مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 121 ـ 135
(121)
الأمّة ، وعليه المعوِّل في شعب الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش (1) لفتح بلاد الشرك ؟ وكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة إلى مكان يستخفي فيه ، ولمَّا رأينا النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متوجِّهاً إلى الانجحار ، ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد استبان لنا قصد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأبي بكر للغار للعلّة التي شرحناها ، وإنّما أبات علياً ( عليه السلام ) على فراشه لمَّا لم يكن يكترث به ، ولم يحفل به (2) لاستثقاله ، ولعلمه بأنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.
    قال سعد : فأوردت عليه أجوبة شتّى ، فما زال يعقب كل واحد منها بالنقض والردِّ عليَّ ، ثمَّ قال : يا سعد ! ودونكها أخرى بمثلها تخطم (3) أنوف الروافض ، ألستم تزعمون أن الصدّيق المبرَّأ من دنس الشكوك ، والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام كانا يسرَّان النفاق ، واستدللتم بليلة العقبة ؟ أخبرني عن الصدّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً ؟
    قال سعد : فاحتلت لدفع هذه المسألة عنّي خوفاً من الإلزام ، وحذراً من أنّي إن أقررت له بطوعهما للإسلام احتجَّ بأن بدء النفاق ونشأه في القلب لا يكون إلاَّ عند هبوب روائح القهر والغلبة ، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد إليه قلبه ، نحو قول الله تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
1 ـ تسريب الجيوش : بعثها قطعة قطعة.
2 ـ لم أكترث له أي ما أبالي ، وما حفله وما حفل به أي ما بالى به ولا اهتمَّ له.
3 ـ خطمه : أي ضرب أنفه.


(122)
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) (1).
    وإن قلت : أسلما كرهاً كان يقصدني بالطعن ; إذ لم تكن ثمَّة سيوف منتضاة (2) كانت تريهما البأس.
    قال سعد : فصدرت عنه مزورَّاً (3) قد انتفخت أحشائي من الغضب ، وتقطَّع كبدي من الكرب ، وكنت قد اتخذت طوماراً ، وأثبتُّ فيه نيِّفاً وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيباً ، على أن أسال عنها خبير أهل بلدي ; أحمد بن إسحاق ، صاحب مولانا أبي محمّد ( عليه السلام ) (4) فارتحلت خلفه ، وقد كان خرج قاصداً نحو مولانا بسر من رأى ، فلحقته في بعض المنازل ، فلمَّا تصافحنا قال : بخير لحاقك بي ، قلت : الشوق ثمَّ العادة في الأسئلة.
    قال : قد تكافينا على هذه الخطّة الواحدة ، فقد برَّح بي القرم (5) إلى لقاء مولانا أبي محمّد ( عليه السلام ) وأنا أريد أن أسأله عن معاضل في التأويل ، ومشاكل في التنزيل فدونكها الصحبة المباركة ، فإنها تقف بك على ضفّة بحر لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، وهو إمامنا.
    فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيِّدنا ، فاستأذنّا فخرج علينا الإذن بالدخول عليه ، وساق الحديث في عرض أسئلته على الإمام ( عليه السلام ) وجواباته له ، إلى أن قال : ثمَّ قال مولانا ( عليه السلام ) : يا سعد ! وحين ادّعى خصمك أن رسول
1 ـ سورة المؤمن ، الآية : 84.
2 ـ انتضى السف : سلَّه.
3 ـ الإزورار عن الشيء : العدول عنه.
4 ـ يعني الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ).
5 ـ المراد بها هنا : شدّة الشوق.


(123)
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمَّة إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد أمور التأويل ، والملقى إليه أزمَّة الأمّة ، وعليه المعوَّل في لمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر ، فكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه ، وإنما أبات عليّاً ( عليه السلام ) على فراشه لمَّا لم يكن يكترث له ، ولم يحفل به لا ستثقاله إياه ، وعلمه أنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.
    فهلا نقضت عليه دعواه بقولك : أليس قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة (1) ، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم ؟
    فكان لا يجد بدّاً من قوله لك : بلى.
    قلت : فكيف تقول حينئذ : أليس كما علم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن الخلافة من بعده لأبي بكر علم أنها من بعد أبي بكر لعمر ، ومن بعد عمر لعثمان ، ومن بعد عثمان لعلي ( عليه السلام ) ؟
    فكان أيضاً لا يجد بدّاً من قوله لك : نعم.
    ثمَّ كنت تقول له : فكان الواجب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يخرجهم جميعاً ( على الترتيب ) إلى الغار ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر ، ولا يستخفَّ
1 ـ صحيح ابن حبان : 15/392 ، الثقات ، ابن حبان : 2/304 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/89 ح 136 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8/61.

(124)
بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إيَّاهم ، وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم.
    ولمَّا قال : أخبرني عن الصدِّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً ؟ لم لم تقل له : بل أسلما طمعاً ، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمَّا كانوا يجدون في التوراة ، وفي سائر الكتب المتقدِّمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال من قصة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن عواقب أمره ، فكانت اليهود تذكر أن محمّداً يسلَّط على العرب كما كان بختنصَّر سلِّط على بني إسرائيل ، ولا بدَّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بختنصَّر ببني إسرائيل .. الخ (1).
1 ـ كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : 454 ـ 463 ح 21 ، دلائل الإمامة ، الطبري ( الشيعي ) : 515.

(125)
    المناظرة الثامنة والعشرون
مناظرة
الشيخ المفيد ( رحمه الله ) مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير (1)
    قال القاضي في المجالس نقلا عن مصابيح القلوب : بينما القاضي عبد الجبّار ذات يوم في مجلسه في بغداد ـ ومجلسه مملوء من علماء الفريقين ـ إذ حضر الشيخ وجلس في صفِّ النعال ، ثمَّ قال للقاضي : إن لي سؤالا ، فإن أجزت بحضور هؤلاء الأئمة.
    فقال له القاضي : سل.
    فقال : ما تقول في هذا الخبر الذي ترويه طائفة من الشيعة : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (2) ، أهو مسلَّم صحيح عن النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الغدير ؟
1 ـ قد تقدَّمت في الجزء الثالث : 301 ، المناظرة الحادية والخمسون ، مناظرة الشيخ المفيد مع الرمّاني ، وهي شبيهة بهذه المناظرة ، وهذه أكمل منها.
2 ـ وهذا الحديث قاله المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الغدير ، وهو يعدُّ من المتواترات جدّاً ، فقد روته جلُّ كتب الحديث والسنن والتأريخ عند جمهور المسلمين ، ونذكر منها على سبيل المثال : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 14 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/84 ، سنن ابن ماجة : 1/45 ، سنن الترمذي : 5/297 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/109 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 11/225 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/495 ح 9 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/45 ، صحيح ابن حبان : 15/376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 4/17 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/17.


(126)
    فقال : نعم خبر صحيح.
    فقال الشيخ : ما المراد بلفظ المولى في الخبر ؟
    فقال : هو بمعنى أولى.
    فقال الشيخ : فما هذا الخلاف والخصومة بين الشيعة والسنّة ؟
    فقال الشيخ : أيُّها الأخ ! هذه رواية ، وخلافة أبي بكر دراية ، والعادل لا يعادل الرواية بالدراية.
    فقال الشيخ : ما تقول في قول النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعليٍّ ( عليه السلام ) : حربك حربي ، وسلمك سلمي ؟ (1)
    قال القاضي : الحديث صحيح.
    فقال : ما تقول في أصحاب الجمل ؟
    فقال القاضي : أيُّها الأخ ! إنهم تابوا.
    فقال الشيخ : أيُّها القاضي ! الحرب دراية ، والتوبة رواية ، وأنت قرَّرت في حديث الغدير أن الرواية لا تعارض الدراية.
    فبهت الشيخ القاضي ، ولم يحر جواباً ، ووضع رأسه ساعة ، ثمَّ رفع رأسه وقال : من أنت ؟
    فقال : خادمك محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي.
    فقام القاضي من مقامه ، وأخذ بيد الشيخ وأجلسه في مسنده ، وقال : أنت
1 ـ المناقب ، الخوارزمي : 129 ح 143 ، مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، الكوفي : 1/250 ح 167 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/297 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/200.

(127)
المفيد حقّاً ! فتغيَّرت وجوه علماء المجلس.
    فلمَّا أبصر القاضي ذلك منهم قال : أيُّها الفضلاء ! إن هذا الرجل ألزمني ، وأنا عجزت عن جوابه ، فإن كان أحد منكم عنده جواب عمّا ذكر فليذكر ، ليقوم الرجل ويرجع مكانه الأول.
    فلمَّا انفصل المجلس شاعت القصّة ، واتّصلت بعضد الدولة ، فأرسل إلى الشيخ فأحضره ، وسأله عمّا جرى فحكى له ذلك ، فخلع عليه خلعة سنيّة ، وأخذ له بفرس محلَّى بالزينة ، وأمر له بوظيفة تجري عليه (1).
1 ـ خاتمة المستدرك ، الميرزا النوري : 3/236 ، مستدرك سفينة البحار ، النمازي : 8/349 ـ 350.

(128)
    المناظرة التاسعة والعشرون
مناظرة
الشيخ المفيد مع شيخ من المعتزلة
في المأثور عن الأئمة ( عليهم السلام ) وخلاف العامة لهم
    قال الشريف المرتضى ( رضي الله عنه ) : ومن حكايات الشيخ ـ أيَّده الله ـ قال : حضرت مجمعاً لقوم من الرؤساء ، وكان فيهم شيخ من أهل الري ، معتزليّ ، يعظِّمونه لمحل سلفه ، وتعلُّقه بالدولة ، فسئلت عن شيء من الفقه ، فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة ( عليهم السلام ).
    فقال ذلك الشيخ : هذه الفتيا تخالف الإجماع.
    فقلت له : عافاك الله ، من تعني بالإجماع ؟
    فقال : الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار.
    فقلت : هذا ـ أيضاً ـ مجمل من القول ، فهل تدخل آل محمّد ( عليهم السلام ) في جملة هؤلاء الفقهاء ، أم تخرجهم من الإجماع ؟
    فقال : بل أجعلهم في صدر الفقهاء ، ولو صحَّ عنهم ما تروونه لما خالفناه.
    فقلت له : هذا مذهب لا أعرفه لك ، ولا لمن أو مأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء ; لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أميرالمؤمنين علي بن أبي


(129)
طالب ( عليه السلام ) ـ وهو سيِّد أهل البيت ( عليهم السلام ) ـ في كثير ممَّا قد صحَّ عنه من الأحكام ، فكيف تستوحشون من خلاف ذرّيّته ، وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على كل حال ؟
    فقال : معاذ الله ! ما نذهب إلى هذا ، ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء ، وهذه شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.
    فقلت له : لم أحكِ إلاَّ ما أقيم عليه البرهان ، ولا ذكرت إلاَّ معروفاً لا يمكن أحداً من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار ، لكنك أنت تريد أن تتجمَّل بضدّ مذهبك على هؤلاء الرؤساء.
    ثمَّ أقبلت على القوم ، فقلت : لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمّته وفقهائه وسادته أن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) قد يجوز عليه الخطأ في شيء يصيب فيه عمرو بن العاص ، زيادة على ما حكيت عنه من المقال !
    فاستعظم القوم ذلك ، وأظهروا البراءة من معتقده ، وأنكره هو ، وزاد في الإنكار.
    فقلت له : أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن علياً ( عليه السلام ) لم يكن معصوماً كعصمة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    قال : بلى.
    قلت : فلم لا يجوز عليه الخطأ في شيء من الأحكام ؟ فسكت.
    ثمَّ قلت له : أليس عندكم أن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) قد كان يجتهد رأيه في كثير من الأحكام ، وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة كانوا من أهل الاجتهاد ؟
    قال : بلى.


