|
|||
(91)
المناظرة التاسعة عشرة
مناظرة
عن شريك بن عبدالله القاضي ، قال : حضرت الأعمش في علّته التي قبض فيها ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فسألوه عن حاله ، فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوَّف من خطيئاته ، وأدركته رقّة فبكى ، فأقبل عليه أبو حنيفة ، فقال : يا أبا محمّد ! اتق الله ، وانظر لنفسك ، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، وقد كنت تحدِّث في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بأحاديث ، لو رجعت عنها كان خيراً لك.
الأعمش مع أبي حنيفة قال الأعمش : مثل ماذا ، يا نعمان ؟ قال : مثل حديث عباية : أنا قسيم النار. قال : أو لمثلي تقول [ هذا ] يا يهودي ؟ أقعدوني ، سنِّدوني ، أقعدوني ، حدَّثني ـ والذي إليه مصيري ـ موسى بن طريف ـ ولم أر أسديّاً كان خيراً منه ـ قال : سمعت عباية بن ربعي إمام الحي ، قال : سمعت علياً أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) يقول : أنا قسيم النار ، أقول : هذا وليّي دعيه ، وهذا عدوّي خذيه. وحدَّثني أبو المتوكل الناجي ، في إمرة الحجاج ، وكان يشتم علياً ( عليه السلام ) (92)
شتماً مقذعاً ـ يعني الحجاج ( لعنه الله ) ـ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا كان يوم القيامة يأمر الله عزَّوجلَّ فأقعد أنا وعلي على الصراط ، ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبَّكما ، وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما.
قال أبو سعيد : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما آمن بالله من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتولَّ ـ أو قال : لم يحبَّ عليّاً ، وتلا ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّار عَنِيد ) (1). قال : فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه ، وقال : قوموا بنا ، لا يجيئنا أبو محمّد بأطمَّ من هذا. قال الحسن بن سعيد : قال لي شريك بن عبدالله : فما أمسى ـ يعني الأعمش ـ حتى فارق الدنيا ( رحمه الله ) (2). 1 ـ سورة ق ، الآية : 24. 2 ـ الأمالى ، الطوسي : 628 ـ 629 ح 7 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/412 ـ 413 ح 19. (93)
المناظرة العشرون
مناظرة
قال الشريف المرتضى عليه الرحمة : أخبرني الشيخ أدام الله عزَّه قال : سأل أبو الهذيل العلاف أبا الحسن علي بن ميثم ( رحمه الله ) عند علي بن رياح ، فقال له : ما الدليل على أن عليّاً ( عليه السلام ) كان أولى بالإمامة من أبي بكر ؟
أبي الحسن علي بن ميثم ( رحمه الله ) مع أبي الهذيل العلاف فقال له : الدليل على ذلك إجماع أهل القبلة على أن علياً ( عليه السلام ) كان عند وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مؤمناً عالماً كافياً ، ولم يجمعوا بذلك على أبي بكر. فقال له أبو الهذيل : ومن لم يجمع عليه عافاك الله ؟ قال له أبو الحسن : أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن. فقال له أبو الهذيل : فأنت وأصحابك ضلاَّل تائهون. قال له أبو الحسن : ليس جواب هذا الكلام إلاَّ السباب ثمَّ اللطام (1). 1 ـ الفصول المختارة ، المفيد : 86. (94)
المناظرة الحادية والعشرون
مناظرة
اجتمع هشام بن الحكم وحفص بن سالم (1) في مجلس ، فقال هشام
هشام بن الحكم مع حفص بن سالم في الخلافة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) 1 ـ الظاهر ـ والله العالم ـ أنه حفص بن سالم مولى ابن هبيرة الذي هو أحد المعتزلة ، وقد ذكره الكليني عليه الرحمة في الذين جاؤوا لمناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، فقد روى عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة ، وناس من رؤسائهم .. ، الخ ، وأغلب الظنّ أنه من البصرة ، وقد روى عنه عمرو بن عبيد ، والذي يدلّ على ذلك أنه جاء في إسناد محمّد بن سليمان الكوفي في كتاب مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، وجاء السند هكذا : عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن عمرو بن عبيد ، عن حفص بن سالم البصري. هذا ولم أجد له ترجمة في كتب الرجال بهذا الاسم في هذه العجالة. وقد جاء في كتب العامة حفص بن سلم أبو مقاتل السمرقندي ، وهو يروي عن سفيان الثوري ، كما في الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ، وذكره سبط ابن العجمي باسم حفص بن سالم وليس سلم. وقد جاء بهذا الإسم في مصادرنا أيضاً وهو : حفص بن سالم الكوفي أبو ولاد ، ولكنه مختلف عنه ; إذ هو من أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، كما في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي عليه الرحمة وغيره. راجع : معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 7/137 رقم : 3768 و 145 رقم : 3786 ، تهذيب المقال ، السيّد محمّد علي الأبطحي : 5/159 ، الكفاية في علم الرواية ، الخطيب البغدادي : 310 ، الكشف الحثيث ، سبط ابن العجمي : 101 ، مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، محمّد بن سليمان الكوفي : 1/154. رقم : 88. (95)
لحفص : أخبرني هل يجوز أن يخرج الحقّ من الأمّة حتى يكون الحق موجوداً في غير الأمّة ؟
قال حفص : لا يجوز ذلك. فقال هشام : أو ليس انما اختلفت الأمّة في علي ( عليه السلام ) وأبي بكر ، والخلافة كانت لأحدهما ـ لا محالة ـ بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال حفص : بلى. قال هشام : أفليس قد سقط العباس بقرابته ، ومعاذ بن جبل بعلمه ؟ قال حفص : بلى. قال هشام : وقد سقط الناس كلّهم بعد هذين ؟ قال : نعم. قال : فلا يحتاج إذن إلى النظر في أمرهم ، وانّما النظر في أبي بكر وعلي ( عليه السلام ) أيّهما يستحقّ الخلافة ممّن لا يستحقّها إذا كان الأمر بالاختيار على ما زعمتم ؟ قال : نعم. قال هشام : أفليس قد رويتم أن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : عليٌّ أقضاكم (1). 1 ـ راجع : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 و 7/219 ، فيض القدير ، المناوي : 1/285 ، تفسير القرطبي : 15/162 ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ، البري : 71 ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي ( عليه السلام ) ، ابن الدمشقي : 1/76 ، تاريخ ابن خلدون ، ابن خلدون : 1/197. وعن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرسلا .. وأقضاهم علي. ( فتح الباري ، ابن حجر : 8/127 ).
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علىٌّ أقضى أمتي بكتاب الله ، فمن أحبَّني فليحبَّه ، فان العبد لا ينال ولا يتي إلاَّ بحبِّ علي ( عليه السلام ). ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/241 ). وروي عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أقضى أمتي علي. قال الطبري : أخرجه البغوي في المصابيح في الحسان.
( ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 83 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8/127 ). وقد اعترف الصحابة وغيرهم بأن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) أقضى الأمة. فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده : 5/113 : عن عمر بن الخطاب قال : علي أقضانا ، وروى أحمد بن عبدالله الطبري في ذخائر العقبى : 83 : عن عمر قال : أقضانا علي. قال : أخرجه الحافظ السلفي. وعن ابن عبّاس قال : إذا حدَّثنا ثقة عن عليٍّ بفتيا لا نعدوها. وعن أبي إسحاق أن عبدالله كان يقول : أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب. ( الطبقات الكبرى ، محمّد بن سعد : 2/338 ـ 339 ). وعن النعمان بن ثابت القاضي قال : حدَّثنا شريح القاضي ، قال : حدَّثنا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ـ وكان أقضى الأمة ـ قال : لمَّا أنفذني النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى اليمن قال : يا علي ! الناس رجلان ، فعاقل يصلح للعفو ، وجاهل يصلح للعقوبة. ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 20/236 ). وروى البيهقي ، عن محمّد بن سليمان ، عن رقبة قال : خرج يزيد بن أبي مسلم من عند الحجاج ، فقال : لقد قضى الأمير بقضيّة ، فقال له الشعبي : وما هي ؟ فقال : قال : ما كان للرجل فهو للرجل ، وما كان للنساء فهو للمرأة ، فقال الشعبي : قضاء رجل من أهل بدر ، قال : ومن ؟ قال : لا أخبرك ، قال : من هو ؟ عليَّ عهد الله وميثاقه أن لا أخبره ، قال : هو علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، قال : فدخل على الحجاج فأخبره ، فقال الحجاج : صدق ويحك إنَّا لم ننقم على عليٍّ قضاءه ، قد علمنا أن عليّاً كان أقضاهم. ( السنن الكبرى ، البيهقي : 10/269 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 65/388 ). وحدَّث أبو عبدالله الزبيري عن بعض العلماء أنَّه قال في منزلة الشافعي في العلماء : ومنزلة الشافعي في العلماء كمنزلة علي ( عليه السلام ) في الصحابة ; فإنه كان أعلمهم وأفضلهم وأقضاهم ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أقضاكم علي. تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 15/300 ). (96)
ورويتم أن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجَّهه إلى اليمن قاضياً ، قال : يا رسول الله ! تبعثني
(97)
ولا بصر لي بالقضاء ؟ فضرب بيده على صدره ، ثمَّ قال : اللهم اهدِ قلبه ، واشرح صدره ، فقال عليّ ( عليه السلام ) : فما شككت في قضاء بعدها (1).
ورويتم أنه قال : كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكت ابتدأت (2) وبين الجوانح علم جمٌّ (3) ، وعلَّمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألف باب من العلم ، كل باب يفتح ألف باب (4) ، ولقد علمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب (5) ، وقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنا 1 ـ سنن ابن ماجة : 2/774 ح 2310 ، المصنَّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/495 ح 5 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/116 ح 8419 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/337 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 12/439 ، رقم : 6916 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/389 ، وغيرها الكثير. 2 ـ المصنَّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/495 ح 6 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/142 ح 8505 و 8506 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 6/213 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/346. 3 ـ المحتضر ، الحسن بن سليمان الحلي : 88. 4 ـ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/385 ، فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 48 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 8/24 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 113 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/114 ـ 115 ح 36372 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 1/222 ح 43. 5 ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ، الصدوق : 1/224 ح 7 ، الخصال ، الصدوق : 414 ـ 415 ح 4 ، وعن الأصبغ بن نباته قال : سمعت أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) يقول : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علّمني ألف باب ، وكل باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف ألف باب ، حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب. ينابيع المودة ، القندوزي : 1/231 ح 70. ومن كلام لعمار بن ياسر رضوان الله تعالى عليه في حق أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) قال : يا أيها الناس ! إنكم والله إن اتّبعتموه وأطعتموه لم يضلَّ بكم عن منهاج نبيِّكم قيد شعرة ، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المنايا والوصايا وفصل الخطاب ، على منهاج هارون بن عمران ; إذ قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي ، فضلا خصَّه الله به إكراماً منه لنبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حيث أعطاه الله ما لم يعطه أحداً من خلقه. كنز العمال ، المتقي الهندي : 16/185 ـ 186. (98)
مدينة العلم وعليٌّ بابها (1) ، مع اتفاق المختلفين أنه كان أعلم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى صار المأخوذ قوله في عامّة أحكامهم ؟
قال حفص : بلى ، ولا ننكر فضل علي ( عليه السلام ) وبصره بالقضاء ، وبما حكى عن نفسه من العلم وما ظهر منه ، وأنّهم كلَّهم قد سألوه واحتاجوا إليه ، ولم يسأل هو أحداً منهم ، ولا احتاج إليه. قال هشام : فإذا أقررت بذلك فهل تعلمون أن الله تعالى قال في كتابه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) (2) وقال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات ) (3) وقال : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (4) ؟ 1 ـ روى الحاكم النيسابوري في المستدرك : 3/126 ـ 127 بالإسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد. وراجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 11/55 ، الفايق في غريب الحديث ، جار الله الزمخشري : 2/16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 7/219 و 9/165 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1/104 ح 118 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 5/110 و 7/182 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/378 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/22 ، تهذيب الكمال ، المزي : 18/77 و 79 ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 4/1231 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7/398 ، المستصفى ، الغزالي : 170 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1/415 ح 2705 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/148 ، فيض القدير ، المناوي : 1/49 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/235 و 9/114 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 77 ، وقد ألَّف أحمد بن الصديق المغربي ( المتوفَّى 1380 ) كتاباً كاملا في هذا الحديث وطرقه ، وحكم بصحّته ، وسمَّاه : فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي ( عليه السلام ). 2 ـ سورة الزمر ، الآية : 9. 3 ـ سورة المجادلة ، الآية : 11. 4 ـ سورة فاطر ، الآية : 28. (99)
قال حفص : كذلك قال الله.
قال هشام : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) فإذا أخبر الله أنَّه قد رفع علياً على أبي بكر درجات ، فلم صار أبو بكر أولى بها منه ؟ ولم قدَّمتم أبا بكر عليه بعدما قد بيَّن الله في كتابه ما بيَّن ؟ قال حفص : لأن أهل الفضل والعلم قدَّموه. فقال هشام : فقد نفى الله عنهم ما أثبتَّه أنت لهم. قال حفص : من أين قلت ؟ قال : ذلك لقول الله عزَّوجلَّ : ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) وأولو الألباب أهل العقل والفضل ، فلو كانوا كذلك لتفكَّروا وقدَّموا علياً ( عليه السلام ) ، فسكت حفص (2). هشام بن الحكم وروح النقد كان هشام أحد المدافعين عن التشيع بيده ولسانه وقلبه ، وبكلِّ ما أوتيه من قوّة ، وكان مهاباً عند الخصم ، وقد عرف بينهم بحجّته القويّة ، وكان سريع البديهة ، حاضر الجواب ، وكان معظَّماً عند الإمام الصادق ( عليه السلام ). جاء في الكافي للكليني : 1/172 : عن يونس بن يعقوب قال : ورد هشام بن الحكم ، وهو أوّل ما اختطَّت لحيته ، وليس فينا إلاَّ من هو أكبر سنّاً منه ، قال : فوسَّع له أبو عبدالله ( عليه السلام ) وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده. قال الشيخ عبدالله نعمة في كتابه ( هشام بن الحكم ) (3) : الاتّجاهات الغالبة 1 ـ سورة يونس ، الآية : 35. 2 ـ الدرّ النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم ، ابن حاتم الشامي : 285 ـ 286. 3 ـ هشام بن الحكم ، الشيخ عبدالله نعمة : 107 ـ 109. (100)
عليه : كان هشام خصب الذهن ، مركَّز التفكير ، لا يضطرب في آرائه ، يفكِّر بتصميم ، ويقول بتصميم ، ويرسم الخطوط لتعزيز مذهبه الذي اختاره ، ولا يدع فرصة سانحة إلاَّ ويتّخذ منها وسيلة لتأييد رأيه وتقرير نزعته ، في طريق واضح لا يلتوي عليه ، وتتحكَّم في تفكيره اتجاهات كثيرة ، يلتقي بها كلُّ من درس آراءه ، تلك الاتجاهات التي لا تزايله في جميع مواقفه ، قد انصهرت فيها شخصيته ، واستحالت في طبيعتها ، وأبرزها : روح النقد.
ويشيع في تفكيره روح النقد لآراء مخالفيه ، وقد يأتي ذلك في كلمة قصيرة سانحة ، فمن ذلك قوله ـ وقد سئل عن معاوية ، أشهد بدراً ؟ فقال : نعم ، من ذلك الجانب (1) وهي كلمة قصيرة تفيض بالنقد اللاذع الهادئ ، يقولها بغير تكلّف ، وتتداعى فيها الأفكار ، فتعود بنا إلى ماضي معاوية يوم كان يحارب في صفوف المشركين ضدَّ الإسلام والمسلمين. ومثال آخر : أنّ صديقه عبدالله بن يزيد الأباضي خطب منه ابنته فاطمة ، فقال له : تعلم ما بيننا من مودّة ودوام الشركة ، وقد أحببت أن تنكحني ابنتك فاطمة ، فقال هشام : إنّها مؤمنة ، فأمسك الأباضي ولم يعاوده في شيء. ويقصد بقوله : ( مؤمنة ) ما يترتَّب على ذلك من عدم جواز تزويجها للمشركين ، المفضي إلى حكمه على الخوارج ـ ومنهم صديقه عبدالله بن يزيد ـ بالإشراك. ومثال ثالث : أنه كان يقول : ما رأيت مثل مخالفينا ، عمدوا إلى من ولاَّه الله من سمائه فعزلوه ، وإلى من عزله الله من سمائه فولّوه ، ويذكر قصّة مبلغ سورة 1 ـ الفهرست ، الشيخ الطوسي : 259. (101)
برائة ، ومرد أبي بكر ، وإيراد علي ( عليه السلام ) بعد نزول جبرئيل قائلا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الله تعالى : إنه لا يؤدّيها عنك إلاَّ أنت أو رجل منك ، فردَّ أبا بكر ، وأنفذ علياً ( عليه السلام ) (1) وهي لفتة ذهن حديد ، ذات طابع مركَّز ، قد فسحت له درب النقد مسايرة لهذه النزعة المتأصِّلة فيه.
ومثال رابع : سئل هشام بن الحكم ـ وهو في مجلس مناظرة عند بني أمية ـ : كم عمرك يا غلام ؟ فقال : إن عمري كعمر أسامة بن زيد الذي أمَّره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على مشائخ الصحابة. ومثال خامس : سأله سليمان بن حريز فقال : يا هشام بن الحكم ! أخبرني عن قول علي لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، أكان صادقاً أم كاذباً ؟ فقال هشام : وما الدليل على أنّه قاله ؟ ثمَّ قال : وإن كان قاله فهو كقول إبراهيم : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وكقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (3) وكقول يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (4) (5). 1 ـ فهرست ابن النديم البغدادي : 224. 2 ـ سورة الصافات ، الآية 89. 3 ـ سورة الأنبياء ، الآية : 63. 4 ـ سورة يوسف ، الآية : 70. 5 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1/235. (102)
المناظرة الثانية والعشرون
مناظرة
قال المرزباني الخراساني : وقيل : إن مؤمن الطاق ( رحمه الله ) دخل يوماً مسجد الكوفة وفيه جماعة من المرجئة (1) ، منهم : أبو حنيفة وسفيان ، ورجل من الحروريّة جيِّد المناظرة فيهم ، فلمَّا رآه أبو حنيفة قال للحروري : هذا رأس الشيعة وعالمها ، فهل لك في مناظرته ؟
مؤمن الطاق مع بعض الحروريّة بمحضر أبي حنيفة وسفيان الثوري في الخليفة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : إذا شئت ، فنهضا والجماعة ، وأتوا إليه وهو قائم يصلّي ، فلم يزالوا حتّى فرغ ، فسلَّموا عليه ، ثمَّ قال له أبو حنيفة : قد أتينا للمناظرة. فقال : أضللتم دينكم فأنتم تطلبونه ، ولولا ذلك لقلَّت مناظرتكم فيه ، ولا شتغلتم بالعمل ، وإنّما يعمل المتّقون ، وقليله ينفع ، وإنه لقليل ، قال الله : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (2). 1 ـ فرقة من الفرق الإسلامية ، وهي أصناف أربعة. دائرة المعارف 8/723. 2 ـ سورة المائدة ، الآية : 27. (103)
فقال الحروري : كلٌّ يدّعي الذي تدّعي ، لكن من إمامك ؟
قال : من نصبه الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الغدير. قال : ما اسمه ؟ قال : بيَّنت. قال : فهو أبو بكر. قال : ذاك المردود يوم سورة براءة ، وصاحبي المؤدّي عن الله وعن رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أهل مكة. قال : ذاك أبو بكر. قال : دعوى أقم عليها بيِّنة. قال : أنت المدّعي. قال : كيف أكون أنا المدّعي وأنا المنكر لذلك ؟! أنت تقول : هو ذاك ، وأنا أقول : هو رجل قد اجتمعت عليه الأمّة ، وإنّه صاحب يوم الغدير ، فكيف يكون الإجماع دعوى ، بل أنت المدّعي أنّه أبو بكر. قال الحروري : دعنا من هذا. قال : هذه واحدة لم تخرج منها ، والحقُّ بيدي حتى تقيم البيِّنة. قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال بان بها من العالم بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، استحقَّ بها الإمامة. قال : ما هي ؟ قال : الصدّيق ، وصاحبه في الغار ، والمتولّي للصلاة ، وضجيعه في القبر. قال : أخبرني عن هذه المناقب بان بها من جميع العالم ؟ قال : نعم. (104)
قال : فإنَّ هذه مثالب.
قال : بقولك ؟ قال : بل بإقرارك. قال : فهات إذن. قال : حتى يحضر من يحكم بيننا. قالت الجماعة : نحن الحكَّام إذا ظهر الحقُّ. قال : فالدليل على أنّها مثالب هو أن تدلَّ على من سمَّاه صدّيقاً. قال : رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). قال : فما العلّة والمعنى الذي سمِّي به... ؟ قال : لأنّه أوَّل المسلمين. قال : هذا ما لم يقل به أحد ، على أنّه أوّل المسلمين ، إنّما الإجماع على أن أول المسلمين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وأوَّل من آمن ، فما تقولون أيُّها الحكام ؟ قالوا : أجل ، هو كما ذكرت. قال الحروري : قد زعمتم أنه ما أشرك بالله قط. قال : ليس (1) اتّباعه للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وقت من الأوقات ـ وإن لم يكن مشركاً ـ حدثاً يستحقُّ به الإسلام ؟ قالت الجماعة : أجل. فقال الحروري : أنا لا أقبل قول هؤلاء. قال : فأنا أساعدك ، أمَّا ما ذكرت أنّه صدّيق : أليس زعمت أن الله 1 ـ الظاهر : أليس. (105)
ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سمَّياه صدّيقاً ، وأنّه ليس له في هذا الاسم مساوىء ؟
قال : نعم. قال للجماعة : اشهدوا عليه ، متى وجدنا في أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من اسمه صدّيق سقطت حجّته عنّا. قالوا : نعم. قال : هل تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ما أقلَّت الغبراء ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (1) ؟ قال القوم : واحدة ، خصمت يا حروريّ. قال الحروري : أنا لا أعرف هذه الرواية ، فظلمه القوم. قال : يا حروريُّ ! فهل تعرف القرآن ؟ قال : نعم. قال : فيلزمك ما فيه من الحجّة ؟ قال : نعم. قال : فقد شارك صاحبك في هذا الاسم المؤمنون جميعاً ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ ) (2). قالت الجماعة : خصمت يا حروري. قال : وأمَّا ما ذكرت من أنّه صاحبه في الغار فما رأيت الصاحب محموداً 1 ـ مسند أحمد بن حنبل : 5/197 ، سنن الترمذي : 5/334 ح 3890 ، صحيح ابن حبان : 16/76 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7/526 ح 3 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 4/228 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 21/413 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 8/259. 2 ـ سورة الحديد ، الآية : 19. |
|||
|