تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 316 ـ 330
(316)
واتّصل جرمه بجرم القمر.
    ثم قال صلوات الله عليه : البارحه سعد سبعون ألف عالم ، وولد في كلّ عالم سبعون ألفاً ، والليله يموت مثلهم ، وأومأ ما بيده إلي سعد بن مسعدة الخارجي (1) وكان جاسوساً للخوارج في عسكره ، وقال : هذا منهم فظنّ الملعون بأنّه يقول : خذوه ، فأخذ بنفسه فمات ، فخرّ الدهقان ساجداً ، فلمّا أفاق قال أمير المؤمنين عليه السلام : ألم أروّك من عين اليقين (2) ؟
    قال : بلي يا أمير المؤمنين.
    فقال عليه السلام : أنا وصاحبي لا غريبّون ولا شرقيوّن ، نحن ناشئه القطب واعلام الفلك ، أمّا قولك انقدح من برجلك النيران (3) ، فكان الواجب أن تحكم به لي لا عليَّ ، اما نوره وضياؤه فعندي ، وأمّا حريقه ولهبه فذهب عنّي ، وهذه مسأله عقيمة احسبها ان كنت حاسباً.
    فقال الدهقان : اشهد ان لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وأنّك وليّ الله (4).
    قلت : اللّهمّ انك اطلعته علي اسرار عظمتك ، واظهرته علي آثار قدرتك ، وجعلت قلبه مشكاة مخزون علمك ، ونفسه مرآة مكنون حلمك ، وكشفت عن بصر بصيرته فشاهد غرائب حكمتك ، وعرجت بروحه إلى
1 ـ في المناقب : الحارثي.
2 ـ في المناقب : التوفيق.
3 ـ كذا في المناقب ، وزاد في الأصل : وظهر منه السرطان وذكر في هامش البحار أن هذه الجمله مشطوب عليها في النسخ وهي أيضاً ليست في كلام الدهقان.
4 ـ مناقب ابن شهر اشوب : 2 / 51 ـ 52 ، عنه البحار : 40 / 166 ـ 168 ، ومدينه المعاجز : 2 / 154 ح 464.


(317)
الصفيح الأعلى فعاين عجائب صنعتك ، وأريته ملكوت سماواتك فعلم من اختلاف حركاتها ما أشبه علي غيره واحصي بلطيف روحانيّته مقادير كلّ من أفلاكها وتقديره في مسيره ، ولاحظ ما رصعت به أجرامها من درر دراريها وزواهرها ، وزّينت صفيحها بجواهر نيّراتها من ثابتها وسائرها ، فالشمس والقمر بحسبان حسابه عرف انتقالهما بتحّولهما ، وبكشف صور الأشياء لهوّيته علم مقدار صعودهما وهبوطهما.
    آتيته من لدنك علماً فخرق بتأييدك صفوف ملائكتك ، وكشفت الحجاب عن بصيرته فشاهد صفات أشباحهم بعين عنايتك ، فعرفنا هيئاتهم ، واختلاف اشخاصهم وأعلمنا بتقارب درجاتهم وخواصّهم ، حتى كأنّه عمّر فيهم عمره ، وأقام بينهم دهره ، وشاركهم في الإخلاص بعبادة معبودهم ، وشابههم بخشوعهم في ركوعهم وسجودهم ، وساواهم في الاذعان بالطاعة لربّهم ، وساماهم في شرف منازلهم وقربهم.
    فاصبح يخبرنا عن شدّة اجتهادهم في تعظيم مبدعهم واخلاص جهادهم في توجهّهم إلى معبودهم وتضرّعهم ، ووصف لنا من عظم اجسادهم ما أذهل عقولنا واعلمنا من تفاوت أشباحهم ما حيرنا وارجف قلوبنا بقوله صلوات الله عليه : ثم فتق ما بين السماوات العلى فملأهنّ أطواراً من ملائكته ، منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون (1) ، ومسبّحون لا يسأمونَ ـ الى قوله صلوات الله : ـ ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفّعون (2)
1 ـ أي قائمون صفوفاً لا يتفارقون.
2 ـ التلفّع : الالتحاف بالثوب وهو أن يشتمل به حتى يجللّ. « لسان العرب : 8/320 ـ


