مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 271 ـ 285
(271)
    قال عادل : توجد روايات عديدة تحرِّم لعن وسبَّ المسلم ، فقد روي عن علي ( عليه السلام ) أنه منع أصحابه من أهل الشام ، وقال : لا تكونوا لعَّانين (1).
    قلت : نعم ، كما للعصمة ملاك ومقياس ومعيار وهو التقوى ، كذلك جواز اللعن أيضاً له ملاك ، وعليه لعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا سفيان بن حرب حين هجاه بأبيات ، حيث قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، اللهم إنّي لا أحسن الشعر ، ولا ينبغي لي ، اللهم العنه بكلِّ حرف ألف لعنة (2).
    وقد روي عن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) أنه لعن في قنوت صلاته معاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبا موسى الأشعري ، وأبا الأعور السلمي (3).
    وقد ورد أن عائشة لعنت عثمان ولعنها ، وخرجت غضبى عليه إلى مكة (4).
1 ـ الذي وردت به الرواية الآتية هو السبّ ، وليس فيها ذكرٌ للّعن ، وهناك فرق بين اللعن والسبِّ ، فقد جاء في نهج البلاغة لأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : 2/185 ، رقم : 206 : ومن كلام له ( عليه السلام ) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبُّون أهل الشام أيام حربهم بصفين : إنّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان سبِّكم إياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقَّ من جهله ، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به.
2 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/291.
3 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/137.
    وجاء في مسند زيد بن علي ( عليه السلام ) : 131 عن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) أنه كان يقنت بالمدينة بعد الركوع ، ثم قنت بالكوفة وهو يحارب معاوية قبل الركوع ، وكان يدعو في قنوته على معاوية وأشياعه.
4 ـ روى الشيخ المفيد عليه الرحمة في كتاب الجمل : 76 عن الحسن بن سعد قال : رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجلها وعثمان قائم ، ثمَّ قالت : يا عثمان ! أقم ما في هذا الكتاب ، فقال : لتنتهين عمّا أنت عليه أو لأدخلن عليك جمر النار ، فقالت له عائشة : أما والله لئن فعلت ذلك بنساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يلعنك الله ورسوله ، وهذا قميص رسول الله لم يتغيَّر ، وقد غيَّرت سنّته يا نعثل.
    وقال اليعقوبي في تأريخه : 2/175 : كان بين عثمان وعائشة منافرة ، وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب ، وصيَّرها أسوة غيرها من نساء رسول الله ، فإن عثمان يوماً ليخطب إذ دلَّت عائشة قميص رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ونادت : يا معشر المسلمين ! هذا جلباب رسول الله لم يبل ، وقد أبلى عثمان سنّته ! فقال عثمان : ربِّ اصرف عنّي كيدهن إن كيدهن عظيم.
    وجاء في كتاب المحصول ، الرازي : 4/343 ، قال : إن عثمان أخَّر عن عائشة بعض أرزاقها فغضبت ، ثمَّ قالت : يا عثمان ! أكلت أمانتك ، وضيَّعت الرعيّة ، وسلَّطت عليهم الأشرار من أهل بيتك ، والله لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل.
    وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6/215 عن بعضهم أنَّ كل من صنَّف في السير والأخبار قال : إن عائشة كانت من أشدِّ الناس على عثمان ، حتى إنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنّته ، قالوا : أول من سمَّى عثمان نعثلا عائشة ، والنعثل : الكثير شعر اللحية والجسد ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا !
    وجاء في نفس المصدر : 20/17 : ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم عائشة ، كانت تقول : اقتلوا نعثلا ، لعن الله نعثلا.
    وراجع رأي عائشة في عثمان وقولها فيه : هذا قميص رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنَّته ، وقولها : اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا ـ في المصادر التالية :
    شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20/22 ، المحصول ، الرازي : 4/343 ، تاريخ الطبري : 3/477 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1/72 ، لسان العرب ، ابن منظور : 11/670.


(272)
    وأتذكَّر رواية لابن البطريق في كتاب العمدة ، عن عمرو بن يحيى ، عن جدِّه قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوماً بالمدينة ، ومعنا مروان ، فقال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدَّق ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة .. الحديث (1).
1 ـ العمدة ، ابن البطريق : 451 ـ 452 ح 940 ، عن صحيح البخاري : 8/88 ، مسند أحمد بن حنبل : 2/324 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 46/455.

(273)
    وروى الإربلي في كشف الغمّة ، عن أبي محمّد الغمام ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) : اتق الضغائن التي في صدور قوم لا يظهرونها إلاَّ بعد موتي ، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون .. الحديث (1).
    وقبل التعرُّض إلى الملاك والمعيار لجواز اللعن في الشريعة المقدَّسة نقول : إن كلام الإمام ( عليه السلام ) في مورد لعن ( سبِّ ) أهل الشام معناه : نهى الإمام ( عليه السلام ) عن التعوُّد على السبِّ واللعن ، بحيث لو رأى شيئاً لا يلائم ذوقه فتح فاه باللعن والسبِّ ، وهذا مما لاغبار عليه ، وظاهر من لفظ لعَّانين (2) ، وليس معناه أن الإمام ( عليه السلام ) يمنع لعن من استحقَّ اللعن ، ولو أراد هذا المعنى لقال : لا تكونوا لا عنين ، وبين الكلمتين فرق كبير يعلمه من له إحاطة بدقائق اللغة.
    وحان الوقت ـ يا أخي عادل ـ لنبحث عن ملاك اللعن في الكتاب العزيز.
    قال عادل : هل في القرآن ما يشير إلى جواز اللعن ؟
    قلت : نعم ، ففي سورة الأعراف : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3) ، وفي سورة هود : ( هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (4) ، وفي سورة غافر : ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (5).
    ومع ملاحظة هذه الموارد ندرك أن العلّة في مشروعيّة اللعن ، وأبرز مصداق لموضوعه : الظلم.
1 ـ كشف الغمّة ، الإربلي : 2/25 ، المناقب ، الخوارزمي : 62 ح 31 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/405 ح 4.
2 ـ قد تقدم أن الذي جاءت به الرواية : إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين.
3 ـ سوره الأعراف ، الآية : 44.
4 ـ سورة هود ، الآية : 18.
5 ـ سورة غافر ، الآية : 52.


(274)
    قال عادل : وما علاقة موضوع الظلم في بحثنا ؟
    قلت : نعم ، سأوضح لك ، ولكن اسمح لي أن أذكر لك هذه الرواية : عن شدّاد أبي عمار قال : دخلت على واثلة وعنده قوم ، فذكروا عليّاً فشتموه ، فشتمته معهم ، فلمَّا قاموا قال : شتمت هذا الرجل ؟ قلت : رأيت القوم شتموه فشتمته معهم ، قال : ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله ؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة أسألها عن عليٍّ فقالت : توجَّه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعه عليٌّ وحسن وحسين ، أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل ، فأدنى عليّاً وفاطمة فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ، ثمَّ لفَّ عليهم ثوبه أو كساء ، ثمَّ تلاهذه الآية : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) ثم قال : اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحقُّ (2).
    وهذا الرجل ـ أعني أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ـ في هذه المرتبة والمنزلة التي طهَّره الله من كل رجس ، ومن كل الدنس ، ومن كل رذيلة ، أليس من الظلم شتمه ولعنه وسبُّه يا أخي عادل ؟
    أتعلم أنه شتم ولعن على منابر المسلمين ، وفرض على الناس لعنه وسبُّه ظلماً وعدواناً ؟
    والسؤال الوارد هنا ، هل يستحقُّ ظالمه اللعن حسب ما استفدت من الآيات التي سبق ذكرها ؟
1 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 33.
2 ـ شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2/67 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 22/65 ، تفسير ابن كثير : 3/492 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/167.


(275)
    جواب هذا السؤال إليك ، ولكن عليَّ أن أدلَّك على بعض الموارد التي توضح لك الحقيقة.
    روى المسعودي ، عن الطبري ، عن ابن أبي نجيح قال : لمَّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص ، فلمَّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة ، وأجلسه معه على سريره ، ووقع في علي ( عليه السلام ) وشرع في سبِّه ، فزحف سعد ، ثمَّ قال : أجلستني معك على سريرك ، ثمَّ شرعت في سبِّ عليٍّ ، والله لأن تكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليٍّ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ... الحديث (1).
    وروي أن المغيرة بن شعبة لمَّا ولي الكوفة كان يقوم على المنبر ويخطب ، وينال من عليٍّ ( عليه السلام ) ويلعنه (2).
1 ـ وتكملة الحديث قال : والله لأن أكون صهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأن لي من الولد ما لعليٍّ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لي ما قال له يوم خيبر : لأعطينَّ الراية رجلا يحبُّه الله ورسوله ، ويحبُّ الله ورسوله ، كراراً ليس بفرار ، يفتح الله على يديه ، أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لي ما قال له في غزوة تبوك : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي ، أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت ، ثمَّ نهض. مروج الذهب ، المسعودي : 3/14 ـ 15.
2 ـ روى الحاكم في المستدرك ، عن زياد بن علاقة ، عن عمِّه أن المغيرة بن شعبة سبَّ علي بن أبي طالب ، فقام إليه زيد بن أرقم فقال : يا مغيرة ! ألم تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نهى عن سبِّ الأموات ، فلم تسبُّ عليّاً وقد مات ؟ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
    المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1/384 ـ 385 ، مسند أحمد بن حنبل : 4/369 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5/168 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 8/76 ، وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، ورجال أحد أسانيد الطبراني ثقات.
    قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 4/70 ـ 71 : قال أبو جعفر ( رحمه الله ) : وكان المغيرة بن شعبة صاحب دنيا ، يبيع دينه بالقليل النزر منها ، ويرضي معاوية بذكر عليِّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، قال يوماً في مجلس معاوية : إن عليّاً لم ينكحه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ابنته حبّاً ، ولكنّه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه. قال : وقد صحَّ عندنا أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرَّات لا تحصى.


(276)
    وروي أن مروان كان يسبُّ عليّاً ( عليه السلام ) كل جمعة على المنبر ، وكان مروان أميراً علينا (1).
    أخي عادل ! أنشدك الله ، أليس هذا ظلم ؟ فإن كان فما جزاء الظالم ؟
    وقد ذكر العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم المعروف بالغدير ، الذي لا يستغني عنه طالب الحقيقة : قد صار لعن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) سنّة جارية في أيام الأمويين ، فكان أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها عليٌّ ( عليه السلام ) (2).
1 ـ العلل ، أحمد بن حنبل : 3/176 ح 4781 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 57/243 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/284.
2 ـ قال العلاّمة الحجّة الشيخ الأميني في كتابه القيِّم الغدير : 2/101 : لم يزل معاوية دائباً على ذلك ، متهالكاً فيه ، حتى كبر عليه الصغير ، وشاخ الكهل ، وهرم الكبير ، فتداخل بغض أهل البيت ( عليهم السلام ) في قلوب ران عليها ذلك التمويه ، فتسنَّى له لعن أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) وسبُّه في أعقاب الصلوات في الجمعة والجماعات ، وعلى صهوات المنابر في شرق الأرض وغربها ، حتى في مهبط وحي الله ( المدينة المنورة ).
    قال الحموي في معجم البلدان : 3/191 : قال الرهني : لعن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على منابر الشرق والغرب ، ولم يلعن على منبر سجستان إلاَّ مرّة ، وامتنعوا على بني أميَّة ، حتى زادوا في عهدهم : وأن لا يلعن على منبرهم أحد ، وأيُّ شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على منبرهم وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة ؟ ا هـ.
    وذكر الأميني عليه الرحمة عن العقد الفريد : 2/300 : لمَّا مات الحسن بن علي ( عليهما السلام ) حجَّ معاوية ، فدخل المدينة ، وأراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقيل له : إن ههنا سعد بن أبي وقاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرجنَّ من المسجد ثمَّ لا أعود إليه ، فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد ، فلمَّا مات لعنه على المنبر ، وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر ، ففعلوا ، فكتبت أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى معاوية : إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ، وذلك أنكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبَّه ، وأنا أشهد أن الله أحبَّه ورسوله ، فلم يلتفت إلى كلامها.
    وقال الجاحظ في كتاب الردّ على الإماميّة : إن معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللهم إن أبا تراب .. إلخ ، وكتب ذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز.
    وإن قوماً من بني أميَّة قالوا لمعاوية : يا أميرالمؤمنين ! إنّك قد بلغت ما أمَّلت ، فلو كففت عن هذا الرجل ، فقال : لا والله حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلا. وذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 4/57 و 13/222.
    وقال عليه الرحمة : قال الزمخشري في ربيع الأبرار على ما يعلق بالخاطر ، والحافظ السيوطي : إنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بما سنَّه لهم معاوية من ذلك.


(277)
    فشاهدت الدموع كالدرر تتساقط بسرعة ولهفة مذهلة .. لو قدِّر لها أن تعبِّر لفظاً لقالت : رحمك الله يا أبا الحسن ، يا أميرالمؤمنين ، يا علي بن أبي طالب ، فأنت حقّاً المظلوم الذي جهلناه ، وما عرفنا قدره ومظلوميَّته ..
    وخنقتني العبرة ، فأهملت دموعي بلا مشاحة ، وبعد هنيئة خيَّم علينا صمت رهيب ، وطلبت أقداحاً من الشاي ، فأحضرت بين أيدينا ...
    إلى أن قال بعدما ذكر كلاماً جرى بينهما لا يتعلَّق بالمناظرة : وحان وقت الفراق بعد أن طاب لنا المقام ، وسبحان الله الذي هو لا غيره مفرِّق الأحباب ، وتعانقنا طويلا ، وعزَّ علينا الانفصال ، ولكن الدهر ذو أحوال ، وافترقنا بعدما تعاهدنا على أن نجتمع في القريب العاجل.
    وبعد أيام رجعت إلى إيران ، ودوَّنت ما دار بيننا من مقال ، وإلى حديث قادم إن شاء الله تعالى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
1 ـ وجدنا هذه المناظرة مطبوعة في كتيِّب صغير باسم : مناظرة لطيفة ، في اثنين وثلاثين صفحة ، نشر مؤسَّسة : في طريق الحق ، مطبعة سلمان الفارسي سنة 1418 هـ.

(278)
    المناظرة السادسة والخمسون
مناظرة
الشيخ العاملي مع صارم الوهابي في مشروعيَّة
زيارة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والتوسُّل به إلى الله تعالى (1)
    العاملي : من مختصَّات ابن تيميّة وبدعه : تحريمه التوسُّل والاستشفاع والاستغاثة بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد قال السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) ص 291 : اعلم أنه يجوز ويحسن التوسُّل والاستغاثة والتشفُّع بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ربِّه سبحانه وتعالى ، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين ( عليهم السلام ) ، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوام من المسلمين.
    ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان ، حتى جاء ابن تيميَّة فتكلَّم في ذلك بكلام يلبِّس فيه على الضعفاء الأغمار ، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار !! انتهى.
1 ـ جرت هذه المناظرة في ( الانترنيت ) في ساحة النقاش الإسلامية ـ شبكة هجر ، في شهر جمادى الأولى من سنة 1420. وقد ذكرها العلامة العاملي في كتابه الانتصار : 5/23 ـ الخ.

(279)
    صارم : سؤالي : لماذا تدعون إلى شدِّ الرحال وزيارة القبور ، والتبرُّك بها ؟
    العاملي : حديث شدِّ الرحال لم يصحَّ عند أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وقد صحَّ عند بقيَّة المذاهب ، وفهموا منه عدم شموله لشدِّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بدليل أنهم كانوا يفعلون ذلك ، وما رووه في بعض صيغه : ( لا تشدُّ الرحال إلى مسجد ) وفهم هؤلاء حجَّة على من يعتقد بالحديث ، ويعتقد بحجّيّة فهم الصحابة والتابعين وأئمّة المذاهب ، لأنهم أقرب إلى عصر النصّ ومعناه ، وقد ألَّف عدد من العلماء قبل ابن تيميّة رسائل في تفسير الحديث ، وعندما جاء ابن تيميَّة ببدعته ردَّ عليه عدد آخر منهم ، واتفقوا على أن فهمه للحديث مخالف لإجماع علماء المسلمين وسيرتهم لمدّة ثمانية قرون ، بل هو مخالف لفهم عامّة علمائهم إلى يومنا هذا !!
    فنحن نشدُّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقبور الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، لأن زيارة قبورهم مستحبّة عندنا ، ومن أفضل القربات إلى الله تعالى ، ولم يثبت عندنا أن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نهى عن ذلك ، بل ثبت أنه دعا إليه وحثَّ عليه ، وكان يزور القبور المباركة لتكون سنَّة من بعده ، وكذلك كانت سيرة علي وفاطمة والأئمَّة ( عليهم السلام ) ، ولزيارة القبور عندنا أحكام وشروط وآداب شرعيَّة ، وليس فيها شيء ينافي التوحيد أبداً ، بل فيها ما يؤكِّد التوحيد ، وأن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى الله تعالى كما أمرنا.
    صارم : أحسنت ، وهذا ما أريده منك بالضبط ، فقد شفيت غليلي بهذه الإجابة الشافية الكافية ، ولعلَّ صدرك يتّسع لأسئلتي ، وسؤالي الآن : لماذا تستشفع بهم ؟ لم لا تتّجه في طلبك إلى الله مباشرة ؟


(280)
    لماذا تجعلهم واسطة بينك وبين الله ؟ ألم تعلم أن الجاهليّين كانوا يعبدون الأصنام ، يستشفعون بها ، ويجعلونها واسطة بينهم وبين الله ؟! وقد ناقضت نفسك حينما قلت : ( وأن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى الله تعالى كما أمرنا ) كيف تستشفع بهم وهم ( لا يملكون من عندهم شيئاً بل هم عباد مكرمون ) لقد خالفت المنهج الربَّانيَّ وسنَّة المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من وجهين :
    الوجه الأول : من مخالفة السنّة ; لأن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، فما بالك بامتلاك النفع لغيرهم ؟!
    الوجه الثاني : مشابهة الكفار ، وقد نهينا عن مشابهتهم ، فهل بعد هذا تستشفع بهم ؟ أرجو للجميع الهداية.
    العاملي : سؤالك في أصله وجيه ، فلو كان الأمر لنا لقلنا : فلنطلب كل شيء من الله تعالى مباشرة ، ولا نجعل بيننا وبينه واسطة من المخلوقين ، ولكنَّ الأمر له عزَّ وجلَّ وليس لنا ، وقد قال لنا : ( اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، وقال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (2) ، وقال : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (3) ولا حاجة إلى مجيئهم واستغفارهم عند الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واستغفار الرسول لهم .. وهذا يعني أنَّه تعالى قال لرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كن موحِّداً بلا شرط ، ومهما قلت لك فأطعني ، وحتى لو قلت لك عندي ولد فاعبده فافعل وقل لهم : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
1 ـ سورة المائدة ، الآية 35.
2 ـ سورة الإسراء ، الآية : 57.
3 ـ سورة النساء الآية : 64.


(281)
الْعَابِدِينَ ) (1) ! ولكنَّه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً.
    فالمسألة إذن ، ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها الله تعالى أو سمح بها ، وهو يختلف عن زعم التوسُّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسُّل والاستشفاع الذي قبله إمامك ابن تيمية ؟ أم أنك أشدُّ في هذا الأمر من إمامك ؟!
    صارم : قلت عن التوسُّل : ( ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها الله تعالى أو سمح بها ) هل لي أن أعرف هذه الحدود التي أمر أو سمح بها ؟ أرجو أن تجيبني باختصار ، وفي حدود السؤال ، هديت للصواب.
    العاملي : الظاهر أن السبب فيما أثاره بعضهم إشكالا على مبدأ التوسُّل ، أنهم يرون الشفاعات والوساطات والمحسوبيَّات السيئة عند الرؤساء والمسؤولين في دار الدنيا ، وما فيها من محاباة وإعطاء بغير حقّ ولا جهد من المشفوع لهم أو المتوسَّط لهم ، وبما أن الله تعالى يستحيل عليه أن يحابي كما يحابي حكَّام الدنيا ، وإنَّما يعطي جنَّته وثوابه بالإيمان والعمل الصالح .. فلذلك صعب علهيم قبول الشفاعة والوساطة والوسيلة إلى الله تعالى ، ولكنَّه فات هؤلاء أن الحكمة من جعله تعالى الأنبياء والأوصياء الوسيلة إليه تعالى :
    أوَّلا : أن يعالج مشكلة التكبُّر في البشر ; لأن البشر لا يمكنهم الانتصار على تكبُّرهم والخضوع لعبوديَّة الله تعالى إلاَّ إذا انتصروا على ذاتيّتهم في مقابل الأنبياء والأوصياء ، واعترفوا لهم بالفضل والمكانة المميَّزة والاختيار الإلهيّ ،
1 ـ سورة الزخرف ، الآية : 81.

(282)
وأنّهم المبلِّغون عن الله تعالى .. وفاتهم أن جعل الأنبياء والأوصياء وسيلة إلى الله تعالى ضرورة ذهنيّة للبشر ، ذلك أن الفاصلة بين ذهن الإنسان المحدود الميَّال إلى الماديّة والمحدوديّة ، وبين التوحيد المطلق المطلوب والضروريّ ، فاصلة كبيرة ، فهي تحتاج إلى نموذج ذهنيٍّ حاضر من نوع الإنسان ، يمارس التوحيد أمامه ، ويكون قدوة له.
    وبدون هذا النموذج القدوة ، يبقى الإنسان في معرض الجنوح في تصوُّره للتوحيد وممارسته ، والجنوح في هذا الموضوع الخطير أخطر أنواع جنوح الضلال ، وهذا هو السبب ـ في اعتقادي ـ في أن الله تعالى جعل أنبياءه وأوصياءهم ( عليهم السلام ) حججاً على العباد ، وهو السبب في أنه جعلهم من نوع أنفسهم ، وليس من نوع آخر كالملائكة مثلا.
    والنتيجة : أن وجود الوسيلة بين العباد والله تعالى لو كان يرجع إلينا لصحَّ لنا أن نقول : يا ربَّنا ! نريد أن تجعل ارتباطنا بك مباشراً ، ولا تجعل بيننا وبينك واسطة في شيء ، وهذا ما يميل إليه أهل الإشكال على الشفاعة والتوسّل ! ولكن الأمر ليس بيدنا ، فالأفضل أن يكون منطقنا أرقى من ذلك ، فنقول : اللّهم لا نقترح عليك ، فأنت أعلم بما يصلحنا ، وإن أردت أن تجعل أنبياءك وأوصياءك واسطة بيننا وبينك ، وحججاً علينا عندك ، فنحن مطيعون لك ولهم ، ولا اعتراض عندنا.
    وهذا هو التسليم المطلق لإرادته تعالى ، وقد عبَّر عنه سبحانه بقوله لرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سورة الزخرف : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ).
    صارم : كلامك طويل ، وفيه نسبة من الصحّة ، إضافة إلى بعض الشبه التي تحتاج إلى ردّ ، فلو كان مقالك قصيراً لرددت على كل نقطة تذكرها وتخالف ما أعتقده ، لذا أرجو مرَّة أخرى أن يكون جوابك مختصراً دقيقاً ، وعموماً فأجيبك


(283)
باختصار :
    الآيات التي استدللت بها في الأمر بطاعة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليك لا لك ; لأنَّه أمرنا بالتوحيد الخالص النقيِّ من شوائب الشرك ، ومن طاعته تنقية التوحيد مما يفضي إلى الشرك ، أعاذنا الله وإيَّاك من مضلاَّت الفتن.
    ثمَّ إنك استدللت في الاستشفاع بدعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للأعمى (1) ، وهذا لا إشكال فيه ; لأنه طلب من حيٍّ فيما يستطيعه ، لذا لجأ عمر إلى عمِّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً (2) ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به ؟
    العاملي : من أسباب الخطأ عند المخالف للتوسُّل : أنه يتصوَّر أن المتوسِّل يطلب من النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو من الولي .. بينما هو يطلب من الله تعالى ، ويتوسَّل إليه بمقام النبيِّ ، أو يطلب من النبيِّ التوسُّط له عند الله تعالى ، فلا طلب إلاَّ من الله تعالى.
    وأمَّا شبهة أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ميِّتٌ فكيف تصحُّ مخاطبته ؟ فجوابها : أنه حيٌّ عند ربِّه ، ولذلك تسلِّم عليه في صلاتك : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) ، وإذا قبلت حديث تعليم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للأعمى أن يتوسَّل به ، فقد صحَّ عندكم أن عثمان بن حنيف طبَّقه بعد وفاة النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعلَّمه لشخص كان عنده
1 ـ راجع : سنن الترمذي : 5/229 ح 3649 ، المستدرك ، الحاكم : 1/313 ، وسوف يأتي الحديث أيضاً في مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين في التوسل.
2 ـ راجع تعليقتنا على هذه الدعوى الكاذبة في آخر المناظرة ، تحت عنوان : الردّ الصارم على مزاعم صارم.


(284)
مشكلة عند الخليفة عثمان ، فاستجاب الله له ، وتغيَّرت معاملة عثمان معه ، وتطبيق الصحابي الثقة حجَّة ; لأنه معاصر للنصّ.
    وقد أجاز ابن تيمية التوسُّل بالنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد موته ، فلا تكن ملكياً أكثر من الملك ! بل ورد عندكم التوسُّل إلى الله تعالى بالممشى إلى الصلاة والحجِّ ( أتوسَّل إليك بممشاي ) !
    صارم : قلت لك : نحن نحرِّم شدَّ الرحال إلى زيارة القبور منعاً لجناب التوحيد أن تشوبه شوائب الشرك ، ثمَّ سألتك : لم تشدّون الرحال ؟ فقلت : للاستشفاع !! فإن أردت أن تجيبني على قدر السؤال فهذا سؤالي : لماذا تستشفعون بالأموات ؟ وكيف ؟
    العاملي : إلى الآن ما زلت تتصوَّر أن الزيارة لابدَّ أن يرافقها استشفاع ، فمن أين جئت بهذا ؟! فقد يزور مسلم نبيَّه ويؤدّي واجب احترامه ولا يتوسَّل ولا يستشفع به ، وقد يتوسَّل المسلم بنبيِّه في بيته ولا يذهب لزيارته ، فالزيارة شيء ، والتوسُّل شيء آخر ، وإلى الآن تتصوّر أن شدَّ الرحال لا يكون إلاّ للاستشفاع ! مع أن شدَّ الرحال قد يكون للزيارة وحدها ، أو مع نيّة الاستشفاع والتوسل ، وقد أجبتك بأن النبيَّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيٌّ عند ربِّه ، وأنك تسلِّم عليه في صلاتك ، فلا مانع أن يخاطبه المتوسِّل ، على أن المتوسِّل لا يطلب من النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل من الله ، ولا يحتاج إلى مخاطبة النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل يخاطب ربَّه ، ويسأله بحقِّ رسوله ومقامه ومعزَّته عنده ، وقلت لك : لقد أجاز ابن تيمية التوسُّل والاستشفاع بالنبيِّ حتى لو كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ميِّتاً ، فهل تريد نصَّ كلامه ؟ وتعود وتسألني : لماذا تشدّون الرحال للاستشفاع ، ولماذا تستشفعون بالميِّت ؟ أرجو أن تتأمَّل في كلامي أكثر.
    صارم : لقد تأمَّلت في كلامك جيّداً ، إلى أن قال : وسؤالي : كيف يتوسَّل


(285)
به ؟ وسؤالي الثاني : كيف يستشفع به ؟ هل أجد عندك إجابة مختصرة في حدود السؤالين السابقين ؟
    العاملي : توسَّل به إلى الله ، واستشفع به ، وتوجَّه به ، وسأله به ، واستغاث به ، وأقسم عليه به .. كلّها بمعنى واحد ، أي توسَّط به إلى الله تعالى ، ومعنى توسُّلنا واستشفاعنا بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أننا نقول : اللهم إن كنت أنا غير مرضيٍّ عندك ، ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ، فإني أسألك بحرمة عبدك ورسولك محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الذي هو نبيّي ومبلِّغي أحكامك ، وخير خلقك ، وصاحب المقام الأوَّل عندك .. أن تقبل دعائي وتستجيبه.
    وهذا يا أخ .. أمر طبيعيٌّ صحيح ، ليس فيه عبادة للنبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا ادّعاء شراكة له مع الله تعالى ، بل فيه تأكيد لمقام عبوديّته وإطاعته لربِّه ، الذي وصل به إلى مقامه المحمود عند الله تعالى ، وهو مشروع لورود النصّ به.
    صارم : أعوذ بالله من غضب الله ، ما هذه الجرأة على الله ؟ كيف تقول : ( ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ) ؟! هل تعتقد أن الله لا يسمع نعوذ بالله من الخذلان ، هل تعتقد أن الله يخفى عليه شيء في الأرض وفي السماء ؟ سبحانك ! هذا بهتان عظيم ، أفق يا رجل ! فوالله إن الذي قلته ليزلزل الجبال ، هداك الله ، أرجو أن تستغفر الله بلا واسطة عن هذا الذنب العظيم ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
    العاملي : عبارة : ( إن كنت لا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ) تعني لا تستجيب .. وسماع الدعاء بمعنى استجابته عربيٌّ فصيح أيُّها العربي !!
    صارم : هل لك أن تدلَّني على أن السماع بمعنى الاستجابة من لغة العرب ، وقبل ذلك القرآن ؟
    العاملي : يستحبُّ للمصلّي أن يقول : سمع الله لمن حمده ، ومعناها
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس