رياض المسائل الجزء الخامس ::: 121 ـ 135
(121)
    [ والنظر ] فيه [ في ] أُمور ثلاثة :
    [ الأصناف والأوصاف ] المعتبرة فيهم [ و اللواحق‏ ].
    [ أمّا الأصناف فثمانية ] بنصّ الآية الكريمة ، بناءً على‏ تغاير الفقراء والمساكين كما هو المشهور لغةً وفتوىً ، حتى أنّ في المنتهى‏ ادّعى‏ الإجماع عليه ولو التزاماً ، حيث قال ـ بعد جعلهم ثمانية بالنصّ والإجماع ـ : قال اللَّه سبحانه : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ) (1) إلى أن قال : ولا خلاف بين المسلمين في ذلك (2).

    الصنف الأوّل والثاني : [ الفقراء والمساكين‏ ] ولا تميّز بينهما مع الانفراد ، بل العرب قد استعملت كل واحد من اللفظين في معنى‏ الآخر ، أما مع الجمع بينهما فلا بُدّ من المائز.
    [ وقد اختلف ] العلماء [ في ] أنّ [ أيّهما أسوأ حالاً ] من الآخر ، وهو كالصريح في الإجماع على‏ التغاير ، وعلى‏ دخول كلّ منهما في الآخر إذا انفرد ، كما يستفاد أيضاً من ظاهر التحرير والمختلف وغيرهما (3) ، وبه‏
1 ـ التوبة : 60.
2 ـ المنتهى 1 : 517.
3 ـ التحرير 1 : 67 ، المختلف : 180 ؛ وانظر نهاية الإحكام 2 : 379.


(122)
صرّح في الروضة ، فقال ـ بعد الإشارة إلى‏ محل الخلاف ـ : و [ لا ثمرة مهمة في تحقيقه ] للإجماع على‏ إرادة كلّ منهما من الآخر حيث يفرد ، وعلى‏ استحقاقهما من الزكاة ، ولم يقعا مجتمعين إلّا فيها ، وإنّما تظهر الفائدة في أُمور نادرة (1).
    أقول : كما إذا نذر أو وقف أو أوصى‏ لأسوئهما حالاً.
    وقريب منه في المسالك. (2)
    فلا إشكال في التغاير سيّما مع تصريح الغنية بالإجماع على‏ أنّ المسكين أسوأ حالاً ، قال : وقد نصّ على‏ ذلك الأكثر من أهل اللغة (3) ونحوه في نسبته إلى‏ أهل اللغة ـ لكن من غير تقييد بالأكثر ـ الفاضل المقداد في التنقيح وشيخنا في المسالك (4).
    ويدلّ عليه الصحيح أيضاً : « الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل » (5) ونحوه الحسن ، وفيه أن : « البائس أجهدهم » (6).
    وكما أنّ في هذه الأدلّة دلالة على‏ التغاير كذا فيها دلالة على‏ أنّ المسكين أسوأ حالاً كما هو الأقوى‏ ، وفاقاً لجمهور متأخّري أصحابنا ، وفاقاً للنهاية والمفيد والإسكافي والديلمي (7) من القدماء.
1 ـ الروضة 2 : 42.
2 ـ المسالك 1 : 59.
3 ـ الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 568.
4 ـ التنقيح 1 : 317 ، المسالك 1 : 59.
5 ـ الكافي 3 : 502 / 18 ، الوسائل 9 : 210 أبواب المستحقين للزكاة ب 1 ح 2.
6 ـ الكافي 3 : 501 / 16 ، التهذيب 4 : 104 / 297 ، الوسائل 9 : : 210 أبواب المستحقين للزكاة ب 1 ح 3.
7 ـ النهاية : 184 ، المفيد في المقنعة : 241 ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : 180 ، الديلمي في المراسم : 132.


(123)
    خلافاً للمبسوط ، وعن الجمل والمرتضى‏ وابن حمزة والحلّي (1) فالعكس لوجوه مدخولة معارضة بمثلها وأقوى ، وهو ما قدّمنا. [ والضابط ] الجامع بين الصنفين في استحقاقهما الزكاة ونحوها هو : أن لا يكون آخذها غنيّاً بلا خلاف فتوىً ونصّاً ، وإن اختلفا في تحديده بـ [ من لا يملك مؤونة سنة له ولعياله ] اللازمين له ، أو من لا يملك نصاباً تجب فيه الزكاة.
    والأوّل أقوى ، وفاقاً لجمهور أصحابنا بل عامّتهم ، عدا نادر صار إلى‏ الثاني ، وهو غير معروف ، وربما يجعل الشيخ في الخلاف (2) مع أنّ المحكيّ عنه في التحرير خلافه ومصيره إلى‏ المختار (3).
    وكيف كان فلا ريب في ضعفه وشذوذه ، حتى أنّ المرتضى‏ في الناصرية ادّعى‏ الإجماع على‏ خلافه (4). والحجة عليه بعده النصوص المستفيضة ، وهي ما بين صريحة في ذلك وظاهرة.
    فمن الأدلة : الخبران المروي أحدهما في المقنعة عن يونس بن عمار ، قال : سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول : « تحرم الزكاة على‏ من عنده قوت السنة ، وتجب الفطرة على‏ من عنده قوت السنة » (5) الخبر.
    وثانيهما : في العلل ، وفيه : عن السائل وعنده قوت يوم أيحلّ له أن يسأل ، وإن اُعطي شيئاً من قبل أن يسأل يحلّ له أن يقبله ؟ قال : « يأخذ
1 ـ الميسوط 1 : 246 ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : 206 ، الوسيلة : 128 ، السرائر 1 : 456.
2 ـ الخلاف 2 : 146 ، حكاه عنه في المهذب البارع 1 : 529.
3 ـ التحرير : 68.
4 ـ الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : 206.
5 ـ المقنعة : 248 الوسائل 9 : 234 أبواب المستحقين للزكاة ب 8 ح 10.


(124)
وعنده قوت شهر ما يكفيه لسنة من الزكاة ، لأنّها إنّما هي من سنة إلى‏ سنة » (1).
    وقريب منهما الصحيح : « يأخذ الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره » قلت : فإنّ صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة ؟ قال : « زكاته صدقة على‏ عياله ، ولا يأخذها إلّا أن يكون إذا اعتمد على‏ السبعمائة أنفدها في أقل من سنة ، فهذا يأخذها » (2) الخبر.
    وقصور السند أو ضعفه حيث كان منجبر بعمل الأصحاب.
    ومن الثانية : النصوص الآتية في جواز أخذ الزكاة لمن له سبعمائة إذا كانت تقصر عن استنماء الكفاية ، بناءً على‏ أنّ الظاهر المتبادر من الكفاية فيها الكفاية طول السنة ، مع أنّها صريحة في جواز أخذ الزكاة لمن عنده نصاب خلافاً للقول الثاني ، فتعيّن الأوّل ، إذ لا قائل بالفرق.
    وأمّا ما يحكى عن المبسوط (3) من اعتباره الكفاية على‏ الدوام فغير مفهوم مراده ، هل الدوام إلى‏ سنة كما استظهره من عبارة الفاضل (4) ، أو غيره ؟ وعلى‏ هذا فلا يمكن جعله مخالفاً ، سيّما وإنّ ظاهر جملة من الأصحاب ـ ومنهم الفاضل المقداد في التنقيح (5) ـ انحصار القول هنا فيما ذكرناه من القولين ، وحيث ثبت فساد الثاني قطعاً تعيّن الأوّل.
    [ ولا يمنع ] عن الزكاة [ لو ملك الدار والخادم ] والدابة المحتاج‏
1 ـ علل الشرائع 1 : 371 ، الوسائل 9 : 233 أبواب المستحقين للزكاة ب 8 ح 7.
2 ـ الكافي 3 : 560 / 1 ، الوسائل 9 : 231 أبواب المستحقين للزكاة ب 8 ح 1.
3 ـ المبسوط 1 : 256 ، وحكاه عنه في المهذب البارع 1 : 529.
4 ـ كما في نهاية الاحكام 2 : 380.
5 ـ التنقيح الرائع 1 : 317.


(125)
إليها بحسب حاله ، بلا خلاف ظاهر ، مصرّح به في بعض العبائر (1) ، وعن التذكرة إلحاق ثياب التجمّل نافياً الخلاف عن أصل الحكم فيها وفي الملحق به (2) ، مؤذناً بدعوى‏ الإجماع عليه وهو الحجة ، مضافاً إلى‏ المعتبرة المستفيضة.
    ففي الصحيح المروي عن كتاب علي بن جعفر : عن الزكاة أيُعطاها من له الدابة ؟ قال : « نعم ، ومن له الدار والعبد ، فإنّ الدار ليس يعدّها مال » (3).
    ونحوه المرسل القريب منه سنداً : عن الرجل له دار وخادم أو عبد ، أيقبل الزكاة ؟ قال : « نعم ، إنّ الدار والخادم ليسا بمال » (4).
    ونحوهما الموثق (5) والخبران (6) ، معلّلاً فيها الحكم بنحو ما في سابقيها.
    ويستفاد من التعليل عدم اختصاص الحكم بالمذكورات ، بل يلحق بها كلّ ما يحتاج إليه من الآلات اللائقة بحاله وكتب العلم ، لمسيس الحاجة إلى‏ ذلك كله ، مع عدم الخروج بملكه عن حدّ الفقر عرفاً ، وبه صرّح‏
1 ـ المفاتيح 1 : 205.
2 ـ التذكرة 1 : 236.
3 ـ مسائل علي بن جعفر : 142 / 165 ، الوسائل 9 : 237 أبواب المستحقين للزكاة ب 9 ح 5.فيهما : « ليس نعّدها مالاً ».
4 ـ الكافي 3 : 561 / 7 ، الفقيه 2 : 17 / 56 ، التهيب 4 : 51 / 133 ، الوسائل 9 : 235 أبواب المستحقين للزكاة ب 9 ح 2.
5 ـ الكافي 3 : 560 / 4 ، الفقيه 2 : 17 / 57 ، المقنعة : 363 ، التهذيب 4 : 48 / 127 ، الوسائل 9 : 235 أبواب المستحقين للزكاة ب 9 ح 1.
6 ـ الكافي 3 : 562 / 10 ، التهذيب 4 : 52 / 134 ، الوسائل 9 : 236 أبواب المستحقين للزكاة ب 9 ح 3 و 4.


(126)
جماعة من أصحابنا (1).
    وإطلاق النصّ والفتوى‏ وإن اقتضى‏ عموم الحكم في المذكورات وشموله لما إذا زادت عن حاجته بحيث تكفيه قيمة الزيادة لمؤونة السنة وأمكنه بيعها منفردةً ، إلّا أنّ حملها على‏ المتعارف يقتضي تقييدها بغير هذه الصورة مع عدم صدق الفقر في مثلها بلا شبهة ، فتجب بيع الزيادة.
    نعم ، لو كان حاجته تندفع بأقلّ منها قيمة فلا يبعد أن لا يكلّف بيعها وشراء الأدون منها قيمةً ، للإطلاق ، مع ما في تكليفه بذلك من العسر والمشقة ، اللّهُمَّ إلّا أن تخرج عن مناسبة حاله كثيراً بحيث لا ينصرف إليها الإطلاقات عرفاً.
    قيل : ولو فُقدت هذه المذكورات استثنى‏ أثمانها مع الحاجة إليها ، ولا يبعد إلحاق ما يحتاج إليه في التزويج بذلك مع حاجته إليه (2).
    [ وكذا ] لا يمنع [ مَن في يده ما ] يتّجر فيه لـ [ يتعيّش به و ] لكن [ يعجز عن استنماء الكفاية ] له ولعياله طول السنة ، بل يُعطى‏ منها [ ولو كان ] ما بيده [ سبعمائة درهم ] ولا يكلّف إنفاقها.
    [ ويمنع مَن يستنمي الكفاية ] منه [ ولو كان خمسين ] درهماً ، بلا خلاف أجده فيها أيضاً لصدق الغناء في الثاني والفقر في الأوّل وللمعتبرة المستفيضة.
    منها الصحيح : عن الرجل تكون له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وله عيال وهو يحترف فلا يصيب نفقته فيها ، أيكبّ فيأكلها أو يأخذ
1 ـ منهم : الشيخ في المبسوط 1 : 256 ، والشهيد في الروضة 2 : 44 ، وصاحب المدارك 5 : 200 ، وصاحب الحدائق 12 : 163.
2 ـ المدارك 5 : 201.


(127)
الزكاة ؟ قال : « لا ، بل ينظر إلى‏ فضلها فيقوت بها نفسه ومن وسعه ذلك من عياله ، ويأخذ البقية من الزكاة ويتصرّف بهذه ولا ينفقها » (1).
    وفي الموثق : عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم ؟ قال : « نعم ، إلّا أن تكون داره دار غلّة فيخرج من غلّتها ما يكفيه لنفسه ولعياله ، فإن لم تكن الغلّة تكفيه لنفسه وعياله في طعامهم وكسوتهم وحاجتهم من غير إسراف فقد حلّت له الزكاة ، فإن كانت غلّتها تكفيهم فلا » (2).
    وأمّا الموثق : « لا تحلّ لمن كانت عنده أربعون درهماً يحول عليه الحول عنده أن يأخذها ، وإن أخذها أخذها حراماً » (3) فمع قصور سنده وشذوذه محمول على‏ عدم احتياجه ، كما يفهم من سياقه ، أو على‏ التقيّة لأنّه مذهب العامة.
    [ وكذا يمنع ] عنها [ ذو الصنعة ] والكسب [ إذا نهضت بحاجته ] على‏ الأظهر الأشهر ، بل لا خلاف فيه يظهر إلّا ما حكاه في الخلاف عن بعض الأصحاب (5) ، وهو مع عدم معروفيّته نادر ، وفي الخلاف والناصرية (5) الإجماع على‏ خلافه للنبوي : « لا حظّ فيها لغنيّ ولا ذي قوة مكتسب » (6) ونحوه مروي في جملة من أخبارنا ، وفيها الصحيح وغيره (7).
    وما ورد في بعضها مما يوهم خلافه مطروح أو مؤوّل.
1 ـ الكافي 3 : 561 / 6 ، الوسائل 9 : 238 أبواب المستحقين للزكاة ب 12 ح 1.
2 ـ تقّدم مصدره في ص : 125 ، الهامش (5).
3 ـ التهذيب 4 : 51 / 131 ، الوسائل 9 : 240 أبواب المستحقين ب 12 ح 5.
4 ـ الخلاف 4 : 230.
5 ـ الخلاف 4 : 231 ، والناصرية ( الجوامع الفقهية ) : 206.
6 ـ سنن الدارقطني 2 : 119 / 7.
7 ـ الوسائل 9 : 231 أبواب المستحقين للزكاة ب 8.


(128)
    ولا يمنع إذا قصرت عنها ، بلا خلاف فيه على‏ الظاهر ، المصرّح به في بعض العبائر (1) ، وعن التذكرة أنّه موضع وفاق بين العلماء (2) وهو الحجة ، مضافاً إلى‏ صدق الفقر عليه عرفاً وعادة.
    وهل يتقدّر الأخذ بشي‏ء وهو التتمّة خاصّة ، كما حكاه قولاً جماعة (3) ، وعُزي إلى‏ الشهيد في البيان (4) ، أم لا ، بل يجوز الأخذ زائداً عليها ، كما عليه الأكثر على‏ الظاهر المصرّح به في عبائر جمع(5) ، حتى أنّ في بعضها أنّه المشهور (6) ؟
    وجهان : من الأصل ، وعموم ما دلّ على‏ جواز إغناء الفقير (7) ، وأنّ خير الصدقة ما أبقت غنى.
    ومن ظاهر الصحيح المتقدم في المسألة السابقة المتضمن لقوله عليه السلام : « ويأخذ البقيّة » (8) ونحوه غيره (9) ، إلّا أنّهما ليسا صريحين في المنع عن الزيادة ، ومع ذلك فموردهما من كان معه مال يتّجر به وعجز عن استنماء الكفاية ، لا ذو الكسب القاصر الذي هو مفروض المسألة ، إلّا أن يعمّم الخلاف إلى‏ المسألتين ، كما يفهم من المنتهى‏ (10) ، وحينئذٍ يكفي في‏
1 ـ انظر الحدائق 12 : 160.
2 ـ التذكرة 1 : 236.
3 ـ حكاه عنهم في التذكرة 1 : 236.
4 ـ البيان : 311.
5 ـ كما في المدارك 5 : 197.
6 ـ الإيضاح 1 : 194 ، الحدائق 12 : 160.
7 ـ الوسائل 9 : 258 أبواب المستحقين للزكاة ب 24.
8 ـ تقّدم في ص 127.
9 ـ التهذيب 4 : 51 / 130 ، الوسائل 9 : 239 أبواب المستخقين للزكاة ب 12 ح 4.
10 ـ المنتهى 1 : 518.


(129)
الجواب عنهما قصور الدلالة ، فلا يصلحان لتقييد الأخبار المطلقة المعتضدة بالأصل والشهرة.
    ولكن الأحوط ترك الزيادة عن التتمة ، خروجاً عن الشبهة فتوىً وروايةً ، لقوّة احتمال ظهورها دلالةً وإن لم تكن صريحة.
     [ ولو دفعها المالك بعد الاجتهاد فبان الآخذ غير مستحق ] لها [ ارتجعت ] الزكاة بعينها مع بقائها ، ومثلها أو قيمتها مع تلفها ، اتّفاقاً إذا علم الآخذ كونها زكاةً وكذا مع جهله به مطلقاً ، كما عن التذكرة قال : لفساد الدفع ، ولأنّه أبصر بنيّته (1) أو بشرط بقاء العين وانتفاء القرائن الدالة على‏ كونها صدقة ، كما في المدارك (2).
    خلافاً للمعتبر والمنتهى‏ (3) ، فلا ترتجع مطلقاً لأنّ الظاهر أنّها صدقة كما في الأوّل ، أو لأنّ دفعه محتمل للوجوب والتطوّع كما في الثاني.
    وهما ـ كما ترى ـ لا ينافيان جواز الارتجاع مع بقاء العين ، لأنّ ظهور الصدقة واحتمال التطوّع إنّما هو بالنسبة إلى‏ الآخذ ، وإلّا فالدافع أبصر بنيّته ، وإذا عرف عدمهما جاز له ارتجاعها مع بقائها ، ولا مع تلفها لأنّه سلّطه على‏ إتلافها والأصل براءة ذمّته ، فلا يستحق عوضها.
    نعم يمكن أن يقال : إنّ للآخذ الامتناع عن الردّ بناءً على ثبوت الملك له بالدفع في الظاره فعلى المرتجع إثبات خلافه ، ولا يختلف في ذلك الحال بين بقاء العين وتلفها.
    وأمّا القطع بجواز الارتجاع إذا كان المدفوع إليه ممن لا تلزم هبته‏
1 ـ التذكرة 1 : 245.
2 ـ المدارك 5 : 205.
3 ـ المعتبر 2 : 569 ، المنتهى 1 : 527.


(130)
فلعلّه خروج عن مفروض المسألة ، وهو ما إذا قارن الدفع قصد القربة ـ كما يومئ إليه تعليل الفاضلين المتقدم إليه الإشارة ـ ولا يجوز معه الرجوع ولو في الهبة.
    [ فإن تعذّر ] الارتجاع [ فلا ضمان على‏ الدافع ] لوقوع الدفع مشروعاً فلا يستعقب ضماناً ، لأنّ امتثال الأمر يقتضي الإجزاء.
    خلافاً للمحكي عن المفيد والحلبي (1) فيضمن ، قياساً على‏ الدين ، وهو كما ترى.
    وللمرسل في رجلٍ يعطي زكاة ماله رجلاً وهو يرى‏ أنّه معسر فوجده موسراً ، قال : « لا تجزي عنه » (2).
    وإرساله يمنع عن العمل به ، وإن كان في سنده ابن أبي عمير ، لأنّ المرسِل غيره وإن كان قبله ، لأنّ الإلحاق بالصحيح ـ بمثله وكذا بدعوى‏ إجماع العصابة على‏ تصحيح ما يصحّ عن ابن أبي عمير وأنّه لا يروي إلّا عن ثقة ـ غير متّضح ، فلا يخرج بمثله عن الأصل المقرّر ، سيّما مع اعتضاده في المسألة بعمل الأكثر ، وإن اختلفوا في إطلاق الحكم بنفي الضمان كما عن جماعة ومنهم الشيخ في المبسوط (3) ، أو تقييده بصورة الدفع مع الاجتهاد وإلّا فيضمن كما في ظاهر العبارة والمنتهى‏ وعن المعتبر (4).
    والأصح الأوّل عملاً بعموم مقتضى‏ الأصل مع عدم ظهور ما يصلح‏
1 ـ حكاه عنهما في المدارك 5 : 205 ، وهو في المقنعة : 259 ، والكافي في الفقه : 172.
2 ـ الكافي 3 : 545 / 1 ، الفقيه 2 : 15 / 45 ، التهذيب 4 : 51 / 132 ، الوسائل 9 : 215 أبواب المستحقين للزكاة ب 2 ح 5.
3 ـ المبسوط 1 : 261.
4 ـ المنتهى 1 : 527 ، المعتبر 2 : 569.


(131)
لتخصيصه فيصحّ الثاني.
    عدا ما قيل : من أن المالك أمين على‏ الزكاة ، فيجب عليه الاجتهاد والاستظهار في دفعها إلى‏ مستحقّها ، فبدونه تجب الإعادة (1).
    والصحيح : قلت له : رجل عارف ادّعى‏ الزكاة إلى‏ غير أهلها زماناً ، هل عليه أن يؤدّيها ثانيةً إلى‏ أهلها إذا علمهم ؟ قال : « نعم » قال ، قلت : فإن لم يعرف لها أهلاً فلم يؤدّها أو لم يعلم أنّها عليه فعلم بعد ذلك ؟ قال : « يؤدّها إلى‏ أهلها لما مضى » قلت : فإن لم يعلم أهلها فدفعها إلى‏ من ليس هو لها بأهل وقد كان طلب واجتهد ثم علم بعد ذلك سوء ما صنع ؟ قال : « ليس عليه أن يؤدّيها مرّة أُخرى » (2).
    وفي رواية أُخرى مثلها غير أنّه قال : « إن اجتهد فقد برئ ، وإن قصّر في الاجتهاد فلا » (3).
    ويضعّف الأوّل : بأنّه إن أُريد بالاجتهاد القدر المسوّغ لدفع الزكاة إليه ولو بدعواه الفقر فمرجع هذا التفصيل إلى‏ المختار. وإن أُريد به الزائد على‏ ذلك ـ كما هو الظاهر من لفظ الاجتهاد ـ فهو غير واجب عندهم بلا خلاف بينهم فيه أجده ، وبه صرّح جماعة (4) ، حملاً لأفعال المسلمين وأقوالهم على‏ الصحة ، كما يستفاد من التتبّع والاستقراء لموارد كثيرة ، مع استلزام وجوبه العسر والحرج المنفيين في الشريعة ، وكونه خلاف الطريقة
1 ـ قاله في المعتبر2 : 569.
2 ـ الكافي 3 : 546 / 2 ، التهذيب 4 : 102 / 290 ، الوسائل 9 : 214 أبواب المستحقين للزكاة ب 2 ح 1.
3 ـ الكافي 3 : 546 / ذيل حديث 2 ، التهذيب 4 : 103 / 291 ، الوسائل ، 9 : 214 أبواب المستحقين للزكاة ب 2 ح 2.
4 ـ منهم صاحبا المدارك5 : 206 ، والذخيرة : 464.


(132)
المستمرّة في الأزمنة السابقة واللاحقة ، وخلاف ما تدل عليه جملة من المعتبرة بتصديق الأئمّة لمدّعي الفقر والمسكنة من غير حلف ولا بيّنة (1).
    ومع ذلك فقد نقل في المدارك الإجماع على‏ عدم وجوب ذلك عن جماعة (2) ، نعم يظهر من المبسوط (3) وقوع الخلاف في المسألة (4) ، ولكن في المختلف (5) : الظاهر أنّه من العامة.
    نعم ، له قول بعدم تصديق الفقير في دعواه الفقر إذا كان له مال فادّعى‏ تلفه إلّا بالحلف أو البيّنة على‏ اختلاف النقل عنه والحكاية (6).
    وهو وإن وافق الأصل واستصحاب الحالة السابقة إلّا أنّه لعلّه لا يعارض ما قدّمناه من الأدلّة وإن كان الأحوط مراعاته.
    والثاني وهو الروايتان : بأنّ موردهما غير محل النزاع ، كما لا يخفى‏ على‏ المتدبّر فيهما.
    ثم إنّ هذا إذا بان عدم الاستحقاق بالغناء. ولو بان بالكفر والفسق ونحوهما ففي الذخيرة : أن الذي قطع به الأصحاب عدم الإعادة ، مؤذناً بعدم خلاف فيه بينهم ، قال : واستدلّ عليه بأنّ الدفع واجب فيكتفي في شرطه بالظاهر تعليقاً للوجوب على‏ الشرط الممكن ، فلم يضمن ، لعدم العدوان بالتسليم المشروع. انتهى‏ (7).
1 ـ المدارك 5 : 201.
2 ـ المدارك 5 : 206.
3 ـ المبسوط 1 : 247.
4 ـ أي مسأله تصديق الفقير بمجرّد دعواه.
5 ـ المختلف : 85.
6 ـ المنقول عن الشيخ في المعتبر 2 : 568 التكليف بالبيّنة.
7 ـ الذخيرة : 464.


(133)
    وهذا الدليل يؤيّد ما قدّمنا ، كما يؤيّده أيضاً ما ذكروه من عدم الضمان مع تعذّر الارتجاع إذا كان الدافع الإمام أو نائبه من غير خلاف أجده ، وبه صرّح في الذخيرة (1) ، وفي المنتهى‏ : أنّه لا خلاف فيه بين العلماء (2) ، لأنّ المالك خرج عن العهدة بالدفع إليهما ، وهما خرجا عن العهدة بالدفع إلى‏ من يظهر منه الفقر ، وإيجاب الإعادة تكليف جديد منفيّ بالأصل.

     [ و ] الصنف الثالث : [ العاملون ] عليها [ وهم جُباة الصدقة ] والسعاة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدّوها إلى‏ من يقسّمها ، كما في المرسل (3).
    ولا خلاف بين العلماء في استحقاقهم لها ، كما في ظاهر المنتهى‏ ، وفيه : عندنا أنّه يستحقّ نصيباً من الزكاة وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يعطي عوضاً وأُجرةً لا زكاةً (4) وما عزاه إلينا قد ادّعى‏ في المدارك وغيره عليه الإجماع منّا ومن أكثر العامة (5).
    ولا ريب فيه لظاهر الآية (6) ، لاقتضاء العطف بالواو التسوية ، وفي الصحيح بعد السؤال عن الآية « إن الإمام يعطي هؤلاء جميعاً » (7).
1 ـ الذخيرة : 463.
2 ـ المنتهى 1 : 527.
3 ـ التهذيب 4 : 49 / 129 ، تفسير القمي 1 : 299 ، الوسائل 9 : 211 أبواب المستحقين للزكاة ب 1 ح 7.
4 ـ المنتهى 1 : 519.
5 ـ المدارك 5 : 208 ، الحدائق 12 : 173.
6 ـ التوبة : 60.
7 ـ الكافي 3 : 496 / 1 ، الفقيه 2 : 2 / 4 ، التهذيب 4 : 49 / 128 ، الوسائل 9 : 209 أبواب المستحقين للزكاة ب 1 ح 1.


(134)
    وذكر جماعة من غير خلاف بينهم أجده : أنّ الإمام بالخيار بين أن يقرّر لهم أُجرةً معلومةً عن مدة معيّنة ، أو يجعل له جُعالة ، أو يجعل له نصيباً من الصدقات.
    وفي الصحيح : ما يعطى‏ المصدّق ؟ قال : « ما يرى‏ الإمام ، ولا يقدَّر له شي‏ء » (1).
    ولا يجوز أن يكونوا من بني هاشم كما في الصحيح (2) ، قيل : إلّا إذا استؤجروا أو دفع إليهم الإمام من بيت المال (3). ولا بأس به.
    ولا يعتبر فيهم الفقر لأنّهم قسيمهم.

     [ و ] الصنف الرابع : [ المؤلّفة قلوبهم ] بالكتاب والسنة وإجماع العلماء كما في عبائر جماعة وهم [ الذين يُستمالون إلى‏ الجهاد بالإسهام ] لهم [ في الصدقة وإن كانوا كفّاراً ].
    ظاهر العبارة عدم إشكال في دخول المسلمين فيهم ، حيث جعل الكفّار فيها الفرد الأخفى‏ ، مع أنّ ظاهر الأصحاب عكس ذلك ، لاتّفاقهم على‏ دخول الكفّار في الجملة وإن اختلف عبائرهم في التأدية عنهم بالمنافقين خاصّة كما عن الإسكافي (4) أو بمطلقهم كما في عبائر غيره (5).
    وإنّما اختلفوا في عمومهم للمسلمين كما عليه جماعة ومنهم الحلّي ،
1 ـ الكافي 3 : 563 / 13 ، التهذيب 4 : 108 / 311 ، المقنعة : 264 ، الوسائل 9 : 211 أبواب المستحقين للزكاة ب 1 ح 4.
2 ـ الكافي 4 : 58 / 1 ، التهذيب 4 : 58 / 154 ، الوسائل 9 : 268 أبواب المستحقين للزكاة ب 29 ح 1.
3 ـ الحدائق 12 : 174.
4 ـ حكاه عنه في المختلف : 181.
5 ـ المدارك 5 : 214.


(135)
قال : لأنّه يعضده ظاهر التنزيل وعموم الآية ، فمن خصّها يحتاج إلى‏ دليل (1).
    وفي المختلف : هو الأقرب ، لنا : عموم كونهم مؤلّفة ، وما رواه زرارة ومحمّد بن مسلم أقول : في الصحيح ـ : أنّهما قالا لأبي عبد اللَّه عليه السلام : أرأيت قول اللَّه تعالى .. إلى‏ أن قال ـ : « سهم المؤلّفة وسهم الرقاب عام ، والباقي خاص » (2) وإنّما يكون لو تناول القسمين (3).
    أو اختصاصهم بالكفَرَة مطلقاً أو في الجملة كما عليه آخرون ، وقيل : إنّه المشهور (4) ، ولعلّه كذلك ، حتى أنّ الشيخ في المبسوط قال بأن المؤلّفة عندنا هم الكفار الذين يُستمالون بشي‏ء من مال الصدقات إلى‏ الإسلام ، ويتألّفون ليستعان بهم على‏ قتال أهل الشرك ، ولا يعرف أصحابنا مؤلّفة أهل الإسلام (5).
    ومستندهم ـ إن لم يكن إجماع ـ غير واضح ، عدا الإجماع على‏ دخول الكفّار ووقوع الخلاف في المسلمين.
    ويضعّف بما مرّ من الدليل فيهم أيضاً ، بل ظاهر جملة من النصوص أنّهم قوم مسلمون قد أقرّوا بالإسلام ودخلوا فيه لكنّه لم يستقرّ في قلوبهم ولم يثبت ثبوتاً راسخاً ، فأمَرَ اللَّه تعالى نبيّه بتألّفهم بالمال لكي تقوى‏ عزائمهم وتشتدّ قلوبهم على‏ البناء على‏ هذا الدين.
1 ـ السرائر 1 : 458.
2 ـ الكافي 3 : 496 / 1 ، الفقيه 2 : 2 / 4 ، التهذيب 4 : 49 / 128 ، الوسائل 9 : 209 أبواب المستحقين للزكاة ب 1 ح 1.
3 ـ المختلف : 181.
4 ـ قال به صاحب الحدائق 12 : 175.
5 ـ المبسوط 1 : 249.
رياض المسائل الجزء الخامس ::: فهرس