سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: 31 ـ 45
(31)
خالي الوفاض صفر اليدين.
    وللوقوف على هذه الحقيقة اقرأ القصة التالية التي نقلها « ديودرس ».
    عندما دخل ديمتريوس القائد اليوناني الكبير « بطرا » ( وهي مدينة قديمة من مدن الحجاز ) بهدف فتح جزيرة العرب خاطبهُ سكانُ تلك المدينة قائلين :
    لماذا تحاربنا أيها الملك ديمتريوس ونحن من سُكان الصحارى الّتي لا تُسدُّ فيها خلّة ، ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فراراً من العبودية. إقبل هدايانا ، وارجع إلى حيث كنت ، سنكون من أوفى الاصدقاء لك ، ولكنك إذا رغبت في حصرنا حرمت كل هناءة ، ورأيت عجزك عن اكراهنا على تبديل طرق حياتنا الّتي تعوَّدناها منذ نعومة أظفارنا ، وإذا قدرت على اسر بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحداً ممن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير الّتي ألفناها.
    هناك رأى ديمتريوس أن يقبل هديتهم وان يرضى بالمآب (1).
    2 ـ المنطقة الوسطى والشرقية ، التي تسمى ب‍ « صحراء العرب » ومنطقة « نجد » الّتي هي جزء من هذه المنطقة أرض مرتفعة يقوم فيها بضع قُرى صغيرة معدودة.
    ولقد أصبحت الرياضُ الّتي اتخذها السعوديون عاصمة لهم بعد استيلائهم من المراكز المهمة في هذه الناحية من الجزيرة.
    3 ـ المنطقة الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية ، والّتي تسمى ب‍ « اليمن » وتمتد طولا من الشمال إلى الجنوب حوالي ( 750 ) كيلومتراً ومن الغرب إلى الشرق حوالى ( 400 ) كيلومتراً.
    وتقدر مساحة هذا البلد بستين الف ميل مربع تقريباً ، ولكنها كانت ـ قبل ذلك ـ أوسع من هذا القدر ، وقد كان قسم منها ( وهوعدن ) خلال النصف الاول من القرن الأخير تحت الانتداب البريطاني ، ومن هنا ينتهي شمالا إلى نجد ، وجنوباً إلى عدن ، وغرباً إلى البحر الأحمر وشرقاً إلى صحراء الربع
1 ـ حضارة العرب : تأليف غوستاف لوبون ص 91 ـ 02 ترجمة عادل رتميتر.

(32)
الخالي (1).
    ومن مُدُن اليمن المعروفة مدينة « صنعاء » التاريخية العريقة ، ومن موانئها المشهورة ميناء « الحديدة » الّتي تقع على الحبر الأحمر.
    ومنطقة اليمن من اكثر مناطق الجزيرة العربية خصوبة وبركة ، ولها تاريخ مشرقٌ و عريق في المدنية والحضارة ، فقد كانت اليمن مقراً لملوك تبَّع ، الذين حكموا اليمن سنيناً مديدة وكانت اليمن قبل الإسلام مركزاً تجارياً مهماً ، وكانت في الحقيقة ملتقى طرق الحجاز ، اشتهرت في العصور القديمة بمعادن الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، وكانت تصدر إلى خارج البلاد.
    ولا تزال اثار الحضارة اليمنية القديمة باقية إلى الآن.
    ولقد قام أهلُ اليمن الاذكياء باقامة أبنية وعمارات عالية وجميلة بهممهم العالية في عصور كان البشر يفقد فيها الوسائل الثقيلة ، والاجهزة المعقدة.
    كان ملوك اليمن يحكمون البلاد دون أي منازع ، إلاّ أنهم رغم ذلك لم يكونوا يمتنعون عن تنفيذ مارسمه حكماء اليمن ورجالهم من انظمة وقوانين للحكم وادارة البلاد آنذاك.
    ولقد سبقوا الآخرين في الزراعة والفلاحة ، وقد نظموا لإحياء الأراضي وزراعتها ، نظاماً دقيقاً للريّ طبقوا بنوده بدقة ، ولهذا كانت بلادهم تعدّ ـ آنذاك ـ من البلدان الراقية المتقدمة من هذه الناحية.
    فها هو « غوستاف لوبون » المؤرخ الفرنسي المعروف يكتب حول اليمن قائلا : إنَّ بلاد العرب السعيدة من أغنى بقاع العالم (2).
    ويكتب الادريسيّ المؤرخ المعروف الّذي كان يعيش في القرن الثاني عشر حول « صنعاء » قائلا : كانت صنعاء مقر ملوك اليمن ، وعاصمة جزيرة العرب ، وانه كان لملوكها قصر متين شهير وكانت تشتمل على بيوت مصنوعة من الحجارة
1 ـ لقد انقسمت اليمن مؤخراً إلى يمن شمالية واُخرى جنوبية لكل واحد منها نظام حكم خاصّ وحكومة خاصّة.
2 ـ حضارة العرب : ص 94.


