن يقال : يوم البغلة كما قيل : يوم الجمل ؟
    قالت : رحمك الله ، ذاك يوم نسي.
    قال : لا يوم أذكر منه على الدهر (1).
    وقال اليعقوبي : لمَّا حضرته ( عليه السلام ) الوفاة قال لأخيه الحسين ( عليه السلام ) : يا أخي ! إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السمَّ ، ولم أسقه مثل مرَّتي هذه ، وأنا ميِّت من يومي ، فإذا أنا متُّ فادفنّي مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فما أحدٌ أولى بقربه منّي ، إلاَّ أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم.
    ثمَّ أخرج نعشه يراد به قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فركب مروان بن الحكم ،
1 ـ بهجة المجالس وأنس المجالس ، القرطبي : 1/100.

(82)
وسعيد بن العاص ، فمنعا من ذلك ، حتى كادت تقع فتنة.
    وقيل : إن عائشة ركبت بغلة شهباء ، وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد ، فأتاها القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، فقال لها : يا عمَّة ! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال : يوم البغلة الشهباء ؟ فرجعت.
    واجتمع مع الحسين بن علي ( عليهما السلام ) جماعة وخلق من الناس ، فقالوا له : دعنا وآل مروان ، فوالله ما هم عندنا إلاَّ كأكلة رأس.
    فقال : إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم (1).
    وروى أبو الفرج الإصفهاني ، عن عمير بن إسحاق قال : كنت مع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في الدار ، فدخل الحسن المخرج ، ثمَّ خرج فقال : لقد سقيت السمَّ مراراً ، ما سقيته مثل هذه المرَّة ، ولقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلِّبها بعود معي ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : من سقاكه ؟ فقال : وما تريد منه ؟ أتريد أن تقتله ؟ إن يكن هو هو فالله أشدُّ نقمة منك ، وإن لم يكن هو فما أحبُّ أن يؤخذ بي بريءٌ.
    ودفن الحسن ( عليه السلام ) في جنب قبر فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، في البقيع ، في ظلّة بني نبيه ، وقد كان أوصى أن يدفن مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فمنع مروان بن الحكم من ذلك ، وركبت بنو أميَّة في السلاح ، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن ( عليه السلام ) في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ والله لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف ، فكادت الفتنة تقع.
    وأبى الحسين ( عليه السلام ) أن يدفنه إلاَّ مع النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال له عبد الله بن جعفر : عزمت عليك بحقّي ألا تكلَّم بكلمة ، فمضى به إلى البقيع ، وانصرف مروان بن
1 ـ تأريخ اليعقوبي : 2/225.

(83)
الحكم.
    وقال علي بن طاهر بن زيد : لمَّا أرادوا دفنه ركبت عائشة بغلا ، واستنفرت بني أميَّة ; مروان بن الحكم ، ومن كان هناك منهم ومن حشمهم ، وهو القائل :
فيوماً على بغل ويوماً على جمل (1)
    وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، عن ابن عباس ما جاء في وصيَّة الإمام الحسن بن علي ( عليهما السلام ) لأخيه الحسين ( عليه السلام ) ، ومما جاء فيها : فإنّي أوصيك ـ يا حسين ـ بمن خلَّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإني أحقُّ به وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، ولا كتاب جاءهم من بعده ، قال الله تعالى فيما أنزله على نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (2) ، فوالله ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير إذنه ، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته ، ونحن مأذون لنا في التصرُّف فيما ورثناه من بعده ، فإن أبت عليك الامرأة فأنشدك بالقرابة التي قرَّب الله عزَّوجلَّ منك ، والرحم الماسّة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لا تهريق فيَّ محجمة (3) من دم حتى نلقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنختصم إليه ، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده. ثم قبض ( عليه السلام ).
    قال ابن عباس : فدعاني الحسين ( عليه السلام ) وعبد الله بن جعفر وعلي بن عبدالله بن العباس ، فقال : اغسلوا ابن عمِّكم ، فغسلناه وحنّطناه وألبسناه أكفانه ، ثمَّ خرجنا به حتى صلَّينا عليه في المسجد ، وإن الحسين ( عليه السلام ) أمر أن يفتح البيت ،
1 ـ مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصفهاني : 48 ـ 49.
2 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 53.
3 ـ المحجمة : أداة الحجم ، والقارورة التي يجمع فيها دم الحجامة.


