رياض المسائل ـ لجزء الرابع ::: 211 ـ 225
(211)
الخلاف ـ فلا خلاف له في المسألة وإن حكاه عنه جماعة مائلين إليه (1) ، للأصل ، وعموم أدلة صحة القدوة من غير إشارة في شي‏ء منها إلى هذا الشرط بالمرّة ، وضعف الرواية سنداً ومتناً.
    وهو كما ترى لوجوب الخروج عن الأولين ـ على تقدير جريانهما في المقام ـ بالرواية ، لأنها من الموثق وهو حجة ، وعلى تقدير الضعف فهو منجبر بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، بل الإجماع في الحقيقة كما عرفته.
    وأما المتن فلا ضعف فيه إلّا من حيث التهافت واختلاف النسخة ، وهما لا تعلّق لهما بالحكم الذي يتعلق بأصل المسألة ، وإنما هما في بيان البعد الممنوع عنه والمرخّص فيه ، وهو غير أصل المسألة ، وضرر هما إنما هو فيه لا فيها ، ولذا لم يستند الأكثر في بيان البعد إلى الرواية وإنما عوّلوا فيه على العرف والعادة.
    وقدّره في الدروس بما لا يتخطى كالفاضل في التذكرة (2). وقيل : بشبر ، بزعم استفادته من الرواية (3) ، وادّعى الفاضل الإجماع على اغتفاره في التذكرة (4).
    ويعضد الرواية في أصل المسألة نصوص أخر جملة منها صريحة (5) ، وهي وإن كان الظاهر أنها عامية إلّا أنها منجبرة بما عرفته.
    ( ويجوز ) الائتمام بالأعلى ( لو كانا على أرض منحدرة ) بلا خلاف فيه‏
1 ـ منهم : المحقق في المعتبر 2 : 419 ، والشهيد في الذكرى : 273 ، وصاحب المدارك 4 : 320.
2 ـ الدروس 1 : 1 : 220 ، التذكرة 1 : 174.
3 ـ الذكرى : 273.
4 ـ التذكرة 1 : 174.
5 ـ انظر سنن البيهقي 3 : 108 ، 109.


(212)
( ولا ) في أنه ( لو كان المأموم أعلى منه ) أي من الإمام مطلقاًً ( صحّ ) الائتمام ، لما في ذيل الموثقة المتقدمة من قوله عليه السلام : « وإن كان أرضاً مبسوطة وكان في موضع منها ارتفاع فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه والأرض مبسوطة إلّا أنهم في موضع منحدر فلا بأس » قال : وسئل : فإن قام الإمام أسفل من موضع من يصلّي خلفه ، قال : « لا بأس » وقال : « وإن كان رجل فوق بيت أو غير ذلك دكاناً كان أو غيره وكان الإمام يصلّي على الأرض أسفل منه جاز أن يصلّي خلفه ويقتدي بصلاته وإن كان أرفع منه بشي‏ء كثير ».
    وقد عرفت الجواب عمّا يرد عليها ، مع كون الحكم فيها هنا إجماعياً كما صرّح به في الأخير في المنتهى (1) ، ويظهر من غيره أيضاًً (2) ، معتضداً بالأصل والعمومات أيضاًً ، ولذا لم ينسبه الماتن هنا إلى رواية عمّار مع كونه مذكوراً فيها ، وإنما نسب الحكم سابقاً إليها إشعاراً بالتردد فيه المعلوم وجهه وجوابه ممّا قدّمنا ، ويحتمل كون المنسوب إليها في كلامه كون البعد الممنوع منه بما يعتدّ به كالدكان وشبهه لا المنع عن أصله ، ولكنه بعيد جدّاً ، هذا.
    وأما الخبر المنافي للحكم في الثاني (3) فمع ضعف سنده بالجهالة شاذّ محمول على الفضيلة.
    ( ولا ) يجوز أن ( يتباعد المأموم ) عن الإمام أو الصف الذي يليه ( بما يخرج ) به ( عن العادة ، إلّا مع اتصال الصفوف ).
    أما عدم جواز التباعد في غير صورة الاستثناء فهو مجمع عليه بيننا على‏
1 ـ المنتهى 1 : 366.
2 ـ كالذخيرة : 394.
3 ـ التهذيب 3 : 282 / 835 ، الوسائل 8 : 412 أبواب صلاة الجماعة ب 63 ح 3.


(213)
الظاهر ، المصرّح به في عبائر جماعة من أصحابنا (1).
    واما تحديده بما في العبارة فهو الأظهر الأشهر بين الطائفة.
    استناداً في عدم جواز البعد العرفي الخارج عن العادة بحيث يسمى خلافاً إلى الأصل ، مع عدم مصحّح للعبادة معه ، عدا إطلاق النصوص بتبعّد المأموم عن الإمام مثلاً وقيامه خلفه ، وهو غير معلوم الانصراف إلى البعد بهذه الكيفية.
    مع أنه لا قائل بالصحة معه منّا إلا ما ينقل من ظاهر المبسوط من حكمه بجواز التباعد ثلاثمائة ذراع (2). وعبارته المحكية غير صريحة في اختياره ذلك ، بل ولا ظاهرة ، بل أفتى أوّلاً بما في العبارة ثمَّ حكى القول المحكي عنه عن قوم ، والظاهر أن المراد بهم من العامة ، كما صرّح به في المختلف ، قال : إذ لا قول لعلمائنا في ذلك (3). وعبارته هذه ظاهرة في دعوى الإجماع على فساد هذا القول ، كما صرّح به الشيخ نفسه في الخلاف (4).
    وإذا انتفى هذا القول بالإجماع ظهر انعقاده على عدم جواز البعد الكثير مطلقاًً ، إذ لا قائل بجوازه دون الثلاثمائة ، إلّا ما ربما يتوهم من الخلاف ، من حيث تحديده البعد الممنوع عنه بما يمنع عن مشاهدة الإمام والاقتداء بأفعاله (5) ، الظاهر بحسب عموم المفهوم في جواز البعد بما لا يمنع عن المشاهدة مطلقاًً وإن كان خلافاً عادةً.
    وهو غير صريح ، بل ولا ظاهر في المخالفة ظهوراً يعتدّ به ، سيّما وأن‏
1 ـ منهم : العلامة في التذكرة 1 : 173 ، وصاحب المدارك 4 : 322 ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : 394.
2 ـ المبسوط 1 : 156.
3 ـ المختلف : 159.
4 ـ الخلاف 1 : 556.
5 ـ الخلاف 1 : 559.


(214)
غالب صور مفهوم العبارة هو البعد الذي لم يخرج به عن العادة ، فيحمل عليه ، ولعلّه لذا لم ينقل عنه في المختلف الخلاف في المسألة ، وإنما نقل في مقابلة المشهور القول بما لا يتخطى والثلاثمائة خاصة ، مشعراً بأنهما المخالفاًن في المسألة.
    وفي الصحة مع عدم البعد الكثير العرفي وإن كان بما لا يتخطى إلى الإطلاق الذي مضى ، المعتضد بالأصل والشهرة العظيمة بين أصحابنا بحيث كاد أن يكون إجماعاً ، بل على جواز البعد بنحو من الطريق والنهر الإجماع في الخلاف صريحاً (1) ، والغالب في البعد بهما كونه بما لا يتخطى.
    ومنه يظهر جواز الاستناد إلى الموثق الذي مضى في جواز ائتمام المرأة خلف الرجل وإن كان المسافة بينهما حائطاً أو طريقاً.
    خلافاً للحلبي (2) وابن زهرة (3) ، فمنعا عن البعد بما لا يتخطى ، للصحيح الذي مضى المصرّح بأنه لا صلاة لمن بينه وبين الإمام أو الصف المتقدم عليه هذا (4).
    وهو محمول على الفضيلة جمعاًً والتفاتاً إلى ما في ذيله من قوله :
    « وينبغي أن يكون الصفوف تامة متواصلة بعضها إلى بعض لا يكون بين الصفين ما لا يتخطى » وهو ظاهر في الاستحباب ، أظهر من ظهور : « لا صلاة » في الفساد ، سيّما مع درج تواصل الصفوف وتماميتها معه في حيّز : « ينبغي » فإنه بالنسبة إليه للاستحباب قطعاًً ، فكذا بالنسبة إلى مصحوبه المفسّر له ظاهراً.
1 ـ الخلاف 1 : 215.
2 ـ في « م » : الحلي.
3 ـ الحلبي في الكافي : 144 ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 560.
4 ـ راجع ص 207.


(215)
    وقريب منه رواية اُخرى مروية عن دعائم الإسلام ، إذ فيها : « وينبغي للصفوف أن تكون متواصلة ، ويكون بين كل صفين قدر مسقط جسد الإنسان إذا سجد » (1).
    والظاهر أن جملة : « ويكون » معطوفة على جملة « تكون » الاُولى ، للقرب ، وشهادة الصحيحة. ويمكن جعلها قرينة على كون العطف في هذه الرواية تفسيرياً.
    هذا مع أنّ فيها إجمالا من حيث عدم تعيينهما مبدأ ما يتخطى ، أ هو من المسجد أم الموقف ، فكما يحتمل الثاني يحتمل الأول أيضاًً ، وعليه فلا مخالفة للمختار فيهما ، فتأمل جدّاً.
    هذا مضافاًً إلى ما يرد على هذا القول ممّا ذكرناه في الشرح مستقصى.
    وبالجملة : فالمشهور أقوى وإن كان ما ذكراه أحوط وأولى.
    وهل اشتراط هذا الشرط مطلق كما عليه الشهيدان (2) ؟ أم مختص بابتداء الصلاة خاصة حتى لو فقد بخروج الصفوف المتخللة عن الاقتداء بنية الانفراد أو بلوغ الصلاة إلى الانتهاء لم تنفسخ القدوة كما عليه جماعة ؟ (3).
    وجهان ، والأصل ـ مع اختصاص ما دلّ على الاشتراط بحكم التبادر بالابتداء ـ مع الثاني.
    وعلى الأول فهل تنفسخ القدوة مطلقاًً فينوي الانفراد للضرورة ، أم إذا لم يمكن تجديدها بالتقرب إلى محل الصحة مع عدم حصول المنافي ؟
    وجهان ، والأحوط تجديدها ثمَّ الصلاة مرة أخرى.
1 ـ دعائم الاسلام 1 : 156 ، المستدرك 6 : 499 أبواب صلاة الجماعة ب 49 ح 1.
2 ـ الشهيد الأول في البيان : 235 ، الشهيد الثاني في روض الجنان : 370.
3 ـ منهم صاحب المدارك 4 : 323 ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : 394.


(216)
    واعلم : أن اغتفار البعد في صورة الاستثناء مجمع عليه ، بل ضروري جدّاً.
    وهل يجب أن لا يحرم البعيد من الصفوف بالصلاة حتى يحرم بها قبله من المتقدم من يزول معه التباعد كما يتوهم من بعض العبارات (1) ؟ أم لا بل يكون مستحباً حيث لا يستلزم فوات القدوة وإلّا فالعدم أولى ؟
    وجهان ، ولعلّ الثاني أقوى.
    ( وتكره القراءة ) من المأموم الغير المسبوق ( خلف الإمام ) المرضي عنده ( في ) الصلوات ( الإخفاتية على ) الأظهر ( الأشهر ) بين الطائفة على ما حكاه الماتن هنا ، وجماعة كالشهيدين في الدروس وروض الجنان (2) ، للنهي عنها في الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة (3).
    وإنما حملت على الكراهة جمعاًً بينها وبين ما دلّ على الجواز من صريح المعتبرة ، كالصحيح : عن الركعتين اللتين يصمت فيهما الإمام ، يقرأ فيهما بالحمد وهو إمام يقتدى به ؟ قال : « إن قرأت فلا بأس وإن سكتّ فلا بأس » (4).
    والخبر المنجبر ضعف سنده بعمل الأكثر : « إذا كنت خلف إمام تولّاه وتثق به فإنه يجزيك قراءته ، وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه ، فإذا جهر فأنصت » (5).
    وفي الصحيح : يقرأ الرجل في الاُولى والعصر خلف الإمام وهو لا يعلم أنه يقرأ ؟ فقال : « لا ينبغي له أن يقرأ ، يكله إلى الإمام » (6).
1 ـ راجع الحدائق 11 : 107.
2 ـ الدروس 1 : 222 ، وروض الجنان : 372.
3 ـ الوسائل 8 : 353 أبواب صلاة الجماعة ب 30.
4 ـ التهذيب 2 : 296 / 1192 ، الوسائل 8 : 358 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 13.
5 ـ التهذيب 3 : 33 / 120 ، الوسائل 8 : 359 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 15.
6 ـ التهذيب 3 : 33 / 119 ، الاستبصار 1 : 428 / 1654 ، الوسائل 8 : 357 أبواب صلاة الجماعة


(217)
    وهو ظاهر في الكراهة ، أظهر من دلالةً النهي على الحرمة ، سيّما مع شيوع استعماله في الكراهة ، مع قوة احتمال وروده هنا لدفع توهم وجوب القراءة كما زعمته جماعة من العامة (1) ، فلا يفيد سوى إباحة الترك ، لا الحرمة ، بل ولا الكراهة ، وهي في الجملة من خصائص الإمامية ، وادّعى إجماعهم عليها جماعة كالفاضلين في المعتبر والمنتهى والتذكرة (2).
    ولعلّه لهذا قيل بعدم الكراهة هنا (3). ولكنه ضعيف ، لما عرفت من ظهور الصحيحة الأخيرة فيها مضافاًً إلى التسامح فيها والاكتفاء في ثبوتها بفتوى فقيه واحد فضلاً عن الشهرة ، وباحتمال الحرمة ، كما عليها هنا من القدماء جماعة (4) لظاهر النواهي ، لكن قد عرفت جوابه.
    ولصريح الصحيح : « من قرأ خلف إمام يأتم به فمات بعث على غير الفطرة » (5).
    ويمكن حمله على الكراهة ـ وإن بعد غايته ـ جمعاًً بينه وبين ما مرّ ممّا هو أصرح دلالةً على الجواز منه على الحرمة. أو على ما عدا الإخفاتية. أو على ما إذا قرأ بقصد الوجوب كما عليه جماعة من العامة ، فيكون المقصود به ردّهم لا إثبات إطلاق الحرمة.
    وأما القول باستحباب القراءة لكن للحمد خاصة ـ كما عن الشيخ في‏
ب 31 ح 8.
1 ـ منهم اين قدامة في المغني 2 : 12 ، وابن رشد في بداية المجتهد 1 : 154.
2 ـ المعتبر 2 : 420 ، المنتهى 1 : 378 ، التذكرة 1 : 184.
3 ـ اللمعة ( الروضة البهية 1 ) : 381.
4 ـ منهم الشيخ في النهاية : 113 ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 560.
5 ـ الكافي 3 : 377 / 6 ، الفقيه 1 : 255 / 1155 ، التهذيب 3 : 269 / 770 ، الوسائل 8 : 356 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 4.


(218)
المبسوط والنهاية وجماعة (1) ـ فلم أقف له على دلالةً ، فهو أضعف الأقوال في المسألة.
    ( و ) كذا تكره ( في ) الصلوات ( الجهرية لو سمع ) القراءة ( ولو همهمة ) وهي الصوت الخفي من غير تفصيل الحروف ، بلا خلاف في أصل المرجوحية ، على الظاهر ، المصرّح به في كلام جماعة ، كالفاضل المقداد في التنقيح والشهيد الثاني في روض الجنان والروضة (2) ، ويشمله دعوى الفاضلين الإجماع على السقوط في كتبهما المتقدمة ، كنفي الحلّي الخلاف في السرائر عن ضمان الإمام للقراءة (3).
    وهل هي على الحرمة كما عليه من القدماء والمتأخرين جماعة (4) ؟ أم الكراهة كما عليه آخرون ، وادّعى عليها الشهيدان الشهرة في الدروس والروضة (5) ، بل في التنقيح نسب وجوب الإنصات المنافي للقراءة إلى ابن حمزة خاصة ، ثمَّ قال : والباقون سنّوه (6). ولعلّه ظاهر في دعوى الاتفاق ؟ إشكال :
    من الأمر بالإنصات في الآية الكريمة (7) ، وجملة من الصحاح ، منها : « وإن كنت خلف الإمام فلا تقر أنّ شيئاً في الاُوليين وأنصت لقراءته ، ولا تقرأ شيئاً في الأخيرتين ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول للمؤمنين : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني في‏
1 ـ المبسوط 1 : 158 ، النهاية : 113 ؛ وانظر المهذب 1 : 81 ، والجامع للشرائع : 100 ، ونهاية الاحكام 2 : 160.
2 ـ التنقيح الرائع 1 : 272 ، وروض الجنان : 372 ، والروضة 1 : 381.
3 ـ السرائر 1 : 284.
4 ـ منهم : الشهيد في النهاية : 113 ، والحلبي في الكافي : 144 ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 560 والعلامة في المختلف : 158 ، وصاحب المدارك 4 : 323.
5 ـ الدروس 1 : 222 ، الروضة 1 : 381.
6 ـ التنقيح 1 : 272.
7 ـ الأعراف : 204.


(219)
الفريضة ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) والأخيرتان تبع للأوليين » (1) ومنها : « إنّ الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة فإنما أمر بالجهر لينصت من خلفه ، فإن سمعت فأنصت ، وإن لم تسمع فاقرأ » (2).
    ومنها : « إذا كنت خلف إمام تأتم به فأنصت وسبّح » (3) ونحوها غيرها (4).
    مضافاً إلى النهي عنها في الصحاح المستفيضة عموما وخصوصا في المسألة (5) ، والأمر والنهي حقيقتان في الوجوب والحرمة.
    ومن احتمال كونهما هنا للاستحباب والكراهة كما يفهم من بعض المعتبرة ، كالموثق : عن الرجل يؤم الناس فيستمعون صوته ولا يفهمون ما يقول ، فقال : « إذا سمع صوته فهو يجزيه ، وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه » (6).
    فإنّ في التعبير بالإجزاء إشعارا بل ظهوراً في عدم المنع عن القراءة أصلاً ، أو عدم كونه للحرمة.
    هذا مضافاًً إلى الإجماع على ما حكاه بعض الأصحاب (7) على عدم وجوب الإنصات للقراءة على الإطلاق ، كما هو ظاهر الآية ، بل هو كذلك للاستحباب ، فتعليل الأمر بالإنصات في النصوص بالأمر به فيها قرينة عليه ،
1 ـ الفقيه 1 : 256 / 1160 ، الوسائل 8 : 355 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 3.
2 ـ الكافي 3 : 377 / 1 ، التهذيب 3 : 32 / 114 ، الاستبصار 1 : 427 / 1649 ، الوسائل 8 : 356 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 5.
3 ـ الكافي 3 : 377 / 3 ، التهذيب 3 : 32 / 116 ، الاستبصار 1 : 428 / 1651 ، الوسائل 8 : 357 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 6.
4 ـ تفسير العياشي 2 : 44 ، المستدرك 6 : 480 أبواب صلاة الجماعة ب 28 ح 1.
5 ـ الوسائل 8 : 355 أبواب صلاة الجماعة ب 31.
6 ـ التهذيب 3 : 34 / 123 ، الاستبصار 1 : 429 / 1656 ، الوسائل 8 : 358 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 10.
7 ـ منهم المحقق الأردبيلي في زبدة البيان : 130 ، والعلامة المجلسي في بحار الأنوار 85 : 21.


(220)
كما صرّح به الماتن (1).
    وفيه نظر لتصريح الصحيحة باختصاص الآية بالفريضة ، ولا إجماع على عدم الوجوب فيها والإجماع على الاستحباب في غيرها لا ينافي الوجوب فيها ، فهذا الاستدلال ضعيف.
    وأضعف منه الاستدلال بنحو الصحيح : عن الرجل يصلّي خلف إمام يقتدى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة فلا يسمع القراءة ، قال : « لا بأس إن صمت وإن قرأ » (2).
    فإنه أخصّ من المدّعى لدلالته على جواز القراءة في صورة خاصة ، وهي صورة عدم سماع القراءة ، وقد أطبق الأكثر بل الكل ـ عدا الحلّي (3) ـ على الجواز هنا وإن اختلفت عبائرهم في كونه على الوجوب كما هو ظاهر الماتن هنا لقوله ( ولو لم يسمع قرأ ) لظهور الأمر فيه.
    أو الاستحباب كما هو صريح جمع (4).
    أو الإباحة كما هو ظاهر القاضي وغيره (5) ، ويحتمله المتن وغيره ، حتى النصوص الآمرة به كالصحيح : « فإن سمعت فأنصت ، وإن لم تسمع فاقرأ » (6) لوروده في مقام توهم المنع ، فلا يفيد سوى الإباحة ، ويدفع الرجحان بالأصل والصحيحة المتقدمة المجيزة الظاهرة في تساوي الطرفين في الرجحان والمرجوحية.
1 ـ انظر المعتبر 2 : 421.
2 ـ التهذيب 3 : 34 / 122 ، الاستبصار 1 : 429 / 1657 ، الوسائل 8 : 358 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 11.
3 ـ السرائر 1 : 284.
4 ـ الماتن في المعتبر 2 : 421 ؛ وانظر المختلف : 158 ، والذكرى : 277.
5 ـ القاضي في المهذب 1 : 81 ؛ وانظر النهاية : 113.
6 ـ تقدم مصدره في ص : 219.


(221)
    هذا إن لم نقل بالمسامحة في أدلة السنن وإلّا فلا بأس بالاستحباب كما هو الأشهر الأقوى.
    وأما القول بالوجوب فضعيف غايته ، وأضعف منه القول بالحرمة.
    ثمَّ إن ظاهر إطلاق النصوص جواز القراءة في هذه الصورة مطلقاًً ولو مع سماع الهمهمة ، لصدق عدم سماع القراءة معه ، ونحوها إطلاق كثير من عبائر القدماء (1).
    خلافاً لصريح العبارة وجماعة (2) ، فقيّدوه بصورة عدم سماع الهمهمة ، للصحيح : « وإن كنت تسمع الهمهمة فلا تقرأ » (3).
    وهذا أقرب لوجوب حمل المطلق على المقيّد ، سيّما وأنّ محل المقيد أظهر أفراد المطلق ، فتأمل.
    واعلم : أنّ الأحوط للعبادة ترك القراءة فيما عدا هذه الصورة مطلقاًً ، سيّما في الصلاة الجهرية ، للإجماع على السقوط فتوى ودليلاً كما مضى ، مع سلامة الأدلة المانعة في الجهرية عمّا يصلح للمعارضة ، سوى الموثقة المتقدمة. وفي الاكتفاء بها للخروج عن ظواهر الكتاب والسنّة جرأة عظيمة ، سيّما مع قصور دلالتها عن الظهور المعتد به ، فضلا عن الصراحة التي هي المناط في الخروج عن ظواهر الأدلة.
1 ـ منهم : السيد المرتضى في جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى 3 ) : 40 ، وابن البراج في شرح الجمل : 120 ، والمهذب 1 : 81 ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 560.
2 ـ منهم : العلامة في القواعد 1 : 47 ، والشهيد في الدروس 1 : 222 ، صاحي الحدائق 11 : 126.
3 ـ الكافي 3 : 377 / 4 ، التهذيب 3 : 33 / 117 ، الاستبصار 1 : 428 / 1652 ، الوسائل 8 : 357 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 7.


(222)
    وهل السقوط يختص بالركعتين الاُوليين مطلقاًً ، كما عليه الصدوق والحلبي وابن زهرة (1) ، وجعله المرتضى أولى (2) ؟ أم يعمّهما والأخيرتين كذلك ، كما عليه الحلّي حتما وابن حمزة جوازاً (3) مع رجحان القراءة ثمَّ التسبيح ، أو الأول في الإخفاتية دون الجهرية كما عليه الفاضل في المختلف (4) ، أو بالعكس كما في الذخيرة (5) ؟
    أقوال ، أجودها أوّلها للأصل ، وعموم ما دلّ على وجوب وظيفتهما ، مع اختصاص ما دلّ على سقوط القراءة بحكم التبادر ـ الموجب عن تتبع النصوص والفتاوي ـ بالمتعينة منها لا مطلقاًً ، وليست إلّا في الاُوليين دون الأخيرتين فإنّ وظيفتهما القراءة المخيرة بينها وبين التسبيح مع أفضليته كما في بحثها قد مضى ، وليس المراد بالقراءة المحكوم بسقوطها ما يعمّ نحو التسبيح قطعاًً كما يستفاد من تتبع النصوص والفتاوي أيضاًً ولذا لا يسقط القنوت والأذكار ونحو هما.
    مضافاً إلى الصحيح : « إن كنت خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتى يفرغ وكان الرجل مأمونا على القرآن فلا تقرأ خلفه في الاُوليين » وقال : « يجزيك التسبيح في الأخيرتين » قلت : أيّ شي‏ء تقول أنت ؟ قال : « أقرأ فاتحة الكتاب » (6).
1 ـ الصدوق في المقنع : 36 ، الحلبي في الكافي : 144 ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 560.
2 ـ راجع جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى 3 ) : 41.
3 ـ الحلي في السرائر 1 : 284 ، نقله عن ابن زهرة في الحدائق 11 : 124.
4 ـ المختلف : 158.
5 ـ الذخيرة : 397.
6 ـ التهذيب 3 : 35 / 124 ، الوسائل 8 : 357 أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 9.


(223)
    وهو صريح في ردّ الحلّي وظاهر في المختار.
    وقريب منه الخبر : « إذا كنت إمام قوم فعليك أن تقرأ في الركعتين الاُوليين ، وعلى الذين خلفك أن يقولوا : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر وهم قيام ، فإذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك أن يقرؤوا فاتحة الكتاب وعلى الإمام التسبيح مثل ما يسبّح القوم في الأخيرتين » (1) فتأمل (2).
    لكنهما ـ مع ضعف سند ثانيهما ، ومخالفة ظاهره للإجماع ، وظهورهما في رجحان القراءة على التسبيح ولو في الجملة ، مع أنه خلاف ما قدّمنا تحقيقه في بحث القراءة ـ معارضان ببعض الصحاح المتقدمة الناهي عن القراءة في أخيرتي الجهرية ، معلّلا بأنهما تبع للأوليين اللتين يجب الإنصات فيهما.
    وتعليله النهي عن القراءة بالإنصات المأمور به في الآية ظاهر في عمومها للتسبيح والقراءة.
    وحكمه بالتبعية على الإطلاق ظاهر في عدم اختصاص النهي عن القراءة المزبورة بالجهرية وإن كانت مورده ، لأنه لا يخصّص عموم الجواب كما مرّ غير مرّة ، إلّا أن يقال : إنه لا عموم له ، وإنما غايته الإطلاق المحتمل للانصراف إلى المعهود.
    وعليه فيتقوى القول بالسقوط مطلقاًً ، أو في الجملة ، لكن الخروج به عن مقتضى الأصل والعمومات مشكل ، سيّما مع اعتضادهما بالخبرين المتقدمين ، وصحيحين آخرين :
1 ـ التهذيب 3 : 275 / 800 ، الوسائل 8 : 362 أبواب صلاة الجماعة ب 32 ح 6.
2 ـ ليست في « ش » و « م ».


(224)
    في أحدهما : عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين ، فقال : « الإمام يقرأ بفاتحة الكتاب ومن خلفه يسبّح » (1).
    وفي الثاني : « إني أكره للمؤمن أن يصلّي خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة فيقوم كأنه حمار » قال : قلت : يصنع ما ذا ؟ قال : « يسبّح » (2).
    وهي وإن كانت ظاهرة في الاُوليين من الإخفاتية إلّا أن قوله : « فيقوم كأنه حمار » ظاهر في كراهة السكوت مطلقاًً ، وإنما لم يكره في أوليي الجهرية كما يفهم منها لقيام الإنصات مقام القراءة فيها ، فكأنه غير ساكت أصلاً.
    والكراهة فيها يمكن أن يراد بها المعنى الأعم من الحرمة ومن المصطلح كما هو الأصل ، مع عدم ثبوت كونها حقيقة في الثاني في الشرع ، وعليه فيمكن إرادة المعنيين منها بدليل من خارج ، بالنسبة إلى الركعتين الاُوليين فالمصطلح كما صرّح به جمع ، وإلى الأخيرتين فالمنع عن السكوت كما يقتضيه العمومات والأصل. هذا مع أنه أحوط ، لندرة القول بتحتم السقوط هنا ، وإطباق من عدا القائل به على جواز التسبيح والقراءة مخيرا بينهما ، وإن اختلف في جواز السكوت أيضاًً أم لا ، وأفضلية التسبيح أو القراءة أو تساويهما.
    ويمكن الاستدلال على عدم تحتم السقوط هنا بفحوى الصحاح المستفيضة وغيرها المتقدمة الدالة على جواز القراءة بل استحبابها في أوليي الجهرية مع عدم سماع الهمهمة ، فلأن تجوز في أخيرتيها بطريق أولى ، ولعلّه لهذا لم يمنع في الذخيرة عن القراءة فيهما (3). وحيث ثبت جواز القراءة فيهما
1 ـ الكافي 3 : 319 / 1 ، التهذيب 2 : 294 / 1185 ، الوسائل 8 : 361 أبواب صلاة الجماعة ب 32 ح 5.
2 ـ الفقيه 1 : 256 / 1161 ، التهذيب 3 : 276 / 806 ، الوسائل 8 : 360 أبواب صلاة الجماعة ب 32 ح 1.
3 ـ الذخيرة : 397.


(225)
أو استحبابها ثبت جواز التسبيح أيضاًً لعدم القائل بالفرق من هذه الجهة بينهما.
    وبالجملة : الأحوط ، بل لعلّه المتعيّن عدم السقوط هنا مطلقاًً ، أما الجهرية فلما عرفته ، وكذا الإخفاتية ، مضافاًً إلى جواز القراءة في أولييها كما مضى فكذا في الأخيرتين منها ، بل بطريق أولى.
    ولا ينافيه الصحيحة المتقدمة الدالة على أن الأخيرتين تبع للأوليين أصلاً ، إمّا لاحتمال اختصاصها بالجهرية كما مضى ، أو من حيث حكمها بالتبعية ، ومقتضاها الجواز في أخيرتي الإخفاتية ، بناءً على ثبوته في أولييها كما عرفته لكن مع الكراهة.
    وينبغي القطع بعدمها فيهما ، لندرة القول بالمنع ، وقوة أدلة الوجوب ، فيكون مراعاة احتماله أولى من مراعاة الكراهة ، وعليه فيقيّد إطلاق التبعية في أصل جواز القراءة وعدمه من غير ملاحظة نحو وصف الكراهة ، فتأمل.
    وإنما قيّدنا الإمام بالمرضي والمأموم بغير المسبوق لوجوب القراءة على المسبوق فيما سبق به ، أو استحبابها ، على الاختلاف كما يأتي ، وعلى من هو خلف من لا يقتدى به وجوباً بلا خلاف يعرف كما في السرائر والمنتهى (1) ، لانتفاء القدوة ، وللمعتبرة ، منها : الصحيح : « إذا صلّيت خلف إمام لا يقتدى به فاقرأ خلفه ، سمعت قراءته أو لم تسمع » (2).
    ولا ينافيها المعتبرة الآمرة بالإنصات والاستماع لقراءته في الجهرية (3) لاحتمالها الحمل على حال التقية ، فحينئذ ينصت ويقرأ فيما بينه وبين نفسه‏
1 ـ السرائر 1 : 284 ، المنتهى 1 : 378.
2 ـ الكافي 3 : 373 / 4 ، التهذيب 3 : 35 / 125 ، الاستبصار 1 : 429 / 1658 ، الوسائل 8 : 366 أبواب صلاة الجماعة ب 33 ح 9.
3 ـ الوسائل 8 : 363 أبواب صلاة الجماعة ب 33.
رياض المسائل ـ الجزء الرابع ::: فهرس