|
|||
(106)
في القرآن ، قال الله تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) (1) ، وقال : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون ) (2) ، وقال العالم لصاحبه ـ وهما في فضلهما ما هما ـ : ( إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ) (3).
قال الحروري : ما هذا مثل ذاك. قال : أجل ، إن ذاك نبيٌّ معصوم ، وذا حكيم عليم قد علَّمه الله علماً ، ولم يعرفه موسى ( عليه السلام ) ثمَّ عرفه فأقرَّ له موسى ، واستيقن أنه ابن عمران ، ولكن لعلَّك صاحبك يستحقُّ المثل الأول ، وهو قوله : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ). فقالت الجماعة : أعلنت ـ أبا جعفر ـ بما في نفسك. قال : ما قلت بأساً ، إنّما ذكرت الصحبة فأحببت أن لا يحتجَّ بها للذي بيَّن الله في كتابه عن الصاحب. قال الحروري : هذا صاحبه في الغار ، يلقى الأذى ويصبر على الخوف. قال : هل كان صابراً ، وراجياً على ذلك ثواباً. قال : نعم. قال : أمَّا السكينة فقد نزلت على غيره ، وأمَّا الحزن فقد تعجَّله ، والأمر كما قال الله : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (4) ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا ينهى عن طاعة ، وإنّما ينهى عن معصية ، فقد عصى الله في حزنه وهو مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واكتسب ذنباً ، فهذا مما ينبغي لصاحبك أن يستغفر الله منه ، ولو كان ثبت في 1 ـ سورة الكهف ، الآية : 34. 2 ـ سورة التكوير ، الآية : 22. 3 ـ سورة الكهف ، الآية : 76. 4 ـ سورة التوبة ، الآية : 40. (107)
كينونته في الغار لقد كان الله أبان له ذلك فيه ، إنما كانت السكينة للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بصريح القول ، وبقوله : ( وأيَّده ) فهل تقول بأنه شارك أيضاً ؟
قال : نعم. قال : فهل أبان الله ذلك إذ كانت السكينة وكان المشارك فيها واحد ، كما أنزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو في جماعة ، فخصَّت الرسول وعمَّتهم ، حيث قال : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، فأبانها له كما أبانها لهؤلاء ، وإنما قال الله تعالى : ( وَأَيَّدَهُ ). قال الحروري : قوموا ، قد أخرجه عن الإيمان. قال : أنا لم أخرجه ، ولكنَّك أنت أخرجته. قال : أنت تقول : أنا أخرجته ؟ قال : يا حروري ! أخرجته ، وهذا كتابنا ينطق. قالت الجماعة : اثنين يا حروري. قال أبو جعفر : وأمَّا الصلاة فلعمري إنكم تقولون : ما استتمَّها حتى خرج النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخرجه ، وتقدَّم فصلَّى بالناس ، فإن كان قدَّمه للصلاة وعددتم ذلك له فضلا ، فقد كان خروجه إلى الصلاة وإخراجه من المحراب له نقصاً ، ولعمري لقد كان فضلا لو كان هو الذي أمره بالصلاة وتركه على حاله ولم يخرجه منها. قال الحروري : فلم يخرجه ، بل صلَّى بالناس. قال : فهل كان النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أم أمامه ؟ قال : بل أمامه ، ولكن كان هو المكبِّر خلفه. 1 ـ سورة الفتح ، الآية : 26. (108)
قال : فمن كان إمام الناس في تلك الحال ؟
قال : رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إمام لأبي بكر وللناس جميعاً. قال : فإنّما منزلة أبي بكر بمنزلة الصفِّ الأول على سائر الصفوف ، مع أن هذه دعوى لم تدعم ، ثمَّ ـ أيضاً ـ ما المعنى الذي أوقف أبا بكر في ذلك الموقف ؟ قال : يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس. قال : لا تفعل تقع في صاحبك ، وتكذب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). قالت الجماعة : وكيف ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى يقول : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (1) ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) ، نهى أن ترفع الأصوات فوق صوته ، وأمره أن يرفع صوته فقد نهى عنه ، ووعد من غضَّ صوته مغفرة وأجراً عظيماً ، فهل تجيز لصاحبك فعل ذلك ؟ قال الحروري : ليس هذا من ذاك ، إنّما أوقف أبا بكر ليسمع الناس التكبير. قال : هذه حدود مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معروفة الطول والعرض ، فهل نحتاج إلى مسمع ، وأيضاً فإن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان في حال ضعفه أقوى من قويِّهم في حال شبابه. قالت الجماعة : هذه ثلاثة يا حروري. قال : وأمَّا ما زعمت أنه ضجيعه في قبره فخبِّرني أين قبره ؟ 1 ـ سورة الحجرات ، الآية : 2. 2 ـ سورة الحجرات ، الآية : 3. (109)
قال : في بيته.
قال : لعلّه في بيت عمر. قال : بل في بيته ( صلى الله عليه وآله وسلم ). قال له : أوليس قد قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (1) ، فهل استأذناه فأذن لهما ؟ ثمَّ الخاص والعام يعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سدَّ أبوابهما في حال حياته حتى إن أحدهما قال : اترك لي كوَّة أو خوخة أنظر إليك منها ، قال : لا ، ولا مثل الإصبع (2) ، فأخرجهما وسدَّ أبوابهما (3) ، فأقم أنت البيِّنة على أنه أذن لهما. قال الحروري : ذلك بفرض من الله. قال له : بأيِّ وصيٍّ أو بأيِّ حجّة ؟ 1 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 53. 2 ـ راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/38 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/228. 3 ـ قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في الغدير : 3/213 في أحاديث سدّ الأبواب إلاَّ باب علي ( عليه السلام ) : إن مقتضى هذه الأحاديث أنّه لم يبق بعد قصة سدِّ الأبواب باب يفتح إلى المسجد سوى باب الرسول العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابن عمِّه ، وحديث خوخة أبي بكر يصرِّح بأنه كانت هناك أبواب شارعة ، وسيوافيك البعد الشاسع بين القصتين ، وما ذكروه من الجمع بحمل الباب في قصة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) على الحقيقة ، وفي قصة أبي بكر بالتجوّز بإطلاقه على الخوخة ، وقولهم : ( كأنّهم لمَّا أمروا بسدِّ الأبواب سدُّوها ، وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدِّها ) تبرُّعىٌّ لا شاهد له ، بل يكذِّبه أن ذلك ما كان يتسنَّى لهم نصب عين النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد أمرهم بسدِّ الأبواب لئلاّ يدخلوا المسجد منها ، ولا يكون لهم ممرٌّ به ، فكيف يمكنهم إحداث ما هو بمنزلة الباب في الغاية المبغوضة للشارع ، ولذلك لم يترك لعمّيه : حمزة والعباس ممرّاً يدخلان منه وحدهما ويخرجان منه ، ولم يترك لمن أراد كوَّة يشرف بها على المسجد ، فالحكم الواحد لا يختلف باختلاف أسماء الموضوع مع وحدة الغاية ، وإرادة الخوخة من الباب لا تبيح المحظور ولا تغيِّر الموضوع. (110)
قال : بما لا يدفع ، وهو ميراث ابنتيهما من البيت.
قال له : قد استحقّا ثمناً من بين تسع حشايا كنَّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد ظلمت صاحبك وهو يجحد فاطمة ( عليها السلام ) ميراثها ، وأنت تزعم أن ميراث النساء قد أوجبه لا بنتيهما ، وأسقط الكثير من ميراث فاطمة ( عليها السلام ) ، وإن أحببت أجبتك إلى ما ادّعيت من الميراث ، فنظرنا هل يصير لا بنتيهما على قدر الحصّة من الحصص التسع فعلنا. فقال أبو حنيفة والثوري : قم ويلك ! كم تزري عليهما وتلزمهما الحجّة ؟ إذا كان هكذا من أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يورِّث ، وقد احتمل لك أبو جعفر الحجّة ، وطلبت المقاسمة ، والله ما يصير لهما قدر ذراعين في البيت. فالتفت أبو جعفر إلى الجماعة ، وقال : قد أبصرتم وسمعتم ، مع أنّي لم أذكر أشياء أخر ادّخرتها ، ثمَّ التفت إلى الحروري وقال : إذا كنّا نعلم أن حرمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو ميِّت كحرمته وهو حيٌّ ، وقد أمر الله أن تغضَّ الأصوات عنده ، وأثاب فاعل ذلك ومعتمده ، فمن جعل لأبي بكر وعمر أن يضرب بالمعاول عنده ليدفنهما ؟ فانقطع ، وكأنما أخرس لسانه ، فالتفت إليه الجماعة وقالوا : يا أبا جعفر ! أنت الذي لا يقوم لك مناظر ، ولا تؤخذ عليك حجّة ، وقاموا وعليهم الخزية ، وسمَّوه من ذلك الوقت : شيطان الطاق ، رضي الله عنه ورحمه (1). 1 ـ مختصر أخبار شعراء الشيعة ، المرزباني الخراساني : 90 ـ 95. (111)
المناظرة الثالثة والعشرون
مناظرة
قال أحمد بن الصّديق المغربي : محمّد بن علي بن النعمان ، وهو الذي وقعت له مناظرة مع أبي حنيفة ; إذ قال له كالمنكر عليه : عمَّن رويت حديث ردِّ الشمس لعلي ( عليه السلام ) ؟
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حديث ردِّ الشمس فقال : عمَّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل ، فأفحمه (1). 1 ـ فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 144 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 5/300 ـ 301 رقم : 1017. (112)
المناظرة الرابعة والعشرون
مناظرة
روى الشيخ الكليني عليه الرحمة عن علي رفعه ، قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمّد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر ! ما تقول في المتعة ؟ أتزعم أنها حلال ؟
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حلّيّة المتعة قال : نعم. قال : فما منعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ، ويكتسبن عليك ؟ فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالا ، وللناس أقدار ومراتب ، يرفعون أقدارهم ، ولكن ما تقول ـ يا أبا حنيفة ـ في النبيذ ؟ أتزعم أنه حلال ؟ قال : نعم. قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبَّاذات فيكسبن عليك ؟ فقال أبو حنيفة : واحدة بواحدة ، وسهمك أنفذ. ثمَّ قال له : يا أبا جعفر ! إن الآية التي في ( سَأَلَ سَائِلٌ ) تنطق بتحريم المتعة ، والرواية عن النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جاءت بنسخها. (113)
فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة ! إن سورة ( سَأَلَ سَائِلٌ ) مكّية ، وآية المتعة مدنيّة ، وروايتك شاذّة رديَّة.
فقال له أبو حنيفة : وآية الميراث ـ أيضاً ـ تنطق بنسخ المتعة. فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث. قال أبو حنيفة : ممن أين قلت ذاك ؟ فقال أبو جعفر : لو أن رجلا من المسلمين تزوَّج امرأة من أهل الكتاب ، ثمَّ توفِّي عنها ما تقول فيها ؟ قال : لا ترث منه. قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث ، ثمَّ افترقا (1). وقيل : إنه دخل على أبي حنيفة يوماً ، فقال له أبو حنيفة : بلغني عنكم ـ معشر الشيعة ـ شيء. فقال : فما هو ؟ قال : بلغني أن الميِّت منكم إذا مات كسرتم يده اليسرى لكي يعطى كتابه بيمينه. فقال : مكذوب علينا يا نعمان ، ولكنّي بلغني عنكم ـ معشر المرجئة ـ أن الميِّت منكم إذا مات قمعتم في دبره قمعاً ، فصببتم فيه جرّة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة. فقال أبو حنيفة : مكذوب علينا وعليكم (2). 1 ـ الكافي ، الكليني : 5/450 ح 8 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/411 ـ ح 17. 2 ـ اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 2/430 ـ 431 ، ح 332 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/406 ـ 407 ح 10. (114)
المناظرة الخامسة والعشرون
مناظرة
عن عمرو بن أذينة ـ وكان من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد صلوات الله عليه ـ أنّه قال : دخلت يوماً على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة وهو قاض ، فقلت : أردت ـ أصلحك الله ـ أن أسألك عن مسائل ، ـ وكنت حديث السنّ ـ فقال : سل ـ يا بن أخي ـ عمّا شئت.
عمرو بن أذينة مع القاضي عبدالرحمن بن أبي ليلى في وجوب اتّباع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قلت : أخبرني عنكم معاشر القضاة ، ترد عليكم القضيّة في المال والفرج والدم ، فتقضي أنت فيها برأيك ، ثمَّ ترد تلك القضيّة بعينها على قاضي مكة ، فيقضي فيها بخلاف قضيّتك ، ثمَّ ترد على قاضي البصرة ، وقاضي اليمن ، وقاضي المدينة ، فيقضون فيها بخلاف ذلك ، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم ، فتخبرونه باختلاف قضاياكم ، فيصوِّب رأي كلِّ واحد منكم ، وإلهكم واحد ، ونبيُّكم واحد ، ودينكم واحد ، أفأمركم الله عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه ؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه ؟ أم كنتم شركاء الله في حكمه فلكم أن تقولوا ، وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بكم في إتمامه ؟ أم أنزله الله تامّاً فقصَّر (115)
رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أدائه ؟ أم ماذا تقولون ؟
فقال : من أين أنت يا فتى ؟ قلت : من أهل البصرة. قال : من أيِّها ؟ قلت : من عبد القيس. قال : من أيِّهم ؟ قلت : من بني أذينة. قال : ما قرابتك من عبدالرحمن بن أذينة ؟ قلت : هو جدّي. فرحَّب بي وقرَّبني ، وقال : أَي فتى ! لقد سألت فغلظت ، وانهمكت فتعوَّصت ، وسأخبرك إن شاء الله ، أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ماورد علينا من أمر القضايا ممَّا له في كتاب الله أصل أو في سنَّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة ، وأمَّا ما ورد علينا ممَّا ليس في كتاب الله ولا في سنَّة نبيِّه ، فإنا نأخذ فيه برأينا. قلت : ما صنعت شيئاً ; لأن الله عزَّ وجلَّ يقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (1) وقال فيه : ( تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء ) (2) أرأيت لو أن رجلا عمل بما أمر الله به ، وانتهى عمَّا نهى الله عنه ، أبقي لله شيء يعذّبه عليه إن لم يفعله ، أو يثيبه عليه إن فعله ؟ قال : وكيف يثيبه على ما لم يأمره به ، أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه ؟ 1 ـ سورة الأنعام ، الآية : 38. 2 ـ سورة النحل ، الآية : 89. (116)
قلت : وكيف يرد عليك من الأحكام ما ليس له في كتاب الله أثر ، ولا في سنَّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خبر ؟
قال : أخبرك ـ يابن أخي ـ حديثاً حدَّثَنَاه بعض أصحابنا ، يرفع الحديث إلى عمر بن الخطاب ، أنه قضى قضيَّة بين رجلين ، فقال له أدنى القوم إليه مجلساً : أصبت يا أميرالمؤمنين ، فعلاه عمر بالدرّة وقال : ثكلتك أمُّك ، والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ ، إنما هو رأي اجتهدته ، فلا تزكّونا في وجوهنا. قلت : أفلا أحدِّثك حديثاً ؟ قال : وما هو ؟ قلت : أخبرني أبي ، عن أبي القاسم العبدي ، عن أبان ، عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أنه قال : القضاة ثلاثة ، هالكان وناج ، فأمَّا الهالكان فجائر جار متعمِّداً ، ومجتهد أخطأ ، والناجي من عمل بما أمر الله به .. فهذا نقض حديثك يا عمّ. قال : أجل والله يابن أخي ، فتقول أنت : إن كل شيء في كتاب الله عزَّ وجلَّ ؟ قلت : الله قال ذلك ، وما من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي إلاّ وهو في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، عرف ذلك من عرفه ، وجهله من جهله ، ولقد أخبرنا الله فيه بما لا نحتاج إليه ، فكيف بما نحتاج إليه ؟! قال : كيف قلت ؟ قلت : قوله : ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ) (1). قال : فعند من يوجد علم ذلك ؟ 1 ـ سورة الكهف ، الآية : 42. (117)
قلت : عند من عرفت.
قال : وددت لو أني عرفته ، فأغسل قدميه وآخذ عنه وأتعلَّم منه. قلت : أناشدك الله ، هل تعلم رجلا كان إذا سأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئاً أعطاه ، وإذا سكت عنه ابتدأه ؟ قال : نعم ، ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. قلت : فهل علمت أن علياً سأل أحداً بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن حلال أو حرام ؟ قال : لا. قلت : هل علمت أنهم كانوا يحتاجون إليه ويأخذون عنه ؟ قال : نعم. قلت : فذلك عنده. قال : فقد مضى ، فأين لنا به ؟ قلت : تسأل في ولده ، فإن ذلك العلم عندهم. قال : وكيف لي بهم ؟ قلت : أرأيت قوماً كانوا بمفازة من الأرض ومعهم أدلاّء ، فوثبوا علهيم فقتلوا بعضهم ، وجافوا بعضهم (1) ، فهرب واستتر من بقي لخوفهم ، فلم يجدوا من يدلّهم ، فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا ، ما تقول فيهم ؟ قال : إلى النار ، واصفرَّ وجهه ، وكانت في يده سفرجلة ، فضرب بها الأرض فتهشَّمت ، وضرب بين يديه وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون (2). 1 ـ جافوا : أخافوا. 2 ـ دعائم الإسلام ، القاضي النعمان المغربي : 1/92 ـ 95. (118)
المناظرة السادسة والعشرون
مناظرة
دخل شريك على المهدي ، فقال له : ما ينبغي أن تقلَّد الحكم بين المسلمين ؟
شريك مع المهدي العباسي في إمامة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) قال : ولم ؟ قال : لخلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة. قال : أمَّا قولك : « بخلافك على الجماعة » فعن الجماعة أخذت ديني ، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني ؟! وأمَّا قولك : « وقولك بالإمامة » فما أعرف إلاَّ كتاب الله وسنَّة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وأمَّا قولك : مثلك ما يقلَّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه. قال : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : ما قال جدّك العباس وعبدالله. قال : وما قالا فيه ؟ (119)
قال : فأمَّا العباس ، فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمَّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله.
وأمَّا عبدالله ، فانه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متَّبعاً ، وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور كان أول من يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين الله ، وفقهه في أحكام الله. فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاَّ قليل حتى عزل شريك (1). 1 ـ تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 9/291 ـ 292. (120)
المناظرة السابعة والعشرون
مناظرة
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة بالإسناد عن أحمد بن مسرور ، عن سعد بن عبد الله القمي قال : كنت امرءاً لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها ، كلفاً باستظهار ما يصحُّ لي من حقائقها ، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها ، شحيحاً على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها ، متعصِّباً لمذهب الإماميّة ، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم والتعدّي إلى التباغض والتشاتم ، معيباً للفرق ذوي الخلاف ، كاشفاً عن مثالب أئمَّتهم ، هتّاكاً لحجب قادتهم ، إلى أن بليت بأشِّد النواصب منازعة ، وأطولهم مخاصمة ، وأكثرهم جدلا ، وأشنعهم سؤالا ، وأثبتهم على الباطل قدماً.
سعد بن عبدالله القمي مع بعض النواصب فقال ذات يوم ـ وأنا أناظره ـ : تبّاً لك ولأصحابك يا سعد ، إنكم ـ معاشر الرافضة ـ تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما ، وتجحدون من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولايتهما وإمامتهما ، هذا الصدّيق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته ، أما علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد لأمر التأويل ، والملقى إليه أزمّة |
|||
|