(84)
فحال دون ذلك مروان بن الحكم ، وآل أبي سفيان ، ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان ، وقالوا : أيدفن أميرالمؤمنين عثمان الشهيد القتيل ظلماً بالبقيع بشرِّ مكان ، ويدفن الحسن ( عليه السلام ) مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟! والله لا يكون ذلك أبداً حتى تكسر السيوف بيننا ، وتنقصف الرماح ، وينفد النبل.
    فقال الحسين ( عليه السلام ) : أما والله الذي حرَّم مكة ، لَلْحسن بنُ عليٍّ بنُ فاطمة أحقُّ برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، وهو والله أحقُّ به من حمَّال الخطايا ، مسيِّر أبي ذر ( رحمه الله ) ، الفاعل بعمَّار ما فعل ، وبعبد الله ما صنع ، الحامي الحمى ، المؤوي لطريد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لكنَّكم صرتم بعده الأمراء ، وبايعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء.
    قال : فحملناه ، فأتينا به قبر أمِّه فاطمة ( عليها السلام ) فدفنّاه إلى جنبها.
    قال ابن عباس : وكنت أول من انصرف ، فسمعت اللغط ، وخفت أن يعجل الحسين ( عليه السلام ) على من قد أقبل ، ورأيت شخصاً علمت الشرَّ فيه ، فأقبلت مبادراً ، فإذا أنا بعائشة في أربعين راكباً على بغل مرحَّل ، تقدمهم وتأمرهم بالقتال ، فلمَّا رأتني قالت : إليَّ إليَّ يابن عباس ! لقد اجترأتم عليَّ في الدنيا ، تؤذونني مرَّة بعد أخرى ، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبُّ.
    فقلت : واسوأتاه ! يوم على بغل ، ويوم على جمل ، تريدين أن تطفئي فيه نور الله ، وتقاتلي أولياء الله ، وتحولي بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين حبيبه أن يدفن معه ، ارجعي فقد كفى الله ( تعالى ) المؤنة ، ودفن الحسن ( عليه السلام ) إلى جنب أمِّه ، فلم يزدد من الله ( تعالى ) إلاَّ قرباً ، وما ازددتم منه والله إلاَّ بعداً ، يا سوأتاه ! انصرفي فقد رأيت ما سرَّك.
    قال : فقطَّبت في وجهي ، ونادت بأعلى صوتها : أما نسيتم الجمل يابن


(85)
عباس ؟ إنكم لذوو أحقاد.
    فقلت : أما والله ما نسيه أهل السماء ، فكيف ينساه أهل الأرض ؟! فانصرفت وهي تقول :
فألقت عصاها فاستقرَّت بها النوى كما قرَّعيناً بالإياب المسافر (1)
    وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16/13 ـ 14 ، قال : روى المدائني ، عن يحيى بن زكريا ، عن هشام بن عروة ، قال : قال الحسن ( عليه السلام ) عند وفاته : ادفنوني عند قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاَّ أن تخافوا أن يكون في ذلك شرٌّ ، فلمَّا أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم : لا يدفن عثمان في حشّ كوكب (2) ويدفن الحسن ها هنا ، فاجتمع بنو هاشم وبنو أميَّة ، وأعان هؤلاء قوم ، وهؤلاء قوم ، وجاءوا بالسلاح ، فقال أبو هريرة لمروان : أتمنع الحسن ( عليه السلام ) أن يدفن في هذا الموضع ، وقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة ؟! قال مروان : دعنا منك ، لقد ضاع حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري ! وإنّما أسلمت أيام خيبر ..
    وروى ابن عساكر ، عن محمّد بن الضحاك الحرامي قال : لمَّا بلغ مروان ابن الحكم أنهم قد أجمعوا أن يدفنوا الحسن بن علي ( عليه السلام ) مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جاء إلى سعيد بن العاص ـ وهو عامل المدينة ـ فذكر ذلك له ، فقال : ما أنت صانع في أمرهم ؟
    فقال : لست منهم في شيء ، ولست حائلا بينهم وبين ذلك.
1 ـ الأمالي ، الشيخ الطوسي : 160 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/151 ح 22.
2 ـ قال في الهامش : حش كوكب ـ بفتح أوَّله وتشديد ثانيه ـ موضع عند بقيع الغرقد ، اشتراه عثمان ، وزاده في البقيع ، ولمَّا قتل ألقي فيه.