(33)
المنحوتة (1).
    هذه الآثار العجيبة الّتي عثر عليها المستشرقون وعلماء الآثار في تنقيباتهم الأخيرة تثبت حضارة عجيبة لليمن في عصورها القديمة وذلك في مختلف نواحيها مثل « مأرب » و « صنعاء » و « بلقيس ».
    ففي مدينة مأرب ( وهي مدينة سبأ المعروفة ) كانت تقوم قصور ضخمة وصروح عالية ذوات أبواب وسقوف مزينة بالذهب ، وكانت تحتوي على أوان وصحون من الذهب والفضة ، وأسرّة كثيرة مصنوعة من المعدن والفلز (2).
    ومن آثار « مأرب » التاريخية السدُّ المعروفُ باسم ذلك البلد والّذي لا تزال اطلاله باقية ، وهو السدّ الّذي تهدَّم بسبب السيل الّذي وصفه القرآن الكريم بالعَرِم.
    فقد جاء في سورة سبأ الآية 15 ـ 19 قوله تعالى : « لَقَدْ كانَ لِسَبَأ في مَسْكَنِهِمْ آيةٌ جَنّتانِ عَن يَمينِ وَشمال كُلُوا مِنْ رِزق ربكُمْ واشْكُروا لَهُ بلدةٌ طَيِبَةٌ و ربٌّ غَفُورٌ. فأعرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيهِمْ سَيْلَ العَرم وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتيهِمْ جَنَّتَيْن ذَواتي أكل خَمْط وأَثْل وشيء مِنْ سِدْر قَليل. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نجازي الاّ الكفور. وَجَعَلْنا بَينَهُمْ وَبَيْنَ القُرى الَّتي باركْنا فيها قُرى ظاهرةً وَقَدَّرنا فيها السَيْرَ سِيْروُا فيها لَيالَي وأيّاماً آمِنين. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَين أَسفارنا وَظَلمُوا أنْفُسَهُمْ فَجَعلْناهُمْ أَحاديث ومَزّقناهُمْ كُلَ ممزَّق إنّ في ذلكَ لآيات لِكلِ صَبّار شَكُور » (3).
1 ـ نزهة المشتاق في اختراق الآفاق على ما في حضارة العرب ، ص 55.
2 ـ حضارة العرب : ص 94.
3 ـ للوقوف على المزيد من المعلومات عن اليمن قديماً وحديثاً ، راجع الكتب المؤلفة حول جغرافية العالم الإسلامي.


(34)

(35)
    لمعرفة أوضاع العرب قبل الإسلام يمكن الرجوع إلى المصادر التالية :
    1 ـ التوراة على ما فيها من تحريفات.
    2 ـ كتابات اليونانيين والروميين في القرون الوسطى.
    3 ـ الكتابات التاريخية الّتي كتبها علماء الإسلام ومؤلفوه.
    4 ـ الآثار القديمة الّتي عثر عليها المستشرقون في تنقيباتهم والّتي استطاعت من أن تكشف النقاب عن طائفة لا يُستهان بها من الحقائق في هذا الصعيد.
    إلاّ انه مع وجود كل هذه المصادر والمراجع لا تزال هناك نقاطٌ كثيرةٌ عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من الغموض.
    ولكن حيث أنَّ دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام هي من باب المقدمة في هذا الكتاب ، والهدف الاساسي إنما هو دراسة السيرة النبوية الطاهرة ، من هنا نكتفي في هذا الفصل باستعراض النقاط الخاصة والواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على اننا يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين اسلاميين اساسيين هما :
    1 ـ القرآن الكريم.
    2 ـ ما ورد عن الامام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة.


(36)
    فقد وردت في هذين المصدرين تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عن ما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء الأحوال والاوضاع والاخلاق في جميع الاصعدة والابعاد ، وسنشير إلى ابرز هذه النصوص ونقف عندها بعض الشيء ، ولكننا نستعرض قبل ذلك شيئاً من تاريخ العرب في القرون البعيدة فنقول :
    إن من المسلَّم أن شبه الجزيرة العربية كان منذ أقدم العصور موطناً لقبائل كثيرة انقرض بعضها بمرور الايام ، وفي ثنايا الاحداث ، بيد ان هناك ثلاث قبائل قد تشعَّبتْ عنها أفخاذٌ وفروعٌ تحظى بشهرة اكثر من بين من سكنوا هذه المنطقة.
    وهذه القبائل الاُمّ هي :
    1 ـ العرب البائدة : وإنما سُميت بالبائدة لأنها أبيدت بالعذاب الالهي السماويّ أو الأرضيّ بسبب عصيانها وتمردها ، وهلكت شيئاً فشيئاً ، ولم يبق على وجه الارض من نسلهم أحد !
    ولعلهم كانوا هم المعنيون بقوم « عاد » و « ثمود » الذين جاء ذكرُهم في القرآن الكريم مراراً.
    2 ـ القحطانيّون : وهم أبناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يقطنون في « اليمن » وسائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية ويُسمّون بالعرب الاُصلاء ، وهم اليمينون اليوم ، ومنهم قبائل الأوس والخزرج وهما قبيلتان كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام.
    وقد كان للقحطانين حكومات كثيرة ، كما كانت لهم جهودٌ كبرى في تعمير ارض اليمن واحيائها ، وقد تركوا من ورائهم حضارات ومدنيّات لا يستهان بها.
    وتوجد الآن كتابات تُقرأ بصورة علمية توضحُ إلى حدّ كبير تاريخ القحطانيين وكلُ ما يقال عن مدنيّة العرب وحضارتهم قبل الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة وخاصة من سكَنَ منهم ارضَ اليمن.
    3 ـ العدنانيون : وهم أبناء اسماعيل بن ابراهيم الخليل ( عليه السلام ) ،


(37)
وسوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في الابحاث القادمة. وخلاصة ذلك : أن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) اُمرَان يسكن وَلده الرضيع اسماعيل مع زوجته « هاجر » ام اسماعيل في ارض مكة ، فخرج بهما ابراهيم ( عليه السلام ) من « فلسطين » وهبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي عن الماء والعشب « مكة » ثم ان يد العناية الالهية امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة ، وجادت عليها بعين « زمزم » الّذي جلب الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة الضامئة.
    ثم تزوج إسماعيل من قبيلة « جُرهُمْ » الّتي خيّمت بالقرب من مكة ، واصاب من هذا الزواج عدداً كبيراً من الابناء ، والاحفاد ، وأحفاد الاحفاد كان من جملتهم « عدنان » الّذي ينتهي نسبه إلى النبي اسماعيل عبر عدد من الآباء والجدود.
    ثم تشعَّبت ذريةُ إسماعيل إلى بطون وأفخاذ ، وعشائر وقبائل عديدة ، كان من بينها قبيلة قريش الّتي حظيت بشهرة أكبر ، ومنها عشيرة بني هاشم الّتي انحدر منها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كما ستعرف ذلك بالتفصيل ، عما قريب.

    أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامة :
    والمراد منها هو الأَخلاق والآداب الاجتماعية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع ، وقد سادت بعض هذه الاخلاق والعادات والتقاليد في المجتمع العربي عامة.
    ويمكن تلخيصُ ما كانَ العربُ يتمتعون به من أخلاق وصفات حسنة عامة في ما يلي :
    لقد كان العرب زمن الجاهلية وبخاصة ولد « عدنان » أسخياء بالطبع ، يكرمون الضيف ، وقلّما يخونون في الامانة ، لا يغتفرون نقض العهود ، ولا يتهاونون مع من يتنكر للمواثيق ، يضحون في سبيل المعتقد ، ويتحلون بالصراحة الكاملة ، وربما وجد فيهم من تمتع بذكاء لامع ، وذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار والقصائد الطوال ، والخطب المفصلة.


(38)
    هذا إلى جانب براعتهم في فن الشعر والخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم وإلى جانب انهم كانوا مضرب المثل في الشجاعة والجرأة ، والمهارة في الفروسية والرمي.
    يرون الفرار والادبار في الحرب عاراً لازماً ، وصفة ذميمة يلام صاحبها بسببها اشد اللوم.
    ولكن في مقابل ذلك كله كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تغطي على كل كمال عندهم ، وتنسي كل فضيلة.
    ولو لا تلك الكوة المباركة الّتي فتحت عليهم من عالم الغيب ، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع واليقين.
    يعني لو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي ، ولم تسطع اشعتها الباعثة على الحياة ، على عقولهم وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين اي اثر ، ولتكرّرت مقولة العرب البائدة مرة اُخرى !
    لقد حَوَّل فقدان القيادة الرشيدة ، وغياب الثقافة الصحيحة حياة العرَب ، من جانب ، وانتشار الفساد والفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مُزرية حتّى أن صفحات التاريخ تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً ، وبعضها الآخر مائة عام قد نشبت بين الاطراف العربية لأسباب طفيفة ودوافع تافهة جدا.
    لقد أدى عدم سيادة النظام والقانون على الحياة العربية ، وعدم وجود حكومة قوية مسيطرة على الاوضاع ، توقف البغاة والمتمردين عند حدودهم ، إلى أن يعيش العرب ـ آنذاك ـ في صورة القبائل الرُحّل ، ويرحلوا في كل سنة إلى منطقة معينة من الصحراء التماساً للعشب والماء لانفسهم ولانعامهم ، فاذا عثروا على ماء وعُشب أو شيء من آثار الحياة نزلوا عنده ، وأنزلوا رحالهم بجواره ، فاذا سمعوا عن وجود مكان افضل استأنفوا رحلتهم الصحراوية التماساً لحياة اكثر بركة ، وعطاء ، وأوفر خصباً وأمناً.
    هذه الحيرة وهذا الضياع وعدم الاستقرار كان ناتجاً من أمرين :


(39)
    الأوّل : سوء الاوضاع الجغرافية ورداءة الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية ، وخاصة من حيث الماء والمناخ والمراعي.
    والآخر : الحروب والمصادمات الدمَوية الكثيرة ، واضطراب الأحوال الاجتماعية ، الّتي كانت تُلجئ جماعات كثيرة إلى التنقل الدائم والرحيل عن الأوطان ومغادرتها ، وعدم الاستقرار في منطقة معينة.

    هل كانَ للعرب حضَارةٌ قبل الإسلام ؟
    يستنتج مؤلف كتاب « حضارة العرب » من دراسته لأوضاع العرب الجاهلية أن العرب كانوا أصحاب حضارة عريقة سبقت الإسلام بقرون.
    فالقصور الضخمة الّتي أقاموها في مختلف نقاط ومناطق الجزيرة العربية ، والعلاقات التجارية الّتي كانت لهم مع ارقى شعوب الأَرض ، شواهد قوية على تمدنهم وحضارتهم الغابرة ، لأن قوماً أنشأوا المدن العظيمة ـ قبل الرومان بقرون كثيرة ـ وكانت علاقاتهم بارقى واكبر شعوب الأرض وثيقة ، لا يمكن عدهم همجاً ، وشعباً بلا حضارة.
    ثم إنه يستدل ـ في موضع آخر من كتابه ـ على حضارة العرب الغابرة بادابهم ووحدة وكمال لغتهم إذ يقول :
    « ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة لقطعنا ـ مع ذلك ـ بوجودها قبل ظهور « محمَّد » بزمن طويل ، ويكفي لتمثّلها أن نذكر أنه كان للعرب آداب ناضجة ولغة راقية.
    والحق أنَّ الآداب واللغة من الاُمور الّتي لا تأتي عفواً ، وهي تتخذ دليلا على ماض طويل ، وينشأ عن إتصال اُمة بأرقى الامم اقتباسُها لما عند هذه الاُمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك ».
    وقد خَصَّصَ المؤلفُ المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة وعظيمة للعرب قبل الإسلام معتمداً في ذلك على ثلاث اُمور :
    1 ـ وجود لغة راقية.


(40)
    2 ـ وجود علاقات مع الامم الراقية.
    3 ـ وجود قصور وأبنية ضخمة ، وفخمة في اليمن كما يصفها المؤرخان المسيحيان المعروفان « هيردوتس » و « ارتميدور » اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون ، وقدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي (1).
    لا كلام في أنه كانت هناك في بعض مناطق الجزيرة العربية بعضُ حضارات ، ولكن الأدلة الّتي استند اليها المؤلفُ المذكورُ لا يمكن ان تكون شاهداً ودليلاً على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة العربية أبداً.
    صحيح أن تكامل اللغة يسير جنباً إلى جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة ، ولكن لا يمكن ان نعتبر اللغة العربية لغة مستقلة وغير مرتبطة باللغات الاُخرى اي العبرانية والسريانية والآشورية والكلدانية ، لأن جميع هذه اللغات ـ حسب ما يؤيده ويؤكده المتخصصون في علم اللغات ـ كانت ذات يوم ـ متحدة الأصل ، وقد تشعبت من لغة واحدة ، وفي هذه الحالة يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حققت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية ، وبعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة ، أي ان الآخرين أسهموا في تكميلها.
    كما أنه لا شك أنّ وجود علاقات تجارية مع الاُمم والشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة والمدنية إلاّ أنه هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات ، أم إن اكثرها كانت محرومة من ذلك ؟
    هذا من جهة.
    ومن جهة أخرى فان وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز وهما : « الحيرة وغسان » وبين حكومتي « الفرس » و « الروم » لا يدل أبداً على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين إذ أن جميع هذه الحكومات كانت متصفة بالعمالة ، فان الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات الدول الاوربية ومع ذلك لا توجد فيها أية مؤشرات ولا أية مظاهر من الحضارة الغربية الواقعية.
1 ـ حضارة العرب : 78 ـ 100.

(41)
    طبعاً لا يمكن إنكار حضارة « سبأ ومأرب اليمن » العجيبة لأنه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة ، وما نُقِلَ عن « هيردوتس » وغيره ، كتبَ المؤرخ المعروفُ « المسعودي » عن مأرب يقول : إن ارض سبأ كانت من أخصب أراضي اليمن وأَثراها وأغدقها ، واكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً ، بين بُنيان وجسد مقيم وشجر موصوف ومساكب للماء متكاثفة ، وأنهار متفرقة ، وكانت مسيرة اكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال ، وفي العرض مثل ذلك ، وانّ الراكب أو المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس ، ولا يفارقه الظِلُ لاستتار الارض بالعمارة والشجر واستيلائها عليها واحاطتها بها ، فكان أهلها في اطيب عيش وارفهه ، وأهنا حال وارغده ، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء ، وتدفُّق المياه وقوة الشوكة ، واجتماع الكلمة ، ونهاية المملكة ... فذلّت لهم البلاد ، واذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض (1).
    وخلاصة القول أن هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية وخاصة منطقة الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً ، حتّى أن « غوستاف لوبون » نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول : « ان جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية ، وإن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها » (2).
    وعلى فرض صحة كل ما قيلَ عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلَّم في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز ، إبان طلوع الإسلام ، وبزوغ شمسه ، وهي حقيقة يصرح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى : « وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفرَة مِنَ النّار فأنقَذكُمْ مِنْها » (3).
1 ـ مروج الذهب : ج 2 ، ص 161 و 162.
2 ـ حضارة العرب : ص 93.
3 ـ آل عمران : 103.


(42)
    وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا ـ كما وعَدْنا بذلك ـ فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقة متناهية وبشمولية ماوراءها شمولية.

    ملامح المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن :
    إن القرآن يكشف إجمالا عن أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعِثَ إلى قوم لم يبعث اليها احد قبله إذ يقول : « وَلَكِنْ رَحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبْلكَ لَعلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ » (1).
    ويقول في آية اُخرى : « أمْ يَقُولونَ افتراه بَلْ هُوَ الحقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذرَ قوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدونَ » (2).
    ومن المعلوم أن المقصود في هاتين الايتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة اليها.
    على أن أشمل وصف قرآنيّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى : « وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » (3).
    فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب تصويراً مرعباً ، إذ تُصوِّرُهُمْ اولا وكأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية ، والضلال والشقاء فلا ينقذهم شيء من قعر التردي والسقوط الاّ التمسُّك بحبل اللّه ، حبل الإيمان والقرآن.
    وتصوِّرُهُمْ ثانياً وكأَنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه ، وليست تلك النار إلاّ نيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لاُحرقت حياة العرب جميعاً.
    هذه هي صورةٌ سريعةٌ عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وسقوط.
    وامّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاُخرى التي
1 ـ القصص : 46.
2 ـ السجده : 3.
3 ـ آل عمران : 103.


(43)
تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم ، وأفعالهم وتقاليدهم ، بصورة مفصلة ، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والاخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال آخر.
    لقد اتصف المجتمعُ العربيُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها ما يلي :

    1 ـ الشِرْكُ في العِبادة :
    صحيح أن العرب في الجاهلية كانت ـ كما يكشف القرآن ذلك لنا ـ موحِّدة في جملة من الامور والمجالات كالخالقية والتدبير والذات (1) إلاّ أنهم كانوا ـ في الأكثر ـ مشركين في العبادة ، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطَّ المستويات في إتخاذ المعبودات والوثنية.
    وإلى ذلك يشير قوله تعالى : « وَجَعلُوا للّه شُركاء الجِنَّ وَخَلَقهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِيْنَ وَبَنات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحانَه و تَعالى عَما يَصِفُونَ » (2).
    وقوله تعالى : « أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعزّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الاُخْرى » (3).
    وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط ، واسفاف وانحراف في هذا المجال.

    2 ـ إنكارُ المعاد :
    كان المشركون والجاهليون يرفُضُون الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب والجزاء ، ويصفون من يخبر عن ذلك
1 ـ نعم يُستَفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى : « وَقالوا ما هي إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ وَنَحيا وَما يُهلِكُنا إلاّ الدَهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مَنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ » ( الجاثية : 24 ).
2 ـ الأنعام : 100.
3 ـ النجم : 19 و 20.


(44)
اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه !!
    يقول تعالى : « وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلى رَجل يُنبِّئكُمْ إذا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إنَكُمْ لفي خَلق جَديد ، وأفْترى عَلى اللّه كَذِباً أمْ به جِنَّةٌ بَلِ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة في الْعذابِ وَالضَّلالِ البِعيْد » (1).

    3 ـ هَيْمَنةُ الخرافات :
    لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام اربعة ذكرها القرآن مندداً بهذه البدعة إذ قال : « ما جَعَل اللّهُ مِنْ بَحيرة ولا سائبة وَلا وَصيْلَة وَلا حام ولكنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَفْترونَ عَلى اللّهِ الكِذبَ وأكثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ » (2).
    أمّا ( البحيرة ) بوزن فعِلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق ، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها اُنثى ـ وقيل ذكر ـ بحروا اُذنها وشقوها ليكون ذلك علامة وتركوها ترعى ، ولا يستعملها أحد في شيء.
    وأمّا ( السائبة ) على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطناً ـ وقيل عشرة ـ فهي تُهمَل ولا تُركب. ولا تمنع عن ماء ، ولا يشرب لبنها الاضيف.
    وأمّا ( الوصيلة ) بوزن فعيلة بمعنى فاعلة أوبمعنى مفعولة فهي الشاة تنتج سبعة أبطن أو تنتج عناقين عناقين.
    وأمّا ( الحامي ) بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفَحل من الإبل الّذي يستخدم للقاح الاُناث ، فاذا وُلدَ من ظهره عشرة ابطن قالوا : حُمِي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يُمنع من ماء ومرعى (3).
    والظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام
1 ـ سبأ : 7 و 8.
2 ـ المائدة : 103.
3 ـ راجع مجمع البيان : ج 3 ، ص 252 و 253 في تفسير الآية.


(45)
والشكر لما وهب أصحابها من النعم والبركات ، غير ان هذا العمل ـ كان في حقيقته ـ نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه الحيوانات ، لأنهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها ، وتقاسي من الحرمان ، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع ، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر والخسارة.
    والأسوأ من كل ذلك أنهم ـ كما يُستفاد من ذيل الآية ـ كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر إلى اللّه سبحانه وتعالى ، إذ يقول سبحانه : « وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللّه الكذبَ » وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم مِن هذه الاشياء شيئاً ، وأنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره.
    وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول : « ويَضَعُ عَنْهُمْ إصرَهُم والأغلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ » (1).

    4 ـ الفساد الاخلاقي :
    كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز وسائل الفساد ومظاهره هما : القمار ( الّذي كانوا يسمّونه بالميسر وانما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب ) والخمر.
    وقد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن قبول الإسلام واعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر وشربه ، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب.
    يقول القرآنُ في هذا الصعيد : « يَسأَلونَكَ عَن الخَمْر والمَيْسر قُلْ فيها إثمٌ كبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس وَإثمُهما اكبرُ مِنَ نفْعِهما » (2).
    وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة
1 ـ الأعراف : 157 و راجع المحبر : ص 330 ـ 332.
2 ـ البقرة : 219.
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ـ الجزء الأوّل ::: فهرس