قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج ::: 16 ـ 30
(16)
له قلوب العلماء ، ولا تمجه أسماع الفضلاء ، واعتمدت في ذلك أن ابين في هذه المسألة التي أفل بدرها وجهل قدرها ، غيرة على عقائل المسائل ، لا حرصا على حطام هذا العاجل ، ولا تفاديا من تعريض جاهل ، فإن لنا بموالينا أهل البيت عليهم السلام أعظم أسوة وأكمل قدوة ، فقد قال الناس فيهم الاقاويل ونسبوا إليهم الأباطيل ، وبملاحظة « لو كان المؤمن في جحر ضب يبرد كل غليل » (1).
    وقد رد هذه الرسالة الفاضل القطيفي ـ رحمه الله ـ الذي هو أحد تلامذة المحقق الكركي قدس سره ـ سماها ب‍ « السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج ».
    والعلامة الطهراني إذ يؤرخ المحقق الكركي من تأليفه رسالته الخراجية بسنة 916 ه‍ (2) يؤرخ فراغ الفاضل القطيفي من تأليفه رسالته الردية « السراج الوهاج » بسنة 924 ه‍ (3) فالفاصل بينهما ثمان سنين ، وكجواب عن هذه الفترة الفاصلة قال القطيفي :
    « ولم أكن ظفرت بها منذ ألفها إلا مرة واحدة في بلد « سمنان » وما تأملتها إلا كجلسة العجلان ، وأشار إلى من تجب طاعته ( ؟ ) بنقضها ليتخلق من رآها برفضها ، فاعتذرت ، وما بلغت ( حينئذ ) منها حقيقة تعريضه بل تصريحه بأنواع الشنع ، فلما تأملته الآن .. مع علمي بأن ما فيها أوهى من نسج العناكب ، فدمع الشريعة على ما فيها من مضادها ساكب ، وهو مع ذلك لا يألو جهدا بأنواع التعريض بل التصريح .. فاستخرت الله على نقضها وإبانة ما فيها من الخلل والزلل ، ليعرف أرباب النظر الحق فيتبعوه والباطل فيجتنبوه ، فخرج الأمر بذلك ، فامتثلت .. » (4).
    أما قبل هذا فقد كان الفاضل القطيفي من تلامذته والمستجيزين منه الحديث
1 ـ مقدمة الكتاب.
2 ـ الذريعة 17 : 7 عن نسخة رآها في مكتبة المجلس بطهران.
3 ـ الذريعة 12 : 164 ولا يذكر مصدره.
4 ـ مقدمة السراج الوهاج للقطيفي.


(17)
كما مر عن صاحب « الحدائق » (1) ولذلك قال فيه : « والعجب أنه مع كونه يروي عن الشيخ علي الكركي كانت له معه معارضات ومناقضات .. وقد وقعت بيدي رسالة من رسائله سماها ب‍ » الرسالة الحائرية في تحقيق المسألة السفرية « ذكر في صدر الرسالة المذكورة ما اتفق له مع الشيخ علي في سفره معه للمشهد المقدس الرضوي ، من المسائل التي نسبه فيها إلى الخطأ .. ».
    وذكر فيها « أني دخلت يوما إلى ضريح الرضا عليه السلام فوجدته ( الكركي ) هناك فجلست معه ، فاتفق حضور بقية العلماء الوارثين وزبدة العلماء الراسخين جمال الملة والدين ( ؟ ) فابتدأ بحضوره معترضا علي : لم لم تقبل جائزة الحكام؟!
    فقلت : لأن التعرض لها مكروه.
    فقال : بل واجب أو مستحب.
    فطالبته بالدليل.
    فاحتج بفعل الحسن عليه السلام مع معاوية وقال : إن التأسي إما واجب أو مندوب ، على اختلاف المذهبين.
    فأجبته عن ذلك واستشهدت بقول الشهيد ( رحمه الله تعالى ) في « الدروس » : « ترك أخذ ذلك من الظالم أفضل ، ولا يعارض ذلك أخذ الحسن عليه السلام جوائز معاوية ، لأن ذلك من حقوقهم بالأصالة » (2).
    فمنع أولا كون ذلك في « الدروس » ثم التزم بالمرجوحية. وعاهد الله تعالى هناك أن يقصر كلامه على قصد الاستفادة بالسؤال والافادة بالجواب.
    ثم فارقته قاصدا إلى المشهد الغروي على أحسن الحال.
    فلما وصلت تواترت الأخبار عنه من الثقات وغيرهم بما لا يليق بالذكر ، إلى أن انتهى الأمر إلى دعواه العلم ونفيه عن غيره. فبذلت وسعي بجميع أنواع الملاطفة
1 ـ لؤلؤة البحرين : 159.
2 ـ لم نجده في مظانه في الدروس.


(18)
في ( طلب ) رضاه بالاجتماع للبحث والمذاكرة ، فأبى .. ».
    وذكر في آخر الرسالة ما صورته : « وإذا فرغت من هذه فأنا مشتغل بنقض رسالته » الخراجية « وكشف لبس ما رتبه فيها من المباحث الاقناعية ، وهو مما يقضى منه العجب العجيب ، كما لا يخفى ذلك على الموفق الاريب » (1).
    التحدي بالمناظرة :
    أما قوله : « فبذلت وسعي بجميع أنواع الملاطفة في ( طلب ) رضاه بالاجتماع للبحث والمذاكرة ، فأبى ».
    فقد نقله المولى عبد الله الاصفهاني في « رياض العلماء » عن حسن بيگ روم لو المعاصر للشيخ علي الكركي هذا ، في تاريخه بالفارسية « أحسن التواريخ » ما معناه : إن الشيخ إبراهيم القطيفي لما خاصم الشيخ علي الكركي رجع الأمير نعمة الله الحلي ـ الذي كان من تلامذة الشيخ علي الكركي ـ رجع عنه واتصل بالشيخ إبراهيم القطيفي مع جماعة من العلماء في ذلك العصر : كما لمولى حسين الأردبيلي ، والمولى حسين القاضي مسافر وغيرهم ممن كان بينهم وبين الشيخ علي كدورة. ودافع الأمير نعمة الله الحلي مع الجماعة العلماء دافعوا الشيخ إبراهيم القطيفي على أن يباحث مع الشيخ علي الكركي في مجلس السلطان الشاه طهماسب في مسألة صلاة الجمعة ، ووعده ذلك الجمع من العلماء أن يعاونوه في البحث في المجلس ، وكان يعاونهم في ذلك جماعة من الأمراء أيضا ، عداوة للشيخ علي ( ! ) ولكن لم يتفق هذا المقصود ولم ينعقد ذلك أصلا (2).
    السعي عليه عند السلطان :
    ونقل المولى عبد الله الاصفهاني في « رياض العلماء » عن حسن بيگ روم لو المعاصر للشيخ علي الكركي هذا ، في تاريخه بالفارسية : « أحسن التواريخ » ما معناه :
1 ـ لؤلؤة البحرين : 161 163.
2 ـ رياض العلماء 3 : 452.


(19)
    وكان من غرائب الأمور أن كتب بعض الاشرار مكتوبا مشتملا على أنواع الكذب والبهتان بالنسبة إلى الشيخ علي ، ورماه إلى دار السلطان الشاه طهماسب في « صاحب آباد » من « تبريز » بجنب الزاوية النصرية ، نسب إليه ( قدس سره ) أنواعا من المناهي والفسوق ، بخط مجهول لايعرف كاتبه.
    فاجتهد السلطان وبالغ في استعلام الكاتب حتى ظهر أن الأمير نعمة الله المشار إليه كان له اطلاع على ذلك المكتوب ، فانجر الأمر إلى أن أمر السلطان المشار إليه بنفي الأمير نعمة الله من بلد ( الحلة ) إلى بغداد (1).
    وكان من جملة الكرامات التي ظهرت في شأن الشيخ علي : أن محمود بيگ المهردار ( صاحب الخاتم ) كان من أشد أعداء الشيخ علي وألد خصامه.
    وفي يوم جمعة في وقت العصر في ميدان « صاحب آباد » في « تبريز » كان يلاعب بالصولجان في حضرة ذلك السلطان.
    قال الأفندي : ورأيت في بعض التواريخ الفارسية المؤلفة في ذلك العصر أيضا :
    أن محمود بيگ المخذول المذكور كان قد أضمر في خاطره أنه بعد ما يفرغ السلطان من لعب الصولجان يذهب إلى بيت الشيخ علي ويقتله بسيفه في ذلك الوقت بعينه. وكان قد تآمر في ذلك مع جماعة من الأمراء المعادين للشيخ علي.
    وكان الشيخ علي في ذلك الوقت مشغولا بقراءة « دعاء السيفي » و « دعاء الانتصاف للمظلوم من الظالم » المنسوب إلى الحسين عليه السلام ، وكان على لسانه منه قوله : « قرب أجله وأيتم ولده » .. وفرغ محمود بيگ من تلك اللعبة وتوجه إلى جانب بيت الشيخ علي ، فذهبت يد فرسه في بئر كانت في عرض الطريق فطاح هو وفرسه في ذلك البئر واندق عنقه وانكسر رأسه واضمحل ومات من ساعته! (2).
    قال الأفندي : ورأيت ما معناه : حاول الشيخ علي الكركي هذا أن يعين قبلة بلدان إيران ويقومها ، وكان يسكن شيراز السيد الأمير غياث الدين منصور ( الحسيني )
1 و 2 ـ أحسن التواريخ : 12 : 253 256.

(20)
فساءه ذلك واغتاظ أن يرتكب أحد غيره ذلك فيتدخل في الأمور الدينية المتعلقة بالبلد الذي هو فيه ، إذ كان تشخيص الشيخ علي قبلة شيراز تجهيلا للامير غياث الدين منصور في الحقيقة ، فلذلك امتنع ومنع ولم يمكنه من ذلك وقال : إن تعيين القبلة منوط بالدائرة الهندية ، وهي متعلقة بأرباب علم الرياضي لا بالفقهاء. فلما بلغ هذا المنع إلى إلى الشيخ علي كتب هذه الآية وأرسلها إليه : « سيقول السفهاء من الناس : وما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟! قل : لله المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » (1) فلما وصل هذا إلى الأمير غياث الدين كتب إليه بهذه الآية : « ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض. ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين » (2).
    وصار الأمير غياث الدين منصور صدرا ( رئيس الوزراء ) وكانت تبعة الشيخ علي من الاعراب يقومون بحل الأمور الشرعية وفصلها من غير تقيد بخطابات ديوان الصدارة ( ديوان رئاسة الوزراء ) وأمثلته ، فقويت العداوة والنزاع بينهما شيئا فشيئا حتى آل الأمر إلى المناقشة في مجلس السلطان ، ورجح السلطان جانب الشيخ علي ( ! ) وعزل الأمير غياث الدين منصور عن الصدارة ( رئاسة الوزراء ) ولكن قلده الشرعيات في كل بلاد فارس ( شيراز ) وجعله مستقلا في عزل القضاة والمتصدين للشرعيات ونصبهم بتلك البلاد وكتب إليه بذلك أحكاما مشتملة على الشفقة والعناية وأرسلها إليه مع خلاع فاخرة (3).
    وللشيخ حسين بن عبد الصمد الحارث الهمداني العاملي الجبعي ( ت 984 )
1 ـ سورة البقرة : 142.
2 ـ سورة البقرة : 145.
3 ـ رياض العلماء 3 : 454 وكان لقب الأمير مما اصطلح به الصفويون على السادة الهاشميين ، كما اصطلحوا بالأمير زاده ومخففه الميرزا علي الهاشمي من قبل أمه. فالأمير غياث الدين منصور حسيني زيدي : وهو الجد الأعلى للسيد علي خان المدني الشيرازي صاحب شرح الصحيفة والدرجات الرفيعة ، كما ذكر ذلك في سلسلة نسبه في كتابه الآخر : سلوة الغريب وأسوة الأديب ، وعته في مقدمة بحر العلوم للدرجات الرفيعة : 3 وهو صاحب المدرسة المنصورية في شيراز.


(21)
والد شيخنا البهائي رسالة سماها « تحفة أهل الايمان في قبلة عراق العجم وخراسان » رد فيها على الشيخ علي بن عبد العالي العاملي الكركي ، حيث غير محاريب كثيرة إذ أمرهم أن يجعلوا الجدي بين الكتفين ، مع أن طول تلك البلاد يزيد على طول مكة كثيرا وكذا عرضها ، فيلزم انحرافهم عن الجنوب إلى المغرب كثيرا ، ففي بعضها كالمشهد بقدر نصف المسافة : خمس وأربعين درجة ، وفي بعضها أقل (1).
    نيابة السلطان عنه؟
    نقل صاحب « الحدائق » في كتابه « لؤلؤة البحرين » عن السيد نعمة الله الجزائري في صدر كتابه « شرح غوالي اللئالي » قال : لما قدم الشيخ علي بن عبد العالي « عطر الله مرقده » إصفهان وقزوين في عصر السلطان العادل الشاه طهماسب « أنار الله برهانه » مكنه من الملك والسلطان وقال له : أنت أحق بالملك لانك النائب عن الإمام عليه السلام ، وإنما أكون من عمالك ، أقوم بأوامرك ونواهيك. قال : ورأيت للشيخ أحكاما ورسائل إلى الممالك الشاهية إلى عمالها وأهل الاختيار فيها تتضمن قوانين العدل وكيفية سلوك العمال مع الرعية في أخذ الخراج وكميته ومقدار مدته. والأمر لهم بإخراج العلماء من المخالفين لئلا يضلوا الموافقين لهم والمخالفين. وأمر بأن يقرر في كل بلد وقرية إماما يصلي بالناس ويعلمهم شرائع الذين. والشاه يكتب إلى أولئك العمال بامتثال أوامر الشيخ وأنه الأصل في تلك الأوامر والنواهي (2).
    نادرة طريفة :
    حكى صاحب « روضات الجنات » عن « حدائق المقربين » بالفارسية
1 ـ أمل الآمل 1 : 75.
2 ـ لؤلؤة البحرين : 153.


(22)
ما معناه : ورد سفير مقرب من جهة سلطان الروم ( الخلافة التركية العثمانية ) على السلطان الشاه طهماسب. فاتفق أن اجتمع به يوما جناب شيخنا المعظم في مجلس الملك ، فلما عرفه السفير المذكور أراد أن يفتح عليه باب الجدل فقال :
    يا شيخ ، إن مادة تاريخ اختراع طريقتكم هذه « مذهب ناحق » أي : مذهب غير حق ، وفيه إشارة إلى بطلان هذه الطريقة كما لا يخفى. فألهم جناب الشيخ في جواب ذلك الرجل بأن قال بديهة وارتجالا :
    بل نحن قوم من العرب وألسنتنا تجري على لغتهم لاعلى لغة العجم ، وعليه فمتى أضفت المذهب إلى ضمير المتكلم يصير الكلام : « مذهبنا حق » فبهت الذي كفر وبقي كأنما القم الحجر (1).
    وفاته :
    ذكره السيد مصطفى التفرشي في هامش « نقد الرجال » فقال : مات رحمه الله في شهر جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة (2).
    ونقل الأفندي في « رياض العلماء » عن رسالة لبعض أفاضل تلامذة الشيخ الكركي في ذكر اسامي مشايخه قال : مات رحمه الله تعالى بالغري من نجف الكوفة سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ، وله من العمر ما ينيف على السبعين سنة (3).
    وكأن الشيخ الحر اعتمد عليه فقال في « أمل الآمل » : وكانت وفاته سنة 937 وقد زاد عمره على السبعين (4).
    ولكن الأفندي نقل عن « تاريخ جهان آرا » : أنه مات في مشهد علي عليه السلام في ثامن عشر ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ، سنة أربعين وتسعمائة ، في زمن السلطان
1 ـ روضات الجنات 4 : 362.
2 ـ نقد الرجال : 238.
3 ـ رياض العلماء 3 : 444.
4 ـ أمل الآمل 1 : 122.


(23)
الشاه طهماسب المذكور ، وقيل في تاريخه : « مقتداى شيعه » (1).
    ونقل عن حسن بيگ روم لو في تاريخه بالفارسية : « أحسن التواريخ » قال :
    إن الشيخ علي بن عبد العالي المجتهد قد توفي في يوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة أربعين وتسعمائة ، بعد مضي عشر سنين من جملة أيام دولة السلطان الشاه طهماسب المذكور ، وكانت جملة « مقتداى شيعه » تاريخ وفاته (2).
    وقد صرح حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي في بعض رسائله : بأن الشيخ علي هذا صار شهيدا (3) بالسم المستند إلى فعل بعض أمناء الدولة (4).
    وقال ابن العودي : توفي مسموما ثاني عشر ذي الحجة سنة 945 وهو في الغري على مشرفه السلام (5) ولذلك ترجم له العلامة الاميني في « شهداء الفضيلة » (6).
    وقد كان ( قدس سره ) من أزهد أهل عصره ، حتى أنه أوصى بقضاء جميع صلواته وصيامه ، وبقضاء حجة الاسلام مع أنه كان قد حج (7).
    فالسلام عليه يوم ولد ويوم قتل مسموما ويوم يبعث حيا.
محمد هادي اليوسفي الغروي
22 / 11 / 1410 ه‍. ق
قم المشرفة

1 ـ رياض العلماء 3 : 448.
2 ـ رياض العلماء 3 : 451.
3 ـ رياض العلماء 3 : 442.
4 ـ روضات الجنات 4 : 374 عن أحسن التواريخ 12 : 256.
5 ـ الدر المنثور 2 : 160.
6 ـ شهداء الفضيلة : 108.
7 ـ رياض العلماء 3 : 445.


(24)
    تظل الأرض بصفتها ظاهرة اقتصادية ملحة ، كما هو معروف من أهم الظواهر الفقهية التي توفر عليها الباحثون قديما وحديثا ويجئ الخراج وهو نوع من الضريبة أو الأجرة أو المقاسمة ، على زراعة الأرض في مقدمة الأبحاث التي حفل بها النشاط الفقهي في الميزان المذكور ، بحيث دفعت أكثر من فقيه إلى أن ينهض بدراسة مستقلة للظاهرة المتقدمة. مضافا إلى الحقل الذي ينتظمها في الدراسات التي تتناول ـ عادة سائر أبواب الفقه.
    وبالرغم من أن المسائل الخلافية التي تتفاوت وجهات النظر حيالها ، تظل سمة واضحة في الحقل الفقهي بعامة ، إلا أن ظاهرة الخراج ( بما تواكبها من صلات بطبيعة « الأرض » وأقسامها المفتوحة عسكريا بخاصة وما يترتب على ذلك من تصرفات مختلفة حيالها ، من حيث المشروعية وعدمها ) تبقى أشد إلحاحا من سواها من حيث ضرورة التوفر على دراستها وتحديد مختلف الجوانب المتصلة بها.
    لقد اكتسبت الأرض زمن التشريع بعدا خاصا يتصل بالفتوحات التي شهدها صدر الاسلام ، وانسحاب ذلك على مختلف أنواع الأرض ، من حيث التكييف الشرعي لها ، وامتداد هذا التكييف إلى نمط تعاملنا مع الأرض وخراجها. إن الأرض تبعا للتقسيم الفقهي الموروث تندرج ضمن الانماط التالية :
    1 ـ أرض العنوة ( أي : الأرض التي فتحت من خلال الغزو العسكري ).
    2 ـ أرض الطوع ( أي : الأرض التي أسلم عليها أهلها طواعية ).
    3 ـ أرض الصلح ( أي : الأرض التي تخص الكتابيين ، ممن احتفظ بموقفه


(25)
الفكري ، وصولح على إبقاء الأرض له قبال « الجزية ».
    4 ـ أرض الأنفال ( أي الأرض التي تخص الإمام أو الدولة ، مما فتحت إما بغير الغزو العسكري ، أو مطلق الأرض التي لا صاحب لها بغض النظر عن شكلها الذي ينسب إليه ( عنوة أو غيره ) ، ميتة كانت أو عامرة بالأصالة.
    والملاحظ : أن اختلاف وجهات النظر بطبع كل الأقسام المتقدمة بحيث لا يكاد الدارس يقف على شاطئ محدد في هذا الصدد ، سواء أكان الأمر متصلا بتحديد نمط الأرض وفرز ما هو مفتوح منها عنوة أو صلحا أو طواعية ( من حيث البعد التاريخي لها ) ، أو ما كان متصلا بإمكانية تملكها ببيع أو إرث نحو هما في بعض الانواع منها ، أو انحصار ذلك في نطاق « الحق » دون « الملك » ، أو ما كان متصلا بأداء الخراج أو سقوطه .. الخ.
    إن أمثلة هذا التفاوت في وجهات النظر ، ليس من السهل تجاوزها ، ما دام الأمر متصلا بمشروعية تعاملنا مع الأرض أو عدم مشروعية ذلك ، وهو أمر يتطلب مزيدا من التوفر على الدراسات المتصلة بهذا الحقل.
    أول ما يطالعنا في هذا الصدد كما أشرنا هو : فرز نمط الأرض وتحديد المفتوح منها « عنوة » عن سواه. وأهمية هذا الفرز تتمثل في أن المفتوح عنوة ملك للمسلمين ، لا يسمح لأحد أن يتصرف فيها بعمارة أو بيع أو شراء إلا بإذن الإمام أو الدولة حيث يقبلها إلى من يستثمرها حسب ما تتطلبه المصلحة من التقبيل بالنصف أو الثلث أو الثلثين .. الخ.
    وهذا الحكم كما نعرف جميعا موضع وفاق ، نصا وفتوى ، بيد أن المشكلة تكمن في تحديد هذا النمط من الأرض ، وفي تحديد أجزاء البلد الواحد نفسه ، كما لو كان البعض منها عنوة دون البعض الآخر ، وكما لو كان البعض منها حيا والآخر مواتا.
    إن المؤرخين أو الفقهاء الذين أرخوا قديما لهذا الجانب لا تكاد تتفق كلمتهم على تحديد ثابت في هذا الصدد.


(26)
    وحيال هذا لا يمكن حسم المشكلة ، كما هو واضح. فالعراق على سبيل المثال بالرغم من كونه موضع وفاق على فتحه عنوة ، وإلى أن أربعة مواضع منه قد صولح عليها فحسب ، إلا أن تحديد عامره وفرزه عن مواته لا يمكن أن نتثبت منه تاريخيا.
    مضافا إلى ذلك ، فإن فتحه ( وفقا للمعيار الذي يميز بين المفتوح بإذن الإمام فيصبح لجميع المسلمين ، والمفتوح بغير إذنه فيصبح للامام خاصة ) يظل موضع خلاف أيضا.
    وأيا كان الأمر ، فإن الباحث يعنيه خارجا عما لحظناه أن يقف على واحدة من وجهات النظر الفقهية المتصلة بالأرض وخراجها وسائر الظواهر المرتبطة بهما ، متمثلة في ما كتبه الفقيه المعروف ( الكركي = المحقق الثاني ) في رسالته التي أسماها ب‍ ( قاطعة اللجاج .. ) حيث يمكننا أن نلحظ من طبيعة عنوانها قضية التفاوت بين وجهات النظر التي حاول المؤلف أن ( يقطع ) من خلالها بوجهة نظر تحسم الموقف ، عبر تصوراته التي طرحها في الكتاب المذكور. وفي مقدمة ذلك :
    اصطناع الفارق بين البيع في نطاق رقبة الأرض ، والبيع في نطاق الحق أو الآثار للمساحات المفتوحة عنوة ، أو ما يطلق عليها أحيانا بالأرض الخراجية مع ملاحظة أن أرض الصلح يطلق عليها نفس التسمية عند بعض الكتاب ( أي ملاحظة الخراج بمعنى الجزية ) ، كما أن بعضهم يطلق نفس التسمية لأراضي الدولة التي تؤجر ويضرب الخراج عليها ، بل مطلق ما يفرض من الضرائب حسب الاستخدام اللغوي لها.
    المهم ، أن المؤلف ( ومثله صف كبير من الفقهاء ) حسم الموقف في اصطناعه الفارق بين بيع ( الرقبة ) فيما لا يجوز ذلك ، وبين بيع ( الحق ) فيما يسمح به.
    وفي تصورنا أن وجهة نظر المؤلف صائبة في هذا الصدد ما دام الدليل الفقهي يسعفنا في ذلك ، من نحو رواية أبي بردة ، « يشتري حقه منها » فيما دلت بوضوح على جواز اشتراء الحق ، بملاحظة أن رقبة الأرض للمسلمين جميعا ، وإلى أن عمارتها تكسب المشتري حقا ، ما دام قائما بمراعاة ذلك ، وبضمنه تأدية الخراج.
    ويبدو أن الأرض الخراجية كانت عصرئذ مقترنة بنمط من الهوان


(27)
الاجتماعي ، بخاصة عند « العامة » حيث نلحظ تصورات معينة لديهم ، تقترن حينا بأرض « الجزية » التي تشكل هوانا لمن يشتريها ، وحينا ثانيا بكونها ملكا عاما للمسلمين لا يجوز أن يشتريها أحد إلا بمقدار ما يقتات به ، وحينا ثالثا بأن التزام المشتري بالخراج إقرار بالهوان وإلى أن إسقاطه أكل لأموال المسلمين .. الخ.
    ولا يبعد إنسحاب هذه الكراهة على المناخ الاجتماعي عصرئذ ، ولذلك نلحظ في رواية أبي شريح : « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شراء الأرض من أهل الخراج ، فكرههه ، وقال : إنما أرض الخراج للمسلمين ، فقالوا له : إنه يشتريها الرجل وعليه خراجها ، فقال عليه السلام : لا بأس إلا أن يستحي من عيب ذلك » ، فإشارته عليه السلام إلى « العيب » لا يبعد أن يكون تلويحا إلى المناخ الاجتماعي الذي قرن شراء الأرض الخراجية بالهوان الذي أشرنا إليه.
    ومن الممكن أن تقترن الكراهة الاجتماعية بالكراهة الفردية أيضا ، تنزها عن الشبهات ، وهذا ما يمكن أن نلحظه في رواية عبد الله بن سنان عن أبيه : « قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إن لي أرض خراج وقد ضقت بها أفأدعها؟ قال : فسكت عني هنيئة ، ثم قال : إن قائمنا عليه السلام لو قام كان يصيد بك من الأرض أكثر منها » ، فقد أعلن المشار إليه بأنه قد ضاق بالأرض الخراجية التي بحوزته ، تعبيرا عن الشبهة التي ألمت به حيال الأرض المذكورة.
    على أية حال ، فإن شراء الحق دون « الرقبة » يظل أمرا لا غبار عليه في ضوء النص الذي لحظناه ، والنصوص الأخرى التي تتحدث عن الشراء مطلقا مثل رواية الحلبي : « إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين » ، ورواية ابن شريح المتقدمة : « يشتريها الرجل وعليها خراجها؟ فقال : لا بأس » .. الخ.
    بيد أن الشراء المذكور قد اقترن كما لحظنا بضرورة تأدية الخراج بصفة حقا للمسلمين. وهذا ما يستجرنا إلى التساؤل عن كيفية أدائه في زمن الغيبة. أما زمن الحضور فلا معنى لإشارته الآن ما دام عمليا لا فاعلية لمثل هذا التساؤل.
    ويعنينا موقف « المؤلف » في هذا الصدد.
    يقول الكاتب تحت عنوان ( في حل الخراج .. ) :


(28)
    « وكون ضرب الخراج وتقبيل الأرضين وأخذه وصرفه موكولا إلى نظره عليه السلام ، لا يقتضي تحريمه حال الغيبة لبقاء الحق ووجود المستحق مع تظافر الأخبار عن الأئمة الأطهار ، وتطابق كلام أجلة الأصحاب ومتقدمي السلف ومتأخريهم بالترخيص لشيعة أهل البيت عليهم السلام في تناول ذلك حال الغيبة. فإذا انضم إلى هذا كله أمر من له النيابة حال الغيبة .. ».
    نستخلص من هذا الكلام أن الكاتب لا يجد مانعا من تقبيل الأرض ودفع خراجها بالنسبة إلى الجائر ، مادامت الأموال الخراجية تصرف في مصالح الشعب ، ومنهم : الطائفة المحقة ، بصفة أن لكل أحد منها حقا في بيت المال ، بالنحو الذي أو ضحته إحدى الروايات التي سردها المؤلف لتعزيز وجهة نظره : « إما علم أن لك في بيت المال نصيبا ».
    والجدير بالذكر ، أن الكاتب قد ارتكن في دعم وجهة نظره المذكورة إلى مجموعة من النصوص التي تتحدث عن الشراء الطعام وغيره من الجائر أو قبول جوائزه فيما تصلح دليلا على جواز « الأخذ » لا « الدفع » الذي حاول التدليل عليه.
    والحق ، أن ظاهرة التقبيل وما تتطلبه من الخراج ، قد تكفلت ببيان مشروعيته طائفة من النصوص من نحو : « لا بأس أن يتقبل الرجل الأرض وأهلها من السلطان » ، ونحو : « ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان .. قال : لا بأس » الخ.
    ومن البين أن تقبل الأرض من السلطان يستتلي دفع الخراج إليه أيضا. إلا أن ذلك يكتسب مشروعيته في حالة انحصار الأمر في السلطة الجائرة. أما في حالة إمكان التعامل مع سلطة مشروعة أو فقيه مبسوط اليد ، كما أشار المؤلف إلى ذلك حينئذ أو حتى إمكان التخلص من الدفع ، وذلك بإيصاله بنفسه إلى المستحقين ، أو لصالح العامة ، حينئذ ينتفي المسوغ لدفعه إلى الجائر ، كما هو واضح.
    هذا كله فيما يتصل بالأرض الحية.


(29)
    ولكن ماذا عن الأرض الميتة؟
    يقرر المؤلف بأن الأرض الميتة من المفتوح عنوة للامام ، وإلى أنه مسموح لاي فرد أن يحييها زمن الغيبة.
    أما أنها للامام فلكونها من « الأنفال » التي يندرج الموات ضمنها ، وأما السماح للفرد بإحيائها فلنصوص : « من أحيا .. » وأما سقوط الاذن في زمن الغيبة فلأخبار الإباحة.
    كما ألمح الكاتب عبر حديثه عن الأنفال إلى ظاهرة الخراج الذي يفرضه الجائر ، موضحا إلى أنه لا يبعد إلحاق هذا النمط من الأرض بما يؤخذ من الأرض المفتوحة عنوة ، كما ألمح مترددا إلى احتمال الجواز لمن استجمع صفات النيابة في جباية الخراج المذكور.
    ويلاحظ على المؤلف أنه لم يلق الأضواء الكاملة على ظاهرة الأرض الموات بالنحو الذي تتطلبه المعاجلة لهذا الجانب : من تفصيل لأشكالها ومن تعزيز بأدلة محددة لوجهة نظره ، بل اكتفى بفقرات عابرة بالاشارة إلى تملك المحي لموات الأرض المفتوحة عنوة ، دون أن يحدد موقع التملك من أنه في صعيد الرقبة أو الحق ، ودون أن يحدد موقع ذلك من الاحياء البدائي أو المتجدد. علما بأن النصوص الواردة في هذا الصدد ، بين نص يطالب بتأدية الخراج وآخر بتأدية الحق لصاحبها ، وثالث ينفي أي حق لمحييها السابق ، ورابع مطلق لا تفصيل فيه.
    وأيا كان الأمر ، يتعين على الدارس لرسالة المؤلف الخراجية أن يقف عند لغتها ، ومنهجها ، ومادتها ، بغية التعرف على طابعها العام في هذا الصدد.
    أما لغتها ، فتتميز بالوضوح واليسر اللذين يتطلبهما البحث الفقهي وسائر البحوث الاسلامية ما دام الهدف من الكتابة هو إيصال الافكار إلى الآخرين وليس التصنع اللغوي الجاف. كما تتميز لغته وهذا ما يمنحها مزيدا من القيمة بالابتعاد عن الحشو ( الأصولي ) الذي لا حاجة إلى إقحامه في بحوث فقهية ، الهدف منها تجلية ما غمض من الأدلة ، وليس تضبيبه بمزيد من اللغة الأصولية ، التي عفا


(30)
عليها الزمن ، وبخاصة : إنها لا تلقي أية إنارة جديدة على البحث بقدر ما تصطنع مجموعة من المصطلحات التي يمكن استبدالها باللغة المألوفة التي يتمثلها القارئ الاعتيادي ، وبذلك يتم تحقيق الهدف العبادي من ممارسة البحث الفقهي.
    المهم ، أن الكاتب ، أتيح له أن يتجنب مزالق اللغة التي أشرنا إليها ، وأن يتوفر على تأدية اللغة بنحوها المطلوب.
    أما من حيث المنهج فيبدو أن المؤلف قد التزم طابع عصره من تبويب رسالته وفق تمهيد ومقدمات خمس بمثابة فصول ومقالة كان من الممكن أن تشكل مقدمة سادسة ـ ، وخاتمة بمثابة ملاحق ، فضلا عن تضمينها مسائل داخل المقدمات ـ بمثابة حقول تنتظم جوانب الفصل.
    المقدمة الأولى : تناولت أقسام الأرضين ، والثانية : الأرض المفتوحة عنوة ، والثالثة : أرض الأنفال ، والرابعة : تحديد المفتوحة عنوة ( تاريخيا ) ، والخامسة : تحديد دلالة الخراج.
    وأما المقالة فقد تناولت الخراج من حيث مشروعيته زمن الغيبة.
    أما الخاتمة فتناولت مسائل متفرقة عن الخراج.
    في ضوء الخطوط التي لحظناها في التبويب المذكور يمكننا بوضوح أن نتبين هدف الكاتب من رسالته ، متمثلا في تشدده على الأرض المفتوحة عنوة ـ بما في ذلك مواتها وصلة الخراج بمختلف الجوانب المرتبطة بالأرض المتقدمة وبسواها ، وهو ما يستق مع عنوان الرسالة التي كتبها ، دون أن يتحدث تفصيلا عن أنماط أخرى من الأرض التي تظل علاقتها بالهدف الذي يشدد عليه ، ودون أن يتحدث عن الظواهر الجانبية التي تتصل ببحوث الأرض بشكل عام ، من معادن ومياه وسواهما مما اعتيد تناولها في غالبية البحوث.
    ويبدو أن تشدد المؤلف على الأرض المفتوحة عنوة بما يواكبها من ظاهرة الخراج ، وبما تستتبعه من تعامل مع السلطة الزمنية ، يظل على صلة بطابع العصر أو الحقبة الزمنية التي شهدت نوعا من الاهتمام الخاص بأمثلة هذا التعامل مع الأرض
قاطِعَةُ اللجَاجِ ::: فهرس