(86)
    قال : فخلِّني وإيَّاهم.
    فقال : أنت وذاك.
    فجمع لهم مروان مَنْ كان هناك من بني أميّة وحشمهم ومواليهم ، وبلغ ذلك حسيناً ، فجاء هو ومن معه في السلاح ليدفن حسناً في بيت النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأقبل مروان في أصحابه وهو يقول : يا ربَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بالبقيع ، ويدفن حسن في بيت النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ والله لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.
    فلمَّا صلوا على حسن ( عليه السلام ) خشي عبدالله بن جعفر أن يقع في ذلك ملحمة عظيمة ، فأخذ بمقدَّم السرير ، ثمَّ مضى نحو البقيع .. (1).
1 ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 13/290 ـ 291.

(87)
    المناظرة السابعة عشرة
مناظرة
رجل من بني سعد مع طلحة والزبير في خروج عائشة
    روى الطبري ، قال : فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير ، فقال : أمَّا أنت ـ يا زبير ـ فحواري رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأمَّا أنت ـ يا طلحة ـ فوقيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيدك ، وأرى أمَّكما معكما ، فهل جئتما بنسائكما ؟
    قالا : لا.
    قال : فما أنا منكما في شيء ، واعتزل. وقال السعدي في ذلك :
صُنْتُم حَلاَئِلَكم وَقُدْتُم أُمَّكم أُمِرَتْ بجرِّ ذُيُولِها في بَيْتِها غرضاً يُقَاتِلُ دونها أبناؤُها هُتِكَتْ بطَلْحَةَ والزبيرِ سُتُورُها هذا لَعَمْرُك قلَّةُ الإنصافِ فَهَوَتْ تشقُّ البيدَ بالإِيجافِ بالنَّبْلِ وَالْخِطيِّ والأسيافِ هذا المخبِّرُ عَنْهُمُ والكافي (1)
    وذكر نصر بن مزاحم عن القاسم بن محمّد ، قال : أقبل جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أمَّ المؤمنين ! والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على
1 ـ تاريخ الطبري : 3/482.

(88)
هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة ، فهتكت سترك ، وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مستكرهة ، فاستعيني بالناس (1).
1 ـ تاريخ الطبري 3/482 ، الإمامة والسياسة : 1/88 ، وفيه : فاستعتبي الله ، بدل : فاستعيني بالناس.

(89)
    المناظرة الثامنة عشرة
مناظرة
رجل مع عبد الملك بن مروان
    من كتاب أعلام الدين للديلمي : قال رجل لعبد الملك بن مروان : أناظرك وأنا آمن ؟
    قال : نعم.
    فقال له : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك ، أبنصٍّ من الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    قال : لا.
    قال : اجتمعت الأمّة فتراضوا بك ؟
    فقال : لا.
    قال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها ؟
    قال : لا.
    قال : فاختارك أهل الشورى ؟
    قال : لا.
    قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بفيئهم دونهم ؟


(90)
    قال : بلى.
    قال : فبأيِّ شيء سمِّيت أميرالمؤمنين ، ولم يؤمِّرك الله ولا رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا المسلمون ؟
    قال له : اخرج عن بلادي وإلاَّ قتلتك.
    قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثمَّ خرج عنه (1).
1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 46/335 ح 23.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس