رياض المسائل الجزء السادس ::: 181 ـ 195
(181)
    واعلم أن إطلاق نفي الإحرام وجوازه في الخبرين يعمّ الإحرام للعمرة المفردة ، وعليه فلا يباح له دخول مكة حتى يحرم من الميقات ، كما حكي التصريح به عن بعض الأصحاب (1).
    وردّ بأنه ليس بجيّد ولا موافق لكلام الأصحاب ، فإنهم إنما صرّحوا ببطلان الحج أو وجوب إعادته ، إلّا الفاضل في القواعد والإرشاد (2) ، والماتن في الشرائع (3) ، ففي كلامهما : لا يصح له الإحرام إلّا من الميقات ، والشهيد في الدروس ففيه بطلان النسك (4) ، واللمعة ففيها بطلان الإحرام (5) ، والكل يحتمل ما صرّح به غيرهم ، أي من أن المراد بطلان الحج خاصة ، لا العمرة المفردة ، فإن أدنى‏ الحلّ ميقات اختياري لها ، غاية الأمر إثمه بتركه مما مرّ عليه من المواقيت.
    ( ويحرم من موضعه ) أينما كان إذا كان لم يدخل الحرم ( إن كان ناسياً أو جاهلاً أو لا يريد النسك ) ويندرج فيه من لا يكون قاصداً دخول مكة عند مروره على‏ الميقات ثم تجدّد له قصده ، ومن لا يجب عليه الإحرام لدخولها ، كالمتكرر ، ومن دخلها لقتال إذا لم يكن مريداً للنسك ثم تجدّد له إرادته.
    أما من مرّ على‏ الميقات قاصداً دخول مكة وكان ممن يلزمه الإحرام لدخولها لكنه لم يرد النسك فهو في معنى‏ متعمد ترك الإحرام ، بل أولى.
    ( ولو دخل ) أحد هؤلاء ( مكة ) أو الحرم ( خرج إلى‏ الميقات ) مع الإمكان وأحرم منه كما مرّ ( ومع التعذر ) فـ ( من أدنى الحلّ ، ومع‏
1 ـ حكاه عنه في كشف اللثام 1 : 309.
2 ـ القواعد 1 : 79 ، الارشاد 1 : 314.
3 ـ الشرائع 1 : 242.
4 ـ الدروس 1 : 341.
5 ـ اللمعة ( الروضة البهية ) 2 : 223.


(182)
( التعذر يحرم من ) موضعه ( مكة ) أو الحرم.
    بلا خلاف في شي‏ء من ذلك أجده ، وبه صرّح بعض الصحاح المستفيضة ، المتقدمة إلى‏ جملة منها الإشارة ، بعد حمل مطلقها على‏ مقيدها هنا أيضاً على‏ نحو ما مضى ، وهي وإن اختصت بالناسي والجاهل إلّا أن الأخير ملحق بهما بلا خلاف.
    قيل : أما في وجوب خروجه إلى‏ الميقات إذا أمكن وأراد الحج أو عمرة التمتع فظاهر ، وأطلق الشافعي إحرامه من موضعه. وأما إجزاء إحرامه من موضعه أو أدنى‏ الحلّ إذا لم يمكن فلأن مجاوزته الميقات بلا إحرام كانت تجوز له إذا لم يكن يريد النسك ، أمّا نحو الحطّاب فظاهر ، وأما غيره ممن لا يريد الحرم فللأصل ، ومروره عليه السلام بذي الحليفة مرّتين لغزوتي بدر محلّاً هو وأصحابه ، وكأنه لا خلاف فيه (1).
    واعلم أن إطلاق العبارة ونحوها بجواز الإحرام من أدنى‏ الحلّ أو موضعه حيث يتعذر العود إلى‏ الميقات يقتضي عدم وجوب العود إلى‏ ما أمكن من الطريق ، وهو مقتضى‏ إطلاق أكثر النصوص ، إلّا أن بعض الصحاح المتقدّمة منها يقتضي وجوبه ، ويعضده حديث : « الميسور لا يسقط بالمعسور » وهو فتوى الشهيد كما قيل (2).
    ( الثالثة : لو نسي الإحرام أو جهله حتى أكمل مناسكه فالمروي ) في الصحيح (3) والمرسل لجميل (4) ( أنه لا قضاء ) عليه على‏ تقدير وجوبه إذا كان قد نوى ذلك كما في الثاني ، وفيه ذكر الناسي ، ويرجع إليه الأول‏
1 ـ كشف اللثام 1 : 308.
2 ـ كشف اللثام 1 : 309.
3 ـ التهذيب 5 : 476/1678 ، الوسائل 11 : 338 أبواب المواقيت ب 20 ح 2.
4 ـ الكافي 4 : 325/8 ، التهذيب 5 : 61/192 ، الوسائل 11 : 338 أبواب المواقيت ب 20 ح 1.


(183)
فيهما بالتقييد وحمل الجاهل فيه على‏ معنى‏ يعمّ الناسي ، بل يفهم من بعض أنه معناه الحقيقي (1) ، مضافاً إلى‏ الأولوية المصرَّح بها في كلام جماعة (2).
    ولكن لبعض فيها مناقشة ، وأراد بها الصحيحة ، بناءً على‏ ان موردها الجاهل خاصة ، وهو غير مفروض المسألة في كلام الجماعة ، قال : مع أنها مخصوصة بإحرام الحج دون العمرة وردّ المرسلة بضعف السند (3).
    ويضعّف بانجبار ضعف السند بعمل الأكثر ، كالشيخ في كتابي الحديث والنهاية والمبسوط والجمل والعقود والاقتصاد (4) ، وابن حمزة في الوسيلة والقاضي في المهذّب والماتن في المعتبر وابن عمّه في الجامع (5) والفاضل في القواعد والتحرير والمنتهى‏ (6) ، والفاضل المقداد في التنقيح والشهيدين في النكت والمسالك (7) ، وفيه : أنه فتوى المعظم ، وفي الدروس : أنه فتوى الأصحاب عدا الحلّي (8). ولعلّه كذلك إذ لم نقف على‏ مخالف صريح عداه ، والمناقش المتقدم قد وافق الأصحاب.
    ويستفاد من المرسل أن الإحرام المنسي هو التلبية دون النية ، فيفسد بتركها الحج ، كما صرّح به الشيخ في المبسوط في فصل فرائض الحج (9) ،
1 ـ اُنظر كشف اللثام 1 : 309.
2 ـ منهم : الشهيدان في غاية المراد 1 : 391 ، والمسالك 1 : 105 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 1 : 309.
3 ـ المدارك 7 : 238.
4 ـ لم نعثر عليه في الاستبصار ، التهذيب 5 : 60 ، النهاية 211 ، المبسوط 1 : 314 ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : 233 ، الاقتصاد : 305.
5 ـ الوسيلة : 159 ، المهذب 1 : 243 ، المعتبر 2 : 810 ، الجامع للشرائع : 180.
6 ـ القواعد 1 : 79 ، التحرير 1 : 97 ، المنتهى 2 : 684.
7 ـ التنقيح الرائع 1 : 451 ، غاية المراد 1 : 391 ، المسالك 1 : 105.
8 ـ الدروس 1 : 350 ؛ وهو في السرائر 1 : 529.
9 ـ المبسوط 1 : 382.


(184)
واشترط النية في النهاية وفصلِ ذكر كيفية الإحرام من المبسوط (1) ، كالمرسل.
    ولا يخلو من وجه اقتصاراً فيما خالف الأصل الآتي بيانه على‏ المتيقن من الفتوى‏ والنص ، وهو ما عدا النية وإن أُطلق الإحرام في الصحيح ، بناءً على‏ ما يستفاد من المرسلة وغيرها من الأخبار الصحيحة من أن المراد بالإحرام هو التلبية ، وسيأتي في بحثها إليها الإشارة.
    ولئن تنزلنا عن كون الإحرام حقيقة فيها نقول : لا ريب في جهالة حقيقته بحسب الفتوى‏ والرواية ، إذ لم يستفد منها خلاف ذلك ، وكذا من الفتوى‏ ، لاختلافها في بيانها :
    فبين قائلٍ بأنها مركبة من النية والتلبية ولبس الثوبين ، كالفاضل في المختلف (2).
    وقائلٍ بأنها الأولان خاصة ، كالحلّي (3).
    وقائلٍ بأنها الأول خاصة ، كما عن الجمل والمبسوط (4) ، وفيه ما عرفته. وقريب منه ما عن الشهيد من أنها توطين النفس على‏ ترك المنهيات المعهودة إلى‏ أن يأتي بالمناسك ، والتلبية هي الرابطة لذلك التوطين ، فنسبتها إليه كنسبة التحريمة إلى‏ الصلاة ، والأفعال هي المزيلة لذلك الربط ، ويتحقق زواله بالكلية بآخرها ، أعني التقصير وطواف النساء بالنسبة إلى‏ النسكين (5).
    وقائلٍ بغير ذلك (6).
    وعليه فيكون الإحرام مجملاً يجب فيه الأخذ بالاحتياط ، وهو العمل‏
1 ـ النهاية : 211 ، المبسوط 1 : 314.
2 ـ المختلف : 263.
3 ـ السرائر 1 : 532.
4 ـ الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : 226 ، المبسوط 1 : 365.
5 ـ غاية المراد 1 : 389.
6 ـ انظر جامع المقاصد 3 : 162 ، وكشف اللثام 1 : 309.


(185)
بمتقضى‏ الفساد بترك كل ما يحتمل كونه إحراماً ، خرج منه ما عدا النية فتوىً وروايةً ، لاتفاقهما على‏ الصحة في [ تركه ، فيبقى‏ تركها ] (1) تحت الأصل مندرجاً.
    وفيه نظر ، أما أولاً : فلمنع الإجمال بإمكان ترجيح الأول من الأقوال بالتبادر عند المتشرعة ، فيكون مراداً من الصحيحة ولو على‏ القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، لوجود القرينة ، وهي اتفاق الطائفة.
    وأما ثانياً : فلدخول النية في الإحرام على‏ جميع الأقوال وإن اختلف في الزيادة ، بل ظاهر جملة منها أنها الإحرام خاصة ، فتركها يدخل في الصحيحة.
    وأما ثالثاً : فلأن الإجمال يقتضي الرجوع في المشتبه إلى‏ مقتضى‏ الأصل ، وهو هنا البراءة لأن الإحرام المأمور به عموماً فتوىً وروايةً ، والمصرَّح في الصحيح بعدم البأس بتركه جهلاً ، إما ما أفادته الأخبار من خصوص التلبية فلا دليل على‏ وجوب غيرها مطلقاً ، لا مجملاً ولا مبيّناً ، أو ما ذكره الأصحاب وهو يشمل النية فتركها يدخل في الصحيحة. وتقييدها بالمرسلة فرع حجيتها ، وهي هنا ممنوعة لخلو فتوى الأكثر الجابرة لها عن التقييد بما إذا نوى‏ ، وإنما هو شي‏ء مذكور في عبارة الشيخ ، هذا ، مع نوع إجمال فيها.
    فالإطلاق كما عليه الأكثر لعلّه أقوى.
    والمناقشة باختصاص الصحيحة بالجاهل فلا يتعدّى‏ إلى‏ الناسي الذي هو مفروض المسألة ، مدفوعة بما عرفته من الأولوية إن لم نقل بعمومه لهما لغة ، وإلّا فالصحيحة مطلقة.
    ومنع الأولوية محل مناقشة ، كيف وقد فهمها الجماعة ، واتّضح في الناسي وجه الحكمة ، وهو ما استدل به جماعة (2) من أن السهو والنسيان‏
1 ـ بدل ما بين المعقوفين في النسخ : تركها خاصة ، فيبقي ما عداها ... ، والمعني معه غير مستقيم كما يظهر بالتأمل ، وقد راجعنا للتصحيح إلى جواهر الكلام 18 : 135.
2 ـ كالفاضل المقداد في التنقيح 1 : 451 ؛ والمهذب البارع 2 : 158.


(186)
كالطبيعة الثانية للإنسان ، فلو أوجبا القضاء للزم العسر والحرج المنفيان شرعاً ، ولا كذلك الجاهل ، فإنّ هذه الحكمة غير موجودة فيه اصلاً.
    ( وفيه وجه بالقضاء ) للحلّي ( مخرَّج ) من أن الأعمال بالنيات ، قال : فكيف تصح بلا نية ، وردّ به كلام شيخ الطائفة (1).
    ويضعّف : بأنه لا عمل هنا بلا نية كما في المختلف والمنتهى‏ (2) ، واستغرب فيه كلامه وقال : إنه لا يوجبه فيه البتة ، والظاهر أنه قد وهم في ذلك لأن الشيخ قد اجتزأ بالنية عن الفعل فتوهّم أنه قد اجتزأ بالفعل بغير نية ، وهذا الغلط من باب إبهام العكس. انتهى‏.
    وفي المعتبر : ولست أدري كيف يحلّ له هذا الاستدلال ولا كيف يوجّهه ، فإن كان يقول : إن الإخلال بالإحرام إخلال بالنية في بقية المناسك فنحن نتكلم على‏ تقدير وقوع نية كل منسك على‏ وجهه ظاناً أنه أحرم أو جاهلاً بالإحرام ، فالنية حاصلة مع إيقاع كل منسك ، فلا وجه لما قاله (3).
    وهو حسن ، وبناؤه كالفاضل على‏ أن المراد بالإحرام المنسي في كلام الشيخ إنما هو ما عدا النية ، كما عرفته من مذهبه المتقدم إليه الإشارة ، فلا يرد ما ذكره الشهيد من أن نسيان نية الإحرام يبطل سائر المناسك لعدم صحة نياتها مُحلّاً (4).
    والأولى في توجيه مذهبه حيث لا يذهب إلى‏ حجية الآحاد التمسك بأصالة وجوب الإتيان بالمأمور به على‏ وجهه ، ولم يحصل ، وغاية النسيان رفع المؤاخذة ، لا صحة العبادة. وهو متين لولا الرواية المنجبرة بفتوى‏ الأصحاب.
1 ـ السرائر 1 : 529.
2 ـ المختلف : 264 ، المنتهى 2 : 685.
3 ـ المعتبر 2 : 810.
4 ـ غاية المراد 1 : 391.


(187)
( المقصد الأول : )
( في ) بيان أفعال الحج
    ( وهي : الإحرام ، والوقوف بعرفات والمشعر ، والذبح بمنى‏ ، والطواف وركعتاه ، والسعي ) بين الصفا والمروة ( وطواف النساء وركعتاه ) لما سيأتي من الأدلة لكل في مبحثه.
    ( وفي وجوب الرمي ، والحلق أو التقصير تردّد ) واختلاف بين الأصحاب ، خصوصاً في الرمي ، فقد حكي الخلاف فيه في المختلف والدروس (1) عن الشيخ والقاضي وظاهر المفيد والإسكافي.
    وأما الثاني فلم يحلك الخلاف فيه في الأول ، وحكي في الثاني عن التبيان خاصة ، قال : وهو نادر (2).
    وكذا في المنتهى‏ ، وفيه زيادة على‏ ذلك : إن الوجوب مذهب علمائنا
1 ـ المختلف : 302 ، الدروس 1 : 433.
2 ـ الدروس 1 : 452.


(188)
اجمع (1). مؤذناً بدعوى‏ الإجماع ، كما صرّح به بعض الأصحاب (2).
    ونحوهما في دعوى الشذوذ غيرهما.
    وبالجملة : دعوى شذوذ الخلاف وندوره هنا مستفيضة في كلام الجماعة.
    وأما ما نقله في التنقيح عن الحلّي (3) فضعيف ، فإنّ الموجود في السرائر خلافه وإن وجد في صدر عبارته ما يوهمه من قوله : يستحب أن يحلق رأسه بعد الذبح لظهور عبارته بعد ذلك في الوجوب ، ورجوع الاستحباب إلى‏ الترتيب بينه وبين الذبح (4).
    وكيف كان ، فلا وجه للتردّد هنا لمكان الإجماع الظاهر ، والمحكي في عبائر هؤلاء مضافاً إلى‏ ما سيأتي.
    بل ولا في الأوّل أيضاً ؛ لنفي الحلّي الخلاف فيه بين أصحابنا ، بل قال : ولا أظن من المسلمين مخالفاً (5). ونحوه في التذكرة والمنتهى‏ (6).
    ولا يقدح فيه مخالفة من مرّ من العظماء لعدم معلومية مخالفتهم صريحاً ، إذ الموجود في عبائرهم نحو لفظ « السنّة » المحتمل قريباً في كلامهم حمله على‏ كون المراد بها ما ثبت وجوبه بالسنّة ، في مقابلة الفريضة الإلهيّة ، لا المعنى‏ المصطلح عليه بين المتشرعة ؛ ولذا قطع الحلّي بعدم المخالفة ، طاعناً به على‏ من توهّمها من عبارتهم ، آتياً بقرائن من عبارة الشيخ وفتاواه ما يستأنس به لهذا الجمل.
    وكيف كان ( أشبهه الوجوب ) لتظافر الأخبار بالأمر بهما ، بل‏
1 ـ المنتهى 2 : 762.
2 ـ كصاحب المدارك 8 : 88 ، والفيض الكاشاني في المفاتيح 1 : 360.
3 ـ التنقيح الرائع 1 : 453.
4 ـ السرائر 1 : 600.
5 ـ السرائر 1 : 606.
6 ـ التذكرة 376 ، المنتهى 2 : 771.


(189)
تواترها ، كما صرّح به الحلّي ، وزاد على‏ هذا الدليل فقال ـ ولنعم ما قال ـ : ثم فعل الرسول والأئمة عليهم السلام : يدل على‏ ما اخترناه وشرحناه لأن الحج في القران مجمل ، وفعله عليه السلام إذا كان بياناً للمجمل جرى‏ مجرى قوله ، والبيان في حكم المبيّن ، ولا خلاف أنه عليه السلام رمى‏ الجمار ، وقال : « خذوا عني مناسككم » (1) فقد أمرنا بالأخذ ، والأمر يقتضي الوجوب عندنا ـ إلى‏ أن قال ـ : وأيضاً دليل الاحتياط يقتضيه لأنه لا خلاف بين الأُمة أن مَن رمى‏ الجمار برئت ذمته من جميع أفعال الحج ، والخلاف حاصل إذا لم يرم الجمار (2). انتهى‏.
    ولا معارض لهذه الأدلة سوى‏ الأصل إن جوّزنا جريانه في نحو المقام ، وهو مخصَّص بالأوامر ، وإلّا فليس بمعارض أيضاً.
    وأما التشكيك في دلالتها على‏ الوجوب في أخبارنا في الذخيرة (3) ، فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، ولا العروج في مقام التحقيق عليه لضعفه من أصله كما بيّن في الأُصول مستقصى ، ولا سيّما هنا ، لفهم الأصحاب إياه منها ، وهو أقوى قرينة عليه ، كما صرّح به نفسه مراراً ومنها المقام ، ولكن في موضع منها ، ولكن رجع عنه أخيراً.
    ونحوه في الضعف تشكيكه في وجوب التأسّي ، وتخصيصه بما إذا علم وجهه لا مطلقاً ، فإنه مسلّم في غير ما وقع بياناً للمجمل ، وأما فيه فلا ، وخصوصاً في الوضوء والصلاة والحج ، لورود الأمر به فيها ، زيادةً على‏ الدليل الاعتباري المبيَّن في الأُصول مفصّلاً.
    وأما القدح في دلالة النص هنا على‏ الوجوب بأنه يدل على‏ وجوب‏
1 ـ عوالي اللآلئ 4 : 34/118 ، المستدرك 9 : 420 أبواب الطواف ب 54 ح 4.
2 ـ السرائر 1 : 607.
3 ـ الذخيرة : 680.


(190)
الأخذ عنه ، لا على‏ وجوب كلّ ما أُخذ عنه ، وإلّا لكان المندوب المأخوذ وأجابا ، وهو باطل.
    فهو كما ترى لظهوره في الثاني ، كما فهمه الأصحاب كافةً قديماً وحديثاً ، ولا ينافيه خروج المندوب بالإجماع وغيره ، فإنّ العام المخصَّص حجّة في الباقي ، وجعله قرينة على‏ الاستحباب أو المعنى‏ الأول دون التخصيص خلاف التحقيق ، فإنه أولى‏ من المجاز حيثما تعارضا.
    وبالجملة : فلا إشكال في وجوبهما.
    ( ويستحب الصدقة أما التوجه ) إلى‏ السفر مطلقاً ، فيخرج ولا يبالي ولو في يوم مكروه ، كما في الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة :
    منها : « افتتح سفرك بالصدقة واخرج إذا بدا لك » (1).
    ومنها : « من تصدّق بصدقة إذا أصبح دفع اللَّه تعالى‏ عنه نحس ذلك اليوم » (2).
    ويستحب أن يكون عند وضع الرِّجل في الركاب ، كما في الخبر ، بل الصحيح ـ كما قيل ـ : « كان علي بن الحسين عليه السلام إذا أراد الخروج إلى‏ بعض أمواله اشترى‏ السلامة من اللَّه عزّ وجلّ بما تيسّر له ، ويكون ذلك إذا وضع رجليه في الركاب » (3).
    ( وصلاة ركعتين ) أو أربع ركعات ، ففي النبوي الخاصي : « ما استخلف رجل على‏ أهله بخلافة أفضل من ركعتين إذا أراد الخروج إلى‏
1 ـ الفقيه 2 : 175/782 ، الوسائل 11 : 375 أبواب آداب السفر إلى الحج ب 15 ح 2.
2 ـ الفقيه 2 : 176/784 ، المحاسن 349/27 ، الوسائل 11 : 377 أبواب آداب السفر إلى الحج ب 15 ح 6.
3 ـ الفقيه 2 : 176/785 ، المحاسن 348/25 ، الوسائل 11 : 376 أبواب آداب السفر إلى الحج ب 15 ح 5.


(191)
سفر ويقول : اللّهم إني أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذريتي ودنياي وآخرتي وأمانتي وخاتمة عملي ، إلّا أعطاه اللَّه عزّ وجلّ ما سأل ) (1).
    وفي آخر مروي عن أمان الأخطار : « ما استخلف عبد في أهله من خليفة إذا هو شدّ ثياب سفره خيراً من أربع ركعات يصلّيهن في بيته ، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو اللَّه أحد ويقول : اللّهم إني أتقرب إليك بهنّ فاجعلهنّ خليفتي في أهلي ومالي » (2).
    ( وأن يقف على‏ باب داره ) وإن كان في مفازة فمن حيث يريد السفر منه و ( يدعو ) بالمأثور ( و ) ذلك بعد أن ( يقرأ فاتحة الكتاب أمامه ، وعن يمينه وشماله ، وآية الكرسي كذلك ).
    ففي الخبر أو الصحيح : « لو أن رجلاً منكم إذا أراد السفر أقام على‏ باب داره تلقاء وجهه الذي يتوجه له فقرأ الحمد أمامه وعن يمينه وعن شماله ، وآية الكرسي أمامه وعن يمينه وعن شماله ، ثم قال : اللّهم احفظني واحفظ ما معي ، وسلّمني وسلم ما معي ، وبلّغني وبلّغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل ، لحفظه اللَّه تعالى‏ وحفظ ما معه وبلّغه وبلّغ ما معه » (3) وزيد في بعض النسخ المعوّذتان والتوحيد كذلك قبل آية الكرسي.
    ( وأن يدعو بكلمات الفرج ) ففي الصحيح : « إذا خرجت من بيتك تريد الحج والعمرة إن شاء اللَّه تعالى‏ فادع دعاء الفرج ، وهو : لا إله إلّا اللَّه الحليم الكريم ، لا إله إلّا اللَّه العليّ العظيم ، سبحان اللَّه ربّ السموات السبع‏
1 ـ الكافي 4 : 283/1 ، الفقيه 2 : 177/789 ، التهذيب 5 : 49/152 ، الوسائل 11 : 379 أبواب آداب السفر الي الحج ب 18 ح 1.
2 ـ أمان الأخطار : 44 ؛ الوسائل 11 : 381 أبواب آداب السفر الي الحج ب 18 ح 3.
3 ـ الكافي 2 : 543/11 وج 283/1 ، الفقيه 2 : 177/790 ، التهذيب 5 : 49/153 ، المحاسن 350/31 ، الوسائل 11 : 381 أبواب آداب السفر الي الحج ب 19 ح 1.


(192)
وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم ، والحمد للَّه رب العالمين » (1).
    ( وبالأدعية المأثورة ) وهي كثيرة :
    منها : المروي في الصحيح السابق بعد كلمات الفرج ، ففيه : « ثم قل : اللّهم كن لي جاراً من كلّ جبّار عنيد ومن كلّ شيطان مريد ، بسم اللَّه دخلت وبسم اللَّه خرجت وفي سبيل اللَّه ، اللّهم إني أُقدّم بين يدي نسياني وعجلتي بسم اللَّه ما شاء اللَّه في سفري هذا ، ذكرته أو نسيته ، اللّهم أنت المستعان على‏ الأُمور كلّها وأنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللّهم هوّن علينا سفرنا ، واطوِ لنا الأرض ، وسيّرنا فيها بطاعتك وطاعة رسولك ، اللّهم أصلح لنا ظهرنا ، وبارك لنا فيما رزقتنا ، وقنا عذاب النار ، اللّهم إني أعوذ بك من وَعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال والولد ، اللّهم أنت عضدي وناصري ، بك أحلّ وبك أسير ، اللّهم إني أسألك في سفري هذا السرور والعمل بما يرضيك عني ، اللّهم اقطع عنّي بُعده ومشقته ، واصحبني فيه واخلفني في أهلي بخير ، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم ، اللّهم إني عبدك ، وهذا حُملانك ، والوجه وجهك ، والسفر إليك ، وقد اطلعت على‏ ما لم يطلع عليه أحد ، فاجعل سفري هذا كفارة لما قبله من ذنوبي ، وكون عوناً لي عليه ، واكفني وَعَثه ومشقته ، ولقّني من القول والعمل رضاك فإنما أنا عبدك وبك ولك ».

    ( والنظر ) فيه ( في مقدماته وكيفيته وأحكامه ) :
    ( و ) اعلم أن‏ ( مقدماته كلّها مستحبة ) على‏ اختلاف في بعضها يأتي ذكره إن شاء اللَّه تعالى‏.
1 ـ الكافي 4 : 284/2 ، التهذيب 5 : 50/154 ، الوسائل 11 : 383 أبواب آداب السفر الي الحج ب 19 ح 5.

(193)
    ( وهي توفير شعر الرأس ) بل اللحية أيضاً ، كما في عبائر جماعة (1) وإن اقتصر آخرون على‏ ما في العبارة (2) لوروده في المعتبرة (3) ( من أول ذي القعدة إذا أراد التمتع ) بل مطلق الحجّ على‏ الأقوى‏ ، وفاقاً لجمهور محقّقي متأخري أصحابنا (4) لإطلاق الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة.
    وظاهرها الوجوب ، كما عليه الشيخان في المقنعة والاستبصار والنهاية (5).
    خلافاً لمن عداهما ، ولا سيّما المتأخرين (6) ، فحملوها على‏ الاستحباب جمعاً بينها وبين المعتبرة المصرِّحة بالجواز ، ففي الصحيح : « يجزي الحاج أن يوفّر شعره شهراً » (7).
    وفي آخر مروي عن كتاب علي بن جعفر أنه سأل أخاه : عن الرجل إذا همّ بالحجّ يأخذ من شعر رأسه ولحيته وشاربه ما لم يحرم ، قال : « لا بأس » (8).
    والموثق : عن الحجامة وحلق القفا في أشهر الحجّ ، فقال : « لا بأس‏
1 ـ النهاية : 206 ، المهذب 1 : 215 ، الجامع للشرائع : 181 ، التحرير 1 : 95.
2 ـ الوسيلة : 160 ، القواعد 1 : 79 ، جامع المقاصد 3 : 163 ، المدارك 7 : 245.
3 ـ الوسائل 12 : 4 أبواب الإحرام ب 2.
4 ـ كالمحقق الثاني في جامع المقاصد 3 : 163 ، وصاحب المدارك 7 : 245 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 1 : 310.
5 ـ المقنعة : 391 ، الاستبصار 2 : 161 ، النهاية : 206.
6 ـ كالمحقق في الشرائع 1 : 144 ، والعلامة في القواعد 1 : 79 ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 3 : 163.
7 ـ الفقيه 2 : 197/900 ، الوسائل 12 : 316 أبواب الإحرام ب 2 ح 3.
8 ـ مسائل علي بن جعفر : 176/319 ، الوسائل 12 : 320 أبواب الإحرام ب 4 ح 6.


(194)
به ، والسواك والنورة » (1).
    وفي الخبر : « أمّا أنا فآخذ من شعري حين أُريد الخروج يعني إلى‏ مكّة للإحرام » (2).
    ولا بأس به وإن كان الوجوب أحوط لإمكان الجمع بين النصوص بوجه آخر أوضح من هذا الجمع ، إلّا أنه لما اعتضد بالأصل والشهرة القريبة من الإجماع كان أظهر.
    ( ويتأكد ) الاستحباب ( إذا أهلّ ذو الحجة ) قيل : للصحيح : عن متمتع حلق رأسه بمكّة ، قال : « إن كان جاهلاً فليس عليه شي‏ء ، وإن تعمّد ذلك في أول الشهور للحجّ بثلاثين يوماً فليس عليه شي‏ء ، وإن تعمّد بعد الثلاثين التي يوفّر فيها الشعر للحجّ فإن عليه دماً يهريقه » (3). ويحتمل اختصاصه بمتمتع دخل مكّة وهو حينئذ محرم. وألزمه المفيد الدم بالحلق بعد هلال ذي القعدة ، وهو الذي أوجب نسبة وجوب التوفير اليه ، مع أن ابن سعيد وافقه فيه مع أنه قال : ينبغي لمن أراد الحجّ توفير شعر رأسه ولحيته (4). انتهى‏.
    وفي كل من الاستدلال والاحتمال نظر.
    ( وتنظيف الجسد ) عن الأوساخ على‏ ما يقتضيه نحو العبارة لعطف قوله : ( وقصّ أظفاره ، والأخذ من شاربه ، وإزالة شعره عن جسده‏
1 ـ الفقيه 2 : 198/902 ، التهذيب 5 : 47/145 ، الاستبصار 2 : 160/522 ، الوسائل 12 : 319 أبواب الإحرام ب 4 ح 3.
2 ـ التهذيب 5 : 48/147 ، الاستبصار 2 : 161/525 ، الوسائل 12 : 320 أبواب الإحرام ب 4 ح 5.
3 ـ الكافي 4 : 441/7 ، الفقيه 2 : 238/1137 ؛ التهذيب 5 : 48/149 ، الوسائل 12 : 321 أبواب الإحرام ب 5 ح 1.
4 ـ كشف اللثام 1 : 310 ؛ وانظر المقنعة : 391 ، والجامع للشرائع : 181.


(195)
وإبطيه بالنورة ) عليه ، فإن العطف يقتضي المغايرة.
    وفي اللمعة بدّل الواو بالباء (1) ، مؤذناً بالاتحاد ، ولعلّه لخلو الأول عن النص ، وأن المنصوص في الصحاح المستفيضة هو ما عداه (2).
    ويمكن الاستدلال بها عليه أيضاً للتلازم بينه وبين ما عداه غالباً عادةً ، فتأمل جدّاً.
    واستدل عليه أيضاً بعموم استحباب الطهور ، واختصاص الإحرام باستحباب الغسل له المرشد اليه ، ومنعه منه مدّة طويلة (3).
    أقول : ومن العموم تعليل استحباب الاطلاء بالنورة بأنه طهور الوارد في جملة من النصوص (4) ، ومنها الوارد في الإحرام بالخصوص ، كالصحيح : عن التهيؤ للإحرام ، فقال : « أطل بالمدينة فإنه طهور » (5).
    وفي الخبر : « أطليا » قالا : فعلنا منذ ثلاثة أيّام ، فقال : « أعيدا فإن الاطلاء طهور » (6) ونحوه آخر (7).
    ويستفاد منها أجمع استحباب التنور مطلقاً ولو قبل مضي خمسة عشر يوماً ، وبه صرّح جماعة من المتأخرين (8) ، تبعاً للمحكي عن النهاية
1 ـ اللمعة ( الروضة البهية 2 ) : 228.
2 ـ الوسائل 12 : 322 أبواب الإحرام ب 6.
3 ـ كما في كشف اللثام 1 : 310.
4 ـ الوسائل 2 : 64 أبواب آداب الحمام ب 28.
5 ـ التهذيب 5 : 64/203 ، الوسائل 9 : 10 أبواب الإحرام ب 7 ح 3.
6 ـ الكافي 4 : 327/6 ، التهذيب 5 : 62/199 ، الوسائل 2 : 69 أبواب آداب الحمام ب 32 ح 5.
7 ـ الكافي 6 : 498/9 ، الوسائل 2 : 69 أبواب آداب الحمام ب 32 ح 3.
8 ـ منهم : العلامة في المنتهى 2 : 672 ، والشهيد في الدروس 1 : 343 ، وصاحب المدارك 7 : 248.
رياض المسائل الجزء السادس ::: فهرس