(130)
    قلت له : فما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم ما يذهب على أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) من جهة الاجتهاد ، مع ارتفاع العصمة عنه ، وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد ؟
    فقال : ليس يمنع من ذلك مانع.
    قلت له : فقد أقررت بما أنكرت الآن ، ومع هذا أفليس من أصلك أن كل أحد بعد النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ ما انعقد عليه الإجماع ؟ قال : بلى.
    قلت له : أفليس هذا يسوِّغكم الخلاف على أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) في كثير من أحكامه التي لم يقع عليها الإجماع ؟
    وبعد ، فليست لي حاجة إلى هذا التعسّف ، ولا أنا مفتقر فيما حكيت إلى هذا الاستدلال ; لأنه لا أحد من الفقهاء إلاَّ وقد خالف أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) في بعض أحكامه ، ورغب عنها إلى غيرها ، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم به من الحلال والحرام ، وإني لأعجب من إنكارك ما ذكرت وصاحبك الشافعي يخالف أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) في الميراث والمكاتب ، ويذهب إلى قول زيد فيهما !
    ويروي عنه ( عليه السلام ) أنه كان لا يرى الوضوء من مسّ الذكر ، ويقول هو : إن الوضوء منه واجب ، وإن علياً ( عليه السلام ) خالف الحكم فيه بضرب من الرأي !
    وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور عنه أنه قال : لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلِّب ، صلَّى عليٌّ ( عليه السلام ) بالناس وعثمان محصور ، فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلِّب على أمر الأمّة صلاة الناس خلف علي ( عليه السلام ) في زمن حصر عثمان ، فصرح بأن علياً كان متغلِّباً ، ولا خلاف أن المتغلِّب على أمر الأمَّة فاسق ضالّ ، وقال : لا بأس بالصلاة خلف الخوارج ، لأنهم متأوِّلون ، وإن كانوا فاسقين.
    فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه ، يزعم معه أنه لو صحَّ له عن


(131)
أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) شيء أو عن ذرّيّته لدان به ! لو لا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس.
    وليس في فقهاء الأمصار ـ سوى الشافعي ـ إلاَّ وقد شارك الشافعي في الطعن على أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، وتزييف كثير من قوله ، والردّ عليه في أحكامه ، حتى إنهم يصرِّحون بأن الذي يذكره أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) في الأحكام معتبر ، فإن أسنده إلى النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبلوه منه على ظاهر العدالة ، كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ما يسندونه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل كما يقبلون من حمَّال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه مسنداً إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فأمَّا ما قال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) من غير إسناد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان موقوفاً على سيرهم ونظرهم واجتهادهم ، فإن وضح لهم صوابه فيه قالوا به من حيث النظر ، لا من حيث حكمه به وقوله ، وإن عثروا على خطأ فيه اجتنبوه وردّوه عليه وعلى من اتّبعه فيه ، فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله ( عليه السلام ) ، وهذا مالا يذهب إليه من وجد في صدره جزأً من مودّته ( عليه السلام ) ، وحقّه الواجب له ، وتعظيمه الذي فرضه الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل لا يذهب إلى هذا القول إلاَّ من ردَّ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار (1).
1 ـ روى الخطيب البغدادي عن أبي ثابت مولى أبي ذر ، قال : دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر علياً ، وقالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : علي مع الحق والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة. ( تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 14/322 ، رقم : 7643 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/449 ).
    وعن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : علي مع الحق والحق معه.
    ( مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، الكوفي : 1/422 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/235 ).
    وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2/297 ، عن تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي ـ وقد أيَّدهم ـ قالوا جميعاً : قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور حيثما دار.
    وجاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري : 1/98 ، قال : وأتى محمّد ابن أبي بكر ، فدخل على أخته عائشة ، قال لها : أما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : علي مع الحق ، والحق مع علي ؟ ثمَّ خرجت تقاتلينه بدم عثمان ... إلخ.
    وروى ابن عساكر في تأريخ مدينة دمشق : 42/449 ، بالإسناد عن أم سلمة قالت : والله إن علياً على الحق قبل اليوم وبعد اليوم ، عهداً معهوداً وقضاء مقضياً وراجع ـ أيضاً ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18/72 ، ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 1/173.


(132)
    وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنا مدينة العلم وعلي بابها (1) وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : علي أقضاكم (2) ، وقول أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يده على صدري وقال : اللهم اهد قلبه ، وثبِّت لسانه ، فما شككت في قضاء بين اثنين (3).
    فلمَّا ورد عليه هذا الكلام تحيَّر ، وقال : هذه شناعات على الفقهاء ، والقوم لهم حجج على ما حكيت عنهم.
    فقال له بعض الحاضرين : نحن نبرأ إلى الله من هذا المقال وكل دائن به.
    وقال له آخر : إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على إبطال ما ادّعيت أولا من ضدّ هذه الحكاية ، ونحن نعيذك بالله أن تذهب إلى هذا القول ! فإن كل شيء تظنّه حجّة عليه فهو كالحجّة في إبطال نبوة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فسكت مستحيياً ممّا جرى ، وتفرَّق الجمع (4).
1 ـ تقدَّمت تخريجاته.
2 ـ تقدَّمت تخريجاته.
3 ـ تقدَّمت تخريجاته.
4 ـ الفصول المختارة ، المفيد : 132 ـ 135 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 10/443 ـ 445 ح 15.


(133)
    المناظرة الثلاثون
مناظرة
الشيخ المفيد ( رحمه الله ) مع بعض المعتزلة في فقه أهل البيت ( عليهم السلام )
    قال الشيخ أدام الله عزَّه : قال لي يوماً بعض المعتزلة : لو كان ما تدّعونه من هذا الفقه الذي تضيفونه إلى جعفر بن محمّد وأبيه وابنه ( عليهم السلام ) حقاً ، وأنتم صادقون في الحكاية عنهم ، لوجب أن يقع لنا ـ معشر مخالفيكم ـ العلم الضروريّ بصحّة ذلك حتى لا نشكَّ فيه ، كما وقع لكم صحّة الحكاية عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وغيرهم من فقهاء الأمصار برواية أصحابهم عنهم ، فلمّا لم نعلم صحّة ما تدّعونه ، مع سماعنا لأخباركم وطول مجالستنا لكم دلَّ على أنكم متخرِّصون في ذلك !
    وبعد فما بال كل من عددنا من فقهاء الأمصار قد استفاض عنهم القول في الفتيا استفاضة منعت من الريب في مذاهبهم ، وأنتم أئمّتكم أعظم قدراً من هؤلاء ، وأجلُّ خطراً ، لاسيما مع ما تعتقدون فيهم : من العصمة ، وعلوّ المنزلة ، والفضل على جميع البريّة ، والبينونة من الخلق بالمعجزة ، وما اختصّوا به من خلافة الرسول عليه وآله السلام ، وفرض الطاعة على الجنّ والإنس ؟ وإن هذا لشيء عجيب !


(134)
    قال الشيخ أدام الله عزَّه : فقلت له : إن الجواب عن هذا السؤال قريب جدّاً ، غير أني أقلبه عليك ، فلا يمكنك الانفصال منه إلاَّ بإخراج من ذكرت من جملة أهل العلم ، ونفي المعرفة عنهم ، وإسقاط مقال من زعمت أنهم كانوا من أصحاب الفتيا ، والعلم الضروريّ حاصل لكل من سمع الأخبار بضدّ ذلك وخلافه ، وأنهم ( عليهم السلام ) كانوا من أجلّة أهل الفتيا.
    وذلك : أننا وإن كنا كاذبين على قولك ، فلابدّ لهؤلاء القوم ( عليهم السلام ) من مقال في الفتيا يتضمَّن بعض ما حكيناه عنهم ، فما بالنا معشر الشيعة ، بل ما بالكم ـ معشر الناصبة ـ لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة بالضرورة ، كما تعلمون مذاهب أهل الحجاز والعراق ومن ذكرت من فقهاء الأمصار ؟
    فإن زعمت أنك تعلم لهم في الفتيا مذهباً بخلاف ما نحكيه عنهم علم اضطرار ـ مع تديُّننا بكذبك في ذلك ـ لم نجد فرقاً بيننا وبينك إذا ادّعينا أننا نعلم صحّة ما نحكيه عنهم بالاضطرار ، وأنك وأصحابك تعلمون ذلك ، ولكنكم تكابرون العيان ، وهذا مالا فصل فيه.
    فقال : إنما لم نعلم مذهبهم باضطرار لأنّه مبثوث في مذاهب الفقهاء إذا كانوا ( عليهم السلام ) يختارون ما اختاروا من قول الصحابة والتابعين ، فتفرَّق مجموع أخبارهم في مذاهب الفقهاء.
    فقلت له : فإن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ومن عددت ; لأن هؤلاء تخيَّروا من أقوال الصحابة والتابعين ، فكان يجب أن لا نعلم مذاهبهم باضطرار ، على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال فإنّا نعتمد عليه في جوابك ، فنقول : إننا إنما تعرَّينا من علم الاضطرار بمذاهبهم ( عليهم السلام ) لأن الفقهاء تقسَّموا مذاهبهم المنصوصة عندنا ، فدانوا بها على سبيل الاختيار ; لأن قولهم


(135)
متفرِّق في مقال الفقهاء ، فلذلك لم يقع العلم به باضطرار.
    فقال : فهب أن الأمر كما وصفت ، ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من خلاف جميع الفقهاء علم اضطرار ؟
    فقلت له : ليس شيء مما تومئ إليه إلاَّ وقد قاله صحابيّ أو تابعي ، وإن اتّفق من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن ، فلمَا قدَّمنا مما رضيته من الاعتلال لم يحصل علم الاضطرار ، مع أنك تقول ـ لا محالة ـ بأن قولهم ( عليهم السلام ) في هذه الأبواب بخلاف ما عليه غيرهم فيها ، وهو ما أجمع عليه عندك فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين بإحسان ، فما بالنا لا نعلم ذلك من مقالهم علم اضطرار ؟ وليس هو مما تحدَّثته مذاهب الفقهاء ، ولا اختلف فيه عندك من أهل الإسلام أحد ، فبأيِّ شيء تعلَّقت في ذلك تعلَّقنا به في إسقاط سؤالك ، والله الموفّق للصواب.
    فلم يأت بشيء تجب حكايته ، والحمد لله.
    قال السيِّد رضي الله عنه ، مؤلِّف الفصول المختارة : وقلت للشيخ عقيب هذه الحكاية لي : إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا : إن جعفر بن محمّد ، وأباه محمّد بن علي ، وابنه موسى بن جعفر ( عليهم السلام ) لم يكونوا من أهل الفتيا ، لكنهم كانوا من أهل الزهد والصلاح ؟
    قال : يقال لهم : هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة ، وجوَّزناها لكم ، أليس من قولكم وقول كل مسلم وذمّيٍّ وعدوٍّ لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ووليٍّ له : أن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) كان من أهل الفتيا ؟
    فلابد من أن يقولوا : بلى.
    فيقال لهم : فما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من عددتموه من فقهاء الأمصار ، بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس