رياض المسائل ـ الجزء الثاني ::: 91 ـ 105
(91)
    فأبواب المناقشات في هذا القول مفتوحة. كانفتاحها في القول بنجاسة عينها ولعابها كما عن المبسوط في موضعين منه (1) ، مدّعياً في أحدهما الإجماع. وهو غريب. ولا يبعد جعله أمارة لإرادته الخباثة من النجاسة لا المعنى المتعارف بين المتشرعة.
    ويقربه المحكي عن اقتصاده من أنّ غير الطير على ضربين : نجس العين ونجس الحكم ، فنجس العين هو الكلب والخنزير ، فإنّه نجس العين نجس السؤر نجس اللعاب ، وما عداه على ضربين : مأكول وغير مأكول ، فما ليس بمأكول كالسباع وغيرها من المسوخات مباح السؤر وهو نجس الحكم (2). انتهى.
    فيحتمل إرادته من النجاسة فيما مضى ما فسّرها به هنا. ويؤيده حكمه في الخلاف بجواز التمشط بالعاج واستعمال المداهن منه مدّعياً عليه الإجماع (3).
    وللصدوقين (4) ، والشيخين (5) في الثاني فنجّسوه ؛ للخبر : عن ذرق الدجاج تجوز فيه الصلاة ؟ فكتب : « لا » (6).
    وفيه ـ مع الضعف والإضمار وكونه مكاتبة محتملة لأجلها الحمل على التقية ـ : قصور الدلالة ، إلّا على تقدير الملازمة بين نفي جواز الصلاة معه والنجاسة. وهي منتفية ؛ لانتفائها في مواضع كثيرة. إلّا أن ينجبر بعدم القول بالفرق بينه وبينها هاهنا.
1 ـ المبسوط 2 : 166 ، وج 6 : 280.
2 ـ الاقتصاد : 254.
3 ـ الخلاف 1 : 67.
4 ـ الصدوق في المقنع : 5 ، ولم نعثر على من نقله عن والده بل اما نسبوه الى الصدوق خاصة ، اُنظر كشف اللثام 1 : 50. مفتاح الكرامة 1 : 153.
5 ـ المفيد في المقنعة : 71 ، الطوسي في المبسوط 1 : 36.
6 ـ التهذيب 1 : 266/782 ، الاستبصار 1 : 178/619 ، الوسائل 3 : 412 أبواب النجاسات ب 10 ح 3.


(92)
    و كيف كان : لا ريب في قصوره عن المقاومة لما مرّ من الأدلة بالضرورة ، فينبغي طرحه ، أو حمله على الجلّال ؛ لعدم خلاف في نجاسة ذرقه كما في التنقيح (1) ، بل عليها الإجماع في المختلف (2). ويؤيده عموم ما دلّ على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه مطلقاً ، كما مضى (3).
    ( و ) في نجاسة ( الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة اختلاف ) بين الطائفة : فبين حاكم بنجاسة الأربعة ، كما عن موضع من المبسوط وموضع من النهاية (4) ، مع حكمه بكراهة الرابع في الموضع الآخر من الأول (5) ، وكراهة الثالث في الموضع الآخر من الثاني (6) ، أو الأخيرين خاصة ، كما عن المراسم والمقنعة (7). أو الأوّلين كذلك ، كما عن الحلبيين (8). أو هما مع الرابع مكرهاً للثالث ، كما عن القاضي (9). وعن الغنية الإجماع على القول الثالث.
    ( والكراهية ) في الجميع ( أظهر ) وفاقاً لعامة من تأخر ، للاُصول والعمومات فيها أجمع.
    وخصوص النصوص في الأول الدالة على قبولها التذكية ، منها الصحيح : عن الصلاة في جلود الثعالب ، قال : « إن كانت ذكية فلا بأس » (10) ولو كان نجس العين لما قبل التذكية.
    والنصوص المستفيضة في الثالث ، منها الصحاح وغيرها ، فمن الاولى‏
1 ـ التنقيح الرائع 1 : 146.
2 ـ المختلف : 55.
3 ـ في ص 60.
4 ـ المبسوط 1 : 37 ، النهاية : 52.
5 ـ المبسوط 1 : 37.
6 ـ النهاية : 6.
7 ـ المراسم : 56 ، المقنعة : 70.
8 ـ ابو الصلاح في الكافي : 131 ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 551.
9 ـ اُنظر المهذَّب 1 : 51 ، 52.
10 ـ التهذيب 2 : 206/809 ، الاستبصار 1 : 382/1447 ، الوسائل 4 : 357 أبواب لباس المصلّي ب 7 ح 9.


(93)
الصحيح : عن الفأرة تقع في السمن والزيت ثمَّ تخرج منه حياً ، فقال : « لا بأس بأكله » (1).
    وفي الصحيح : « لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضأ منه » (2).
    ونحوه الخبر من الثاني المروي عن قرب الإسناد (3).
    وفي آخر منه : عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حياً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ ؟ قال : « يسكب منه ثلاث مرّات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثمَّ تشرب منه وتتوضأ منه ، غير الوزغ فإنه لا ينتفع بما وقع فيه » (4).
    وخصوص الصحيح في الرابع : عن الوزغ يقع في الماء فلا يموت فيه ، أ يتوضأ منه للصلاة ؟ قال « لا بأس » (5).
    والمراد بعدم الانتفاع بما وقع فيه في الخبر السابق ـ ونحوه الرضوي (6) ـ الكراهة ، أو المنع منه في مثل الشرب من جهة السّمّية لا النجاسة.
    ولا معارض لهذه الأدلة سوى المرسل في الأوّلين : هل يجوز أن يمسّ الثعلب والأرنب أو شيئاً من السباع حياً أو ميتاً ؟ قال : « لا يضره ولكن يغسل يده » (7).
1 ـ الكافي 6 : 261/4. التهذيب 9 : 86/362 ، الوسائل 24 : 197 أبواب الاطعمة المحرمة ب 45 ح 1.
2 ـ الفقيه 1 : 14/28 ، التهذيب 1 419/1323 ، الاستبصار 1 : 26/65 ، الوسائل 1 : 239 أبواب الاسأر ب 9 ح 2.
3 ـ قرب الإسناد : 150/542 ، الوسائل 1 : 241 أبواب الاسأر 9 ح 8.
4 ـ التهذيب 1 : 238/690 ، الاستبصار 1 : 41/113. ، الوسائل 1 : 240 أبواب الاسأر ب 9 ح 4.
5 ـ التهذيب 1 : 419/1326 ، الاستبصار 1 : 23/58 ، الوسائل 1 : 238 أبواب الاسأر ب 9 ح 1.
6 ـ فقه الرضا ( عليه السلام ) : 93 ، المستدرك 1 : 223 أبواب الاسأر ب 7 ح 2.
7 ـ الكافي 3 : 60/4 ، التهذيب 1 : 262/763 ، الوسائل 3 : 300 أبواب غسل المس ب 6 ح


(94)
    و هو ـ مع إرساله وعدم مكافأته لما مرّ ـ دالّ بظاهر إطلاقه على نجاسة السباع أيضا ، ومع ذلك شامل لحالتي الملاقاة برطوبة وبدونها جدّا ، ولا قائل بالإطلاقين قطعا.
    والنصوص في الثالث ، أجودها سندا ودلالة الصحيح : عن الفأرة الرطبة قد وقعت على الماء تمشي على الثياب ، أيصلّى فيها ؟ قال : « أغسل ما رأيت من أثرها ، وما لم تره فانضحه بالماء » (1).
    وهي ـ مع قصور سند أكثرها ودلالته ـ ضعيفة أجمع عن المكافأة لما مرّ من وجوه عديدة ، فلتحمل على الاستحباب. ومع ذلك محتملة للحمل على التقية ، لحكاية نجاسة الفأرة في المنتهى عن بعض العامة (2).
    وأما حكاية الإجماع المتقدمة عن الغنية فهي بمصير عامة المتأخرين إلى الطهارة موهونة ، ومع ذلك فغايتها أنها رواية صحيحة لا تعارض ـ كسابقتها ـ شيئا من الأدلة السابقة.
4.
1 ـ التهذيب 1 : 261/761 ، الوسائل 3 : 460 أبواب النجاسات ب 33 ح 2.
2 ـ المنتهى 1 : 165.


(95)
     ( أمّا أحكامها فعشرة )
    ( الأوّل )
     ( كل النجاسات يجب ) شرعاً ( إزالة قليلها وكثيرها عن الثوب والبدن ) للصلاة والطواف الواجبين ، وشرطاً لهما ، مطلقاً إجماعاً ، إلّا من الإسكافي في دون سعة الدرهم من النجاسات ـ عدا الحيض والمني ـ فلم يوجب الإزالة حاكماً بالطهارة (1). ويدفعه إطلاق المستفيضة الآمرة بغسل النجاسات (2) الشامل لما ذكره وغيره. كدفعها المحكي في السرائر عن بعض الأصحاب من نفي البأس عمّا يترشح على الثوب أو البدن من النجاسات مطلقاً (3) ، أو مقيداً بالبول خاصة عند الاستنجاء كما عن ميافارقيات السّيد (4). مضافا إلى اندفاعهما ولا سيّما الأخير بالخصوص بالصحيح وغيره : عن رجل يبول بالليل ، فيحسب أن البول أصابه ولا يستيقن ، فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ولا يتنشّف ؟ قال : « يغسل ما استبان أنه قد أصابه وينضح ما يشك فيه من جسده وثيابه ، ويتنشّف قبل أن يتوضأ » (5).
    وبالجملة : لا ريب في وجوب الإزالة مطلقاً ( عدا الدم فقد عفي عمّا دون الدرهم ) البغلي ( سعةً ) لا وزناً ( في الصلاة ) خاصة ، إجماعاً كما عن المعتبر والمنتهى ونهاية الإحكام والمختلف والتذكرة (6) ؛ للنصوص المستفيضة الآتية.
1 ـ نقله عنه في المختلف : 59.
2 ـ الوسائل 3 : 428 أبواب النجاسات ب 19.
3 ـ السرائر 1 : 180.
4 ـ رسائل الشريف المرتضى 1 : 288.
5 ـ التهذيب 1 : 421/1334 ، الوسائل 3 : 466 أبواب النجاسات ب 37 ح 2.
6 ـ المعتبر 1 : 429 ، المنتهى 1 : 172 ، نهاية الإحكام 1 : 285 ، المختلف : 60 ، التذكرة 1 : 8.


(96)
    و موردها العفو عن الثوب خاصة ، ولذا حكي الاقتصار عليه عن جماعة (1). ولكن المحكي عن المنتهى نسبة إلحاق البدن به إلى أصحابنا (2) ، مشعراً بالإجماع عليه ، فهو الحجّة إن تمَّ ، لا الاشتراك في العلّة وهي حصول المشقة في الإزالة ، فإنّها مستنبطة لا إشعار عليه في شي‏ء من المعتبرة.
    ولا الرواية : إني حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : « إن اجتمع منه قدر حمصة فاغسله وإلّا فلا » (3).
    لقصور سندها أوّلاً. ومخالفتها الإجماع ثانياً من حيث جعل المعيار قدر الحمصة ولا قائل به من الأصحاب إن اُريد به سعة ، وكذلك إن أريد به وزناً ، لزيادة سعته من سعة الدرهم لو اُشيع في البدن أو الثوب بكثير جداً ولا قائل به من الأصحاب أيضاً.
    إلّا أن يجاب عن القصور بالانجبار بالعمل ، والدلالة بقراءة الحمصة بالخمصة بالخاء المعجمة ، وهو (4) ما انخفض من راحة الكف ، كما سيأتي نقل تقدير الدرهم به سعة عن بعض الأجلة (5) ، لكنه يتوقف على القرينة على هذه النسخة وهي مفقودة.
    فإذاً المستند إنما هو حكاية الإجماع المستشعر بها عن عبارة العلّامة إن تمَّ ، وإلّا فمقتضى الأصل المستفاد من النصوص المعتبرة المستفيضة عدم العفو ووجوب الإزالة. لكن الظاهر تماميته ، فقد صرّح به المرتضى في الانتصار (6) ، ولم نر فيه مخالفاً ، وكيف كان فالاحتياط مطلوب فيها البتة.
1 ـ منهم الصدوق في الفقيه 1 : 42 ، المفيد في المقنعة : 69 ، الطوسي في المبسوط 1 : 35 ، سلأر في المراسم : 55.
2 ـ المنتهى 1 : 173.
3 ـ التهذيب 1 : 255/741 ، الاستبصار 1 : 176/613 ، الوسائل 3 : 430 أبواب النجاسات ب 20 ح 5.
4 ـ في « ش » و « ل » زيادة : سعة.
5 ـ وهو الحلي في السرائر 1 : 177.
6 ـ الانتصار : 13.


(97)
    ثمَّ إن المراد بالبغلي هو الكبير الوافي المضروب من درهم وثلث على المستفاد من أكثر الأصحاب ، بل حكي اتفاقهم عليه (1) ، وعليه نص الرضوي : « إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف ، والوافي ما يكون وزنه درهماً وثلثاً ، وما كان دون الدرهم الوافي فلا يجب عليك غسله ولا بأس بالصلاة فيه » إلى آخره (2).
    وربما ظهر من الحلّي مغايرة الوافي للبغلي (3).
    واختلفوا في سعته ، فبين من قدّره بما يقرب سعته من سعة أخمص الراحة وما انخفض منها كما عن الحلّي (4) ، وبسعة الدينار كما عن العماني (5) ، وبسعة العقد الأعلى من الإبهام كما عن الإسكافي (6) ، وحكي اعتبار سعة العقد الأعلى من السبابة ومن الوسطى (7).
    ولا دليل على شي‏ء منها وإن كان الأول منسوباً إلى الأشهر بين أصحابنا (8). وربما يستشهد للثاني بالخبر المروي عن مسائل علي بن جعفر : « وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله ولا تصلّ فيه حتى تغسله » (9) ولا حجة فيه من حيث السند ، مع إجمال سعة الدينار.
    والأوفق بالقواعد الأخذ بالأقل من المقادير ، وقوفاً فيما خالف الأصل المتقدم على المتيقن ، إلّا أن الأخير ضعيف جدّا تشهد القرائن الحالية بفساده قطعاً. بل وربما لا يبعد ترجيح الأول ؛ لإخبار الحلّي عن رؤيته كذلك وهو
1 ـ اُنظر الحدائق 5 : 331
2 ـ فقه الرضا ( عليه السلام ) : 95 ، المستدرك 2 : 565 أبواب النجاسات ب 15 ح 1.
3 ـ السرائر 1 : 177.
4 ـ السرائر 1 177.
5 ـ نقله عنه في المختلف : 60.
6 ـ حكاه عنه في المختلف : 59.
7 ـ كما حكاه الفاضل الهندي في كشف اللثام 1 : 52.
8 ـ كشف اللثام 1 : 52.
9 ـ مسائل علي بن جعفر : 173/305 ، الوسائل 3 : 432 أبواب النجاسات ب 20 ح 8.


(98)
حجة ، وليس من باب الشهادة ليعتبر فيها التعدد ، ومع ذلك فهو معتضد بالشهرة المحكية.
    واختلفوا أيضاً في وجه التسمية بالبغلي ، فعن المعتبر والتذكرة : إنه النسبة إلى قرية بالجامعين (1) ، قيل : فعلى هذا فالغين مفتوحة واللام مشددة (2).
    وفي الذكرى : إنه البغلي بإسكان الغين ، وهو منسوب إلى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية ووزنه ثمانية دوانيق ، قال : والبغلية كانت تسمى قبل الإسلام الكسروية ، فحدث لها هذا الاسم في الإسلام والوزن بحاله وجرت في المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق ، فلمّا كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق ، قال : وهذه التسمية ذكرها ابن دريد ، وحكى النسبة إلى قرية بالجامعين قولا ، واستدل له بأن هذه الدراهم لا بدّ من تقدمها على الإسلام ليحمل عليها الأخبار ، وأجاب بما أشار إليه آنفا من أنها متقدمة وإنما الحادث التسمية (3).
    وعن المهذّب البارع ردّ ما في الذكرى بأن المسموع من الشيوخ فتح الغين وتشديد اللام ، واتباع المشهور بين الفقهاء أولى من اتباع المنقول عن ابن دريد (4). ولا ثمرة في هذا الاختلاف.
    وربما يستشكل في حمل إطلاق النصوص على البغلي ، بناءً على ما يستفاد من الذكرى وغيره إطلاق الدرهم عليه وعلى غيره من الطبرية وغيرها وأنه ترك في زمن عبد الملك ، وهو متقدم على زمان صدور الروايات. وهو كذلك لو لا الفقه الرضوي المتقدم المعتضد بفتوى الأصحاب ، ورواية العامة ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه وآله (5) ، فتدبّر.
    ( ولم يعف عمّا زاد عنه ) إجماعاً ، للعمومات ، وصريح النصوص‏
1 ـ المعتبر 1 : 430 ، التذكرة 1 : 8.
2 ـ اُنظر المهذَّب البارع 1 : 239 ، والمدارك 2 : 314.
3 ـ الذكرى : 16.
4 ـ المهذَّب البارع 1 : 239 ، 240
5 ـ اُنظر سنن البيهقي 2 : 404.


(99)
الآتية.
     ( و ) في العفو ( عمّا بلغ قدر الدرهم ) حال كونه ( مجتمعاً روايتان ، أشهرهما ) وأظهرهما ( وجوب الإزالة ) ففي الصحيح : « يغسله ـ أي الدم ـ ولا يعيد صلاته ، إلّا أن يكون قدر الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة » (1).
    ونحوه المرسل لجميل : « لا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم » (2).
    ونحوهما الرضوي المتقدم (3).
    وهذه الأخبار ـ مع اعتبار أسانيدها واعتضادها بالعمومات والشهرة العظيمة ـ واضحة الدلالة.
    والروايات الثانية مع قصور أسانيدها ـ ولو بالإضافة إلى الروايات السابقة في بعضها ـ وقلّة عددها ، وندرة القائل بها ـ إذ لم ينقل إلّا عن الديلمي والمرتضى (4) ـ غير واضحة الدلالة ؛ فإنّ إحداها الخبر : « في الدم يكون في الثوب : « إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلّى فليعد صلاته » الحديث (5).
    وليس فيها الدلالة إلّا من جهة مفهوم العبارة الثانية ، وهو معارض بمفهوم العبارة الاوُلى ، والترجيح معها ـ دون نية ـ لاعتضادها بالمعاضدات السابقة.
    وما يقال في ترجيح العكس من أصالة البراءة غفلة واضحة ، كيف لا ؟! وهي بالعمومات الدالّة على وجوب الإزالة ، واستصحاب شغل الذمة اليقيني بالعبادة المستدعي للبراءة اليقينية مخصّصة ، وعلى تقدير بقائها فلا ريب في‏
1 ـ التهذيب 1 : 255/740 ، الاستبصار 1 : 176/611 ، الاستبصار 3 : 429 أبواب النحاسات ب 20 ح 1.
2 ـ التهذيب 1 : 256/742 ، الاستبصار 1 : 176/612 ، الوسائل 3 : 430 أبواب النجاسات ب 20 ح 4.
3 ـ في ص : 92.
4 ـ الديلمي في مراسم : 55 ، حكاه عن المرتضى في المدارك 2 : 312.
5 ـ التهذيب 1 : 255/739 ، الاستبصار 1 : 175/610 ، الوسائل 3 : 430 أبواب النجاسات ب 20 ح 2.


(100)
عدم مكافاتها لشي‏ء من المعاضدات المتقدمة ، فضلاً عن جميعها ، ولا سيّما الشهرة. وبالجملة : لا حجة في مثل هذه الرواية.
    نعم في الحسن : قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ، قال : « إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ ، وإن لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ، وما لم يزد على قدر الدرهم فليس بشي‏ء رأيته أو لم تره ، فإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه » (1).
    ودلالته غير صريحة ، وغايتها العموم القابل للتخصيص بما تقدم بحمل ما لم يزد وما ليس بأكثر من الدرهم على خصوص الناقص عنه.
    هذا مع أنّ هذا الخبر مروي في الكافي والفقيه ـ اللذين هما أضبط من التهذيب الذي روي فيه كما مرّ ـ بإسقاط الواو في « وما لم يزد » وزيادة : « وما كان أقل من ذلك فليس بشي‏ء » بعد قوله : « ما لم يزد على مقدار الدرهم » وسبيله حينئذ سبيل الرواية السابقة.
    ولعل ترك ذكر الواسطة بين الأقل والأكثر في الروايتين لأجل ندرتها وغلبة تحقق الأمرين ، فليس فيهما على هذا ذكر حكمها لو لم نقل بدلالتهما على عدم العفو عنها ، فالاستناد إليهما لا وجه له أصلاً.
     ( ولو كان ) مقدار الدرهم فصاعداً ( متفرقاً لم تجب إزالته ) مطلقاً وإن زاد الجميع عن مقدار الدرهم وتفاحش ، وفاقاً للطوسي والحلّي وابن سعيد (2) والتلخيص ، وفي الذكرى إنه المشهور (3) ؛ لظاهر المرسل الذي مرّ (4) ، إلّا أن في السند مع الإرسال علي بن حديد. ودعوى الجبر بالشهرة المحكية مدفوعة
1 ـ الكافي 3 : 59/3 ، الفقيه 1 : 161/758 ، التهذيب 1 : 254/736 ، الاستبصار 1 : 175/609 ، الوسائل 3 : 431. ابواب النجاسات ب 20 ح 6 بتفاوت يسير.
2 ـ الطوسي في المبسوط 1 : 36 ، الحلي في السرائر 1 : 178 ، ابن سعيد في الجامع للشرائع 23.
3 ـ الذكرى : 16.
4 ـ راجع ص : 94.


(101)
بالشهرة بين المتأخرين على الخلاف وهي وجدانية.
    نعم : الصحيح المتقدم (1) ظاهر فيه ، من حيث إن الظاهر كون « مجتمعاً » خبراً ليكون ، لا حالاً مطلقاً ، لا مقدّرة ولا محقّقة ، وإن تمَّ دلالته على الثاني أيضاً بالضرورة ، لظهور اتحاد زماني الاجتماع والكون بقدر الدرهم مع أن تغايرهما شرط في المقدّرة اتفاقاً ، ولامتناع المحقّقة في النقط المتفرقة المفروضة في الرواية ، فانحصر الأمر فيما مرّ وهو كون « مجتمعاً » خبراً. وعلى تقديره فالدلالة ظاهرة ، ومع ذلك معتضدة بالشهرة المحكية ، ولكن في بلوغها قوة المعارضة للعمومات ، واستصحاب اشتغال الذمة بالعبادة التوقيفية ، وإطلاقات أكثر ما مضى من المعتبرة نوع مناقشة.
    ( و ) لعله لذا ( قيل ) إنه ( تجب ) الإزالة حينئذ ( مطلقاً ) وإن كان غير متفاحش ، ولا ريب أنه أحوط لو لم يكن أقوى ، وفاقاً لسلّار وابني حمزة والبراج وأكثر المتأخرين (2).
    ( وقيل ) كما عن النهاية والمعتبر (3) ـ كما حكاه عنه بعض الأجلّة (4) ـ بوجوب الإزالة ( بشرط التفاحش ) ولا دليل على الشرط وتقديره بالمرة كما اعترف به جماعة (5) ، بل ربما يمكن المناقشة في نسبة هذا القول إلى النهاية ، فإنّ عبارتها غير صريحة فيه بل ولا ظاهرة على ما حكاه بعض الأجلّة (6).
    ( الثاني : )
    ( دم الحيض تجب إزالته وإن قلّ‏ ) ونقص عن سعة الدرهم اتفاقاً ، كما
1 ـ في ص : 94.
2 ـ سلأر في المراسم : 55 ، ابن حمزة في الوسيلة : 77 ، ابن البراج في المهذَّب 1 : 51 ؛ وانظر جامع المقاصد 1 : 172 ، والذكرى : 16 ، وروض الجنان : 166.
3 ـ النهاية : 51 ، المعتبر 1 : 431.
4 ـ اُنظر الحدائق 5 : 315.
5 ـ منهم صاحب المدارك 2 : 320 ، والفاصل الهندي في كشف الثام 1 : 53 ، وصاحب الحدائق 5 : 319.
6 ـ كشف اللثام 1 : 52.


(102)
حكاه بعض الأجلة (1) ، للأصل المستفاد من إطلاق المعتبرة الآمرة بغسله ، كالنبوي الآمر لأسماء : « حتيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ اغسليه بالماء » (2).
    والصادقي : عن الحائض ، قال : « تغسل ما أصاب ثوبها من الدم » (3).
    مضافاً إلى الأصل في العبادة واستصحاب شغل الذمة المحتاج إلى البراءة اليقينية في محل الشبهة.
    وللخبر المروي في الكافي وموضع من التهذيب ، مسنداً إلى الصادقين عليهما السلام : « لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره إلّا دم الحيض ، فإنّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه وإن لم يره سواء » (4).
    وقصور السند بالعمل والاُصول مجبور ، والسند ـ كما عرفت ـ على الراوي غير موقوف.
    ونحوه الرضوي : « إلّا أن يكون دم الحيض ، فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قلّ أو كثر » (5).
    وهذه الأدلة مع ما هي عليه من القوة سليمة عمّا يصلح للمعارضة ، سوى ما يتوهم من إطلاق أخبار العفو المتقدمة. وشموله للمقام محل مناقشة ؛ لعدم التبادر ، لاختصاص الخطابات فيها بالذكور دون النسوة ، واحتمالُ إصابة ثيابهم دم الحيض نادر بالضرورة ، ولذا لم يكن من الأفراد المتبادرة ، فلا يعترض بمثل ذلك شي‏ء من الأدلة السابقة.
1 ـ كشف اللثام 1 : 52.
2 ـ سنن الترمذي 1 : 91/138 ، سنن النسائي 1 : 155 وفيها بتفاوت يسير.
3 ـ الكافي 3 : 109/1 ، التهذيب 1 : 270/796 ، الاستبصار 1 : 186/652 ، الوسائل 3 : 449 أبواب النجاسات ب 28 ح 1.
4 ـ الكافي 3 : 405/3 ، التهذيب 1 : 257/745 ، الوسائل 3 : 432 أبواب النجاسات ب 21 ح 1.
5 ـ فقه الرضا ( عليه السلام ) : 95 ، المستدرك 2 : 566 أبواب النجاسات ب 16 ح 1.


(103)
    ( وألحق الشيخ به ) تبعاً للمرتضى (1) ، بل وغيره من القدماء (2) ، بل وربما يستفاد عن ظاهر الخلاف وصريح الغنية الإجماع عليه ، وعن الحلّي نفي الخلاف عنه (3) ( دم الاستحاضة والنفاس ) ولا بأس به ؛ للإجماعات المحكية ، والأصل المتقدم في العبادة ، مع عدم عموم في أخبار العفو كما مضت إليه الإشارة ، واعتضاد إلحاق الثاني بما يستفاد من المعتبرة من أنه دم الحيض المحتبس في أرحام النسوة وأنه حيض في الحقيقة.
    و عن ابن حمزة والقطب الراوندي والتحرير (4) : إلحاق دم الكلب والخنزير أيضاً.
    وعن العلّامة في جملة من كتبه : التعميم لدم مطلق نجس العين الشامل لهما وللكافر والميت (5). ولا دليل عليه سوى الأصل المتقدم السالم عن معارضة أخبار العفو لما مرّ. وهو الحجّة فيه ، لا الاستدلال بملاقاته البدن النجس الغير المعفو ؛ لابتنائه على تزايد نجاسة نجس العين وقد يمنع. ولو سلّم فلا دليل على عدم العفو في مثله سوى إطلاق الأخبار بالغسل وإعادة الصلاة عنه ، ولم ينصرف إليه ، لما مرّ. فتأمل.
    والعمدة في التعدية هو الإجماع ، وليس في المسألة ، مع أن المحكي عن الحلّي إنكار الإلحاق مدّعياً عليه الوفاق (6).
    فإذا : الأجود الاستدلال بما مرّ ، وبالخبر الموثق بابن بكير ـ المجمع على تصحيح رواياته ـ : « إن الصلاة في كلّ شي‏ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وكل شي‏ء منه فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره ممّا
1 ـ الشيخ في النهاية : 51 ، والمبسوط 1 : 35 ، والخلاف 1 : 476 ، المرتضى في الانتصار : 13.
2 ـ كسلّار في المراسم : 55 ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 550.
3 ـ السرائر 1 : 176.
4 ـ ابن حمزة في الوسيلة : 77 ، ونقله عن القطب الراوندي في المختلف : 59 ، التحرير 1 : 24.
5 ـ راجع نهاية الإحكام 1 : 285 ، والمختلف : 59 ، والتذكرة 1 : 8.
6 ـ السرائر 1 : 177.


(104)
أحلّ اللّه تعالى أكله » الخبر (1). فتدبّر.
    ( وعفي عن دم القروح والجروح الذي لا يرقأ ) ولا ينقطع ، في الثوب كان أم البدن ، قليلاً كان أو كثيراً ، إجماعاً ؛ للنصوص المستفيضة ، منها الصحيح : عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلّي ؟ فقال : « يصلّي وإن كانت الدماء تسيل » (2).
    ونحوه الصحيحان (3) والحسن (4) وغيرها.
    وظاهرها الدم السائل الغير المنقطع ، ولذا خصّ العفو به في العبارة كجماعة (5) ، نظراً إلى مخالفته الأصل المستفاد من إطلاق المعتبرة الآمرة بغسل الدم والحاكمة بإعادة الصلاة عنه ، فيقتصر فيها على مورد النص.
    وحينئذ ( فإذا رقأ ) لم يعف عنه مطلقاً بل ( اعتبر فيه سعة الدرهم ) جدّاً ، وهو أحوط وأولى. وإن كان ربما يقال : في تعيّنه نظر ؛ لعدم انحصار أخبار العفو عنه فيما مرّ ، بل هنا معتبرة أخر دالّة على العفو إلى أن يبرأ ، منها الخبر : « إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم » (6). وفيه نظر.
    والأولى الاستدلال بعموم الموثق : عن الدماميل تكون بالرجل فتنفجر
1 ـ الكافي 3 : 397/ 1 ، التهذيب 2 : 209/818 ، الاستبصار 1 : 383/1454 ، الوسائل 4 : 345 أبواب لباس المصلّي ب 2 ح 1.
2 ـ التهذيب 1 : 258/749 ، الاستبصار 1 : 177/615 ، الوسائل 3 : 434 أبواب النجاسات ب 22 ح 4.
3 ـ الأول :
    التهذيب 1 : 258/750 ، الوسائل 3 : 434 أبواب النجاسات ب 22 ح 5.
    الثاني :
    التهذيب 1 : 259/751 ، الوسائل 3 : 435 أبواب النجاسات ب 22 ح 6.
4 ـ الكافي 3 : 58/1 ، التهذيب 1 : 258/747 ، الاستبصار 1 : 177/616 ، الوسائل 3 : 433 أبواب النجاسات ب 22 ح 1.
5 ـ منهم سلّار في المراسم : 55 ، الشهيد في البيان : 94 ، العلامة في المنتهى 1 : 172.
5 ـ التهذيب 1 : 259/752 ، الوسائل 3 : 435 أبواب النجاسات ب 22 ح 7.


(105)
وهو في الصلاة ، قال : « يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة » (1).
    مضافاً إلى نص الموثق : دخلت على الباقر عليه السلام وهو يصلّي ، فقال لي قائدي : إنّ في ثوبه دماً ، فلمّا انصرف قلت له : إن قائدي أخبرني أن بثوبك دماً ، قال عليه السلام : « إن بي دماميل فلست أغسل ثوبي حتى تبرأ » (2).
    إلّا أن في السند قصوراً ولا جابر له يعتد به. ومع ذلك فليس في الدلالة صراحة فيحتمل البرء فيه الانقطاع ، كاحتماله من البرء في الخبر السابق. بل ولا يبعد قربه فيه ، لاشتراط السيلان في صدره ، وعطف الانقطاع عليه في ذيله. فلم يبق إلّا العموم في الموثق السابق ، وفي تخصيص الأصل والعمومات بمثله نظر ، سيّما مع كون العمل بهما في غير محل الوفاق هو الأشهر ، كما يظهر من كلمات القوم للأحقر.
    هذا مضافاً إلى ظهور التقييد بعدم الانقطاع والإشعار بكون العلّة في العفو هنا هو الحرج من روايات اُخر ، وقصور أسانيدها ـ لو كان ـ بالشهرة منجبر ، ففي المروي عن السرائر عن البزنطي عن مولانا الباقر عليه السلام : « إنّ صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلّي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة » (3).
    وفي الموثق : عن القرح والجرح فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه ، قال : « يصلّي ولا يغسل ثوبه ، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة » (4).
    فإذا : القول الأول حيث لا يلزم معه الحرج أظهر. وعليه فهل يناط الحكم بالانقطاع على الإطلاق كما هو ظاهر العبارة وجماعة ، أو يقيد بزمان يتسع لأداء
1 ـ التهذيب 1 : 349/1028 ، الوسائل 3 : 435 أبواب النجاسات ب 22 ح 8.
2 ـ الكافي 3 : 58/1 ، التهذيب 1 : 258/747 الاستبصار 1 : 177/616 ، الوسائل 3 : 433 أبواب النجاسات ب 22 ح 1.
3 ـ مستطرفات السرائر : 30/ 26.
4 ـ الكافي 3 : 58/2 ، التهذيب 1 : 258/748 ، الاستبصار 1 : 177/617 ، الوسائل 3 : 433 أبواب النجاسات ب 22 ح 2.
رياض المسائل ـ الجزء الثاني ::: فهرس