مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 241 ـ 255
(241)
    فقال : لماذا ؟
    قلت : إن أبا هريرة أحد أفراد رجال الصفة ، وهم عدّة قليلون يسعون طول النهار لتحصيل قوت يومهم ، ولذلك لا ترى لأحدهم سوى خمسة أحاديث أو ثلاثة وهكذا ، وإن أبا هريرة كان واحداً منهم ، فكيف استطاع رواية آلاف الأحاديث بعد النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
    فقام الأستاذ شاكر ، وتناول كتاباً من مكتبته بحجم متوسِّط ، ودفعه إليَّ وقال : انظر صفحات هذا الكتاب ، وعلى كم صفحة يحتوي.
    قلت : 230 صفحة.
    فقال : الصفحة فيها كم سطر ؟
    قلت : 23 سطراً.
    فقال : اضرب أسطر الكتاب بالصفحات فكم يكون الحاصل ؟
    قلت ـ بعد أن قمت بعملية الضرب ـ : 5290 سطراً.
    فأخذ الكتاب بيده وقال : أنت تستكثر حفظ هذا الكتاب على أبي هريرة.
    فقلت له : يا أستاذ ! كيف اختصَّ أبو هريرة بسماع هذه الأحاديث وحفظها من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولم يختصَّ بها غيره من هو أخصُّ الناس بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
    فأجابني قائلا : أبو هريرة كان ملازماً للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فأجبته : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يحضر أوقات الصلوات في المسجد ، وكان عنده تسعة أزواج ، وكان يحضر ويجيب دعوة من يدعوه من الصحابة ، وإن أبا


(242)
هريرة لم يحضر عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سوى سنة وتسعة أشهر ; لأنه أسلم في السنة السابعة من الهجرة ، وأقصاه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى البحرين مع العلاء بن الحضرمي في سنة ثمان من الهجرة ، فكيف استطاع حفظ هذه الأحاديث وسماعها من النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشكل مباشر ، مع أن سماعها يستلزم زمناً طويلا يحتاج إليه الحفظ عن ظهر القلب ؟
    فلم يحر جواباً ، وبعد فترة استأذنّاه وانصرفنا (1).
1 ـ مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 2/67 ـ 71.

(243)
    المناظرة الرابعة والخمسون
مناظرة
السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد الله يحيى العلوي
في النصوص والأحاديث الدالة على إمامة أميرالمؤمنين ( عليه السلام )
والمذاهب الأربعة
    قال السيِّد مرتضى الرضوي : تعرَّفت على هذا الأستاذ الكبير (1) في القاهرة ، في عصر الخميس 23 ذي القعدة الحرام عام 1375 هـ ، الموافق 27/11/1975 ، بواسطة الأخ الأستاذ أحمد ربيع المصري ، سكرتير عام لجنة نشر المؤلَّفات التيمورية بالقاهرة ، وكنت أتردَّد عليه في اللجنة ، وفي أحد الأيام كنت في اللجنة إذ قدَّم لي الأستاذ أحمد ربيع كتاب : المجاج ، ففتحته فرأيت قد كتب عليه الإهداء باسمي بعبارة رقيقة ، فيها صفات لا تنطبق عليَّ ولا أستحقُّها ،
1 ـ قال السيِّد مرتضى الرضوي : الأستاذ عبد الله يحيى العلوي ، من مشاهير الكتَّاب في العالم الإسلاميّ ، ولادته : ولد في ستعاموزه عام 1903 م ، حصل على الشهادة العالميّة عام 1920 م في الأزهر الشريف ، لجأ إلى أندنوسيا عام 1947 م ، انتخب عضواً في إدارة المجلس التشريعي بسنغافورة ، ونائباً لرئيس جمعية الشبان المسلمين بها ، ورئيساً لجمعية الدعوة الإسلامية وللرابطة الإسلامية ، هاجر إلى القاهرة عام 1951 م ، عيِّن مستشاراً لأعمال سفارة اليمن أكثر من مرَّة ، وممثِّلا لحكومتها في أربعين مؤتمراً دولياً وشعبياً ، وفي جامعة الدول العربية بالقاهرة.

(244)
فحمدت الله تعالى على حسن ظنِّ أستاذنا الكبير ، فذهبت لزيارته بداره العامرة بالزمالك ، بمعيَّة الأستاذ أحمد ربيع المصري ، وتفضَّل مشكوراً بإهدائه لي آثاره ، وكانت جلسة ممتعة ، ودارت بيننا أحاديث متنوِّعة ، وفي صباح الأربعاء 7/4/1976 م اتصل بي الأستاذ أحمد ربيع ، وقال : اتصلت بالأستاذ العلوي ، وعرَّفته بوصولك القاهرة ، ويمكننا مقابلته في منزله بالزمالك في غد ، الخميس 8/4/1976 م في الساعة السادسة بعد الظهر.
    وحين قرب وقت الصلاة صلاة المغرب قال الأستاذ العلوي : ما حكم الصلاة في السفر عندكم ؟ الجمع أو التقصير ؟
    قلت : المسافر إن نوى الإقامة في بلد يمكث فيه عشرة أيام تجب عليه الصلاة تامّة ، ولا فرق بينه وبين المقيم فيها ، ولو أن المسافر دخل بلداً لأجل عمل له فيه ، ولا يدري متى يفرغ منه ; يومين أو أسبوعاً أو أقل أو أكثر ، وحيث إنه لا يمكنه تحديده عليه أن يأتي بالصلاة قصراً ( إلى نهاية الثلاثين ) يوماً (1) ، وبعد هذه المدّة يتمُّ الصلاة ولو بقي يوماً واحداً ، هذا ما عندنا نحن الشيعة الإماميّة (2).
    ثمَّ قال الأستاذ : الأسف أن الشعب هنا يجهل حقيقة الشيعة ، ولا يعرف عنها سوى ما صوَّره له أعداؤه ! وقال : يا حبذا لو أنكم تفكِّروا بإصدار مجلّة أو نشرة ، وتباع بسعر رخيص ، تعرضوا فيها آراء الشيعة الإماميّة ومفاهيمها ، حيث
1 ـ يعني مع التردد ومع عدم العلم أنه سوف يبقى هذه المدة.
2 ـ جاء في كتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي عليه الرحمة : 1/252 ـ 253 ، من قواطع السفر : الثالث ، أن يقيم في مكان واحد ( ثلاثين يوماً ) من دون عزم على الإقامة عشرة أيام ، سواء عزم على إقامة تسعة أو أقل أم بقي متردداً فإنه يجب عليه القصر إلى نهاية الثلاثين ، وبعدها يجب عليه التمام إلى أن يسافر سفراً جديداً.


(245)
إن المصريين يجهلون حقيقتها ، ولا يعرفون عنها سوى ما صوَّرها الأعداء.
    وقلت : هل نصَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الخليفة من بعده ؟
    قال : نعم ، لقد نصَّ عليها ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ـ بأحاديث صريحة صحيحة لا غبار عليها ، ويفهمها من تجرَّد عن التعصُّب وبغض الآل ، كما نصَّ عليها أيضاً العقل السليم.
    أمَّا الأحاديث فمنها : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي (1) ، أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي (2) ، القرآن مع عليٍّ ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (3) ، من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (4).
1 ـ تقدَّمت تخريجاته.
2 ـ جاء في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : 15 : عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كل مؤمن من بعدي.
    وجاء في المستدرك للحاكم النيسابوري : 3/134 : قال ابن عباس : وقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنت وليُّ كل مؤمن بعدي ومؤمنة.
    وراجع المصادر الآتية : مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، محمّد بن سليمان الكوفي : 1/449 ح 348 ، مسند أبي داود الطيالسي : 111 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/504 ح 58 ، الآحاد والمثاني ، الضحاك 4/278 ـ 279 ح 2298 ، كتاب السنة ، عمرو بن أبي عاصم : 550 ح 1187 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/45 ح 8146 ، صحيح ابن حبان : 15/374 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12/78 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/100 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/27 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 8/199 ، الإصابة ، ابن حجر : 4/467 ، المناقب ، الموفّق الخوارزمي : 127 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 79.
    وجاء في أسد الغابة لابن الأثير : 4/28 عن البراء بن عازب وزاد : فقال عمر بن الخطاب : يا ابن أبي طالب ! أصبحت اليوم وليَّ كل مؤمن.
3 ـ تقدَّمت تخريجاته.
4 ـ تقدَّمت تخريجاته.


(246)
    إن هذه الأحاديث فقط وفقط لمن أمعن في ألفاظها ، وعمق معانيها لأكبر دليل على استخلاف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليّاً ( عليه السلام ) في قومه حين خرج إلى غزوة تبوك ، كما استخلف موسى ( عليه السلام ) هارون على قومه واستوزره ، وإن تشبيه النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليّاً بهارون من موسى فيه كل الاستدلال على أن يخلفه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
    وقصة الغدير المعروفة المتواترة وحدها ـ وحدها فقط ـ صريحة في أن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أثبت الولاية لعليٍّ ليكون خليفته ، وقد همَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يكتب في مرض وفاته حين رأى الصحابة في هرج ومرج ـ كتاباً يحول بينهم وبين الضلال والتفرقة ، لو لا أن عمر بن الخطاب حال بينه وبين كتابة الكتاب.
    وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، صريح في أن عليّاً ( عليه السلام ) أصبح مولى كل مؤمن ومؤمنة.
    أمَّا الدليل العقلي على أحّقيّة الإمام عليٍّ بالخلافة ـ كرَّم الله وجهه ـ فهو أن الخلافة وتولّي أمور المسلمين بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يجدر أن يتولاَّها إلاَّ من كان نسيج وحده ، وقريع دهره في الشمائل والفضائل ، وقد فاق أقرانه ، وأربى على الأكفاء ، وتميَّز عن النظراء ، وترفَّع عن الأشكال ، وانفرد عن مواقف الأشباه ، لا تفتح العين على مثله ، ولا يلقى نظيره ، ولا يدرك قرينه ، كاملا في دينه ، وفي عمله ، وفي تقواه ، لإعلاء كلمة لا إله إلاَّ الله محمّد رسول الله ، ونصرة سيِّد الأنام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان أسبق الخلق إلى الإسلام غير مدافع ، وأفضلهم وأشجعهم ، وأتقاهم غير معارض.
    وكل هذه الصفات مستجمعة في الإمام علي الذي ولد مسلماً ، وأسلم بأمر من الله تبارك وتعالى ، وتخرَّج من مدرسة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وترعرع وشبَّ


(247)
منذ نعومة أظفاره في رحاب سيِّد الوجود وإمام المتقين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان جهاده في سبيل الإسلام فوق كل جهاد ، وتقواه فوق كل تقوى ، وبطولاته فوق كل بطولات ، وإيمانه وزهده فوق كل زهد وإيمان ، يصغي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يناجي ربَّه وخالقه فيرتوي من أقواله وعظاته ، ويعرف الفضيلة من مصدرها ، والعرفان من ينبوعه ، والإيمان من معقله ، عرف كل ذاك وهو وليد في رحاب إمام المتقين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحيث عني بتربيته ، يضعه النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حجره ، ويضمُّه إلى صدره ، ويكنفه في فراشه ، ويمسُّه جسده الشريف ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويشمُّه عرفه ، ويريه نور الوحي.
    إن شريط التاريخ حين يمرُّ على العقل السليم ، وهو يستعرض كبار الصحابة وأعمالهم فرداً فرداً ، ويقارن بينه وبين أعمال الإمام علي كرَّم الله وجهه ، وجهوده ، وجهاده ، ونشأته ، ومكانته من الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .. إلخ ، ليحكم دون تردُّد بأنّه الأجدر بالخلافة ، والأحقُّ بها دون ريب.
    أيُّ عقل ياترى لا يقرُّ أنّ عليّاً كرَّم الله وجهه أحقُّ بالخلافة ، وقد أعطاه النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الولاية ؟ وهو الذي ولد مسلماً ، وأخلص بالشهادة لله ، وسبق إلى الإسلام بدعوة من الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    أيُّ عقل ياترى لا يقول : إن عليّاً كرَّم الله وجهه ليس أحقَّ بالخلافة ، وهو الذي ولد بالكعبة ، ولم يسجد لصنم قط ، وشارك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أول صلاة صلاَّها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي كان في حروب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أوَّلها إلى آخرها ، ما عدا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على المدينة ؟


(248)
    أيُّ عقل لا يقول : إن علياً أحقُّ بالخلافة وهو الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه (1) ؟
    أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي لم يدع بيتاً في العرب إلاّ ترك فيه ناعياً أو ناعية من أجل : لا إله إلاَّ الله محمّد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قتل وحده من جيش المشركين في يوم بدر النصف ، بينما قتل المسلمون بأجمعهم وأكتعهم وأبصعهم وأكملهم النصف الآخر ؟
    أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها (2) ؟
    أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو ظهيره ، وأخوه في الدنيا والآخرة ، وعيبة علمه ، ووارث حكمته ، وسابق الأمَّة ، وصاحب النجوى ، وباذل الأموال سرّاً وعلانية ، ووارث الكتاب ، وذو الأذن الواعية ؟
    أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو أميرالمؤمنين ، ويعسوب الدين ، وزوج البتول ، وقاتل الفجرة ، وصاحب الراية ، وسيِّد العرب ؟
    أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر (3) ؟
1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13/261 ، 285 و 19/61 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/281 ح 2.
2 ـ تقدَّمت تخريجاته.
3 ـ تأويل مختلف الحديث ، ابن قتيبة : 152 ، المناقب ، الخوارزمي : 81 ح 65 ، وقد تقدَّم المزيد من تخريجاته فيما سبق.


(249)
    أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام عليٍّ في الخلافة ، وقد تقدَّم الشيخان : أبو بكر وعمر إليه يوم غدير خمٍّ ، وكلٌّ منهما يقول : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلِّ مؤمن و مؤمنة (1) ؟
    أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام في الخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حديث طويل : إن الحقَّ معه حيث دار (2) ؟
    إن عليّاً ـ كرَّم الله وجهه ـ هو الأحقُّ بالخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ; لتلكم الصفات المجتمعة فيه ، ولا ريب :
ولم تك تصلح إلاَّ له ولم يك يصلح إلاَّ لها
    وتولّي أبي بكر الخلافة من بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع وجود الإمام الفاضل ليس دليلا على أفضليَّة أبي بكر على عليٍّ ( عليه السلام ) ، إنّها السياسة في كل زمان ومكان ، إنّها حصيلة يوم السقيفة ، إنّها نتاج اختلاف الآراء يوم طلب سيِّد الوجود ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الحاضرين من أصحابه أن يؤتوه دواة وصحيفة ، ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده (3).
    ثمَّ قلت : هل تنعقد الخلافة بالنصِّ أم بالإجماع ؟
    أجاب : لا ريب أنّه إذا جاء النصُّ بطل ما دونه ، وهو قاعدة أصوليّة.
    وقلت : ما رأيكم في فتح باب الاجتهاد ؟ وما هو السبب في غلقه ؟
1 ـ مسند أحمد بن حنبل : 4/281 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7/503 ، ح 55 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 8/284 ، رقم : 4392 ، المناقب ، الخوارزمي : 156 ح 184 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/233 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5/229 و 7/386 ، ينابيع المودّة ، القندوزي : 2/249 ح 699 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 67.
2 ـ تقدّمت تخريجاته.
3 ـ تقدّمت تخريجاته.


(250)
    قال : لقد ظلَّ الاجتهاد مفتوحاً منذ الفتح ، وما زال عند الإماميّة والزيديّة ورثة أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى الآن ، ولم يسدَّ بابه إلاَّ في عصر المنتصر العبَّاسي ، وبأمر من عنده ، ولأمر يجيش في نفسه ، ويخشى من تفاعله وأثره على دولته وحكمه ، خصوصاً عندما اشتدَّ الصراع بين رجالات المذاهب الفقهيّة في ذلك العصر ، وبين فقهاء الرأي وفقهاء الأثر بالأخصِّ.
    ومن الأسباب التي حالت دون استمرار الاجتهاد عند أهل السنّة انقراض العلم وجمود الفكر ، وخمول الذهن ، وشلل الرأي ، وقد يكون خوف السلطة الحاكمة من استمرار الاجتهاد ، وتصدّي المجتهد لأوضاعهم ، والفتوى ضدَّهم ، عاملا من عوامل غلق باب الاجتهاد وتفشّي الجمود الفقهيِّ.
    ثمَّ قلت : هل أمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باتّباع أحد المذاهب الأربعة ؟ وما رأيكم فيها ؟
    قال : كيف يأمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باتّباع مذهب معين في زمن لم تكن فيه تلكم المذاهب ؟ لقد كان الصحابة يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنّة ، وإلى ما يتمخَّض لديهم من النظر عند فقد الدليل ، وكذلك تابعوهم ، فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة ، فإن لم يجدوا اجتهدوا ، واختار البعض قول صحابيٍّ أو تابعيٍّ أو إمام حين يطمئنُّ إلى الدليل ويأنس به ، ولا يتعيَّن على المسلم أن يتقيَّد بتقليد مذهب معيَّن ، ولم ينقل عن السلف الحجز في ذلك ، وتقليد أئمّة المذاهب الأربعة ، وعدم التقيُّد بتقليد مذهب أو قول معيَّن أمر جائز ، والتلفيق بين أقوال المذاهب لا محذور فيه ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1).
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 185.

(251)
    والالتزام بتقليد إمام أو مذهب معيَّن لم يحدث إلاَّ في القرن الثالث من الهجرة ، وبعد فناء القرون التي أثنى عليهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن المؤسف أن الحكَّام في ذلكم العصر والسياسة لعبت دورها في تقييد الشعب المحكوم عليه بتقيُّد مذهب معيَّن ، تمشّياً على مذهب : الناس على دين ملوكهم.
    على أنّه قد تواترت الروايات عن الإمام مالك أنه حين قال له الرشيد : إنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه ، نهاه عن ذلك ، وكذلك الإمام الشافعي القائل : إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي ، وقال أبو حنيفة : لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ، وقال أحمد : لا تقلِّدني ولا تقلِّدن مالكاً ولا غيره.
    لقد شوِّهت الحقائق ، واتهم كل فريق الآخر بشتَّى التهم ، ورماه بما ليس فيه ، وكانت النتيجة الحتميَّة هي القطيعة بين مئات الملايين من المسلمين مع الأسف الشديد.
    إن هناك ـ ولا ريب ـ خلافات في المذاهب ، ولكن لم تمسَّ ـ والحمد لله ـ أركان الإسلام ، على أنها بفضل انتشار الشيعة ، وتعارف بعضهم بعضاً ، وأخذ الحقائق الفقهيّة والعلميّة من مصادرها ، قد وهنت خيوطها وضعفت أسبابها ، وكادت تتلاشى في المجتمعين الشيعيِّ والسنّيِّ ، وعرف كل منهم أن ما بين تلكم المذاهب من خلافات لم تمسَّ الجوهر من كل مذهب ، ولا تستوجب القطيعة والتكفير برغم تعصُّب الكثيرين من أهل السنّة الذين يجهلون مذهب الإماميّة ، ويروون الموبقات ـ مع الأسف ـ عنهم.
    إنّها الآراء الجامحة ، والأقلام الطائشة ، والحكومات الحاكمة ، والجهل المتفشّي ، والتعصُّب الأعمى ، كل ذلك مجتمعة أو بعضها قد فعل فعله في الماضي ، وما زال عالقاً بالأذهان ، وضخّمه وبالغ فيه ، لا عن قصد ولكن عن


(252)
جهل وعصبيّة.
    وعلى علماء المسلمين ـ وهم المسؤولون أولا ـ أن يعطوا بكل ما أوتوا من قوّة وسلطان للتقريب بين المذاهب ، وتبادل الزيارات ، وتعرُّف بعضهم إلى بعض ، ويزيلوا تلكم الحوائط الثلجيّة ، ولا ريب مع الإخلاص في العمل ، وإزالة الأتربة عن العقول المتحجِّرة ، وعن التزمُّت ، سوف تذوب تدريجيّاً ، ويتمُّ اللقاء بين الطوائف الإسلاميّة على وجهه الأكمل إن شاء الله.
    وسألت الأستاذ عن أبي هريرة ، وقلت : ما رأيكم في أبي هريرة ؟ وفي أحاديثه ؟
    أجاب : رأيي فيه رأي عمر بن الخطاب حين ضربه بالدرّة ، فلقد قال فيه : أكثرت ـ يا أبا هريرة ـ من الرواية ، وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) ، ثمَّ هدَّده وأوعده أن يترك الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإنّه ينفيه إلى بلاده.
    وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد : لتتركنَّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنَّك بأرض دوس .. (2) ، وجاء مثل هذا في البداية والنهاية (3).
    وقلت : هل زرتم مراقد أهل البيت ( عليهم السلام ) في العراق ؟ وما هي انطباعاتكم عنها ؟
    قال : لقد كان لي شرف زيارة تلك البقاع الطاهرة ، حيث يرقد أهل
1 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 4/68.
2 ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 50/172 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 2/600 ـ 601 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/115 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 10/291 ح 29472.
3 ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/115.


(253)
البيت ( عليهم السلام ) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، ولا أقول إلاَّ :
تلك أرض قدِّست تربتها كيف لا تصبح أسمى مشهد واستقرَّ المجد في أبوابها وبنو خير النبيين بها
    ثمَّ قلت للأستاذ : هل اجتمعتم بعلماء الشيعة الإماميّة المتمسِّكة بمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ؟ وما هي انطباعاتكم عنها ؟
    قال سيادته : لا شك أن علماء الشيعة المتمسِّكين بمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين حملوا مشعل شريعة جدِّهم الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على هدى ونور من الله ، وأأسف جدَّ الأسف إذ لم يكن لي حظُّ التعرُّف بأولئك الأعلام ، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتيح لي زيارتهم في مدائنهم.
    وسألت الأستاذ عن رأيه في الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق ، وفي فتواه بجواز التعبُّد بمذهب الشيعة الإماميَّة التي أصدرها عام 1959 م ؟
    أجاب : التعبُّد بمذهب الإماميّة لا يحتاج إلى استئذان من شيخ الأزهر ، أو عالم أزهر ، حسب أن مذهب الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ، ( الذي هو ) أعلم الناس باختلاف الفقهاء (1) ، وأكمل أهل زمانه ، وأورعهم ، وأنصحهم لله ، ملأت آثاره دنيا العرب والإسلام (2) ، مذهب اعتصره صاحبه من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن أحاديث جدِّه الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
1 ـ راجع شهادة أبي حنيفة في حقِّ الإمام الصادق ( عليه السلام ) : تهذيب الكمال ، المزي : 5/79 ـ 80 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6/258. إذ قال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد ( عليه السلام ).
2 ـ قال الجاحظ : جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه. رسائل الجاحظ ، السندوبي : 106 ، وراجع أيضاً قول بعضهم مثل هذه الكلمة في حقِّ الإمام ( عليه السلام ) في : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15/274.


(254)
    ثمَّ قلت : ما رأيكم حول التقريب بين المذاهب الإسلاميّة ؟
    قال : الدعوة إلى التقريب بين المذاهب مطلوب من كل مسلم ; لكون المسلم أيّاً كان مذهبه أخوه ، يحرم عليه عرضه ودمه وماله ، والمسلم أخو المسلم ، لا يخذله ولا يهجره ، ولا يبغضه ، والحبُّ في الله والبغض في الله من الدين.
    ومن الأسف الشديد أن أكثر علماء السنّة يجهلون حقيقة المذهب الإماميّ ، ويتناقلون دائماً عمّا سمعوه من تقوُّلات حول الشيعة ، وورثوه جهلا عن آبائهم وأجدادهم ، من تفشّي زواج المتعة بينهم ، وتأليههم للإمام عليٍّ ( عليه السلام ) ، الأمر الذي ليس له وجود بينهم اليوم ، رغم أن زواج المتعة لو طبِّق اليوم لما وصل التفسُّخ بشباب المسلمين إلى ما وصل إليه الآن.
    إن علماء السنة كثيراً ما ينسبون إلى الشيعة كافة ـ بما فيهم الإماميّة ـ قولا لغلاة الشيعة ، أو لفقيه من الإماميّة خالف علماءهم جميعاً ، أو قولا لجاهل لا يفهم عن التشيُّع شيئاً ، والشيعة الإماميَّة أنفسهم لا يقرُّون به ; لأنه قول فرد أو أفراد خالفهم فيه أكثر فقهاء المذهب نفسه ، وقول مجتهد أو جماعة من المجتهدين لا يكون حجّة على الآخرين.
    ومن الخطأ أن ينسب إلى مذهب الإماميّة قول وجد في كتاب عالم منهم ، ومن عرف طريقتهم ، وتتبَّع كلمات علمائهم تجلَّت له هذه الحقيقة بأوضح معانيها ، وما أحوج علماء الشيعة والسنّة اليوم إلى التزاور والتآلف ليعرف بعضهم بعضاً على حقيقته ، وليقطعوا دابر الساسة الذين فرَّقوا المسلمين إلى مذاهب.
    ثمَّ قمت بعد أن انتهت الجلسة ، فاستأذنته وانصرفت (1).
1 ـ مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : 2/199 ـ 214.

(255)
    المناظرة الخامسة والخمسون
مناظرة
الشيخ محمّد الشيعي والأستاذ عادل فيصل السوري
في إسلام آباد في عدالة الصحابة
    قال الشيخ محمّد الشيعي في كتيِّبه ( مناظرة لطيفة ) : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، وأفضل بريَّته محمَّد وعلى آله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.
    الساعة تشير إلى الرابعة والنصف بتوقيت الإمارات العربيّة المتّحدة ، وأنا في مطار دبي الدولي ، وفجأة أذيع من مكبِّرات الصوت : على المسافرين إلى إسلام آباد على متن الخطوط الجوّيّة البريطانيّة التوجُّه إلى البوابة رقم : 4 ، وذهبت أنا وبقيَّة المسافرين ، وبعد أن عبرنا العوائق الإداريّة دخلنا الطائرة ، وجلست على المقعد المقرَّر سلفاً ، وجلس إلى جنبي شابٌّ مهذَّب وسيم متديِّن ، عرَّف فيما بعد نفسه باسم : عادل عبد العزيز فيصل ، من أهل حلب ـ الجمهوريّة العربيّة السوريّة (1) ، وأقلعت الطائرة من أرض المطار ، وبدأ الحديث والتعارف ،
1 ـ خريج جامعة دمشق ـ كلّيّة الشريعة.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس