مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 106 ـ 120
(106)
في القرآن ، قال الله تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) (1) ، وقال : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون ) (2) ، وقال العالم لصاحبه ـ وهما في فضلهما ما هما ـ : ( إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ) (3).
    قال الحروري : ما هذا مثل ذاك.
    قال : أجل ، إن ذاك نبيٌّ معصوم ، وذا حكيم عليم قد علَّمه الله علماً ، ولم يعرفه موسى ( عليه السلام ) ثمَّ عرفه فأقرَّ له موسى ، واستيقن أنه ابن عمران ، ولكن لعلَّك صاحبك يستحقُّ المثل الأول ، وهو قوله : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ).
    فقالت الجماعة : أعلنت ـ أبا جعفر ـ بما في نفسك.
    قال : ما قلت بأساً ، إنّما ذكرت الصحبة فأحببت أن لا يحتجَّ بها للذي بيَّن الله في كتابه عن الصاحب.
    قال الحروري : هذا صاحبه في الغار ، يلقى الأذى ويصبر على الخوف.
    قال : هل كان صابراً ، وراجياً على ذلك ثواباً.
    قال : نعم.
    قال : أمَّا السكينة فقد نزلت على غيره ، وأمَّا الحزن فقد تعجَّله ، والأمر كما قال الله : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (4) ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا ينهى عن طاعة ، وإنّما ينهى عن معصية ، فقد عصى الله في حزنه وهو مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واكتسب ذنباً ، فهذا مما ينبغي لصاحبك أن يستغفر الله منه ، ولو كان ثبت في
1 ـ سورة الكهف ، الآية : 34.
2 ـ سورة التكوير ، الآية : 22.
3 ـ سورة الكهف ، الآية : 76.
4 ـ سورة التوبة ، الآية : 40.


(107)
كينونته في الغار لقد كان الله أبان له ذلك فيه ، إنما كانت السكينة للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بصريح القول ، وبقوله : ( وأيَّده ) فهل تقول بأنه شارك أيضاً ؟
    قال : نعم.
    قال : فهل أبان الله ذلك إذ كانت السكينة وكان المشارك فيها واحد ، كما أنزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو في جماعة ، فخصَّت الرسول وعمَّتهم ، حيث قال : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، فأبانها له كما أبانها لهؤلاء ، وإنما قال الله تعالى : ( وَأَيَّدَهُ ).
    قال الحروري : قوموا ، قد أخرجه عن الإيمان.
    قال : أنا لم أخرجه ، ولكنَّك أنت أخرجته.
    قال : أنت تقول : أنا أخرجته ؟
    قال : يا حروري ! أخرجته ، وهذا كتابنا ينطق.
    قالت الجماعة : اثنين يا حروري.
    قال أبو جعفر : وأمَّا الصلاة فلعمري إنكم تقولون : ما استتمَّها حتى خرج النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخرجه ، وتقدَّم فصلَّى بالناس ، فإن كان قدَّمه للصلاة وعددتم ذلك له فضلا ، فقد كان خروجه إلى الصلاة وإخراجه من المحراب له نقصاً ، ولعمري لقد كان فضلا لو كان هو الذي أمره بالصلاة وتركه على حاله ولم يخرجه منها.
    قال الحروري : فلم يخرجه ، بل صلَّى بالناس.
    قال : فهل كان النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أم أمامه ؟
    قال : بل أمامه ، ولكن كان هو المكبِّر خلفه.
1 ـ سورة الفتح ، الآية : 26.

(108)
    قال : فمن كان إمام الناس في تلك الحال ؟
    قال : رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إمام لأبي بكر وللناس جميعاً.
    قال : فإنّما منزلة أبي بكر بمنزلة الصفِّ الأول على سائر الصفوف ، مع أن هذه دعوى لم تدعم ، ثمَّ ـ أيضاً ـ ما المعنى الذي أوقف أبا بكر في ذلك الموقف ؟
    قال : يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس.
    قال : لا تفعل تقع في صاحبك ، وتكذب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قالت الجماعة : وكيف ذلك ؟
    قال : لأن الله تعالى يقول : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (1) ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) ، نهى أن ترفع الأصوات فوق صوته ، وأمره أن يرفع صوته فقد نهى عنه ، ووعد من غضَّ صوته مغفرة وأجراً عظيماً ، فهل تجيز لصاحبك فعل ذلك ؟
    قال الحروري : ليس هذا من ذاك ، إنّما أوقف أبا بكر ليسمع الناس التكبير.
    قال : هذه حدود مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معروفة الطول والعرض ، فهل نحتاج إلى مسمع ، وأيضاً فإن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان في حال ضعفه أقوى من قويِّهم في حال شبابه.
    قالت الجماعة : هذه ثلاثة يا حروري.
    قال : وأمَّا ما زعمت أنه ضجيعه في قبره فخبِّرني أين قبره ؟
1 ـ سورة الحجرات ، الآية : 2.
2 ـ سورة الحجرات ، الآية : 3.


(109)
    قال : في بيته.
    قال : لعلّه في بيت عمر.
    قال : بل في بيته ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال له : أوليس قد قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (1) ، فهل استأذناه فأذن لهما ؟ ثمَّ الخاص والعام يعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سدَّ أبوابهما في حال حياته حتى إن أحدهما قال : اترك لي كوَّة أو خوخة أنظر إليك منها ، قال : لا ، ولا مثل الإصبع (2) ، فأخرجهما وسدَّ أبوابهما (3) ، فأقم أنت البيِّنة على أنه أذن لهما.
    قال الحروري : ذلك بفرض من الله.
    قال له : بأيِّ وصيٍّ أو بأيِّ حجّة ؟
1 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 53.
2 ـ راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/38 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/228.
3 ـ قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في الغدير : 3/213 في أحاديث سدّ الأبواب إلاَّ باب علي ( عليه السلام ) : إن مقتضى هذه الأحاديث أنّه لم يبق بعد قصة سدِّ الأبواب باب يفتح إلى المسجد سوى باب الرسول العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابن عمِّه ، وحديث خوخة أبي بكر يصرِّح بأنه كانت هناك أبواب شارعة ، وسيوافيك البعد الشاسع بين القصتين ، وما ذكروه من الجمع بحمل الباب في قصة أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) على الحقيقة ، وفي قصة أبي بكر بالتجوّز بإطلاقه على الخوخة ، وقولهم : ( كأنّهم لمَّا أمروا بسدِّ الأبواب سدُّوها ، وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدِّها ) تبرُّعىٌّ لا شاهد له ، بل يكذِّبه أن ذلك ما كان يتسنَّى لهم نصب عين النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد أمرهم بسدِّ الأبواب لئلاّ يدخلوا المسجد منها ، ولا يكون لهم ممرٌّ به ، فكيف يمكنهم إحداث ما هو بمنزلة الباب في الغاية المبغوضة للشارع ، ولذلك لم يترك لعمّيه : حمزة والعباس ممرّاً يدخلان منه وحدهما ويخرجان منه ، ولم يترك لمن أراد كوَّة يشرف بها على المسجد ، فالحكم الواحد لا يختلف باختلاف أسماء الموضوع مع وحدة الغاية ، وإرادة الخوخة من الباب لا تبيح المحظور ولا تغيِّر الموضوع.


(110)
    قال : بما لا يدفع ، وهو ميراث ابنتيهما من البيت.
    قال له : قد استحقّا ثمناً من بين تسع حشايا كنَّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد ظلمت صاحبك وهو يجحد فاطمة ( عليها السلام ) ميراثها ، وأنت تزعم أن ميراث النساء قد أوجبه لا بنتيهما ، وأسقط الكثير من ميراث فاطمة ( عليها السلام ) ، وإن أحببت أجبتك إلى ما ادّعيت من الميراث ، فنظرنا هل يصير لا بنتيهما على قدر الحصّة من الحصص التسع فعلنا.
    فقال أبو حنيفة والثوري : قم ويلك ! كم تزري عليهما وتلزمهما الحجّة ؟ إذا كان هكذا من أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يورِّث ، وقد احتمل لك أبو جعفر الحجّة ، وطلبت المقاسمة ، والله ما يصير لهما قدر ذراعين في البيت.
    فالتفت أبو جعفر إلى الجماعة ، وقال : قد أبصرتم وسمعتم ، مع أنّي لم أذكر أشياء أخر ادّخرتها ، ثمَّ التفت إلى الحروري وقال : إذا كنّا نعلم أن حرمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو ميِّت كحرمته وهو حيٌّ ، وقد أمر الله أن تغضَّ الأصوات عنده ، وأثاب فاعل ذلك ومعتمده ، فمن جعل لأبي بكر وعمر أن يضرب بالمعاول عنده ليدفنهما ؟
    فانقطع ، وكأنما أخرس لسانه ، فالتفت إليه الجماعة وقالوا : يا أبا جعفر ! أنت الذي لا يقوم لك مناظر ، ولا تؤخذ عليك حجّة ، وقاموا وعليهم الخزية ، وسمَّوه من ذلك الوقت : شيطان الطاق ، رضي الله عنه ورحمه (1).
1 ـ مختصر أخبار شعراء الشيعة ، المرزباني الخراساني : 90 ـ 95.

(111)
    المناظرة الثالثة والعشرون
مناظرة
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حديث ردِّ الشمس
    قال أحمد بن الصّديق المغربي : محمّد بن علي بن النعمان ، وهو الذي وقعت له مناظرة مع أبي حنيفة ; إذ قال له كالمنكر عليه : عمَّن رويت حديث ردِّ الشمس لعلي ( عليه السلام ) ؟
    فقال : عمَّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل ، فأفحمه (1).
1 ـ فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 144 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 5/300 ـ 301 رقم : 1017.

(112)
    المناظرة الرابعة والعشرون
مناظرة
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حلّيّة المتعة
    روى الشيخ الكليني عليه الرحمة عن علي رفعه ، قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمّد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر ! ما تقول في المتعة ؟ أتزعم أنها حلال ؟
    قال : نعم.
    قال : فما منعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ، ويكتسبن عليك ؟
    فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالا ، وللناس أقدار ومراتب ، يرفعون أقدارهم ، ولكن ما تقول ـ يا أبا حنيفة ـ في النبيذ ؟ أتزعم أنه حلال ؟
    قال : نعم.
    قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبَّاذات فيكسبن عليك ؟
    فقال أبو حنيفة : واحدة بواحدة ، وسهمك أنفذ.
    ثمَّ قال له : يا أبا جعفر ! إن الآية التي في ( سَأَلَ سَائِلٌ ) تنطق بتحريم المتعة ، والرواية عن النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جاءت بنسخها.


(113)
    فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة ! إن سورة ( سَأَلَ سَائِلٌ ) مكّية ، وآية المتعة مدنيّة ، وروايتك شاذّة رديَّة.
    فقال له أبو حنيفة : وآية الميراث ـ أيضاً ـ تنطق بنسخ المتعة.
    فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث.
    قال أبو حنيفة : ممن أين قلت ذاك ؟
    فقال أبو جعفر : لو أن رجلا من المسلمين تزوَّج امرأة من أهل الكتاب ، ثمَّ توفِّي عنها ما تقول فيها ؟
    قال : لا ترث منه.
    قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث ، ثمَّ افترقا (1).
    وقيل : إنه دخل على أبي حنيفة يوماً ، فقال له أبو حنيفة : بلغني عنكم ـ معشر الشيعة ـ شيء.
    فقال : فما هو ؟
    قال : بلغني أن الميِّت منكم إذا مات كسرتم يده اليسرى لكي يعطى كتابه بيمينه.
    فقال : مكذوب علينا يا نعمان ، ولكنّي بلغني عنكم ـ معشر المرجئة ـ أن الميِّت منكم إذا مات قمعتم في دبره قمعاً ، فصببتم فيه جرّة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة.
    فقال أبو حنيفة : مكذوب علينا وعليكم (2).
1 ـ الكافي ، الكليني : 5/450 ح 8 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/411 ـ ح 17.
2 ـ اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 2/430 ـ 431 ، ح 332 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/406 ـ 407 ح 10.


(114)
    المناظرة الخامسة والعشرون
مناظرة
عمرو بن أذينة مع القاضي عبدالرحمن بن أبي ليلى
في وجوب اتّباع أمير المؤمنين ( عليه السلام )
    عن عمرو بن أذينة ـ وكان من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد صلوات الله عليه ـ أنّه قال : دخلت يوماً على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة وهو قاض ، فقلت : أردت ـ أصلحك الله ـ أن أسألك عن مسائل ، ـ وكنت حديث السنّ ـ فقال : سل ـ يا بن أخي ـ عمّا شئت.
    قلت : أخبرني عنكم معاشر القضاة ، ترد عليكم القضيّة في المال والفرج والدم ، فتقضي أنت فيها برأيك ، ثمَّ ترد تلك القضيّة بعينها على قاضي مكة ، فيقضي فيها بخلاف قضيّتك ، ثمَّ ترد على قاضي البصرة ، وقاضي اليمن ، وقاضي المدينة ، فيقضون فيها بخلاف ذلك ، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم ، فتخبرونه باختلاف قضاياكم ، فيصوِّب رأي كلِّ واحد منكم ، وإلهكم واحد ، ونبيُّكم واحد ، ودينكم واحد ، أفأمركم الله عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه ؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه ؟ أم كنتم شركاء الله في حكمه فلكم أن تقولوا ، وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بكم في إتمامه ؟ أم أنزله الله تامّاً فقصَّر


(115)
رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أدائه ؟ أم ماذا تقولون ؟
    فقال : من أين أنت يا فتى ؟
    قلت : من أهل البصرة.
    قال : من أيِّها ؟
    قلت : من عبد القيس.
    قال : من أيِّهم ؟
    قلت : من بني أذينة.
    قال : ما قرابتك من عبدالرحمن بن أذينة ؟
    قلت : هو جدّي.
    فرحَّب بي وقرَّبني ، وقال : أَي فتى ! لقد سألت فغلظت ، وانهمكت فتعوَّصت ، وسأخبرك إن شاء الله ، أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ماورد علينا من أمر القضايا ممَّا له في كتاب الله أصل أو في سنَّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة ، وأمَّا ما ورد علينا ممَّا ليس في كتاب الله ولا في سنَّة نبيِّه ، فإنا نأخذ فيه برأينا.
    قلت : ما صنعت شيئاً ; لأن الله عزَّ وجلَّ يقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (1) وقال فيه : ( تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء ) (2) أرأيت لو أن رجلا عمل بما أمر الله به ، وانتهى عمَّا نهى الله عنه ، أبقي لله شيء يعذّبه عليه إن لم يفعله ، أو يثيبه عليه إن فعله ؟
    قال : وكيف يثيبه على ما لم يأمره به ، أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه ؟
1 ـ سورة الأنعام ، الآية : 38.
2 ـ سورة النحل ، الآية : 89.


(116)
    قلت : وكيف يرد عليك من الأحكام ما ليس له في كتاب الله أثر ، ولا في سنَّة نبيِّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خبر ؟
    قال : أخبرك ـ يابن أخي ـ حديثاً حدَّثَنَاه بعض أصحابنا ، يرفع الحديث إلى عمر بن الخطاب ، أنه قضى قضيَّة بين رجلين ، فقال له أدنى القوم إليه مجلساً : أصبت يا أميرالمؤمنين ، فعلاه عمر بالدرّة وقال : ثكلتك أمُّك ، والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ ، إنما هو رأي اجتهدته ، فلا تزكّونا في وجوهنا.
    قلت : أفلا أحدِّثك حديثاً ؟
    قال : وما هو ؟
    قلت : أخبرني أبي ، عن أبي القاسم العبدي ، عن أبان ، عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أنه قال : القضاة ثلاثة ، هالكان وناج ، فأمَّا الهالكان فجائر جار متعمِّداً ، ومجتهد أخطأ ، والناجي من عمل بما أمر الله به .. فهذا نقض حديثك يا عمّ.
    قال : أجل والله يابن أخي ، فتقول أنت : إن كل شيء في كتاب الله عزَّ وجلَّ ؟
    قلت : الله قال ذلك ، وما من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي إلاّ وهو في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، عرف ذلك من عرفه ، وجهله من جهله ، ولقد أخبرنا الله فيه بما لا نحتاج إليه ، فكيف بما نحتاج إليه ؟!
    قال : كيف قلت ؟
    قلت : قوله : ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ) (1).
    قال : فعند من يوجد علم ذلك ؟
1 ـ سورة الكهف ، الآية : 42.

(117)
    قلت : عند من عرفت.
    قال : وددت لو أني عرفته ، فأغسل قدميه وآخذ عنه وأتعلَّم منه.
    قلت : أناشدك الله ، هل تعلم رجلا كان إذا سأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئاً أعطاه ، وإذا سكت عنه ابتدأه ؟
    قال : نعم ، ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.
    قلت : فهل علمت أن علياً سأل أحداً بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن حلال أو حرام ؟
    قال : لا.
    قلت : هل علمت أنهم كانوا يحتاجون إليه ويأخذون عنه ؟
    قال : نعم.
    قلت : فذلك عنده.
    قال : فقد مضى ، فأين لنا به ؟
    قلت : تسأل في ولده ، فإن ذلك العلم عندهم.
    قال : وكيف لي بهم ؟
    قلت : أرأيت قوماً كانوا بمفازة من الأرض ومعهم أدلاّء ، فوثبوا علهيم فقتلوا بعضهم ، وجافوا بعضهم (1) ، فهرب واستتر من بقي لخوفهم ، فلم يجدوا من يدلّهم ، فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا ، ما تقول فيهم ؟
    قال : إلى النار ، واصفرَّ وجهه ، وكانت في يده سفرجلة ، فضرب بها الأرض فتهشَّمت ، وضرب بين يديه وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون (2).
1 ـ جافوا : أخافوا.
2 ـ دعائم الإسلام ، القاضي النعمان المغربي : 1/92 ـ 95.


(118)
    المناظرة السادسة والعشرون
مناظرة
شريك مع المهدي العباسي في إمامة أميرالمؤمنين ( عليه السلام )
    دخل شريك على المهدي ، فقال له : ما ينبغي أن تقلَّد الحكم بين المسلمين ؟
    قال : ولم ؟
    قال : لخلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة.
    قال : أمَّا قولك : « بخلافك على الجماعة » فعن الجماعة أخذت ديني ، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني ؟!
    وأمَّا قولك : « وقولك بالإمامة » فما أعرف إلاَّ كتاب الله وسنَّة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وأمَّا قولك : مثلك ما يقلَّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه.
    قال : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟
    قال : ما قال جدّك العباس وعبدالله.
    قال : وما قالا فيه ؟


(119)
    قال : فأمَّا العباس ، فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمَّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله.
    وأمَّا عبدالله ، فانه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متَّبعاً ، وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور كان أول من يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين الله ، وفقهه في أحكام الله.
    فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاَّ قليل حتى عزل شريك (1).
1 ـ تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 9/291 ـ 292.

(120)
    المناظرة السابعة والعشرون
مناظرة
سعد بن عبدالله القمي مع بعض النواصب
    روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة بالإسناد عن أحمد بن مسرور ، عن سعد بن عبد الله القمي قال : كنت امرءاً لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها ، كلفاً باستظهار ما يصحُّ لي من حقائقها ، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها ، شحيحاً على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها ، متعصِّباً لمذهب الإماميّة ، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم والتعدّي إلى التباغض والتشاتم ، معيباً للفرق ذوي الخلاف ، كاشفاً عن مثالب أئمَّتهم ، هتّاكاً لحجب قادتهم ، إلى أن بليت بأشِّد النواصب منازعة ، وأطولهم مخاصمة ، وأكثرهم جدلا ، وأشنعهم سؤالا ، وأثبتهم على الباطل قدماً.
    فقال ذات يوم ـ وأنا أناظره ـ : تبّاً لك ولأصحابك يا سعد ، إنكم ـ معاشر الرافضة ـ تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما ، وتجحدون من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولايتهما وإمامتهما ، هذا الصدّيق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته ، أما علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد لأمر التأويل ، والملقى إليه أزمّة
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس