رياض المسائل الجزء السادس ::: 121 ـ 135
(121)
    ( ولو عدل هؤلاء إلى‏ التمتع اختياراً ففي جوازه قولان ) للشيخ ، أحدهما الجواز ، كما عنه في المبسوط والخلاف (1) ، وحكي عن الجامع أيضاً (2) لوجوه ضعيفة ، أجودها الصحيح : عن رجل من أهل مكة خرج إلى‏ بعض الأمصار ، ثم رجع فمرّ ببعض المواقيت التي وقّت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، له أن يتمتّع ؟ فقال : « ما أزعم أن ذلك ليس له ، والإهلال بالحج أحبّ إليّ » (3).
    وليس نصاً في حجة الإسلام ، فيحتمل الحمل على‏ التطوع ، سيّما مع بُعد بقاء المكي بغيرها ـ إلى‏ أن يخرج من مكة ويرجع إليها ـ عادةً ، مع أن له تتمة ربما تشعر بوروده في التطوع دون الفرض ، كما أشار إليه بعض (4).
    نعم ، ربما كان في قوله : « الإهلال بالحج أحبّ إليّ » إشعار بإرادة الفرض ، بناءً على‏ أفضلية التمتع في التطوع مطلقاً إجماعاً.
    ولعلّه لذا أفتى‏ بمضمونه جماعة ، كالشيخ في كتابي الحديث والنهاية والمبسوط (5) ، والفاضل في التحرير والمنتهى‏ (6) ، وعنه وعن الماتن في المعتبر والتذكرة (7) أيضاً ، لكن خصّوه بمورده وهو ما إذا خرج أهلها إلى‏ بعض الأمصار ثم رجعوا فمرّوا ببعض المواقيت ، وحينئذ فليس فيه حجة على‏ الجواز مطلقاً ، كما هو المدّعى‏ ، هذا.
1 ـ المبسوط 1 : 306 ، الخلاف 2 : 272.
2 ـ الجامع للشرائع : 179.
3 ـ التهذيب 5 : 33/100 ، الاستبصار 2 : 158/518 ، الوسائل 11 : 262 أبواب اقسام الحج ب 7 ح 1.
4 ـ الفاضل المقداد في التنقيح 1 : 440.
5 ـ التهذيب 5 : 30 و31 ، الاستبصار 2 : 159 ؛ النهاية : 206 ، المبسوط 1 : 308.
6 ـ التحرير 2 : 93 ، المنتهى 2 : 664.
7 ـ المعتبر 2 : 798 ، التذكرة 1 : 319.


(122)
    مع أن في موافقة الجماعة إشكالاً لقصور الرواية عن الصراحة في الفريضة ، بل ظهور بعض ما فيها على‏ إرادة النافلة.
    ويجاب عن القرينة المقابلة : باحتمال أن يكون وجه أحبّية الإهلال بالحج التقية ، كما أشار إليه بعض الأجلّة ، وقال : بل يجوز أن يُهلّ بالحج وينوي العمرة (1) ، كما في الصحيح : « ينوي العمرة ويُهلّ بالحج » (2) إلى‏ غيره من الأخبار.
    أقول : وكيف كان ، فلا ريب أن عدم العدول والإهلال بالحج أولى‏ ، كما صرّحت به الرواية. وفيه خروج عن شبهة القول بالمنع مطلقاً حتى في الصورة التي وافق فيها الشيخ الجماعة ، كما هو صريح العماني كما حكي (3) ، وظاهر الفاضل في المختلف والمقداد في الشرح (4) ، بل كلّ من جعل ( أشبههما المنع ) مطلقاً ، من غير تفصيل بين الصورة المفروضة وغيرها.
    وممّا ذكرنا ظهر وجه أشبهية المنع كذلك ، وأنه يجب القطع به في غير الصورة المزبورة. ويستظهر فيها أيضاً ، بناءً على‏ عدم صراحة الرواية في الفريضة. والقرينة المشعرة بإرادتها مع ضعفها معارضة بمثلها ، بل أظهر منها.
    وحينئذ فيكون التعارض بينها وبين الأدلة المانعة تعارض العموم والخصوص من وجه ، يمكن تخصيص كلّ منهما بالآخرة ، والترجيح‏
1 ـ كشف اللثام 1 : 278.
2 ـ التهذيب 5 : 80/264 ، الاستبصار 2 : 168/554 ، الوسائل 12 : 348 أبواب الإحرام ب 21 ح 2.
3 ـ حكاه عنه في المختلف : 261.
4 ـ المختلف : 261 ، التنقيح الرائع 1 : 439.


(123)
للمانعة بموافقة الكتاب والكثرة.
    وعلى‏ تقدير التساوي يجب الرجوع إلى‏ الأصل ، ومقتضاه وجوب تحصيل البراءة اليقينية ، ولا يتحقق ألاّ بما عدا المتعة ، للاتفاق على‏ جوازه فتوىً وروايةً دونها ، فتركه هنا أولى‏ ، وقد صرّحت به الرواية أيضاً كما مضى.
    وعلم أن شيخنا في المسالك والروضة (1) صرّح بأن لمذهب الشيخ رواية ، بل روايات.
    فإن أراد بها نحو الصحيحة ، وإلّا فلم نقف على‏ شي‏ء منها ، ولا أشار إليه أحد من الطائفة.
    نعم ، وردت روايات بأن للمفرد بعد دخول مكة العدول إلى‏ المتعة ، إلّا أن ظاهر الأصحاب أنها مسألة على‏ حدة ، وفرق بينها وبين هذه المسألة ، حيث منعوا عن العدول هنا مطلقاً أو في الجملة ، وأباحوه ثمّة من غير خلاف ، بل نقل فيها الإجماع جماعة ، كما ستعرفه.
    ولعلّ وجه الفرق ما أشار إليه الفاضل المقداد بأن تلك في العدول بعد الشروع ، وهذه فيه قبله (2).
    أو ما يظهر من جماعة من أنها فيما إذا لم يتعيّن عليه الإفراد كالتطوّع والمنذور كذلك (3). ولعلّ هذا أظهر فتوىً ، لما سيأتي إليه الإشارة ثمّة إن شاء اللَّه سبحانه.
1 ـ المسالك 1 : 101 ، الروضة 2 : 206.
2 ـ التنقيح الرائع 1 : 442.
3 ـ منهم : صاحب المدارك 7 : 203 ؛ والفيض الكاشاني في المفاتيح 1 : 305 ، وصاحب الحدائق 14 : 404.


(124)
    ( وهو ) أي العدول ( مع الاضطرار ) المتحقق بخوف الحيض المتأخر عن النفر مع عدم إمكان تأخير العمرة إلى‏ أن تطهر ، وخوف عدوّ بعده ، وفوت الصحبة كذلك ( جائز ) على‏ المعروف من مذهب الأصحاب من غير ظهور مخالف على‏ الظاهر ، المصرَّح به في المدارك (1) ، وفي غيره الاتفاق عليه (2).
    قيل : للعمومات ، وفحوى ما دلّ على‏ جواز العدول عن التمتع إليهما معه فالعدول إلى‏ الأفضل أولى‏ منه إلى‏ المفضول (3).
    ولعلّ المراد بالعمومات إطلاق نحو الصحيح : عن رجل لبّى بالحج مفرداً ، ثم دخل مكة فطاف بالبيت وسعى‏ بين الصفا والمروة ، قال : « فليحلّ وليجعلها متعة ، إلّا أن يكون ساق الهدي فلا يستطيع أن يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه » (4).
    قيل : وفي الكل نظر ، وظاهر التبيان والاقتصاد والغنية والسرائر العدم. ولو قيل بتقديم العمرة على‏ الحج للضرورة مع إفرادهما ، والإحرام بالحج من المنزل ، أو الميقات إن تمكّن منه كان أولى‏ إذ لا نعرف دليلاً على‏ وجوب تأخيرهم العمرة. وفي الخبر : عن رجل خرج في أشهر الحج معتمراً ، ثم خرج إلى‏ بلاده ، قال : « لا بأس ، وإن حج من عامه ذلك وأفرد الحج فليس عليه دم » (5) وظاهره الإتيان بعمرة مفردة ثم حج مفرداً (6). انتهى‏.
1 ـ المدارك 7 : 189.
2 ـ اُنظر المفاتيح 1 : 305 ، والحدائق 14 : 371.
3 ـ المدارك 7 : 189.
4 ـ التهذيب 5 : 89/293 ، الاستبصار 2 : 174/575 ، الوسائل 12 : 352 أبواب الإحرام ب 22 ح 5.
5 ـ الكافي 4 : 535/3 ، الوسائل 14 : 310 أبواب العمرة ب 7 ح 2.


(125)
    ولعلّ وجه النظر في الصحيح ظهور سياقه في الفرق بين حجّي القران والإفراد في جواز العدول وعدمه مع أنهم لم يفرّقوا بينهما.
    وفي الفحوى‏ بابتنائها على‏ ما هو المعروف بينهم من وجوب تأخير العمرة عن الحج ، ولا دليل عليه كما ذكره ، وهو حسن.
    إلّا أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على‏ وجوب تأخيرها ، وقد مضى عن المنتهى‏ وغيره كونه مجمعاً عليه بيننا (1) ، فيشكل المصير إلى‏ جواز تقديمها وإن أومأت إليه الرواية التي ذكرها ، ونحوها اخرى‏ : « أمرتم بالحج والعمرة فلا تبالوا بأيّهما بدأتم » (2) لقصورهما سنداً ، بل ودلالةً كما لا يخفى‏.
    ( وشروطه ) أي الإفراد ثلاثة : ( النية ) كما مرّ في المتعة.
    ( وأن يقع في أشهر الحج ) بلا خلاف بين الأصحاب أجده ، وبه صرّح في الذخيرة (3) ، معرباً عن دعوى إجماعهم عليه ، كما هو أيضاً ظاهر جماعة ، بل فيها وفي المدارك (4) عن المعتبر أن عليه اتفاق العلماء كافة.
    للعمومات كتاباً وسنّةً ، وخصوص نحو الصحيح في قول اللَّه عزّ وجلّ : ( الْحَجُّ أَشهرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ ) (5) : « والفرض التلبية والإشعار والتقليد ، فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحج ، ولا يفرض الحج إلّا في هذه الشهور التي قال اللَّه عزّ وجل : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) وهو شوّال وذو القعدة وذو الحجة » الحديث (6).
1 ـ راجع ص 120.
2 ـ الفقيه 2 : 310/1542 ، الوسائل 14 : 296 أبواب العمرة ب 1 ح 6.
3 ـ الذخيرة : 573.
4 ـ المدارك 7 : 191.
5 ـ البقرة : 197.
6 ـ الكافي 4 : 289/2 ، الوسائل 11 : 271 أبواب اقسام الحج ب 11 ح 2.


(126)
    وفي المنتهى‏ وغيره (1) : خلافاً لأبي حنيفة وأحمد والثوري ، فأجازوا الإحرام به قبلها.
    وأن يعقد إحرامه ( من الميقات ) وهو أحد الستّة الآتية وما في حكمها ( أو من دويرة أهله إن كانت أقرب ) من الميقات ( إلى‏ عرفات ) كما هنا وفي اللمعة وعن المعتبر (2) ، أو إلى‏ مكة كما عليه جماعة (3) تبعاً لما في النصوص ، كما سيأتي إليه الإشارة.
    ولا خلاف في هذا الشرط أيضاً على الظاهر ، المصرَّح به في كلام جماعة (4) ، وعن التذكرة الإجماع على‏ أن أهل مكة يحرمون من منزلهم (5) ، وفي الذخيرة : إنه المعروف من مذهب الأصحاب (6) ، وسيأتي من الأخبار ما يدلّ عليه.
    ( والقارن كالمفرد ) في كيفيته وشروطه ( إلّا أنه يضمّ إلى‏ إحرامه سياق الهدي ) على‏ الأظهر الأشهر ، بل عليه عامة من تأخر ؛ للصحاح المستفيضة ، منها : « القارن الذي يسوق الهدي عليه طوافان بالبيت ، وسعى واحد بين الصفا والمروة ، وينبغي له أن يشترط على ربه إن لم يكن حجة فعمرة » (7).
    ومنها : ( لا يكون قِران إلّا بسياق الهدي ، وعليه طواف بالبيت وركعتان عند مقام إبراهيم عليه السلام ، وسعى بين الصفا والمروة ، وطواف بعد
1 ـ المنتهى 2 : 665 ؛ وانظر التذكرة 1 : 319 ، وكشف اللثام 1 : 2821.
2 ـ اللمعة ( الروضة البهية ) 2 : 210 ، المعتبر 2 : 786.
3 ـ منهم : صاحب المدارك 7 : 192 ، والسبزواري في الذخيرة : 573 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 1 : 281.
4 ـ منهم : صاحب المدارك 7 : 191 ، والسبزواري في الذخيرة : 573.
5 ـ التذكرة 1 : 322.
6 ـ الذخيرة : 573.
7 ـ التهذيب 5 : 43/125 ، الوسائل 11 : 213 أبواب اقسام الحج ب 2 ح 3.


(127)
الحج وهو طواف النساء ) (1).
    ونحوه آخر ، بزيادة قوله : « كما يفعل المفرد ، وليس أفضل من المفرد إلّا بسياق الهدي » (2).
    والتقريب فيها حصر أفعال القِران فيما ذكر فيها ، فيكون أفعال العمرة خارجة عنه ، وجعل امتياز القِران عن الإفراد بسياق الهدي خاصة ، فلا يكون غيره معتبراً.
    وظاهر التذكرة والمنتهى‏ (3) أنه لا خلاف فيه بيننا ، إلّا من العماني ، وفاقاً لجمهور العامة ، فزعم أن القارن يعتمر أوّلاً ، ولا يحلّ منها حتى يحلّ من الحج ، مع أنه في غيرهما عُزي إلى‏ الجعفي والشيخ في الخلاف أيضاً (4).
    وحجتهم عليه غير واضحة ، عدا روايات استدلّ لهم بها (5). وهي غير ظاهرة الدلالة ، كما اعترف به جماعة (6).
    نعم قيل بعد نقل القول من العماني : ونزّل عليه أخبار حجّ النبي صلى الله عليه وآله ، فإنه قدم مكة وطاف وصلّى ركعتيه وسعى‏ ، وكذا الصحابة ، ولم يحلّ ، وأمرهم بالإحلال وقال : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم ولكني سقت الهدي ، وليس لسائق الهدي أن يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه ، وشبّك أصابعه بعضها إلى‏ بعض ، وقال : دخلت العمرة في الحج إلى‏ يوم القيامة » (7).
1 ـ التهذيب 58 : 41/122 ، الوسائل 11 : 212 أبواب أقسام الحج ب 2 ح 1.
2 ـ الكافي 4 : 295/1 ، التهذيب 5 : 42/123 ، الوسائل 11 : 220 أبواب أقسام الحج ب 2 ح 10.
3 ـ التذكرة 1 : 318 ، المنتهى 2 : 661.
4 ـ حكاه عنهما في الدروس 1 : 330 ، وهو في الخلاف 2 : 282.
5 ـ منها : صحيحة الحلبي ، اُنظر الوسائل 11 : 254 أبواب أقسام الحج ب 5 ح 2.
6 ـ منهم صاحبا المدارك 7 : 194 ، والحدائق 14 : 374.
7 ـ التهذيب 5 : 25/74 ، 75 ، الاستبصار 2 : 150/493 ، علل الشرائع : 413/2 ، الوسائل 11 : 239 أبواب أقسام الحج ب 3 ح 1 ، 2.


(128)
    والمعظم نزّلوها على‏ أنه صلى الله عليه وآله إنما طاف طواف الحج وسعى سعيه مقدّماً على‏ الوقوفين ، وأمر الأصحاب بالعدول إلى‏ العمرة وقال : دخلت العمرة في الحج أي حج التمتع ، وفقهه أن الناس لم يكونوا يعتمرون في أيام الحج ، والأخبار الناطقة بأنه صلى الله عليه وآله أحرم بالحج وحده كثيرة.
    أقول : وجملة منها صحيحة.
    ثم في كلام القيل : وممّا يصرّح بجميع ذلك : الخبر المروي في علل الصدوق ، وفيه : عن اختلاف الناس في الحج ، فبعضهم يقول : خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مُهلّاً بالحج ، وقال بعضهم : مُهلّاً بالعمرة ، وقال بعضهم : خرج قارناً ، وقال بعضهم : خرج ينتظر أمر اللَّه عز وجل ، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام : « علم اللَّه عز وجل أنها حجة لا يحجّ رسول اللَّه بعدها أبداً ، فجمع اللَّه عزّ وجلّ له ذلك كلّه في سفرة واحدة ليكون جميع ذلك سنّة لأُمته ، فلمّا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أمره جبرئيل عليه السلام أن يجعلها عمرة إلّا من كان معه هدي ، فهو محبوس على‏ هديه لا يحلّ ، لقوله عزّ وجل : ( حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) فجمعت له العمرة والحج ، وكان خرج على خروج العرب الأول ، لأن العرب كانت لا تعرف إلّا الحج ، وهو في ذلك ينتظر أمر اللَّه عز وجل وهو عليه السلام يقول : الناس على‏ أمر جاهليتهم إلّا ما غيّره الإسلام ، وكانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ، [ فشقّ على‏ أصحابه حين قال : اجعلوها عمرة ، لأنهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج ، ] وهذا الكلام من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إنما كان في الوقت الذي أمرهم بفسخ الحج ، فقال : دخلت العمرة في الحج إلى‏ يوم القيامة وشبّك بين أصابعه » يعني في أشهر الحج ، قال الراوي : قلت له : أفيعتدّ بشي‏ء من الجاهلية ؟ فقال : « إن أهل الجاهلية ضيّعوا كل شي‏ء من دين إبراهيم عليه السلام إلّا الختان‏


(129)
والتزويج والحج ، فإنهم تمسّكوا بها ولم يضيّعوها » (1).
    وفي الصحيح : « أنه صلى الله عليه وآله أهلّ بالحج وساق مائة بدنة وأحرم الناس كلّهم بالحج لا يريدون العمرة ولا يدرون ما المتعة حتى إذا قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ، ثم صلّى‏ ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام واستلم الحجر ، ثم أتى زمزم فشرب منها ، وقال : لولا أن أشقّ على‏ أُمتي لاستقيت منها ذَنوباً أو ذَنوبين ، ثم قال : ابدءوا بما بدأ اللَّه عزّ وجل به فأتى‏ الصفا ثم بدأ به ، ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً ، فلمّا قضى‏ طوافه عند المروة قام فخطب أصحابه وأمرهم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة ، وهو شي‏ء أمر اللَّه عزّ وجلّ به ، فأحلّ الناس وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله : لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم » الخبر (2).
    وعن الإسكافي يجمع بين النسكين بنية واحدة ، فإن ساق الهدي طاف وسعى‏ قبل الخروج إلى‏ عرفات ولا يتحلل ، وإن لم يسق جدّد الإحرام بعد الطوف ولا يحلّ له النساء وإن قصّر. وكأنه نزّل عليه نحو الصحيح : « أيّما رجل قرن بين الحج والعمرة فلا يصلح ، إلّا أن يسوق الهدي قد أشعره وقلّده ، والإشعار أن يطعن في سنامها بحديدة حتى يدميها ، وإن لم يسق الهدي فليجعلها متعة » (3).
    ونزّله الشيخ في التهذيب على‏ قوله : إن لم يكن حجّة فعمرة ، قال : ويكون الفرق بينه وبين المتمتع أن المتمتع يقول هذا القول وينوي العمرة
1 ـ علل الشرائع : 414/3 ، ما بين المعقوفين أصفناه من المصدر.
2 ـ الكافي 4 : 248/6 ، علل الشرائع : 412/1 ، الوسائل 11 : 222 أبواب أقسام الحج ب 2 ح 14.
3 ـ التهذيب 5 : 42/124 ، الوسائل 11 : 254 أبواب أقسام الحج ب 5 ح 2.


(130)
قبل الحج ، ثم يحلّ بعد ذلك ويحرم بالحج فيكون متمتعاً ، والسائق يقول هذا وينوي الحج ، فإن لم يتم له الحج فيجعله عمرة مقبولة. وبُعده ظاهر.
    والأظهر في معناه أن القِران لا يكون إلّا بالسياق ، أو أنه عليه السلام نهى‏ عن الجمع بين الحج والعمرة وقال : إنه لا يصلح ، وأن قوله « إلّا أن يسوق » استثناء من مقدّر ، كأنه قال : ليس القران إلّا أن يسوق ، فإن لم يسق فليجعلها متعة ، فإنها أفضل من الإفراد ، ويدلُّ عليه قوله عليه السلام أول الخبر متصلاً بما ذكر : « إنما نسك الذي يقرن بين الصفا والمروة مثل نسك المفرد ليس بأفضل منه إلّا بسياق الهدي ، وعليه طواف بالبيت وصلاة ركعتين خلف المقام وسعى واحد بين الصفا والمروة وطواف بالبيت بعد الحج ».
    ولعلّ قوله صلى الله عليه وآله « بين الصفا والمروة » متعلق بالنسك ، أي إنما نسك القارن أي سعيه بين الصفا والمروة ، أو سعيه وطوافه لأن الكعبة محاذية لما بينهما ، كنسك المفرد بينهما ، وإنما عليه طوافان بالبيت وسعى واحد ، كلّ ذلك بعد الحج أي الوقوفين ، أو الطواف الثاني وهو طواف النساء بعده ، ثم صرّح عليه السلام بأنه لا قران بلا سياق ، أو بأن القران بين النسكين غير صالح (1). انتهى‏ كلامه أعلى‏ اللَّه مقامه. وإنما نقلناه بطوله لتكفّله لتحقيق البحث كما هو ، وجودة محصوله.
    واعلم أن إحرام القارن ينعقد بالتلبية والإشعار والتقليد على‏ الأظهر الأشهر كما سيذكر.
    ( و ) ذكر جماعة من الأصحاب من غير خلاف ، وربما قيل (2)
1 ـ كشف اللثام 1 : 277.
2 ـ اُنظر المفاتيح 1 : 313.


(131)
المشهور أنه ( إذا لبّى ) وعقد إحرامه بها ( استحب له إشعار ما يسوقه من البُدن ) ولعلّه لإطلاق الأمر بهما في النصوص ، وإلّا فلم نقف في ذلك على‏ أمر بالخصوص.
    وهو على‏ ما ذكره الأصحاب كما في المدارك والذخيرة (1) ( أن يشقّ سنامه من الجانب الأيمن ويلطّخ صفحته بالدم ).
    والصحاح به مستفيضة ، إلّا أنها خالية عن الأمر بلطخ الصفحة بالدم ، منها : عن البدنة كيف يشعرها ؟
    قال : « يشعرها وهي باركة ، وتنحرها وهي قائمة ، وتشعرها من الجانب الأيمن ثم تحرم إذا قلّدت أو أشعرت » (2).
    هذا إذا كان معه بدنة واحدة.
    ( ولو كانت ) معه ( بدناً ) كثيرة ( دخل بينها وأشعرها يميناً وشمالاً ) من غير أن يرتبها ترتيباً يوجب الإشعار في اليمين ، كما في الصحيح (3) وغيره (4).
    ( و ) كما يستحب إشعارها كذا يستحب ( التقليد ) لها كما يستفاد من المعتبرة ، منها الصحيح : « البدنة يشعرها من جانبها الأيمن ثم يقلّدها بنعل قد صلّى‏ فيها » (5).
    وفي القويّ : ما بال البدنة تقلّد النعل وتشعر ؟ فقال : ( أما النعل فتعرف أنها بدنه ويعرفها صاحبها بنعله ، وأما الإشعار فإنه يحرم ظهرها
1 ـ المدارك 7 : 195 ، الذخيرة : 579.
2 ـ الكافي 4 : 297/4 بتفاوت ، الوسائل 11 : 275 أبواب أقسام الحج ب 12 ح 1.
3 ـ الكافي 4 : 297/5 ، الوسائل 11 : 276 أبواب أقسام الحج ب 12 ح 7.
4 ـ التهذيب 5 : 43/128 ، الوسائل 11 : 279 أبواب أقسام الحج ب 12 ح 19.
5 ـ التهذيب 5 : 43/126 ، الوسائل 11 : 278 ، أبواب أقسام الحج ب 12 ح 17.


(132)
على‏ صاحبها من حيث أشعرها ، فلا يستطيع الشيطان أن يمسّها » (1).
    وهو على‏ ما يستفاد منهما ومن غيرهما ( أن يعلِّق في رقبته نعلاً قد صلى‏ فيها ) السائق نفسه كما هو ظاهرهما ، ولا سيّما الثاني ، وأظهر منهما الصحيح : « تقلّدها نعلاً خلقاً قد صلّيت فيها » (2).
    هذا حال البُدن.
    ( و ) أما ( الغنم ) وكذا البقر فـ ( يقلّد لا غير ) فيما ذكره الأصحاب ، قالوا : لضعفهما عن الإشعار (3) ، وفي الصحيح : « كان الناس يقلّدون الغنم والبقر ، وإنما تركه الناس حديثاً ويقلّدون بخيط وسَيْر » (4).
    وإنما حكم الأصحاب باستحباب التقليد والإشعار مع إفادة الأمر بهما الوارد في النصوص الوجوب للأصل ، والصحيح : في رجل ساق هدياً ولم يقلّده ولم يشعره ، قال : « قد أجزأ عنه ، ما أكثر ما لا يقلّد ولا يشعر ولا يجلّل » (5).
    ( ويجوز للقارن والمفرد الطواف ) إذا دخلا مكة قبل المضي إلى‏ عرفات واجباً ومندوباً ، على‏ الأشهر الأقوى‏ في الأول ، ويأتي الكلام فيه في أحكام الطواف مفصّلاً.
    ولا خلاف في الثاني على‏ الظاهر ، المصرَّح به في جملة من العبائر (6) ،
1 ـ التهذيب 5 : 238/804 ، علل الشرائع 434/1 ، الوسائل 11 : 279 أبواب أقسام الحج ب 12 ح 22.
2 ـ الفقيه 2 : 209/956 ، الوسائل 11 : 277 أبواب أقسام الحج ب 12 ح 11.
3 ـ كما في المدارك 7 : 196 والمفاتيح 1 : 317.
4 ـ الفقيه 2 : 209/952 ، الوسائل 11 : 277 أبواب أقسام الحج ب 12 ح 9. السير : ما يقد من المجلد ، والمجمع : السيور. لسان العرب 4 : 390.
5 ـ الفقيه 2 : 209/953 ، الوسائل 11 : 277 أبواب أقسام الحج ب 12 ح 10.
6 ـ كالتنقيح 1 : 440 ، والحدائق 14 : 376.


(133)
بل قيل : اتفاقاً كما في الإيضاح (1).
    وفي معناه الواجب بنذر وشبهه غير طواف الحج للأصل ، والعموم ، السالمين عن المعارض.
    ( لكن يجدّدان التلبية عند كلّ طواف ) عقيب صلاته ( لئلّا يحلّا ) كما يستفاد من الصحيح : إني أُريد الجوار بمكة فكيف أصنع ؟ قال : « إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة فاخرج إلى‏ الجَعرانة (2) فأحرم منها بالحج » فقلت له : كيف أصنع إذا دخلت مكة ، أُقيم إلى‏ التروية ولا أطوف بالبيت ؟ قال : « تقيم عشراً لا تأتي الكعبة ، إنّ عشراً لكثير ، إنّ البيت ليس بمهجور ، ولكن إذا دخلت مكة فطف بالبيت واسع بين الصفا والمروة » [ فقلت له : ] أليس كل من طاف وسعى‏ فقد أحلّ ؟ فقال : « إنك تعقد بالتلبية » ثم قال : « كلّما طفت طوافاً وصلّيت ركعتين فاعقد بالتلبية » (3).
    ونحوه آخر : عن المفرد للحج هل يطوف بالبيت بعد طواف الفريضة ؟ قال : « نعم ما شاء ويجدّد التلبية بعد الركعتين ، والقارن بتلك المنزلة ، يعقدان ما أحلّا من الطواف بالتلبية » (4) والظاهر ما ذكره الشيخ من الطواف مندوباً بعد طواف الفريضة مقدّماً على‏ الوقوف (5).
1 ـ قال به في كشف اللثام 1 : 282 ، وهو في الإيضاح 1 : 262.
2 ـ الجعرانة : هي بتسكين العين والتخفيف ، وقد تكسر وتشدد الراء : موضع بين مكة والطائف علي سبعة أميال من مكة. مجمع البحرين 3 : 247.
3 ـ الكافي 4 : 300/5 ، التهذيب 5 : 45/137 ، الوسائل 11 : 285 أبواب أقسام الحج ب 16 ح 1. بدل ما بين المعقوفين في النسخ : فقال ، وما أثبتناه من المصدر.
4 ـ الكافي 4 : 298/1 ، التهذيب 5 : 44/131 ، الوسائل 11 : 286 أبواب أقسام الحج ب 16 ح 2.
5 ـ التهذيب 5 : 44.


(134)
    ونحو منهما ثالث (1).
    والموثق : « من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحلّ ، أحبّ أو كره » (2).
    وأصرح منها ما رواه الفضل عن مولانا الرضا عليه السلام في العلل : من أنّهم أُمروا بالتمتع إلى‏ الحج لأنه تخفيف ، إلى‏ قوله : « وأن لا يكون الطواف محظوراً ، لأن المحرم إذا طاف بالبيت أحلّ إلّا لعلّة ، فلولا التمتع لم يكن للحاجّ أن يطوف ، لأنه إن طاف أحلّ وأفسد إحرامه وخرج منه قبل أداء الحج » (3).
    وعليه الشيخ في المبسوط والنهاية والخلاف (4) ، وعن الشهيد أنّ الفتوى به مشهورة ، وبه صرّح في اللمعة وشيخنا في الشرح واختاراه فيهما وفي المسالك (5) ، ونفى عنه البأس في التنقيح وذهب إليه المحقّق الثاني (6).
    ( وقيل : إنما يحلّ المفرد ) بذلك خاصة ، القائل به الشيخ في التهذيب (7) للنصوص المستفيضة ، منها زيادةً على‏ ما قد عرفته ممّا دلّ على‏ أن السائق لا يحلّ ما لم يبلغ الهدي محلّه خصوص جملة من المعتبرة ، منها الصحيح : إنّ رجلاً جاء إلى‏ أبي جعفر عليه السلام وهو خلف المقام قال : إني قرنت بين حج وعمرة ، فقال له : « هل طفت بالبيت ؟ »
1 ـ التهذيب 5 : 446/1554 ، الوسائل 11 : 266 أبواب أقسام الحج ب 9 ح 4.
2 ـ الكافي 4 : 299/2 ، الفقيه 2 : 203/927 ، التهذيب 5 : 44/132 ، الوسائل 11 : 255 أبواب أقسام الحج ب 5 ح 5.
3 ـ علل الشرائع : 274/9 ، عيون الأخبار 2 : 118/ ، الوسائل 11 : 232 أبواب أقسام الحج ب 2 ح 27.
4 ـ المبسوط 1 : 311 ، النهاية : 208 ، انظر الخلاف 2 : 282.
5 ـ اللمعة ( الروضة البهية ) 2 : 214 ، المسالك 1 : 102.
6 ـ التنقيح الرائع 1 : 441 ، المحقق الثاني في جامع المقاصد 3 : 115.
7 ـ التهذيب 5 : 44.


(135)
فقال : نعم ، قال : « هل سقت الهدي ؟ » فقال : لا ، فأخذ عليه السلام بشعره ، ثم قال : « أحللت واللَّه » (1).
    ومنها الموثق : « من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحلّ ، أحبّ أو كره ، إلّا من اعتمر في عامه ذلك أوساق الهدي وأشعره وقلّده » (2).
    ومنها الموثق : رجل يفرد بالحج فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم يبدو له أن يجعلها عمرة ، فقال : « إن كان لبّى بعدما سعى‏ قبل أن يقصّر فلا متعة له » (3).
    ومنها المرسل : « ما طاف بين هذين الحجرين الصفا والمروة أحد إلّا أحلّ ، إلّا سائق الهدي » (4).
    وبهذه النصوص يقيد ما أطلق من الأخبار المتقدمة.
    وأمّا ما صرّح فيه بتحلّل القارن كالمفرد فيمكن حمله على‏ القارن بغير معنى‏ السائق (5) ، كما وقع التصريح به في الصحيح من هذه المستفيضة. ومع ذلك فهو قاصر عن المكافأة لها لكثرتها ، واعتضادها بغيرها ، دونه : ومع ذلك فهي أوفق بمقتضى‏ الأصل الدالّ على‏ بقاء عدم التحلل من الاستصحاب.
    فهذا القول لا يخلو عن قوة ، واستظهره أيضاً في الذخيرة (6).
1 ـ الفقيه 2 : 203/928 ، الوسائل 11 : 256 أبواب أقسام الحج ب 5 ح 7.
2 ـ الفقيه 2 : 203/927 ، الوسائل 11 : 255 أبواب أقسام الحج ب 5 ح 5.
3 ـ الفقيه 2 : 204/931 ، التهذيب 5 : 90/295 ، الوسائل 11 : 256 أبواب أقسام الحج ب 5 ح 9.
4 ـ الكافي 4 : 299/2 ، التهذيب 5 : 44/133 ، الوسائل 11 : 256 أبواب أقسام الحج ب 5 ح 6.
5 ـ وهو القارن بين الحج والعمرة في النية.
6 ـ الذخيرة : 555.
رياض المسائل الجزء السادس ::: فهرس