مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 256 ـ 270
(256)
فعرَّفت نفسي بأني محمّد ، فصلَّى على الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائلا : اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
    فهاجسني حسُّ الفضول ، وقلت : إن هذه الصلاة بتراء.
    قال : وما معنى ما تقول ؟
    قلت له : وقد جاء في الحديث المرويِّ عن النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن من صلَّى عليه ولم يذكر آله فإن صلاته بتراء (1) ، فنظر إليَّ بنظرات تنطوي على كلمات وكلمات ، وبعد هنيئة فتح فاه ، وقال : إنّك شيعيٌّ ؟
    قلت : نعم ، فاستوى جالساً كأنّه استنكر ، وأراد أن يقول شيئاً لكنّة نكل ،
1 ـ أخرج الشعراني حديث الصلاة البتراء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تصلُّوا عليَّ الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء ؟ قال : تقولون اللهم صلِّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد ، فقيل : من أهلك يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : علي وفاطمة والحسن والحسين.
    كشف الغمّة ، الشعراني : 1/219 فصل في الأمر بالصلاة على النبي ، ط. مصر 1327 ، المطبعة الميمنية ، فضل آل البيت ، المقريزي : 43 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 225 في الآيات النازلة في أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الآية الثانية ، ينابيع المودّة ، القندوزي : 1/37 ح 14 و 12/434.
    قال ابن حجر في الصواعق : 349 ، في مشروعية الصلاة عليهم ( عليهم السلام ) : أخرج الدار قطني والبيهقي حديث : من صلَّى صلاة ولم يصلِّ فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه.
    وروى الطبراني في المعجم : 17/251 ـ 252 عن عقبة بن عمرو قال : أتى رجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى جلس بين يديه ، فقال : يا رسول الله ! أمَّا السلام عليك فقد عرفناه ، وأمَّا الصلاة عليك فأخبرنا بها كيف نصلّي عليك ؟ فقال : إذا صلَّيتم عليَّ فقولوا : اللهم صلِّ على محمّد النبيِّ الأمّيِّ وعلى آل محمّد كما صلَّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
    وقال الشافعي في وصفهم ، ومنبِّهاً على هذا المعنى في فضلهم :
يا أهل بيت رسول الله حبُّكم كفاكم من عظيم القدر أنكم فرض من الله في القرآن أنزله من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
    الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 228 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 18.


(257)
وأراد أن يبطش لكنّه امتنع ، وتمالك أعصابه ، ثمَّ قال : أنتم تُكفرون وتَلعنون وتسبُّون أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنصاره ، وهم أمان أهل الأرض ، ومن شهد لهم بالجنة ، فهم النجوم ، ومن سبَّهم فهو زنديق.
    وأراد أن يضيف لكنَّه أمسك ، وكأنّه ندم من سرعة انفعاله ، وحدّة مواجهته ، فسكت ، وأضاف قائلا : معذرة.
    قلت وفي نفسي حزازة : لا عليك يا حبيبي ، ربما قرأت أو سمعت أو نُقل إليك ممّا حدا بك أن تنفعل ، رغم أنّك مؤمن مهذَّب مثقَّف ، وتتقوَّل علينا ما ليس فينا ، وقبل الخوض في البحث حول هذا الموضوع أذكر لك حادثة لطيفة ، أهدِّئ روعك وأسكِّن غضبك ؟
    فابتسم وضحكت أنا ..
    كنت أدرس عند أستاذ بليغ ـ وساق قصة ترتبط بأستاذه إلى أن قال : فيا أخي عادل ! دع عنك كلمات الانتهازيّين الذين بينهم وبين الحقّ هوَّات وفواصل ، ولكنّهم تستَّروا بالحقِّ والدين لأجل مناصبهم ومصالحهم وراحتهم ووجاهتهم على حساب الدين والمتديِّنين ، كما أوضحت لك ، والعاقل تكفيه الإشارة ، ولله درُّ أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) حيث قال : الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله (1).
    فشاهدت صديقي يومي إليَّ بالتصديق ، وكأنه يقول : هذا قطرة من بحر.
    وقال عادل : أودُّ أن أذكر أفضح من هذا ، وأنا أدرس في جامعة دمشق كلّيّة الشريعة ...
1 ـ روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 31 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 40/126.

(258)
    وفجأة قاطعته المضيِّفة معلنة شدَّ الأحزمة للهبوط في مطار إسلام آباد.
    فقال : يا أخي ! ولو لم نصل إلى جواب ، ولكن كانت فرصة سعيدة ووقتاً طيّباً ، أثَّرت في نفسي ، وأودُّ زيارتك ، أو أن تزورني.
    قلت : نعم ، وهذا يسعدني ، وإني سأنزل في فندق كلف.
    وقدَّمت له العنوان ، ووعدني بالزيارة ، وهبطت الطائرة ، وتابع كل واحد منّا سفره ، وفي الساعة 53/11 مساء وصلت الفندق المذكور ، وحللت في الغرفة المخصَّصة مسبقاً ، وقضيت ليلة هادئة ، وفي الصباح الباكر بعد أداء الفريضة عاودت النوم ، فما استيقظت إلاَّ أثر جرس الهاتف ، فرفعت السماعة فإذا هو صديقي قد اتصل بي ، وطلب زيارتي ، فحدَّدت له الساعة الخامسة مساء وقتاً للقاء ..
    في الوقت المقرَّر ذهبت إلى الصالة منتظراً صديقي ، فإذا هو جالس أمامي ، وبمجرَّد أن رآني قام وأخذ يدي بقوَّة ، وحيَّاني بحرارة ، وضمَّني إليه ، وبعد المجاملة وكلام قصير حول السفر دخلنا في صلب الموضوع الذي شرعناه في الطائرة.
    فقلت له : سيِّدي ! ذكرت حول الصحابة من كلام الحبيب المختار وسيِّد الأبرار ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وحان الآن الوقت والمجال لنبحث عن حقيقة هذا المقام بالشكل الموضوعيِّ المناسب ، بما لا يوجب الإسهاب والتضجُّر ، وبالاختصار ، مدعَّماً بالأدلة المقنعة إن شاء الله تعالى.
    فأجابني بما فيه الرضا والقبول ، وتوجَّه إليَّ بشره عجيب ، ودقّة متناهية مما دعاني إلى الحيطة والحذر في الكلام.
    فقلت : الصحابة من الصحبة ، والصحبة في اللغة : المعاشرة أو الملازمة ،


(259)
يقال : صحبته أصحبه صحبة ، فأنا صاحب ، والجمع صحب وأصحاب وصحابة.
    وفي الاصطلاح : قال ابن حجر العسقلاني : وأصلح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيه من لقيه ، طالت مجالسته أو قصرت ، أو من روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض. انتهى كلامه (1).

    نظريَّات حول الصحابة
    وهناك نظريّات مختلفة حول الصحابة.
    1 ـ الكامليّة :
    وهذه الفرقة كفَّرت جميع الصحابة.
    فغضب عادل.
    قلت : مهلا يا حبيبي ! فإن هذا القول بدرجة من السخافة بحيث لا ييستحقُّ البحث ; لعدم الجدوى.
    2 ـ جمهور العامة :
    قائلين : بأن الصحابة عدول ثقات ، لا ينالهم الجرح ولا التعديل ، ولا يجوز توجيه الكذب إلى رواياتهم ، والردُّ على أقوالهم.
    قال ابن حزم : الصحابة كلُّهم من أهل الجنة قطعاً (2).
    والحاصل : أنّهم معصومون من الخطأ.
1 ـ الإصابة ، ابن حجر : 1/158 ، معرفة الثقات ، العجلي : 1/95.
2 ـ الإصابة ، ابن حجر : 1/163.


(260)
    3 ـ الحدّ الوسط
    لا هذا ولا ذاك ، بأن الصحابة غير معصومين ، ولو كان أكثرهم عدولا ثقاتاً ، ولكن فيهم من ليس كذلك.
    وهذا يظهر من كلام ابن العماد الحنبلي والشوكاني والمارزي والرافعي وغيرهم (1) ، وجميع علماء الشيعة.
    وخلاصة قولهم : أن في الصحابة منافقين ، وهم الذين جرَّعوا النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غصصاً ومآسي ، كما يشهد عليهم القرآن المجيد ـ سورة المنافقين.
    أدلة الطرفين :
    1 ـ قول جمهور العامة :
    واستدلَّ جمهور العامة بالحديث النبويِّ الشريف : لا تؤذوني في أصحابي (2) ، وحديث : لا يدخل النار مسلم رآني ، ولا رأى من رآني .. (3).
    فقاطعني عادل : صحيح هذا ، ومنقول بالتواتر.
    قلت : طيِّب ، ولكن الحديث الشريف يشمل أبا جهل وأبا لهب والحكم بن العاص وعبيد الله قاتل هرمزان المسلم المؤمن ، وقد قال تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ) (4).
    والسؤال الذي يطرح نفسه : هل أن الحديث يشمل هؤلاء أيضاً أم لا ؟ أمَّا
1 ـ راجع : النصائح الكافية ، ابن عقيل : 162 ، الإصابة ، ابن حجر : 1/163.
2 ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 21/83 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، القاضي عياض : 2/308.
3 ـ كتاب السنة ، ابن أبي عاصم : 616 ح 1485 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 17/357 ، الإصابة ، ابن حجر : 4/436 ح 5635.
4 ـ سورة النساء ، الآية : 93.


(261)
    شموله لهم فإنه ينافي حكم المنطق والعقل ، وقد قيل : ما حكم به الشرع حكم به العقل.
    وعدم شمولهم يؤدي إلى الإذعان بأن التعريف ناقص يحتاج إلى تكميل وترميم.
    فابتسم عادل على مضض.
    فقلت له : السكوت علامة الرضا.
    قال عادل : سيدي ! هذا يقال للبنت الباكر إذا عرض عليها الخطوبة فسكتت.
    قلت : نعم ، ولكن المورد لا يخصِّص الوارد.
    وضحكنا معاً ، ثم طلبنا من الموظَّف المسؤول الشاي الهندي المركَّب من الشاي مع الحليب ، وتسامرنا ، ثمَّ عرض عليَّ السؤال التالي :
    ما تقول في هذا الحديث : لا تسبُّوا أصحابي ، ومن سبَّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ؟ (1)
    قلت : سبحان الله العظيم ! إني أردت أن أذكر لك هذا ، ولكن كنت أتأمَّل في ذهني : هل أن الحديث مختصٌ بالمخاطبين ، أي الذين كانوا مع الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في صدر الإسلام من الصحابة ، أو أنّه عام يشمل جميع المسلمين طرّاً كما تقتضيه الأحكام الشرعية في الإسلام ، حيث تطبَّق على جميع المسلمين من صدر الإسلام إلى قيام الساعة ؟
    قال عادل : لا ، بل شامل لجميع المسلمين.
1 ـ المعجم الأوسط ، الطبراني : 5/95 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/543 ح 32545.

(262)
    قلت : طيِّب ، فهل خصِّص ، أي أخرج الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعض الصحابة منهم ، أو هو عام يشمل جميع الصحابة ؟
    قال عادل : كلا ، بل عام يشمل جميع المسلمين ، حيث صرَّح بحرمة سبِّ أحدهم.
    قلت : وأزيدك علماً أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يجلد من يسبُّ عثمان ومعاوية (1) ، ولكن ما يوجب التعجُّب والذهول أن عمل بعض الأصحاب خلاف الشمول والعموم المدّعى ، فقد أخرجوا من تحت هذا الحديث بعض الصحابة وأهل البيت ( عليهم السلام ) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.
    قال عادل : كيف ؟
    قلت : أما سمعت أو قرأت أن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يُسَبُّ ويلعن على منابر المسلمين أربعين عاماً (2) ؟ ألم يكن صحابيّاً يشمله الحديث النبويُّ ؟ وأبا ذر الغفاري طرد ونفي ، وقد قال فيه الحبيب المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أظلَّت الخضراء ، وما أقلَّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (3).
    وما المبرِّر لمعاوية في تشريعه لعن وسبّ صحابيٍّ في الخطب وعلى
1 ـ الغدير ، الأميني : 10/266 ، عن كتاب الصارم المسلول لابن تيمية : 272.
2 ـ بل روي ثمانين عاماً ، فقد روى عبد الله بن عثمان الثقفي ، قال : حدَّثنا ابن أبي سيف ، قال : قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده : لا تذكر ـ يا بنيَّ ـ عليّاً إلاَّ بخير ، فإن بني أميَّة لعنوه على منابرهم ثمانين سنة ، فلم يزده الله بذلك إلاَّ رفعة ، إن الدنيا لم تبنِ شيئاً قط إلاَّ رجعت على ما بنت فهدمته ، وإن الدين لم يبنِ شيئاً قط وهدمه.
    شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13/221 ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ( عليهم السلام ) ، البري : 94 ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي ( عليه السلام ) ، ابن الدمشقي : 2/230.
3 ـ تقدَّمت تخريجاته.


(263)
المنابر ؟ وهل سمعت أن عمر بن عبد العزيز جلد أحداً لسبِّه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؟ وما الفرق بين عليٍّ وعثمان ؟ أضف إلى ذلك اختصاص عليٍّ بآية التطهير دون عثمان.
    قال عادل : إن معاوية يحظى بشرف الخؤولة ، فهو خال المؤمنين من جهة أم حبيبة أمِّ المؤمنين.
    قلت : نعم ، ولكن للمصاهرة والقرابة شرف ومنزلة الصحبة ، ولماذا حرم علي ( عليه السلام ) منها ؟ ولماذا انحصرت الخؤولة في معاوية ولم تشمل غيره ؟ ألم يكن لمحمّد بن أبي بكر شرف الخؤولة ؟ مع العلم أنه أفضل سيرة من معاوية ، فلو ذكر بسوء رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره ، ولو كان ذلك في معاوية غضبوا وأنكروا ولعنوا من ذكره بسوء ، وأردت الزيادة فسكتُّ خوفاً من صديقي أن ينزعج منّي.
    قال عادل : نعم ، وهنا حديث متواتر مشهور ، وهو : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم (1).
    قلت : هذا الحديث يتنافي مع روح الإسلام وعظمته ، وحكمة الباري وعدالته (2).
1 ـ ميزان الاعتدال ، الذهبي : 1/82 ، رقم : 296 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 1/136 ، رقم : 425 ، تحفة الأحوذي ، المباركفوري : 10/155 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20/11 ، فيض القدير ، المناوي : 6/386 ، المغني ، عبد الله بن قدامة : 3/535.
2 ـ قال بعضهم : وكيف يصح أن يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ) ؟ لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمّار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحَّ الخبر الصحيح أنه قال له : ( تقتلك الفئة الباغية ) ، وقال في القرآن : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) ، فدلَّ على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البقي ، مفارقة لأمر الله ، ومن يفارق أمر الله لا يكون مهتدياً. راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20/28 ، الجزء الأول من هذا الكتاب : 517 المناظرة الثانية والسبعون.
    وقال الحجّة السيِّد محمّد تقي الحكيم عليه الرحمة : والجواب عن هذه الأحاديث ونظائرها ـ بعد التغافل عن أسانيدها ، وحساب ما جاء في بعضها من الطعون ، أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث : أصحابي كالنجوم من أنه حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصح ، وقال البزار : لا يصحُّ هذا الكلام عن النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ أن هذه الروايات لا يمكن الأخذ بظاهر بعضها ، ولا دلالة للبعض الآخر على المدّعى.
    وأوَّل ما يرد على الرواية الأولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم استحالة صدور مضمونها من المعصوم ; لاستحالة أن يعبِّدنا الشارع بالمتناقضين ، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الأمور لمن قرأ تأريخهم ، واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث ، وحسبك أن سيرة الشيخين مما عرضت على الإمام علي ( عليه السلام ) يوم الشورى ، فأبى التقيُّد بها ، ولم يقبل الخلافة لذلك ، وقبلها عثمان وخرج عليها بإجماع المؤرِّخين ، وفي أيام خلافة الإمام نقض كل ما أبرمه الخليفة عثمان ، وخرج على سيرته ، سواء في توزيع الأموال أم المناصب أم أسلوب الحكم ، والشيخان نفسهما مختلفا السيرة ، فأبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجيّة ، وعمر فاوت فيها ، وأبو بكر كان يرى طلاق الثلاث واحداً ، وعمر شرَّعه ثلاثاً ، وعمر منع عن المتعتين ، ولم يمنع عنهما الخليفة الأول ، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.
    وعلى هذا ، فأيَّة هذه السير هي السنّة ؟ وهل يمكن أن تكون كلُّها سنَّة حاكية عن الواقع ، وهل يتقبَّل الواقع الواحد حكمين متناقضين ؟! وما أحسن ما ناقش الغزالي ( المستصفى : 1/135 ) أمثال هذه الروايات بقوله : ( فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته عنه فلا حجَّة في قوله ، فكيف يحتجُّ بقولهم مع جواز الخطأ ؟ وكيف تدَّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة ؟ وكيف يتصوَّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف ؟ وكيف يختلف المعصومان ؟ كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه ، فانتفاء الدليل على العصمة ، ووقوع الاختلاف بينهم ، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة ).
    راجع : الأصول العامة للفقه المقارن ، السيِّد محمّد تقي الحكيم : 138 ـ 139.


(264)
    قال : كلا.


(265)
    قلت : مهلا يا أخي عادل ! على فرض التسليم بصحّة الحديث سنداً ونصّاً ، ففيه أمرٌ بالأخذ ممن يصدر عليه الخطأ والجهل ، وهو غير معصوم ، ويجعل الكذب والافتراء والاختلاف هدى ، هذا صحيح ؟
    قال عادل : كلا ، ليس كما تقول.
    قلت : لقد روي عن المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عدّة أحاديث مفادها : أنه سيكون بعدي أمور منكرة عن فتن مظلمة كقطع الليل ، وأمراء ضلال لا يستنّون بسنّته ، ويستأثرون بالفيء ، وأن جماعة من أصحابه يرتدُّون على أعقابهم ، ويؤمر بهم يوم القيامة ذات الشمال ، فهل هذا هدى أم ضلال ؟ أيجوز الاقتداء بهم أم لا ؟
    قال عادل : إنهم مجتهدون ، وقال المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : المجتهد إن أصاب فله أجران ، وإن لم يصب فله أجر واحد.
    قلت : أولا : بعض الأصحاب اجتهدوا وقتلوا لاجتهادهم ، كما هو المعروف عن مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد ، ونزا على امرأته لمَّا امتنع من إعطاء الزكاة إلاَّ لمن أمره الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإعطائه له ، وهو علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
    وثانياً : ليس كل الصحابة مجتهدين ، بل فيهم أهل البادية ، ومنهم الأمّيُّون ، ومنهم من لم يسمع إلاَّ حكماً أو حكمين من الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وفجأة نظرت إلى ساعتي ، وإذا هي قد تجاوزت الثانية عشر منتصف الليل ، وشعرت من الأخ عادل ميله إلى الراحة ، وأن التعب أرهقني طول النهار ، فقلت : أستميحك عذراً ، تكلَّمت كثيراً ، وربما جرحت شعورك ، عفواً ، لا قصد لي في ذلك ، والله شاهد وهو خير شاهد.
    فقال عادل : لا والله بالعكس ، إن الحبيب المختار ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : الحكمة


(266)
ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها ، وقد استفدت الكثير ، وظهرت لي أمور كنت أجهلها ، وربما تصوَّرت خلاف الحقيقة والواقع عنها ، والحمد لله ، على كل حال كانت فرصة سعيدة.
    وأخذ بيدي واحتضنني ، وأضاف قائلا : أزعجتك هذه الأمسية ، وإن شاء الله غداً أزورك في نفسك الموعد الذي التقينا فيه في هذا اليوم.
    فقلت : نعم ، وأنا في خدمتك ، ولحظات من حياتي لن تنسى.
    وودَّعني شاكراً ، وانصرف إلى مكان إقامته.
    اللقاء الثاني :
    وفي اليوم التالي قبل الموعد المقرَّر بساعة تركت حجرتي ، وذهبت إلى الصالة منتظراً قدوم صديقي ، ولمَّا شاهدته قادماً قمت إليه مستقبلا ، وحيَّيته بحرارة ، وتبادلنا الكلمات المتعارفة والتحيَّات المتداولة ، وجلسنا على الطاولة في آخر الصالة لكي نتمتَّع بحرّيَّة أكثر في المحاورة ، ثمَّ بدأنا الحديث.
    القول الثالث : الحد الوسط.
    فقد قلنا سابقاً إن الصحبة لا تمنح الفرد تلك المناعة المسمَّاة بالعصمة ; لأن الملاك والمقياس للعلوِّ والمنزلة في الإسلام التقوى لا الصحبة ، بمفاد الآية الكريمة : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وقول الحبيب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا فضل لعربي على أعجميٍّ إلاَّ بالتقوى (1) ، ولأجل توضيح أكثر وبيان أوسع نستدل بالأدلّة التالية :
    1 ـ الكتاب الكريم
    لقد ورد في الكتاب العزيز عدّة آيات ، بل سور تدلُّ على عدم صدق نيَّة
1 ـ مسند أحمد بن حنبل : 5/411 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 5/86.

(267)
كلِّ الصحابة ، ونتعرَّض إلى بعضها :
    قال تعالى : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) (1) وقال تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (2) ، وقال تعالى : ( لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) (3) ، وقال تعالى : ( وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (4) وقال تعالى : ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً ) (5).
    2 ـ السنّة الشريفة
    روي عن علي أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال : بينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) آخذ بيدي ، ونحن نمشي في بعض سكك المدينة فمررنا بحديقة ، فقلت : يا رسول الله ! ما أحسنها من حديقة ! قال : لك في الجنّة أحسن منها ، حتى مررنا بسبع حدائق ، كل ذلك أقول : ما أحسنها ! ويقول : لك في الجنّة أحسن منها ، فلمّا خلا الطريق اعتنقني ، ثمَّ أجهش باكياً ، قلت : يا رسول الله ! ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاَّ من بعدي ، قلت : يا رسول الله ! أفي سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك (6).
1 ـ سورة التوبة ، الآية : 97.
2 ـ سورة التوبة ، الآية : 101.
3 ـ سورة التوبة ، الآية : 48.
4 ـ سورة التوبة ، الآية : 74.
5 ـ سورة آل عمران ، الآية : 144.
6 ـ مسند أبي يعلى الموصلي : 1/426 ح 565 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 12/394 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 4/107 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/323 ، تهذيب الكمال ، المزي : 23/239 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/118.


(268)
    وقال علي ( عليه السلام ) للزبير يوم الجمل : أما تذكر يوم كنت أنا وأنت في سقيفة قوم من الأنصار ، فقال لك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أتحبُّه ؟ فقلت : ما يمنعني ؟ قال : أما إنّك ستخرج عليه وتقاتله ، وأنت ظالم (1).
    وروى سهل بن سعد ، قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إني فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمَّ يحال بيني وبينهم.
    قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنهم منّي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي.
    وروى أبو هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ ! أصحابي ، فيقول : إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى (2).
    وغيرها من الروايات (3) التي تدلُّ على أن الصحبة ليست موجبة للعصمة
1 ـ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/366 ، الأخبار الطوال ، الدينوري : 147 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/92 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/167 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/196 ح 31202.
2 ـ صحيح البخاري : 7/207 ـ 208.
3 ـ والتي منها أيضاً ما روي عن ابن المسيب أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : يرد عليَّ الحوض رجال من أصحابي ، فيحلَّؤون عنه ، فأقول : يا ربِّ ! أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى. صحيح البخاري : 7/208.


(269)
في نفس الصحابي.
    3 ـ ولا إجماع على عصمتهم
    وقد ذكرت لك سابقاً قول بعض العلماء في عدم صحّة نسبة العصمة إلى الصحابة.
    4 ـ العقل يرفض عصمتهم بلا ملاك
    العقل يرفض أن يمنح مقام العصمة الذي هو أعلى مرتبة من مراتب القرب والمنزلة للعبد عند الله جلَّ جلاله ، والكرامة لديه سبحانه بلا ذريعة ولا عمل مبرِّر إلاَّ أن له صحبة مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا غير ، وهل هذا يكفي كمبرِّر وعذر لئلا يحترق بنار جهنم مهما فعل ؟ ولماذا نحن نحترق بنارها التي لا تمسُّ الصحابة دوننا لأننا حرمنا من الصحبة لا غير ؟
    وهل العدل يذعن إلى هذا الملاك والمقياس ، أو أن العقل والمنطق يقبله ؟ كيف وهو أحكم الحاكمين يحكم حكماً لا يستسيغه العقل والحكمة ؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، وهو القائل : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (1).
    عود على أدلة الجمهور
    وأمَّا الروايات التي ذكرتها حول الصحابة فقد ذكر العلماء فيها ما يوجب قدحاً ، إضافة إلى بعدها عن المقاييس والموازين والمعايير الشرعيّة.
    قال : كيف ، وقد قال العظيم في كتابه : ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
1 ـ سورة النجم ، الآية : 31.

(270)
الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ؟
    قلت : نعم ، هذه هي صفة بعض الصحابة ، وهم دعامة الإسلام وقوامه ، وبتضحياتهم ارتوت شجرة الدين ، وبسيوفهم ساد الحقُّ والعدل ، وزال الظلم والجور والشرك والكفر ، فهم اللبنة الأساسيّة في نشر هذا الدين القويم ، ولسنا بمنكرين لفضلهم ، وقد أمرنا جلَّ جلاله في كتابه الكريم بالدعاء لهم ، حيث قال : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (2) ، صدق الله العليُّ العظيم.
    ولكن الكلام ليس في هؤلاء ، بل إسداء عنوان العصمة لجميع الصحابة بلا استثناء أصلا حتى المرتكب منهم للجرائم ، ومن لعنهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلسانه كما يظهر من تعريف ابن حجر وابن حزم.
    كيف يعقل هذا من الدين ، وقد نقل المؤرِّخون حوادث وحوادث استحقَّ مرتكبها الضرب والقتل واللعن ؟ بل الأصحاب فيما بينهم كانوا يتنازعون ويتشاتمون ، وهذا هو معنى قولنا بعدم عصمة جميع الصحابة ، وأين هذا من كلام الشيخ جار الله الذي ادّعى فيه أننا نكفِّر عامة الصحابة ؟ وهل يتناسب هذا مع الذوق السليم والمسلك القويم ، إذا حملنا كلامه على صدق النيّة ومحدوديَّة الاطلاع ؟ أمَّا لو كان عالماً عامداً في نسبة هذا الكلام إلينا مع علمه لما نقول وندّعي فعلى الله جزاؤه ، وهو أحكم الحاكمين.
    وأمَّا مسألة السبِّ واللعن ...
1 ـ سورة التوبة ، الآية 88 ـ 89.
2 ـ سورة الحشر ، الآية : 10.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس