قواعد الحديث ::: 16 ـ 30
(16)
الخ » (1). وبهذا صرح الشيخ يوسف البحراني (2) ، والفيض الكاشاني (3).
    ثمّ بحثوا عن محدث هذا الاصطلاح. فاختار الشيخ حسن بن الشهيد الثاني : أن محدثه السيد جمال الدين احمد بن طاووس ، فانه أول منوّع للحديث ، وتبعه تلميذه العلامة الحلي. وهو ظاهر كلام الشيخ محمد بن الحسن الحر (4).
    واختار الفيض الكاشاني : أن « اول من اصطلح على ذلك ... العلامة الحلي » (5).
    أما الشيخ يوسف البحراني فقد ردد في كلامه بين العلامة ، وشيخه ابن طاووس ، ونقله عن جملة من أصحابنا المتأخرين (6).
    والأول أصح ، لتصريح الشيخ حسن وغيره بوجود هذا الاصطلاح قبل زمن العلامة ، ونسبته الى استاذه ابن طاووس شيخ الفن ، الذي جمع الاصول الرجالية الخمسة في كتابه ( حل الاشكال في معرفة الرجال ) ، وتبعه تلميذه العلامة الحلي ، فاشتهر وشاع في عصره ، كما هو شأن كل جديد أن يشتهر بعد مرور زمن على حدوثه.
    نعم سيأتي الايراد على ذلك : بأن أصل التنويع كان ثابتاً لدى القدماء ، وانما نقّحه ابن طاووس ، لا أنه أحدثه ليكون من المحدثات.

    الأخباريون وتنويع الحديث
    وقد شجب الأخباريون تنويع الحديث ، وعدّوه من البدع التي يحرم
1 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 3 ـ 13.
2 ـ الحدائق ج 1 ص 14.
3 ـ الوافي ج 1 ص 11.
4 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 13 ـ وسائل الشيعة ج 3 ـ الفائدة 9.
5 ـ الوافي ج 1 ص 11.
6 ـ الحدائق ج 1 ص 14.


(17)
العمل بها !. وبسطوا البحث في إبطاله ، وإثبات صحة جميع أخبار كتبنا الأربعة (1) ، بل جميع الأخبار التي نقلوها عن الكتب المعتبرة ، لأنها محفوفة بقرائن تفيد الوثوق بصدورها عن المعصوم (ع).
    وقد استدل الشيخ يوسف البحراني على ذلك بستة وجوه ، وقال : « الى غير ذلك من الوجوه التي أنهيناها في كتاب ( المسائل ) الى اثني عشر وجهاً ، وطالب الحق المنصف تكفيه الاشارة ، والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة » (2) ، كما استدل عليه الشيخ محمد بن الحسن الحر باثنين وعشرين وجهاً في الفائدة التاسعة التي عقدها لاثبات صحة أحاديث جميع الكتب التي جمع منها كتابه ( وسائل الشيعة ) ، وحكم بوجوب العمل بها أجمع. وعلى هذه الوتيرة جرى الفيض الكاشاني في كتابه ( الوافي ) (3) : وجميع ما ذكروه يتلخص في دعويين.
    الأولى : احتفاف جميع الأخبار التي يستدل بها في الشريعة بقرائن تفيد الوثوق والقطع بصدورها عن المعصوم (ع) ، فهي حجة بأجمعها ، فيبطل تنويعها ، لأن مقتضاه عدم حجية بعضها ، كضعيف السند.
    الثانية : انحصار الحجة من الأخبار لدى قدماء فقهائنا بما احتف بتلك القرائن ، فيكون التنويع بلحاظ رجال السند من الحادثات والبدع التي يحرم العمل بها.

    صحة تنويع الحديث
    والحق صحة هذا التنويع وضعف ما ذكر لابطاله.
1 ـ الكافي للكليني والفقيه للصدوق والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي.
2 ـ الحدائق ج 1 ص 15 ـ 24.
3 ـ أنظر ج 1 ص 11.


(18)
    أما الدعوى الأولى فعهدتها على مدعيها ، فمن حصل له القطع بصدور جميع تلك الأخبار عن المعصوم (ع) كانت حجة في حقه ، ولا تبقى حاجة الى النظر في أسنادها ، فيبطل التنويع. أما الذي لم يحصل له القطع بذلك ، ولم تقم عنده تلك القرائن ، فلا مناص له من مراجعة اسناد الاحاديث ، والفحص عما هو الحجة من تلك الأنواع ، وهل أنه الحديث الصحيح فقط ، وهو الذي يرويه الإمامي العدل ، واختاره بعض الفقهاء كالسيد محمد في ( مدارك الأحكام ) ، او باضافة الموثق والحسن ، وهو المشهور ، هذا كله بناء على ما اتفق عليه المتأخرون ، واختاره بعض القدماء من حجية خبر الواحد ، وقد مر الاشارة اليه في مقدمة الكتاب.
    وأما الدعوى الثانية فالجواب عنها.
    أولاً : أن القدماء ـ لقرب عهدهم بالأئمة الأطهار (ع) ـ كان من السهل عليهم تحصيل القطع بصدور الأحاديث عنهم (ع) ، لكثرة القرائن الدالة على ذلك ، فلا تبقى حاجة الى التفتيش عن رجال السند كي يضطروا الى هذا التنويع. أما المتأخرون فقد خفت عليهم تلك القرائن لتطاول العهد ، وقدم الزمن ، وحيث قام الدليل لديهم على حجية خبر الواحد ، فلا مناص لهم من تنويعه وتقسيمه بلحاظ سنده ، وصفات راويه ثمّ النظر في شمول الدليل لأي قسم منه.
    وبذلك أجاب الشيخ حسن بن الشهيد الثاني معتذراً عن التنويع بعد اعترافه بحدوثه ، فقال : « فان القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعاً لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالة على صدق الخبر ، وإن اشتمل طريقه على ضعف ... فلم يكن للصحيح كثير مزية توجب له التميز باصطلاح أو غيره. فلما اندرست تلك الآثار ، واستقلت الأسانيد بالأخبار اضطر المتأخرون الى تمييز الخالي من الريب ، وتعيين البعيد عن الشك ،


(19)
فاصطلحوا على ما قدمنا بيانه الخ » (1). وقريب منه كلام الشيخ البهائي في كتابه ( مشرق الشمسين ) (2).
    وثانياً : أن القدماء وإن استفاضت عندهم تلك القرائن ، إلا أنهم لم يغفلوا عن حال الراوي وصفاته ، وكلماتهم صريحة في ذلك ، فلم تنحصر الحجة من الأخبار لديهم بما احتف بالقرائن المفيدة للقطع بصدوره كما ادعاه الاخباريون ، ووافقهم عليه بعض الأصوليين معتذراً عن حدوث التنويع بما عرفت ، بل الحجة عندهم على قسمين.

    الحجة من الأخبار لدى القدماء
    الأول : الأخبار المحفوفة بتلك القرائن. ولأجله صحح الكليني والصدوق رحمهما الله جميع الأخبار التي في كتابيهما ( الكافي والفقيه ) ، وإن كان فيها الضعاف بلحاظ السند ، قال الكليني في مقدمة كتابه : « .. ويأخذ منه من يريد علم الدين ، والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام الخ ». وقال بعد روايات ذكرها في ميراث ابن الأخ : « هذا قد روي ، وهي أخبار صحيحة » (3) ، وقال الصدوق في مقدمة كتابه : « بل قصدت الى ايراد ما أفتي وأحكم بصحته ، وأعتقد فيه انه حجة فيما بيني وبين ربي » ، ولذا قال الفيض الكاشاني : « وقد جرى صاحبا كتابي ( الكافي والفقيه ) على متعارف المتقدمين في اطلاق الصحيح على ما يركن اليه ، ويعتمد عليه فحكما بصحة جميع ما أورداه في كتابيهما من الأحاديث ، وإن لم يكن كثير منه صحيحاً على مصطلح المتأخرين » (4).
1 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 13.
2 ـ الحدائق ج 1 ص 15.
3 ـ الكافي ج 7 ص 115.
4 ـ الوافي ج 1 ص 11.


(20)
    الثاني الأخبار التي رواها الموثوقون في النقل الممدوحون في السيرة ، ولأجله شرعوا في الجرح والتعديل تمييزاً للأخبار الضعيفة السند عن غيرها وقد ألفوا مجموعة كبيرة من الكتب في التراجم وبيان أحوال الرواة غير الأصول الرجالية المعروفة الآتية الذكر ، فألف البرقي ـ أحمد بن محمد بن خالد ـ المتوفى سنة 274 أو 280 هجري كتابه المعروف ب‍‌ ( رجال البرقي ) (1) المطبوع أخيراً منضماً الى ( رجال ابن داود ). وكتب ابن عقدة ـ أحمد بن محمد بن سعيد ـ المتوفى سنة 333 هجري عدة كتب في الرواة عن أهل البيت عليهم السلام منها ( كتاب الرجال ) الذي جمع فيه الراوين عن الإمام الصادق (2) وهم أربعة آلاف رجل ، وأخرج لكل رجل الحديث الذي رواه (3) وألف الصدوق المتوفى سنة 381 هجري كتابه الرجالي الكبير المسمى ب‍‌ ( المصابيح ) المشتمل على خمسة عشر مصباحاً ذكر فيها الراوين عن النبي (ص) من الرجال والنساء ، والراوين عن الزهراء وعن الأئمة المعصومين (ع) ، وذكر في المصباح الاخير الرجال الذين خرجت اليهم توقيعات من الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه (4).
    وجروا على هذا النهج حين العمل بالروايات ، فاعتبروا صفات الراوي ولذا قال الصدوق في مقدمة كتابه ( المقنع ) : « وحذفت الاسناد منه ، لئلا يثقل حمله ، ولا يصعب حفظه ، ولا يمله قاريه ، اذا كان ما أبينه فيه في الكتب الأصولية موجوداً مبيناً على المشائخ العلماء الفقهاء الثقات رحمهم الله الخ » ، وقال في كتابه ( الفقيه ) (5) : « وأما خبر صلاة يوم غدير خم ، والثواب المذكور فيه لمن صامه ، فان شيخنا محمد بن الحسن
1 ـ رجال النجاشي ص 55 ـ 69 وفهرست الشيخ الطوسي ص 21 ـ 28.
2 ـ رجال النجاشي ص 55 ـ 69 وفهرست الشيخ الطوسي ص 21 ـ 28.
3 ـ خلاصة الرجال للعلامة ص 98.
4 ـ رجال النجاشي ص 377.
5 ـ انظر ج 2 ص 55.


(21)
ـ رضي الله عنه ـ كان لا يصححه ، ويقول : إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني وكان غير ثقة ، وكل ما لم يصححه ... من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح ».
    وجاء في مقدمة كتاب ( كامل الزيارات ) لابن قولويه « لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته ، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم ». ومثله ورد في مقدمة كتاب ( مزار محمد بن المشهدي ).
    وقال الشيخ الطوسي عند استدلاله على حجية خبر الواحد الذي لا يطعن في روايته : « ومما يدل أيضاً على صحة ما ذهبنا اليه أنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، ووثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء ، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذموا المذموم ، وقالوا : فلان متّهم في حديثه وفلان كذاب وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي. وفلان فطحي وغير ذلك من الطعون التي ذكروها ، وصنفوا في ذلك الكتب ، واستثنونا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم ، حتى أن واحداً منهم اذا انكر حديثاً نظر في اسناده وضعفه بروايته. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم. فلولا ان العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز. لما كان بينه وبين غيره فرق ، وكان يكون خبره مطرحاً مثل خبر غيره ، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق ، وترجيح الأخبار بعضها على بعض ، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترناه (1).
1 ـ عدة الأصول ص 58.

(22)
    وهذا البيان من الشيخ الطوسي صريح في أن التوثيق والتضعيف والمدح والذم لرواة الأحاديث. كان معروفاً لدى القدماء ومعمولا به عندهم فكانوا يلحظون رجال سند الحديث حين العمل به. وعلى ذلك جرى السيد ابن طاووس ، فنقح ما أسسوه باطلاق لفظ الصحيح على الامامي (1) الموثق ولفظ الحسن على الامامي الممدوح ، وخص لفظ الموثق بغير الامامي. اذا وثق ، ولفظ الضعيف بغير الثلاثة تمييزاً لرجال الحديث بعضهم عن بعض. وبالطببع تتصف الأحاديث نفسها بهذه الأوصاف تبعاً لأوصاف رواتها. ولا ضير في ذلك.
    فلم يحدث السيد ابن طاووس شيئاً يستحق ان تثار الضجة من أجله وإنما جرى على سنة القدماء في شأن تمحيص الرواة ، وعمل بالأدلة القائمة على حجية كل خبر اعتبر راويه لتوثيق. او مدح.
    ولعل كثيراً من القائلين بحدوث التنويع. يعنون به ما ذكرناه من تجديده وتنقيحه من قبل السيد ابن طاووس ، لكن هذا ليس له تلك الأهمية ، ولا يناسب مزيد اعتناء الاخباريين في توهينه.
    فالقدماء والمتأخرون متفقون على انقسام الخبر بلحاظ رجال سنده الى الحجة ، وغير الحجة ، وانما البحث في تعيين مصاديقهما. كما أنهم متفقون على العمل بالخبر الذي احتف بقرينة أوجبت حصول القطع بصدوره عن المعصوم (ع) ، وان كان ضعيف السند. ولذا عمل كثير من المتأخرين بأخبار الرواة الذين ادعى الكشي الاجماع على ( تصحيح ما يصح عنهم ). ولم ينظروا الى حال الواسطة بينهم وبين المعصوم (ع) ، بناء على اقتران أحاديثهم بما يوجب الوثوق بصدورها عنه (ع). كما اشتهر بين المتأخرين أن عمل قدماء الفقهاء بخبر ضعيف يوجب اعتباره. فيكون عملهم بمنزلة
1 ـ وهو المعتقد بامامة الأئمة الاثني عشر فقط من أهل البيت (ع).

(23)
القرينة المصححة للخبر.
    وقد اعترف الفيض الكاشاني بذلك ، وقال ، « وعلى هذا جرى العلامة والشهيد في مواضع من كتبهما ، مع أنهما الأصل في الاصطلاح الجديد الخ » (1).
    غايته أن تلك القرائن متوفرة لدى القدماء ، ونادرة لدى المتأخرين وسبق الاشارة اليه ، ولذا يقول الشيخ حسن بن الشهيد الثاني : « وغير خافٍ انه لم يبق لنا سبيل الى الاطلاع على الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظوا بالعين ، وأصبح حظنا الأثر ... ولو لم يكن الا انقطاع طريق الرواية عنا من غير جهة الاجازة التي هي أدنى مراتبها لكفى بها سبباً لإباء الدراية على طالبها » (2).
    وخلاصة البحث أن حجية الخبر تثبت بأحد امرين ، إما : سلامة سنده من الضعف ، وإما : احتفافه بقرينة الصحة ، وقد عمل القدماء والمتأخرون بهذين القسمين معاً ، وذكرهما الشيخ الطوسي بقوله : « إن خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالامامة ، وكان ذلك مروياً عن النبي (ص) ، او عن احد من الأئمة (ع) ، وكان ممن لا يطعن في روايته ، ويكون سديداً في نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر ـ لانه إان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجباً للعلم ـ ... جاز العمل به. والذي يدل على ذلك اجماع الفرقة المحقة ، فاني وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ، ودونوها في أصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه الخ » (3).
1 ـ الوافي ج 1 ص 11.
2 ـ منتقى الجان ج 1 ص 3.
3 ـ عدة الأصول ص 51.


(24)
    وحيث عرفت صحة تنويع الحديث ، فقد عرفوا كل نوع بما يميزه عن الآخر.

    تعريف أنواع الحديث
    1 ـ فالصحيح : « مااتصل سنده الى المعصوم (ع) بنقل الإمامي العدل عن مثله في جميع الطبقات.
    2 ـ والموثق : « ما دخل في طريقه من نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته ، ولم يشتمل باقيه على ضعف ».
    3 ـ والحسن : ما اتصل سنده الى المعصوم (ع) بامامي ممدوح من غير نص على عدالته ، مع تحقق ذلك في جميع مراتبه أو في بعضها ، مع كون الباقي من رجال الصحيح.
    4 ـ والضعيف « مالا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدمة ، بأن يشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه ، أو مجهول الحال ».
    ذكر الشهيد الثاني هذه التعاريف في ( درايته ) (1). فاشترط في الخبر الموثق أن لا يشتمل باقي طريقه على ضعف فقط. ومقتضاه عدم المانع من اشتماله على راوي حسن. كما اشترط في الخبر الحسن أن يكون جميع رواته إماميين ممدوحين ، او بعضهم مع كون الباقي من الصحاح ، ومقتضاه أنه لو كان فيهم موثق ألحق الخبر به.
    وهذا إنما يتم بناء على رأي الشهيد في أن الموثق أخس من الحسن والخبر يتبع أخس ما فيه من الصفات. أما بناء على ما اشتهر من كون الحسن أخس من الموثق ينقلب الاتصاف في محل البحث ، حيث يتصف
1 ـ الدراية ص 19 ، وما بعدها.

(25)
الخبر بالحسن لو عرض في طريقه راوي حسن وإن كان باقي رواته ثقاتاً فضلاً عن الصحاح ، لقاعدة تبعية الخبر لاخس صفاته. وعليه فلابد أن يضاف الى تعريف الموثق : عدم اشتمال طريقه على راوي حسن ، ويكتفي في تعريف الحسن بكون الراوي إمامياً ممدوحاً ، وعدم اشتمال باقي السند على ضعف. ولذا قال الشيخ الأصبهاني في ( الفصول ) (1) : « ولو تركب من القسمين الأخيرين [ أي الحسن والموثق ] ولو بمشاركة القسم الأول [ أي الصحيح ] ففي إلحاقه بالحسن أو الموثق قولان مبنيان على الخلاف في تعيين المرجوح منهما ، لأن حال السند تتبع لحال أخس رجاله ».
    وقد أورد الشيخ حسن بن الشهيد الثاني على والده : بأنه لا حاجة الى قيد « الإمامي » في تعريف الخبر الصحيح ، فان أخذ قيد العدل مغنٍ عنه ، لعدم اتصاف فاسد المذهب بالعدالة حقيقة (2).
    لكن الحق صحبة هذا القيد حيث حكي عن جماعة القول : بأن العدالة عبارة عن الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، على ما سيأتي بيانه عند البحث عن اختلاف مباني الفقهاء في العمل بالأخبار ، وعليه فالتقييد بكون الراوي عدلاً لا يغني عن التقييد بكونه إمامياً. نعم بناء على اعتبار الايمان في العدالة كما هو المشهور يكون قيد « الإمامي » لغواً ، لكن وجود القول الاول يكفي في صحة التقييد به.

    سلامة الخبر من العلة والشذوذ
    ثمّ إن الشهيد الثاني نقل عن العامة : أنهم اعتبروا في صحة الخبر
1 ـ انظر مبحث تقسيم الخبر الى أقسامه الاربعة.
2 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 5.


(26)
سلامته من الشذوذ والعلة.
    وفسّر الشذوذ : بمخالفة الخبر لما رواه الناس. وفسّر العلة : بما يكون في الخبر « من أسباب خفيّة قادحة يستخرجها الماهر في الفن (1).
    وعقبّه ولده بقوله : « كالارسال فيما ظاهره اتصال ، ولا ينتهي المعرفة بها الى حد القطع ، بل تكون مستفادة من قرائن يغلب معها الظن ، أو يوجب التردد ، والشك » (2).
    ثمّ قال الشهيد : « وأصحابنا لم يعتبروا في حد الصحيح ذلك. والخلاف في مجرد الاصطلاح ، وإلا فقد يقبلون [ أي العامة ] الخبر الشاذ والمعلل ، ونحن قد لا نقبلهما ، وإن دخلا في الصحيح بحسب العوارض » (3).
    وقوّى ولد الشهيد اشتراط سلامة الخبر من العلة ، فقال : « وأما عدم منافاة العلة فموضع تأمل ، من حيث أن الطريق الى استفادة الاتصال ونحوه من أحوال الأسانيد ، قد انحصر عندنا بعد انقطاع طريق الرواية من جهة السماع ، والقراءة في القرائن الحالية الدالة على صحة ما في الكتب ولو بالظن ولا شك أن فرض غلبة الظن بوجود الخلل ، او تساوي احتمالي وجوده وعدمه ، ينافي ذلك ، وحينئذ يقوى اعتبار انتفاء العلة في مفهوم الصحة الخ » (4).
    ومراده بتساوي احتمالي وجود الخلل وعدمه هو الشك في وجوده ، فلم يترجح جانب عدمه ، ليحصل الظن بالعدم ، وتثبت الصحة ولو ظناً. ولذا صرح ب‍‌ « أن المناسب في تعريف الصحيح أن يقال : هو متصل السند بلا علة الى المعصوم (ع) برواية العدل الضابط عن مثله في جميع المراتب » (5).
1 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 20.
2 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 6.
3 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 20.
4 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 8.
5 ـ منتقى الجمان ج 1 ص 11.


(27)
    ونبّه الشهيد الثاني على أنه ينبغي أن يزاد الى تعريف الحسن كون المدح مقبولاً ، فيقال في تعريفه : « ما اتصل سنده بامامي ممدوح مدحاً مقبولاً ، او غير معارض بذم ، ونحو ذلك » (1). إذ عند عدم قبول المدح يكون وجوده كعدمه ، وعند معارضته بالذم يتساقطان. ولذا كان المناسب العطف بالواو ، فيقول : مدحاً مقبولاً ، وغير معارض بذم.
    ولا يخفى أن اعتبار هذه الزيادة لا تختص بتعريف الحسن ، بل تجري في تعريف الصحيح ، والموثق أيضاً ، حيث يعتبر فيهما أن يكون التوثيق مقبولاً وغير معارض بذم. فلا وجه لتخصيص الحسن به ، كما فعله الشهيد.

    الحجة من هذه الأنواع
    وبعد ثبوت صحة تنويع الحديث ، وتعريف كل نوع بما يميّزه عن الآخر ، بحث عن الحجة من تلك الانواع.
    فالصحيح منها حجة بلا خلاف بين القائلين بحجية خبر الواحد ، وهو القدر المتيقن ارادته من دليل الحجية ، بشرط أن لا يكون شاذاً ، او معارضاً بغيره من الأخبار المعتبرة ، حيث يطلب المرجح عند التعارض وربما عمل بالشاذ كما اتفق للشيخين في بعض الموارد (2).
    وأما الموثق والحسن ، فالمشهور حجيتهما. وخالف فيها جماعة ، فاشترطوا في اعتبار خبر الواحد أن يكون جميع رواته اماميين عدولاً ، ولذا قال الشهيد الثاني : « واختلفوا في العمل بالحسن. فمنهم من عمل به مطلقاً كالصحيح ، وهو الشيخ على ما يظهر من عمله ، وكل من اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام ، ولم يشترط ظهورها. ومنهم من رده مطلقاً ،
1 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 24.
2 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 25 ـ 26.


(28)
وهم الأكثرون ، حيث اشترطوا في قبول الرواية الايمان والعدالة ، كما قطع به العلامة في كتبه الاصولية وغيره ... وكذا اختلفوا في العمل بالموثق نحو اختلافهم في الحسن. فقبله قوم مطلقاً. ورده آخرون وفصّل ثالث بالشهرة وعدمها الخ » (1).
    والحق حجيتهما معاً ، لقيام السيرة العقلائية على قبول كل خبر كان المخبر به موثوقاً به في نقله ، او حسن الظاهر ممدوحاً ، ولم يثبت ردع عنها من قبل الشرع. وسبق (2) نقل الشيخ الطوسي اعتبار الطائفة للمدوح وللموثوق به من الرواة ، واهتمامها بأمر المدح والذم. ودلت الروايات العديدة على اعتبار خبر الثقة.
    فروى عبد العزيز بن المهتدي ، والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرضا (ع) قال : « لا أكاد أصل اليك أسألك عن كل ما أحتاج اليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج اليه من معالم ديني ؟ فقال (ع) : نعم » (3) فيكشف هذا السؤال عن أن
1 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 26.
2 ـ انظر ص 21.
3 ـ الوسائل ـ ح 34 ـ ب‍‌ 11 ـ صفات القاضي ـ رواه عن الكشي في رجاله ، عن محمد بن مسعود ، وهو العياشي ، عن محمد بن نصير ، عن محمد بن عيسى ، عن عبد العزيز بن المهتدي ، والحسن بن علي بن يقطين ، عن الرضا (ع). والرواية ضعيفة السند ، لان محمد بن نصير مشترك بين النميري الضعيف ، وبين الذي هو من أهل ( كش ) الثقة الجليل ، وكلاهما في طبقة واحدة ، ولم يعلم أن المراد هنا ايهما ، وذلك كافٍ في ضعف الرواية. على انهم ذكروا : أن الذي يروي عنه الكشي هو الثقة الذي من أهل ( كش ) ، والذي يروي عنه العياشي هو النميري الضعيف. والراوي عنه في هذه الرواية هو العياشي رواها عنه ، عن محمد بن عيسى وعين هذا السند ورد في روايتين ذكرا في ( جامع الرواة ) وجاء في التعليقة عليه : أن الذي يروي عنه العياشي هو الثقة لا النميري ولكن مراعاة الطبقة لا تأبى كونه النميري الخ. انظر ( جامع الرواة ج 2 ص 208 ).


(29)
حجية خبر الثقة مفروغ عنه لدى السائل ، وانما كان السؤال عن الصغرى وهي وثاقة يونس ، وقد أقرّه الإمام (ع) على ذلك. وروى أحمد بن اسحاق عن ابي الحسن (ع) ، قال : « سألته وقلت : من أعامل ، وعمن آخذ ، وقول من أقبل ؟ فقال (ع) : العمري ثقتي ... فانه الثقة المأمون قال : وسألت ابا محمد (ع) عن مثل ذلك فقال : العمري وابنه ثقتان ... فانهما الثقتان المأمونان » (1).
    وفي التوقيع الشريف الصادر عن الإمام المهدي (ع) « فانه لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا الخ » (2). وعن الحسين بن روح ـ رضوان الله عليه ـ : أن الحسن العسكري (ع) سئل عن كتب بني فضّال. فقال (ع) : « خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » (3).
1 ـ الوسائل ـ ح 4 ـ 5 ـ ب‍‌ 11 ـ صفات القاضي ـ رواه عن الكليني عن محمد بن عبد الله الحميري ، ومحمد بن يحيى جميعاً ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن اسحاق ، عن ابي الحسن (ع). والسند صحيح.
2 ـ الوسائل ح 41 ـ ب‍‌ 11 ـ صفات القاضي ، رواه عن الكشي ، عن علي بن محمد بن قتيبة المعروف بالقتيبي النيسابوري ، عن احمد بن ابراهيم المراغي قال : « ورد على القسم بن العلا ، وذكر توقيعاً شريفاً يقول فيه : « فانه لا عذر لاحد الخ ». وقد اختلفوا في اعتبار القتيبي والمراغي ، ولكن العلامة أدرجهما في القسم الاول من كتاب ( خلاصة الرجال ص 11 ـ 46 ) ، ووصف القتيبي بالفاضل كما ذكرهما ابن داود في القسم الاول من كتاب ( رجاله ص 23 ـ 250 ). وقال في المراغي : « ممدوح عظيم الشأن ».
3 ـ الوسائل ح 14 ـ ب‍‌ 11 ـ صفات القاضي ، رواه عن الشيخ الطوسي في كتاب ( الغيبة ) ، عن ابي الحسين بن تمام ، عن عبد الله الكوفي خادم الحسين بن روح ، عن الحسين بن روح. والسند ضعيف ، لعدم وثاقة ابي الحسن بن تمام ، وعبد الله الكوفي.


(30)
مع أنهم من الفطحية.
    واستدل الشيخ الأنصاري بهذا الحديث على لزوم الأخذ بما رواه بنو فضّال بلا حاجة الى النظر في حال رجال السند بعدهم (1).
    ونقل الشيخ الطوسي : أن الطائفة قد عملت بأخبار الفطحية ، والواقفه ، ونظائرهم إذا كان الراوي منهم موثوقاً به ، ولا يوجد في اخبارنا ما يخالف خبره ، ولم يعرف من الطائفة العمل على خلافه (2). فيكشف عن حجية خبر الموثق.
    وهنا أمران ينبغي التنبيه عليهما.

    حول مدح الراوي
    الأول : إن مدح الراوي لما كان موجباً لاعتباره ، والاخذ بحديثه ، كالتوثيق ، فلماذا خصّوه بالامامي ، ولم يتعدوا عنه ، وهّلاً كان المدح بمنزلة التوثيق في اعتبار الراوي ، وعدّ حديثه حسناً وإن لم يكن امامياً.
    ويمكن الجواب عنه بأن اعتبار الإمامي الممدوح من أجل ثبوت عدالته بالمدح ، لانها عبارة عن حسن الظاهر ـ المفسّر بعدم ظهور ما ينافي العدالة ـ المقرون بالمدح. وهذا مختص بالإمامي ، لعدم اتصاف غيره بالعدالة وإن مدح او وثق. فالمدح إذن بنفسه لا يوجب اعتبار الراوي ، وانما إمارة عدالته ، بخلاف التوثيق ، فانه موجب لاعتبار الموثق بنفسه وإن لم
1 ـ كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري ص 2.
2 ـ عدة الأصول ص 61.
قواعد الحديث ::: فهرس