تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ::: 241 ـ 255
(241)
    الجرأة وثمارها :
    لقد ذكروا ان الجرأة تعاكس الخوف ، والجبن ، فقالوا : الجريء من لاينهار ولايتداعى لا في السراء ولا في الضراء ، ويمارس أعمالاً يعجز عنها الآخرون نتيجة خوفهم. والجريء من لايتنازل عن موقفه عند ما يثبت له بالأدلة والبراهين صواب تفكيره واعتقاده. واذا ما ثبت له خطل رأيه فهو يؤوب عنه ويتوب حتى لو لبث فيه عمرا.
    والجريء من يتحمل الصدمات والضغوط من أجل بلوغ الهدف ولاينتابه الهلع ازاء الآلام والمشقات ، ولا تعيقه آلاف الموانع والعقبات عن السعي والمثابرة.
    وأخيراً فان الجريء هو من لاينسى هدفه حتى وان كان غارقاً في الصعوبات والمحن ولايتداعى امامها. ومن علائم الإنسان الجريء أنه دائم البحث عن الحقيقة ، ومتخذاً من العدالة والطهارة والصمود امام الأهواء شعاراً له.
    ان الإنسان الجريء يقاتل من اجل احياء الحق ؛ وقد يغلب ولكنه لا يتزعزع ، فهو ذلك الإنسان الذي يصمد امام سيل الإنتقادات ويستقبلها بصدر رحب.
    والجريء هو ذلك الشهيد الذي وقف مرفوع الرأس وسط الضجيج ولائمة الاعداء. واخيراً فان الجريء والشجاع هو ذلك الإنسان الذي يرى نفسه على حقيقتها بعيداً عن التفاخر والأنانية.


(242)
    عواقب الجبن
    لقد ذكرنا ان الجبن يتناقض مع الجرأة ، حيث تتجسد آثاره على هيئة المداهنة والتملق والإستسلام. فالجبان من يبدي للآخرين خلاف ما يعتقد ، وهو الذي يتملق لشخص ويصفه بالفضائل والخصال التي لايؤمن هو بها. والجبان هو الذي يهز رأسه استحساناً عندما يمدح بدل أن يرفض ، ويغمره السرور عندما يوصف بالفهم ، ويبارك في داخله لمن يمتدح تقواه. وأخيراً فإن من يتكلم وفقاً لأهواء الآخرين ويتحدث ارضاء للناس لا ارضاء لله تعالى وللضمير فهو جبان ورعديد ايضاً.
    فالجبناء يخشون الحقيقة ويهربون منها لكي لا تنكشف سرائرهم وواقعهم أمام الملأ. ولايراجعون الطبيب كي لايعرفوا انهم مرضى.
    فالمجتمع يعج باسرى التقاليد المقيتة والأعراف الخاطئة التي تتحكم بهم ، وكثيراً ما توقعهم في قيود الاحراج ؛ فليس لديهم الجرأة والإقدام على التخلص من قيود افكارهم الطبقية والقومية ، والولوج في عالم الحرية ، وذلك لانهم يفتقدون الجرأة. وكثيراً ما نراهم يرتدون من الثياب ما يرضي المجتمع ، ويأكلون ، ويشترون البيوت بالقروض او بشتى السبل الأخرى ، ولايمتلكون الشجاعة اللازمة للخروج من حدود القيود التي فرضوها على أنفسهم.


(243)
    أسرى الجبن :
    ما اكثر الناس المدمنين على الخمر ، وغيره من المعاصي ، ولايمتلكون جرأة التخلي عن أعمالهم ؛ فهم يوكلون تركها الى الغد ؛ وهؤلاء هم الأسرى. اسرى الجبن والخوف ، وفي ميدان العلم والعلماء نواجه اشخاصاً لايمتلكون جواباً صحيحاً للأسئلة التي تطرح عليهم ، وليس لديهم الجرأة للتصريح بجهلهم بالنسبة للموضوع الذي سئلوا عنه ويقفزون على الجواب ، ويتهمون الناس بالخطأ ، ويضعون العراقيل في طريق الآخرين ، ويسخرون من غيرهم ، ليكون ذلك ستاراً لجبنهم ، ويمكن تشخيص باقي الأسرى كالمرائين والمزيفين والكذابين والمكثرين من مدح أنفسهم.

    آلية الدفاع أمام الجبن :
    اننا نتستر احياناً على خوفنا بالمرض ونشعر بالامتنان لحالات المرض التي تداهمنا ؛ لأن هذه الحالة تنقذنا من العذاب الذي يكمن في أعماقنا. فقد لانملك الثياب الفاخرة التي نرتديها ونذهب الى دعوة فنحتج بالمرض. انه بلاء حقاً فنحن نبرئ أنفسنا من عدم الرغبة في حضور مثل هذه المجالس ، لاسيما الذي يعتبر منا قيمة شخصه في الزي والثياب ، نتيجة لفقدانه القيم والإعتبارات الذاتية. وقد نجهل الصلاة والفرائض وليست لدينا الجرأة على الإفصاح عن ذلك امام المضيف ؛ فنعتذر بأننا لانستطيع النوم في بيوت الآخرين ؛ قائلين : لابد ان نذهب الى بيتنا. وقد لا نهب


(244)
لمساعدة الفقير ولا نجرؤ على ذكر ذلك امام الآخرين فنتذرع بأن مساعدة الفقير تدفعه الى التكاسل ، ولانضيف شيئاً على أجرة العامل متذرعين بأنه يصبح مسرفاً وكسولاً.

    فوائد الجرأة :
    إن الخطوات الإيجابية التي شهدتها البشرية على مدى التاريخ كانت من قبل الجسورين والشجعان ؛ فاساس كل تطور علمي وحضاري هو تبلور الأفكار التي أفرزت التطورات والثورات التي تتمخض عن البطولات والتضحيات.
    فعندما يبرهن المرء على جرأته وشهامته يترسخ في ذاته مثال العظمة والجلال والقدرة والطهارة الملكوتية ، ويترك بصماته على الكون ، ويسخر الأحداث كما يريد ، ويصبغها بصبغته ، ويوجهها كما يشاء.
    فقادة الفكر والزعماء الكبار تمكنوا من خلال الجرأة التي أبدوها أن يجتازوا العراقيل والمشاكل ، وأن يخلدوا افكارهم في هذا العالم. فكم من الأفكار انتشرت في ظل جرأة الأشخاص ! وما اكثر الذين تجرعوا كأس الموت في هذا السبيل أو نالوا الشهادة. فسقراط تجرع كأس السم في الثانية والسبعين من عمره ولم ينثن كي تبقى فكرته حية. وغاليلو ، وكبرنيكوس ، ولافوازيه .. كانوا من نفس ذلك الطراز.
    اما في حقل علماء الدين ، فهنالك الكثير من اضراب هؤلاء الشهداء ؛ وكثرتهم بالقدر الذي لايمكن ذكر اسمائهم ، فقد نزل المنشار على رأس النبي زكريا ( عليه السلام ) ووضع رأس يحيى ( عليه السلام ) المقطوع


(245)
في طست من ذهب ، وسقط علي ( عليه السلام ) شهيدا بسيف الجهل الغاشم ، وسم الحسن ( عليه السلام ) وأنصاره .. كل ذلك من أجل أن تبقى عقائدهم وأفكارهم ، وتحيا الحقيقة خالدة.
    وهكذا فان ما لدينا في الجانب العلمي والمعارف ، والتاريخ والآداب قد جاء من خلال الجرأة.

    اضرار الجبن :
    وكما ان كياننا وحياتنا وتراثنا الإجتماعي جاء من خلال الجرأة فإن زوال وضياع معظم قيمنا كان في ظل الجبن. فالجبان يرى نفسه مكبلاً بقيود التبعية .. هذه القيود التي يتصور ان الخلاص منها لايتحقق الا بالمكر والحيلة والتشبث بالتملق والثرثرة والجبان ضعيف ، يموت مرات ومرات قبل الموت ؛ فهو ميت متحرك ، ومتقنع دائماً بقناع الحيلة والرياء. وقد اعتاد على خلط الإمور على نفسه وعلى الآخرين .. يحب الانعزال ، ويفضل الانزواء ، ويميل الى خلق حواجز بينه وبين الآخرين ، لأنه غير قادر على العيش معهم.
    ان التظاهر بالفضيلة ، والازدواجية بين الفكر والعمل ، وحتى الانتحار ، وبعبارة اخرى كل انواع انعدام الجرأة التي يتصف بها البعض في ان يكونوا صادقين او احياء ما هي الا افرازات لصفة الجبن.
    فضرر الجبناء على المجتمع هو أنهم يحرفون نظام المجتمع عن مسيرته الطبيعية ؛ لانهم في هلع من كل انسان وكل شيء ... يتسابقون على طريق الظلم والعدوان. وقد يسبب الجبن لكنة في اللسان لان الجبان يخاف عندما


(246)
يريد ان يتحدث ويصاب بالهلع ، وهذا التلكؤ يبقى لديه الى الأبد.

    انواع الجرأة :
    يمكن تقسيم الجرأة من الناحية الكيفية والظاهرية الى قسمين : الجرأة المادية او البدنية ، والجرأة الروحية. وانطلاقاً مما طرح في علم النفس ، فإن هذين القسمين لا ينفصلان. فاذا كان الإنسان شجاعاً من الناحية الجسمية فهو شجاع ـ الى حد ما ـ من الناحية النفسية. اما اذا كان شجاعاً من الناحية النفسية ايضاً فذلك خير وافضل.

    ضرورة تربية صفة الجرأة :
    قبل الدخول في البحث يجب ان نرى هل من الضروري تربية الناس على الجرأة في عصرنا هذا أم لا ؟ وهل من الصواب تربية الأطفال على الجرأة في ظل الظروف الراهنة والإمكانات المتاحة ؟ ان الجواب على هذا التساؤل سلبي من منظار البعض لأنهم يعتقدون أن هذا الأمر يهيء الأرضية لشقاء وحرمان البشر. ويسود هذا النحو من التفكير بين اتباع المذاهب المادية ، وذلك لأن مسألة الحياة الأخرى غير مطروحة لديهم ، فكل ما يفقدونه يعني عندهم خسارة خرجت من جيوبهم ؛ وشعارهم هو ان استغلال مواهب الحياة المتوفرة يتطلب أكل الخبز بثمنه اليوم.
    اما الالهيون فيقولون بأنه لايمكن النيل من الحقيقة لدرء الأذى عن أنفسنا. فان اظهار الجرأة وان كان يسبب الضرر في بعض الموارد ، ولكن من مصلحة الإنسانية القبول بهذا الضرر ، لأن الحياة بجمالها وزبرجها لا


(247)
تقارن بعار الجبن. ومن ناحية اخرى فان الحاجز الوحيد الذي يقف امام الشر والفساد والإستبداد ويقاومها هو الجرأة والشجاعة.
    فليس من الضرورة ان يكون كل شخص في هذه الدنيا بطلاً وقوياً ، ولكن من الضرورة بمكان ان يكون كل شخص شجاعاً وجريئاً.

    ضرورة تربية صفة الجرأة على المستوى الفردي :
    الجرأة ضرورة للإنسان في كل مجالات الحياة. فالطفل الذي يريد أن يكون أميناً وصادقاً ومخلصاً في الحياة لابد أن يكون جريئاً. والطفل الذي يريد ان يظهر على حقيقته ويبتعد عن الرياء والكذب والمراوغة والخداع والمكر فهو بأمس الحاجة الى الجرأة. وأخيراً ، فالطفل الذي يريد ان يصون شرفه وكرامته ، وان يدافع عن نفسه يجب ان يكون جريئاً. فلا علاقة لتقدم وارتقاء الأمم وافراد المجتمع بتكامل أجسامهم وطولها ، بل بما لديهم من جرأة أخلاقية ؛ لأن اغلب حالات الشقاء والإخفاق ، والأخطاء والفساد المنتشر في المجتمع ناتجة عن ضعف الروح وهوان ارادة الأمة.
    فكثيراً ما نرى في هذه الدنيا اشخاص لديهم مشاريع وأهداف عملاقة اضافة الى الخطط الدقيقة ، الا انهم لايمتلكون الجرأة في تطبيقها.
    وعلى اية حال ؛ فان الجرأة والصلاح من أهم عوامل استقلال الإنسان. ان الذين يريدون ان يكون وقتهم ومالهم ملكاً لهم ولا يكونون ظلاً للآخرين ينبغي ان يكونوا جريئين يفكرون بأنفسهم ويطبقون ما يرونه مناسباً. فالجبان مستسلم امام الميول والأهواء ولايستطيع الصمود امام الأحداث الطارئة ، بل سرعان ما ينهار في مواجهة الأفكار المباغتة فقد ينتقم من نفسه


(248)
او ينتحر. وخلاصة الأمر ، فالجبان مخلوق لا قيمة له ، فهو يبيح للآخرين حرية التصرف به كما يشاءون عندما يواجهه ادنى شكل من أشكال الضغوط.

    ومن الناحية الإجتماعية :
    تدلل التجارب بأنه كلما ازداد الاقدام والجرأة في المجتمع ، كان المجتمع اكثر حيوية ونبوغاً ، واكثر تطوراً فالمجتمع بحاجة للجرأة كي يستطيع الصمود امام المؤثرات السلبية ، ويحول دون انتشار الشرور والمفاسد. فندرة الأخلاق السامية والفضائل والمكارم في المجتمعات ، وتسلط الاذلاء والمفسدين وقصيري النظر على الآخرين يعود سببه الى فقدان الجرأة. فما لم تكن الجرأة موجودة لا تتضح الحقوق والواجبات ، ولايندفع الناس نحو الرقي والسمو فاصحاب الجرأة يسرون كسريان الدم والروح في مجتمعاتهم ، وهم اساس كرامة الشعب. فالمسلمون يتأسون بالإمام علي ( عليه السلام ) والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، وباقي المجتمعات تتاسى بأبطالها ايضاً.
    وباختصار ، حينما تتبلور أخلاق المجتمع على اساس الجبن والخوف ، تتغلب السيئات على الحسنات ويتفشى الهوان.

    في نظر الدين :
    لم تتقدم الأهداف النبيلة في العالم ، ولم تترسخ الا بعد اصطدامها بالعقبات ثم مواجهتها بالثبات والصمود. فقانون الدين يفرض ان يصمد


(249)
الأفراد في سبيل الدفاع عن عقائدهم التي أمنوا بها بالرغم من انهم قد يدفعون ارواحهم ثمناً لذلك ، وهذا هو تكليفهم ومسؤوليتهم.
    ان الظلم جريمة والخضوع للظلم جريمة مضاعفة. يقول القرآن الكريم « لايحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم ». (1)
    يجب ان تكون للمظلوم جرأة ، فيصرخ وينادي مجاهراً بالحق في كل مكان وامام كل ظالم. يقول النبي الأكرم (ص) : « أفضل الجهاد عند الله كلمة حق امام سلطان جائر ».
    فهؤلاء الذين يعجزون عن بيان الحقيقة هم ـ في الواقع ـ منحرفون عن الحق ، بينما الحقيقة لم يصدر منها أية اساءة ضدنا.

    في نظر العلم :
    ان انتشار العلوم والمعارف ، والتعرف على اسرار السماوات والأرض حدث في ظل جهاد وتضحيات واستقامة وشجاعة الرجال العظماء الذين كانوا اكبر من زمانهم وعصرهم. فلقد كان هؤلاء يكافحون العقبات والمشاكل الاجتماعية التي كانت تعترض طريق انتشار واتساع المعارف ، وكان هذا ضرورياً لانتشار العلوم. والعلوم بأمس الحاجة الى شجاعة العلماء الذين يجتهدون في سبيل تحقيق اهدافهم.
1 ـ النساء : 128.

(250)
    هل يمكن تربية الجرأة لدى الأطفال ؟
    ان الجواب على هذا التساؤل ايجابي لحسن الحظ ؛ لأن الجرأة امر فطري والدليل على فطريته هو : ان الأطفال جريئون الا ان الجبن يستحوذ عليهم فيما بعد في ظل تربيتنا لهم. اننا نميل ـ ذاتياً ـ الى الجرأة والشجاعة ، ويغمرنا السرور عندما نسمع بأن البعض قد دافع عن نفسه حتى اللحظة الأخيرة. ووقف أمام العدو وقال كلمة الحق. فعندما نسمع ان حجر بن عدي واجه السيف والقبر الضيق ولم يستسلم نبارك له في قلوبنا ؛ وبالعكس نتألم عندما نسمع ان شخصاً آخر قد استسلم وخضع للذل ليعيش يومين آخرين في هذه الدنيا ، ونوبخه على ذلك.
    فالذي يدفعنا للتشجيع هو السباحة ضد التيار ، وإلا فبإمكان كل ميت السباحة منحدراً مع تيار الماء.
    وبإمكاننا أن نعتبر الجرأة فطرية من وجهة نظر الدين ؛ لأن الله تعالى لطيف لايرى ولكننا نرى مظاهره.

    من أين تنشأ الجرأة ؟
    للعثور على الجذور التي منها تنبعث الجرأة ، لابد من تقصي العوامل التالية :
    1 ـ الفطرة :
    كما اشرنا سابقاً فان الإنسان يولد وفيه نفحة من الباري المقتدر في جانب


(251)
الصدق والحقيقة المطلقة ، الا أن الوالدين والمجتمع هما اللذان يطفئان هذه الجذوة فيه ويجعلان منه انساناً جباناً وخواراً.
    2 ـ الوراثة :
    والمقصود هي المواصفات التي تنتقل من الوالدين الى الأطفال ؛ ومنها الشجاعة والاقدام. وقصة الإمام علي (ع) مع ابنه محمد بن الحنفية لما سلمه القيادة والراية يوم الجمل ـ وكان يتقدم ببط ء وحذر ـ فقال له الإمام « ويحك لقد لحقك عرق من أمك » ـ توضح هذا الأمر. وقد ذكر الإمام الحسين ـ ع ـ يوم عاشوراء ما ورثه عن امه وابيه باعتباره مدعاة لرفض الذل.
    3 ـ المزايا الجسمية والبدنية :
    ان الجرأة ترتبط بالمواصفات الجسمية من ناحية. فقلة او زيادة افرازات الغدد الداخلية لها تأثيرها في هذا الأمر.
    والمسألة الأخرى هي الجسم ؛ فالجسم القوي والسليم ـ بحد ذاته ، يحفز على الأقدام ويلعب دوراً إيجابياً في تكوين الشجاعة عند الشخص.
    4 ـ البيئة :
    وهي من العوامل المهمة في بناء الجرأة ومقصودنا من البيئة كلا البيئتين العائلية والاجتماعية.
    أ ـ العائلة : وهي أول مكان لتربية الأخلاق ـ حسنها وسيئها ـ والكثير من المفاسد والامراض الأخلاقية تنشأ من هناك. ويتعلق بها نشوء القسم الأعظم من المخاوف والوساوس.
    أن تأثير العائلة يتجاوز كون الطفل يقضي معظم أوقاته في رفقتها.


(252)
فالعائلة التي تسودها روح التمسك بالواجبات والشجاعة تخرج ابناء شجعان ؛ ويصدق هذا الأمر عندما تتحلى الأم بالإقدام. فالأم البارعة تعادل مئة معلم واستاذ. ان الأم هي اصل البناء الفكري واساسه ، لأنها تمسك بزمام الأمور في العائلة وتستقطب اليها قلوب الأطفال وتجذبهم نحوها وتبعث فيهم الحياة.
    لهذا يجب ان يكون اسلوب التربية بنحو يربي في الإنسان روح الإعتماد على النفس وقوة الإرادة والتصميم والمثابرة.
    ب ـ البيئة الإجتماعية : والمقصود منها المدرسة والمجتمع والاقران والكبار ، حيث ستتم الإشارة الى جوانب تأثيرهم.

    أسباب الجبن :
    بالرغم من اننا رأينا الأشخاص يولدون شجعاناً على الفطرة ، الا اننا نرى ان العديد من الأطفال يعانون من الجبن ، وكأنهم قد ولدوا جبناء خوافين. لقد أشرنا آنفا في بعض الموارد الى اسباب هذا الأمر ، ونتعرض الآن الى ما يخص ذلك بمزيد من البحث والتفصيل :
    يلخص علماء النفس المنشأ العام لفقدان الجرأة في عاملين ، هما الخوف والإضطراب :
    1 ـ الخوف : وهو المنشأ الأصلي الاساسي لإنعدام الجرأة. وفي الحقيقة فإن سائر الصفات هي رشحات منه ، حيث يظهر ويتجسد بصور مختلفة ومتباينة.
    ولكن مم يخاف الطفل ؟


(253)
    انه يخشى ان تنكشف اسراره الداخلية ، وتتسلط الأضواء على عيوبه ، فينبذ ويطرد ويصبح تعيساً واهياً و ... الخ. ولايذهب الطفل إلى باحة الدار ليلاً لئلا تختطفه الأشباح.
    والطفل الذي يغش في الإمتحان هو الآخر شخص خائف يخشى الحصول على نتيجة غير مرضية يعاقب عليها أو يضرب بالسوط ، ويحرم من حنان الوالدين. والصبي الذي يملأ ورقة امتحانه بالأخضر واليابس هو طفل لاجرأة له ويخشى أن يفشل فيتعرض للإذلال.
    واخيراً : فان الشاب الذي يتوسل بالخداع في الحصول على زوجة المستقبل ويخفي سلوكه وتصرفاته وحقيقة وضعه خلف قناع من الزيف والنفاق هو شخص خائف يخشى أن لا يبلغ مراده في الزوجة المثالية ، أو يسمع جواباً سلبياً. فهو يدقق في تجارب الآخرين ، ويجبر نفسه على ان يقول ويكتب ويتصرف خلافاً للحقيقة.
    وعلى أية حال ، فان الخوف سبب كثير من المفاسد ، فهو كالهالة يغمر المرء ويعيقه عن القيام بواجبه الحقيقي : لذلك يعد ارعاب الطفل الى الحد الذي يدفعه نحو الإحتيال والخداع خطيئة تربوية كبيرة.
    2 ـ الإضطراب : وهو كالخوف عامل مهم في القضاء على الجرأة. والفرق بين الخوف والإضطراب هو ان الخوف ناتج عن عامل خارجي ، كالخوف من العصا والسوط وضرب الوالدين وغير ذلك. اما الإضطراب فناتج عن عامل داخلي كالذعر الذي يتمخض عن التخيلات ، والإرتباك الذي يصيب القلب ؛ وغالباً ما يكون مجهول الجذور.


(254)
    وعلى اية حال ، اذا ما ترسخت التخيلات في جانبها السلبي في نفس الإنسان ، قادته نحو الذل والهوان.

    بحث شمولي حول اسباب الجبن :
    لقد ذكرنا ان المنشأ الأساسي للجبن يكمن في الخوف والإضطراب. ولكي تتضح حدود البحث اكثر ويتم تشخيص العوامل الجزئية التي تمهد للعوامل الكلية ، نشير الى المسائل التالية ، ونستهل البحث بالمسائل الذاتية :
    1 ـ الأنانية : ان الأنانية تجعل الهدف من الحياة يتمثل في الحفاظ عليها ، وبالطبع فإن كل عامل يعرض الحياة الى الخطر يثير الذعر في النفس ، وعلى العكس ، فان العوامل التي تؤمن بلوغ الهدف تخطى بالإهتمام سواء كانت جرأة وإقداماً أم تملقاً وجبناً.
    فالأنانية لا تدعنا نتحمل المشاق او نستعد للتضحية والفداء الا ان يتغلب عامل العقيدة والإيمان القوي او تحرف الأنانية عن مسارها وتتخذ لنفسها طابع الأبدية والخلود ، فتحفز المرء للتغاضي عن الحياة الدنيا الزائلة ويختار الحياة الأبدية والخلود ، والآن يمكننا القول ان الطفل الذي يعتقد للأجواء الآنفة اذا ما ابدى جرأة لمرة واحدة وصفح نتيجة لذلك او هدرت كرامته فلن يكون له اي محفز على انتهاج نفس ذلك السبيل او تكرار ما بدر منه.
    2 ـ الإستعطاف : ان الكثير من الأطفال وتبعاً للأسلوب الخاص للوالدين يعتبرون اقبال الآخرين عليهم وإدبارهم عنهم سببا في قوة شخصيتهم أو ضعفها ، ولكن من هم الأشخاص الذين يحظون اكثر بمحبة ورعاية


(255)
الآخرين ؟ انهم الضعفاء والعاجزون والمرضى وقليلو الكلام ، والمتظاهرون بالعجز ، و .. الخ. فهم يظهرون أنفسهم كمستحقين للرحمة ليكسبوا عواطف الآخرين ومحبتهم.
    3 ـ المثالية الذاتية : ان ابداء الآخرين لآرائهم حول الطفل يؤدي الى غلوه بنفسه ، فيصنع من نفسه بطلاً وهمياً. ولأجل ان لايتحطم هذا البطل الصنم يسعى ـ بما اوتي من قوة ـ للحفاظ على مكانته خلف الكواليس ، ولا يبدي للآخرين ضعفه وما فيه من وهن. ولهذا ينطوي على نفسه ويميل الى العزلة ، وقليلاً ما يظهر بين الناس ، و ... الخ.
    4 ـ الشعور بالنقص : أن انزعاج الطفل من تركيبة جسمه وتخلفه في الدرس ومن محدودية عقله وذكائه ، ومن أفكاره ونواقصه ، يثير فيه النفور من ذاته ، ويوجد فيه هواجس الشعور بالنقص فلا يظهر بين الملأ العام لئلا ينكشف نقصه ، ولا يكلم كي لا يبدو ضعفه. فهو يتهرب دائماً من المشاركة في المحافل العامة خجلاً ، ولا قدرة له على الظهور امام الناس.
    5 ـ المحافظة على الحرية : ان الطفل شغوف بالحرية ، ويخشى انه اذا تجرأ على شيء تعرضت حريته للخطر ؛ لذلك يجد نفسه مكرهاً على التصرف خلاف ذلك ، فيفتقد شهامته لذلك.
    6 ـ القلق والإضطراب : قد يصاب الطفل بالإرتباك نتيجة للقلق والإضطراب. ولكن لابد من السؤال عما يخافه ؟ انه يخشى ان يفقد أصدقاء اذا ما انكشفت لديهم حقيقته ، ولايحظى بحب احد ، او يخشى التدخل في اعماله الخاصة حينما يشعر انه متهم بالتقصير ، و ... الخ.
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ::: فهرس