رياض المسائل ـ لجزء الرابع ::: 361 ـ 375
(361)
    أما الأول : فلأنها بالإضافة إليه كالعامّ المخصّص حجة في الباقي.
    وأما الثاني : فلعدم منافاته الاستدلال باحتماليه ، لإمكانه بالأولوية على الاحتمال الأول ، والعموم أو الإطلاق على الثاني ، ونحن نقول به ، وفاقاً للمشهور بين المتأخرين وغيرهم ، ومنهم الماتن لقوله ( ولو أقام في بلده أو غير بلده ذلك ) أي مقدار عشرة أيام ( قصّر ) لصريح المرسلة المتقدمة المنجبرة هنا أيضاًً بالشهرة.
    وإطلاقها ـ كالعبارة والرواية الآتية ـ وإن اقتضى الاكتفاء في غير البلد بإقامة العشرة ولو من غير نية ، إلّا أن ظاهرهم تقييدها فيه بالنية ، بل ادّعى عليه الإجماع جماعة ، ومنهم شيخنا في روض الجنان (1) ، وخالي العلّامة المجلسي ـ رحمه اللّه ـ فيما نقله عنه خالي المعاصر ـ أدام اللّه ظلّه ـ وأيّده قائلا : إنه ربما يظهر ذلك ويظنّ به من اتّفاق فتاويهم (2).
    ثمَّ أيّد الحكم المزبور وإلحاق العشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوماً ـ كما فعله جماعة منهم الشهيدان (3) ـ بقوله : مع أنه ظهر ممّا مرّ أن العشرة إذا صارت منويّة تصير بمنزلة الحضور ، وإن لم تكن منويّة لا تصير كذلك إلّا بعد مضيّ ثلاثين يوماً ، وربما ظهر ممّا ذكرنا أن اعتبار هذه الإقامة للإخراج عن كثير السفر ، والعشرة الغير المنويّة سفر أيضاً.
    إلى أن قال ـ بعد نقل إلحاق العشرة بعد التردد ثلاثين يوماً عن الشهيد ـ : ولعلّه لعموم المنزلة التي ظهرت لك إذ بعد التردد ثلاثين يوماً يصير بمنزلة الوطن ، وإذا أقام في الوطن عشرة أيام صارت إقامته موجبة للقصر فكذا هنا ، ومقتضى عموم المنزلة عدم اعتبار قصد الإقامة في هذه العشرة ، ولذا أفتى به‏
1 ـ روض الجنان : 391.
2 ـ شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( مخطوط ).
3 ـ الشهيد الأول في الدروس 1 : 212 ، الشهيد الثاني في روض الجنان : 391.


(362)
كذلك.
    ثمَّ قال : وألحق بعض الأصحاب بإقامة العشرة إقامة ثلاثين يوماً متردّداً ، ولعلّه لكونه حينئذ حضرياً وبمنزلته لعموم المنزلة التي عرفته. وفيه : أن هذا لا يوجب انقطاع كثرة السفر ، إذ أقصى ما يقتضي أن يكون بمنزلة من هو في وطنه كما عرفت ، وبمجرد الكون في الوطن لا ينقطع الكثرة حتى يتمّ عشرة ، كما هو مقتضى الروايات ، بل ستعرف أن الخمسة لا تكفي للقصر في خصوص النهار فضلا أن تكون ملحقة بالعشرة ، فما ظنّك بما نقص عن الخمسة (1).
    انتهى كلامه الذي يتعلق بالمقام ، وإنما نقلناه بطوله لكثرة فوائده وجودة محصوله.
    وأشار بعموم المنزلة إلى ما قدّمناه في صدر مسألة القواطع الذي تضمنته جملة من المعتبرة (2).
    وبالجملة : لا ريب في المسألة بحمد اللّه تعالى ، سيّما بعد ما عرفت من دعوى جماعة كونها مقطوعاً بها بين الطائفة ، ( و ) إن ( قيل : ) إنّ ( هذا ) الحكم ( يختصّ بالمكاري ) والمراد به المعنى اللغوي ( فيدخل فيه الملّاح والأجير ) لندرة القائل به وشذوذه ، حتى اعترف جماعة بمجهوليته (3) ، وربما احتمل كونه الماتن بنفسه (4).
    ومع ذلك فلا وجه له غير اختصاص النصّ الوارد بالحكم به.
    ولا ضير فيه بعد ما عرفت من ظهور النصوص في كون المناط في التمام‏
1 ـ شرح المفاتيح للوحيد للبهبهاني ( مخطوط ).
2 ـ راجع ص 345.
3 ـ منهم : الفاضل المقداد في التنقيح الرائع 1 : 289 ، وابن فهد في المهذب البارع 1 : 488 ، وصاحب المدارك 4 : 454.
4 ـ انظر الذكرى : 260 ، روض الجنان : 391.


(363)
هو نفس اتّخاذ السفر عملاً وكثرته من غير خصوصية للمكاري ونحوه ، وإذا انقطع كثرة السفر التي هي المناط بإقامة العشرة في المكاري بمقتضى روايات المسألة انقطعت في غيره ، ولعلّه لذا اتّفقت الفتاوي بعدم الفرق بينهما ، مع تأيّده بالاعتبار ، فتأمل جدّاً.
    ثمَّ على المختار من وجوب القصر بعد إقامة العشرة فهل يمتدّ إلى السفرة الثالثة فلا يتم في الثانية ، أم إليها فيتم فيها ويختص وجوب القصر بالاُولى ؟ قولان.
    والثاني أقوى وفاقاً للحلّي وجماعة (1) اقتصاراً فيما خالف الأصل الدالّ على وجوب التمام على هؤلاء على المتيقن من النص والفتوى بلزوم القصر إذا أقام عشراً ، وليس إلّا السفرة الاُولى ، دون الثانية فما فوقها ، مضافاًً إلى استصحاب بقاء وجوب التمام الثابت له في منزله أو ما في حكمه الذي هو منتهى سفرته الاُولى إلى أن يثبت المزيل ، وليس ثابتاً.
    خلافاً للشهيد فالأول لزوال الاسم بالإقامة فيكون كالمبتدئ (2). وفيه نظر.
    ثمَّ إن هذا إذا أقام عشرة ( ولو أقام خمسة قيل ) والقائل الشيخ في المبسوط والنهاية والقاضي وابن حمزة (3) ( يقصّر صلاته نهاراً ويتمّ ليلاً ، ويصوم شهر رمضان ) تعويلاً ( على رواية ) عبد اللّه بن سنان المروية في الصحيح وغيره ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « المكاري إذا لم يستقر في منزله إلّا
1 ـ الحلي في السرائر 1 : 339 ؛ وانظر المهذّب البارع 1 : 488 ، والمدارك 4 : 453 ، والذخيرة : 410.
2 ـ الذكرى : 259.
3 ـ المبسوط 1 : 141 ، النهاية : 122 ، القاضي في المهذّب 1 : 106 ، ابن حمزة في الوسيلة : 108.


(364)
خمسة أيام أو أقل قصّر في سفره بالنهار وأتم بالليل وعليه صوم شهر رمضان ، وإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر قصّر في سفره وأفطر » (1).
    هكذا في الصحيح ، وكذا في غيره ، لكن بدون قوله : « وينصرف » إلى قوله : « أكثر » (2).
    خلافاً للحلّي (3) وعامة المتأخرين فيتم مطلقاًً ، وصرّح في السرائر بكونه إجماعاً.
    تمسكا بإطلاق النصوص المتضمنة لأن كثير السفر يجب عليه التمام (4).
    مضافاً إلى عموم ما دلّ على تلازم القصر والإفطار ثبوتا وعدما (5).
    والرواية متروكة الظاهر ، لتضمنها ثبوت الحكم في الأقل من الخمسة أيضاًً الصادق على نحو الثلاثة والأربعة ، ولم يقل به هؤلاء الجماعة ، كما لا يقولون بما تضمّنته أيضاًً في الطريق الصحيح من اعتبار إقامة العشرة في المنزل والمكان الذي يذهب إليه معاً ، الظاهر في عدم الاكتفاء بها في أحد هما.
    وشي‏ء منهما وإن لم يكن قادحاً في حجية الرواية من أصلها بعد صحة بعض طرقها ، لما مضى من كونها حينئذ كالعام المخصّص يكون في الباقي حجة ، سيّما مع إمكان الذب عنهما بنحو من التوجيه القريب كما ذكره الخال‏
1 ـ الفقيه 1 : 281 / 1278 ، الوسائل 8 : 489 أبواب صلاة المسافر ب 12 ح 5.
2 ـ التهذيب 3 : 216 / 531 ، الاستبصار 1 : 234 / 836 ، الوسائل 8 : 490 أبواب صلاة المسافر ب 12 ح 6.
3 ـ السرائر 1 : 341.
4 ـ الوسائل 8 : 484 أبواب صلاة المسافر ب 11.
5 ـ الوسائل 10 : 184 أبواب من يصح منه الصوم ب 4.


(365)
العلّامة أدام اللّه تعالى أيامه (1) ، إلّا أنهما قادحان في مقام المعارضة لنحو الأدلة المتقدمة الكثيرة المعتضدة بالشهرة العظيمة المتأخرة المتحققة ، بل مطلقاًً كما في (2) التذكرة (3) ، سيّما الصريح منها ، وهو الإجماع المنقول.
    وبالجملة : فهذا القول في غاية القوة وإن كان الاُولى مراعاة الاحتياط (4) في نحو المسألة ، خروجاً عن شبهة قول هؤلاء الجماعة وإن كان الظاهر ممّا ذكرنا ضعفه.
    وأولى منه ضعفاً ما يحكى عن الإسكافي من جعل الخمسة كالعشرة قاطعة لكثرة السفر مطلقاًً (5) ، لعدم دليل عليه مع ذلك » أصلاً.
    وما في الصحيحين (7) من أن المكاري والجمّال إذا جدّ بهما السير فليقصّرا (8) ، لإجمالهما ، وعدم وضوح المراد من جدّ السير فيهما.
    ولذا اختلف الأصحاب في تنزيلهما وحملهما على من يجعل المنزلين منزلا مع تخصيص التقصير بالطريق ، كما عليه الكليني والشيخ في التهذيب (9) ، استناداً إلى رواية مع ضعف سندها لا دلالةً لها على ما اعتبراه.
    أو على ما إذا أنشئا سفراً غير صنعتهما ، كما عليه الشهيد في الذكرى ،
1 ـ راجع شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( مخطوط ).
2 ـ في « م » زيادة : النهاية و. ( راجع نهاية الاحكام 2 : 179 ).
3 ـ التذكرة 1 : 191.
4 ـ بالجمع بين القصر واتمام نهاراً.منه رحمه الله.
5 ـ حكاه عنه في المختلف : 164.
6 ـ مع معارضته بالادلة المتقدمة كلها حتي التي استدل بها الجماعة.منه رحمه الله.
7 ـ عطف على : ما يُحكي.
8 ـ التهذيب 3 : 215 / 528 ، 529 ، الاستبصار 1 : 233 / 830 ، 831 ، الوسائل 8 : 490 أبواب صلاة المسافر ب 13 ح 1 ، 2.
9 ـ الكافي 3 : 437 ، التهذيب 3 : 215.


(366)
قال : ويكون المراد بجدّ السير أن يكون مسيرهما متصلاً كالحج والأسفار التي لا يصدق صنعته عليها (1).
    أو على أنهما إذا أقاما عشرة أيام قصّرا ، كما عليه الفاضل في المختلف (2).
    أو على ما إذا قصداً المسافة قبل تحقق الكثرة ، كما عليه في روض الجنان شيخنا (7).
    أو على ما يصدق عليه جدّ السير عرفاً ، وهو السير العنيف الذي يستعقب مشقة شديدة ، كما عليه جماعة من متأخري متأخرينا (4).
    ولعلّه الأقوى ، إلّا أني لم أجد بهما على هذا التأويل قائلاً صريحاً وإن احتمله بل قواه هؤلاء ، وبعضهم قوّى ما مرّ عن الذكرى أيضاًً (5). ولا وجه له ، بل هو كسائر التأويلات في البعد ـ عدا الأخير ـ إلّا أن يريد به تقوية أصل الحكم بوجوب القصر إذا أنشئا سفرا غير صنعتهما كما صرّح به جماعة (6).
    وهو أيضاًً مشكل ، لعدم دليل صالح عليه ، إلّا بعض التلويحات والإشعارات المستخرجة من جملة من المعتبرة المعلّلة لوجوب التمام على كثير السفر بأنه عمله أو أنّ بيته معه ، وبعض الصحاح الذي لم أفهم دلالته. وفي الاعتماد عليها بمجردها إشكال يصعب معه الخروج عن مقتضى الأدلة العامة ،
1 ـ الذكرى : 259.
2 ـ المختلف : 163.
3 ـ روض الجنان : 390.
4 ـ منهم : صاحب المدارك 4 : 456 ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : 410 ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع 1 : 24 ، وصاحب الحدائق 11 : 393.
5 ـ قرّيه صاحب المدارك 4 : 456.
6 ـ منهم : ابن فهد في المهذب البارع 1 : 488 ، والشهيد في الذكرى : 259 ، وصاحبا المدارك 4 : 456 ، والحدائق 11 : 394.


(367)
والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه في المسألة.
    ( الخامس : أن تتوارى ) عنه ( جدران البلد الذي يخرج منه ، أو يخفى ) عنه ( أذانه ) بلا خلاف فيه في الجملة ، إلّا من والد الصدوق (1) ، فلم يعتبر هذا الشرط بالكلية ، بل اكتفى بنفس الخروج من البلد ، للمرسل : « إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه » (2) ونحوه بعينه الرضوي (3).
    وفي معناهما الموثق : « أفطر إذا خرج من منزله » (4).
    وهو نادر ، بل على خلافه الإجماع في الخلاف (5) ، ومع ذلك فمستنده ـ مع قصور سنده جملة ، بل ضعف بعضها ـ غير صريحة الدلالة على المخالفة ، ككلامه ، لاحتماله التقييد بهذا الشرط ، ألا ترى إلى الرضوي مع أنه أطلق القصر فيما إذا خرج ـ كما مرّ ـ قيّده به في موضع آخر فقال : « وإن كان أكثر من بريد فالتقصير واجب إذا غاب عنك أذان مصرك » (6).
    وعلى هذا فلا خلاف في المسألة من هذه الجهة وإن حصل من جهة اُخرى ، وهي التعبير عن هذا الشرط بخفاء أحد الأمرين مخيّراً بينهما ، كما هو المشهور بين القدماء ، أو خفائهما معاً كما هو المشهور بين المتأخرين كما قيل (7) ، أو الأول خاصة كما عن المقنع (8) ، أو الثاني كذلك ، إمّا مطلقاًً كما عن‏
1 ـ كما نقله عنه في المختلف : 163.
2 ـ الفقيه 1 : 279 / 1268 ، الوسائل 8 : 475 أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 5.
3 ـ فقه الرضا ( عليه السلام ) : 162 ، المستدرك 6 : 530 أبواب صلاة المسافر ب 5 ح 1.
4 ـ التهذيب 4 : 228 / 669 ، الاستبصار 2 : 98 / 319 ، الوسائل 10 : 187 أبواب من يصح منه الصوم ب 5 ح ح 10.
5 ـ الخلاف 1 : 222.
6 ـ فقه الرضا ( عليه السلام ) : 159 ، المستدرك 6 : 529 أبواب صلاة المسافر ب 4 ح 1.
7 ـ قال به الشهيد الثاني في روض الجنان : 392.
8 ـ المقنع : 37.


(368)
الديلمي (1) ، أو المتوسط منه خاصة كما عن الحلّي (2).
    ومنشؤه اختلاف النصوص الواردة في المسألة ، فبعض بخفاء الأول خاصة كالصحيح (3) ، وبعض بالثاني كذلك ، وهو مستفيض ، منها زيادة على الرضوي المتقدم الصحيحان المروي أحد هما في المحاسن ، وفيه : « إذا سمع الأذان أتمّ المسافر » (4).
    والموثق : « أ ليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم ؟ » (5).
    فبناء القولين الأخيرين على ترجيح أحد المتعارضين وطرح الآخر في البين. ولا وجه له بعد اشتراكهما في استجماع شرائط الحجية ، مع إمكان الجمع بينهما بالتخيير كما هو خيرة الأوّلين ، أو تخصيص كل واحد منهما بالآخر كما هو المشهور بين المتأخرين. وهو الأقوى ، أما لرجحانه على نحو الجمع الأول حيثما تعارضا ، أو لأوفقيته لمقتضى الأصل واستصحاب بقاء وجوب التمام إلى ثبوت الترخيص ، وليس بثابت بأحدهما بعد تساوي الجمعين وتكافئهما.
    وأما ترجيح الجمع الأول على الثاني فهو ضعيف جداً.
    هذا مع وجود الأمارتين وظهور التفاوت بينهما ، وإلّا فالظاهر الاكتفاء
1 ـ المراسم : 75.
2 ـ السرائر 1 : 331.
3 ـ الكافي 3 : 434 / 1 ، الفقيه 1 : 279 / 1267 ، التهذيب 2 : 12 / 27 ، الوسائل 8 : 470 أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 1.
4 ـ المحاسن : 371 / 127 ، الوسائل 8 : 473 أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 7 ؛ والصحيح الاّخر : التهذيب 4 : 230 / 675 ، الاستبصار 1 : 242 / 862 ، الوسائل 8 : 472 أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 3.
5 ـ المحاسن : 312 / 29 ، الوسائل 8 : 466 أبواب صلاة المسافر ب 3 ح 11.


(369)
بإحداهما ، ولعلّ هذه الصورة هو الغالب المتبادر ممّا دلّ على إحداهما.
    هذا ، والموجود فيما دلّ على الاُولى تواري المسافر عن البيوت ـ لا تواريها عنه ـ كما فهمه منه جماعة من الفضلاء (1) ، قالوا : فتتقارب الأمارتان إحداهما بالأخرى ، لكنه خلاف ما عقله منه سائر أصحابنا.
    وكيف كان ( ف‍ ) بخفائهما معاً ( يقصّر في صلاته و صومه ) قطعاًً ، وكذا بخفاء أحد هما حيث لا يكون الآخر ، ويحتاط فيما لو كان ولم يخف بتأخير القصر أو الجمع بينه وبين التمام إلى أن يخفى أيضاً.
    والمعتبر من كلّ من الجدران والأذان والحاسّتين الوسط منها ولو تقديراً ، كالبلد المنخفض والمرتفع ، ومختلف الأرض ، وعادم الجدار والأذان والسمع والبصر ، لكونه المتبادر من الإطلاق.
    ولعلّه الوجه فيما قالوه من أن المعتبر آخر البلد المتوسط فما دون ، ومحلّته في المتّسع.
    قالوا : ولا عبرة بأعلام البلد كالمنائر والقباب المرتفعة ، ولا بالبساتين والمزارع ، فيجوز القصر قبل مفارقتها مع خفاء الجدران ، والأذان ، ولعلّه لإناطة القصر في النصّ والفتوى بتواري البيوت ، والمذكورات غيرها.
    وذكر شيخنا الشهيد الثاني وغيره (2) أن المعتبر خفاء صورة الجدران والأذان ، لا الشبح والكلام. ولا يخلو عن إشكال ، فإن المتبادر من النصّ والفتوى خفاؤهما أصلاً ، لا صورتهما خاصة.
    والظاهر أن المراد بالأذان والجدران المعتبر خفاؤهما ما كان في آخر البلد
1 ـ كما حكاه العلامة المجلسي في نلاذ الأخيار 5 : 418 عن الفاضل التستري ، واختاره صاحبا المدارك 4 : 457 والحدائق 11 : 406.
2 ـ الشهيد الثاني في روض الجنان : 392 ، المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة البرهان 3 : 402.


(370)
الذي يخرج منه المسافر ، كما يفهم من الذكرى وغيرها (1) ، لا مطلقاًً كما توهمه العبارة ونحوها في الأذان ، وذلك فإن الأذان الواقع في الوسط قد يخفى عند الخروج من البلد ولو كان وسطاً ، فلو حدّ الترخص به لزم حصوله عنده حينئذ ، وهو فاسد قطعاً.
    واعلم : أنّ هذا الشرط إنما يعتبر فيمن خرج عن نحو بلده مسافراً ، دون نحو الهائم والعاصي بسفره ، فإنهما يقصّران في أثناء سفرهما متى زال مانعهما ، للعمومات ، مع اختصاص ما دلّ على هذا الشرط بمن ذكرناه ، مضافاًً إلى خصوص جملة من المعتبرة الواردة فيهما بأنهما يقصّران متى زال مانعهما.
    ( و ) كما يعتبر هذا الشرط في بدء السفر ( كذا ) يعتبر في الآخر ، فيقصّر ( في العود من السفر ) إلى أن ينتهي إلى ظهور أحد الأمرين فيتمّ ولو لم يدخل البلد فضلا عن المنزل ( على الأشهر ) الأظهر ، بل عليه عامة من تأخر إلّا من ندر (2) ، بل في الذكرى كاد أن يكون إجماعاً (3).
    للصحيح : « إذا كنت في الموضع الذي تسمع الأذان فأتمّ ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك » (4).
    مضافاً إلى إطلاق ما دلّ على وجوب التمام على من كان في الوطن ، واشتراط القصر بالسفر ، ولا يصدق عرفاً على من بلغ هذا الحدّ ، وهذا هو السرّ في اشتراط أصل هذا الشرط ، وقد استدل عليه به جمع (5).
1 ـ الذكرى : 260 ؛ وانظر روض الجنان : 392 ، والمدارك 4 : 458.
2 ـ كالفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع 1 : 26 ، وصاحب الحدائق 11 : 412.
3 ـ الذكرى : 259.
4 ـ التهذيب 4 : 230 / 675 ، الوسائل 8 : 472 أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 3.
5 ـ منهم : العلامة في المختلف : 164 ، والشهيد في روض الجنان : 392 ، والوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( مخطوط ).


(371)
    خلافاً لوالد الصدوق فلا يعتبر كما مرّ (1) ، وضعفه قد ظهر.
    وعن المرتضى والإسكافي (2) الموافقة له هنا. للمعتبرة المستفيضة ، ففي الصحيح : « لا يزال المسافر مقصّراً حتى يدخل بيته » (3).
    وفي آخر : « إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا ، وإن لم يدخلوا منازلهم قصّروا » (4). ونحوه آخر (5).
    وفي الموثق : عن الرجل يكون مسافراً ثمَّ يقدم فيدخل بيوت الكوفة ، أ يتمّ الصلاة أم يكون مقصّراً حتّى يدخل أهله ؟ قال : « لا بل يكون مقصّراً حتى يدخل أهله » (6).
    وفي آخر : عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنزل ، فيمرّ بالكوفة وإنما هو مجتاز لا يريد المقام إلّا بقدر ما يتجهز يوماً أو يومين ، قال : « يقيم في جانب المصر ويقصّر » قلت : فإن دخل ؟ قال : « عليه التمام » (7).
1 ـ في ص 367.
2 ـ حكاه عن المرتضى في المعتبر 2 : 474 ، وعن لاسكافي في المختلف : 164.
3 ـ التهذيب 3 : 222 / 556 ، الاستبصار 1 : 242 / 864 ، الوسائل 8 : 475 أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 4.
4 ـ الكافي 4 : 518 / 1 ، الوسائل 8 : 474 أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 1.
5 ـ الكافي 4 : 518 / 2 ، الوسائل 8 : 465 أبواب صلاة المسافر ب 3 ح 8.
6 ـ التهذيب 3 : 222 / 555 ، الاستبصار 1 : 242 / 863 ، الوسائل 8 : 474 أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 3. مع تفوت في الجميع.
7 ـ الكافي 3 : 435 / 2 ، التهذيب 3 : 220 / 550 ، الوسائل 8 : 474 أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 2.


(372)
    ونحوه المروي عن قرب الإسناد صحيحاً (1).
    ولو لا الشهرة العظيمة المرجحة للأدلة الأوّلة لكان المصير إلى هذا القول في غاية القوة لاستفاضة نصوصه ، وصحة أكثرها ، وظهور دلالتها جملةً ، بل صراحة كثير منها ، بل ما عدا الصحيحة الاُولى ، لبعد ما يقال في توجيهها جدّاً وهو : أن المراد من البيت فيها والمنزل ما بحكمهما ، وهو ما دون الترخص ، لأن سياقها يأبى هذا ظاهراً وإن أمكن بعيداً ، سيّما في الموثق الأول المتضمن لدخول البلد والحكم فيه مع ذلك بالقصر ، إلى دخول الأهل.
    وحمله على أن الحكم به معه إنما هو لسعة الكوفة يومئذ ، فلعلّ البيوت التي دخلها لم يبلغ حدّ الترخص المعتبر في مثلها ، وهو آخر محلّته كما مضى.
    يدفعه عموم الجواب الناشئ عن ترك الاستفصال ، مضافاًً إلى قوله بعد الحكم بالتقصير : « حتى يدخل أهله ».
    وتأويل جميع ذلك وإن أمكن إلّا أنه بعيد جداً ، مع أنّ مثله جار في أدلة المشهور ، بتقييد العمومات بهذه ، لكونها بالنسبة إليها أظهر دلالةً ، بل صريحة كما عرفته.
    وأما الصحيحة فبأن المقصود من تشبيه الإياب بالذهاب فيها تشبيهه به في وجوب القصر عند خفاء الأذان خاصة ، لا عدمه عند ظهوره ، سيّما وأن بعض النسخ ليس فيه ذكر هذا في الذهاب ، فلا يشمله التشبيه صريحاً ، بل ولا ظهوراً إلّا ظهوراً لا يمكن الاعتداد به جدّاً.
    وبالجملة : لو لا الشهرة لكان المصير إلى هذا القول متعيّنا بلا شبهة ، بل معها أيضاًً لا تخلو المسألة عن شبهة ، سيّما على النسخة المزبورة ، فإنّ الدلالة
(1) قرب الإسناد : 172 / 630 ، الوسائل 8 : 474 أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 2.

(373)
على تقديرها ضعيفة كما عرفته ، والإطلاقات غير معلومة الشمول لنحو المسألة ، والاحتياط يقتضي تأخير الصلاة إلى بلوغ الأهل ، أو الجمع بين الإتمام والقصر.
    وإن كان الاكتفاء بالتمام لعلّه أظهر كما مرّ ، لانجبار ما مرّ من قصور الدلالة بالشهرة العظيمة ، سيّما وأن النسخة التي قدّمناها مشهورة ، فتترجح على هذه المستفيضة.
    مع إمكان القدح في دلالةً ما عدا الموثّق منها بورودها جملة مورد الغالب ، من أن المسافر إذا بلغ إلى حدّ الترخص يسارع إلى أهله من غير مكث للصلاة ، كما هو المشاهد غالباً من العادة ، فلا يطمئن بشمول إطلاق الحكم بالقصر إلى دخول الأهل لمحلّ البحث ، فتدبّر.
    وأما الموثّق فهو وإن لم يجر فيه ذلك ، لكن الجواب عنه بعد الذبّ عمّا عداه سهل ، لقصور السند ، وعدم المقاومة لأدلة الأكثر بوجوه لا يخفى على من تدبّر.
    هذا مع احتماله كغيره الحمل على التقية ، كما صرّح به في الوسائل ، قال : لموافقتها لمذهب العامة (1).
    وعلى المختار يعتبر خفاء الجدران هنا كالأذان أيضاًً بلا خلاف ، إلّا من بعض المتأخرين (2) ، فاقتصر هنا على الأذان خاصة ، لاختصاص الصحيح به. وهو ضعيف ، لعدم انحصار الدليل فيه ، ووجود غيره الشامل له وللجدران ومع ذلك فالظاهر عدم القائل بالفرق كما قيل (3) ، وإن كان ربما
1 ـ الوسائل 8 : 477.
2 ـ كصاحب المدارك 4 : 458.
3 ـ حاشية المدارك للوحيد البهبهاني ( مخطوط ).


(374)
يتوهم من الفاضلين في الشرائع والتحرير (2) ولكنه ضعيف.
    ( وأما القصر ) والمراد به حذف أخيرتي الرباعية ، والإفطار في الصوم فهو عزيمة أي واجب لا رخصة ، بالضرورة من مذهب الإمامية ، وعليه أكثر العامة (2) ، والنصوص به من طرقهم مستفيضة ، بل متواترة (3).
    ( إلّا في أحد المواطن الأربعة ) المشهورة ، وهي ( مكة ، والمدينة ، وجامع الكوفة ، والحائر ) على مشرّفه أفضل صلاة وسلام وتحية ( فإنه مخيّر ) فيها ( في ) الصلاة بين ( القصر والإتمام ) و ( هو أفضل ).
    بلا خلاف يظهر إلّا من صريح الصدوق ـ رحمه اللّه ـ فلا يتمّ إلّا بعد نية إقامة العشرة (4).
    ومقتضاه لزوم القصر كما في الصحاح المستفيضة وغيرها ، منها : عن التقصير في الحرمين والتمام ، قال : « لا تتمّ حتى تجمع على مقام عشرة أيام » فقلت : إن أصحابنا رووا عنك أنك أمرتهم بالتمام ، فقال : « إن أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون ويأخذون نعالهم فيخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فأمرتهم بالتمام » (5).
    ونحوه آخر لراويه مروي في العلل ، لكن فيه : روى عنك أصحابنا أنك قلت لهم : « أتمّوا بالمدينة لخمس » فقال : « إنّ أصحابكم .. » إلى آخر
1 ـ الشرائع 1 : 134 ، التحرير 1 : 56.
2 ـ انظر ارشاد الساري 2 : 294 ، والمجموع شرح المهذّب 4 : 337 ، وبداية المجتهد 1 : 166.
3 ـ راجع مسند أحمد 2 : 99 ، صحيح البخاري 2 : 54 ، سنن الترمذي 2 : 28 / 542 ، سنن النسائي 3 : 116.
4 ـ الفقيه 1 : 283.
5 ـ التهذيب 5 : 428 / 1485 ، الاستبصار 2 : 332 / 1181 ، الوسائل 8 : 534 أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 34.


(375)
التعليل (1).
    ومنها : عن الصلاة بمكة والمدينة بتقصير أو إتمام ؟ قال : « تقصّر ما لم تعزم على مقام عشرة » (2).
    ومن ظاهر المرتضى والإسكافي (3) فلزوم التمام للأمر به أو ما في معناه في المعتبرة المستفيضة فيها الصحاح وغيرها.
    ففي الصحيح : عن التمام بمكة والمدينة ، قال : « أتمّ وإن لم تصلّ فيهما إلّا صلاة واحدة » (4).
    ونحوه الموثق (5) ، وغيره ، ومنه الحسن : « إذا دخلت مكة فأتمّ يوم تدخل » (6).
    والخبر : أقدم مكّة أتمّ أم أقصّر ؟ قال : « أتمّ » قلت : أ مرّ على المدينة فأتمّ أو أقصّر ؟ قال : « أتمّ » (7).
    ونحوه آخر مروي عن كامل الزيارة لابن قولويه : عن الصلاة في‏
1 ـ علل الشرائع : 454 / 10 ، الوسائل 8 : 531 أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 27.
2 ـ التهذيب 5 : 426 / 1482 ، الاستبصار 2 : 331 / 1178 ، الوسائل 8 : 533 أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 32.
3 ـ المرتضى في جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى 3 ) : 47 ونقله عن الاسكافي في المختلف : 168.
4 ـ التهذيب 5 : 426 / 1481 ، الاستبصار 2 : 331 / 1177 ، الوسائل 8 : 525 أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 5.
5 ـ الكافي 4 : 524 / 2 ، التهذيب 5 : 425 / 1477 ، الاستبصار 2 : 330 / 1173 ، قرب الإسناد : 5 : 300 / 118 ، الوسائل 8 : 529 أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 17.
6 ـ التهذيب 5 : 426 / 1480 ، الاستبصار 2 : 331 / 1176 ، الوسائل 8 : 526 أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 7.
7 ـ التهذيب 5 : 426 / 1479 ، الاستبصار 2 : 330 / 1175 ، الوسائل 8 : 526 أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 9.
رياض المسائل ـ الجزء الرابع ::: فهرس