(318)
تحته بأجنحتهم ، مضروبه بينهم وبين من دونهم حجب العزةّ وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون اليه بالنظائر. (1)
    فكان صلوات الله عليه في ذلك كما وصف نفسه بقوله : لأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الارض (2).
    فبهذا أوضح لنا عرفان صفات أفلاكها ، وبيّن هيئات نفوسها وأملاكها ، وكشف عن خواص نيرّاتها ، واختلاف حركاتها ، وهبوطها وصعودها ، ونحوسها وسعودها ، واجتماعها وافتراقها ، وما اجري سبحانه من العادة من حوادث العالم عند غروبها واشراقها ، وتاثيرات أشعّة اجرامها في الأجسام الحيوانيّه والنباتيّة ، وما أودع سبحانه في كرة العناصر من كمونها وظهورها بتقدير الارادة الواحديّة وأرانا أنّ القادر المختار قد جعل له التصرّف في العالم العلويّ كما جعله له التصرف في العالم السفليّ ، وأوجب له فرض الولاية على كلّ روحاني وجسماني ، فلهذا ردت له الشمس وعليه سلّمت ، وانقادت له أملاكها وله أسلمت ، وزوّجه الجليل سبحانه بسيدة نساء الدنيا والآخرة في صفوف ملأهم ، وزادهم بحضور عقدة نكاحة شرفاً الي شرفهم ، وجعل نثار طوبى لشهود عرسه نثراً ، واثبت الإمامة والزعامة فيه وفي غرسه إلى حين حلول القيامة الكبرى.
    فيا أصحاب الارصاد والزيجات ، ومعتقدي التأثيرات بالاقترانات
لفع ».
1 ـ نهج البلاغه ( د. صبحي العالم ) : 41 / 42 خطبة رقم 1.
2 ـ نهج البلاغه ( د. صبحي العالم ) : 280 خطبه رقم 189.


(319)
والامتزاجات ، دسوا في التراب هامات رؤوسكم ، وامحوا اسطرلابكم وبطليموسكم ، فهذا هو العالم المطلق الّذي كشف الله له من حجب غيوبه كل مغلق وسقاه بالكأس الرويّة من عين اليقين ، وجمع فيه ما تفرّق في غيره من علوم الأوّلين والآخرين ، فقال سبحانه وهو أصدق القائلين : ( وكلَّ شىءٍ أحصيناهُ في إمامٍ مبينٍ ). (1)
    اللّهمّ فبحقّ ما أوجبت له من فرض الطاعة على العامة والخاصة ، وجعلت له بعد نبيّك الرئاسه العامة والخاصة ، فصلّ على محمد وآل محمد وأرقمنا في دفاتر المخلصين من أرقّائه وخدمه ، واثبتنا في جرائد المطوقين بطوق العبوديّة لخدمة شريف حرمه ، إنّك علي كل شيء قدير.
    ومنهم الحسّاب ، وكان صلوات الله عليه اعرف الصحابه بعلم الفرائض والحساب.
    روي ابن ابي ليلي أنّ رجلين جلسا يتغدّيان في سفرٍ ومع أحدهما خمسة أرغفة ، ومع الآخر ثلاثة ، فمّر بهما ثالث فواكلاه ، فلمّا نهض أعطاهما ثمانية دراهم عوضاً عمّا أكل.
    فقال صاحب الخمسة : أنا آخذ بعدد أرغفتي وخذ انت بعدد أرغفتك ، فأبي صاحب الثلاثة ، واختصما وارتفعا إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
    فقال : هذا أمر فيه دناءة (2) ، والخصومة فيه غير جميلة ، والصلح أحسن. فقال صاحب الثلاثة : لا اُريد إلا مرّ الحقّ والقضاء.
    فقال عليه السلام : إن كنت لا ترضي إلا بمرّ القضاء ، فإنّ لك درهم واحد
1 ـ سورة يس : 12.
2 ـ كذا في المناقب ، وفي الاصل : زيادة.


(320)
من الثمانية ، ولصاحبك سبعه ، أليس كانت لك ثلاثة أرغفة ولصاحبك خمسة ؟ قال : بلى.
    [ قال : ] (1) فهذه اربعه وعشرون ثلثاً ؛ أكلت منها ثمانية والضيف ثمانيه ، فلمّا أعطا كما الثمانية الدراهم كان لصاحبك سبعة ولك واحد. (2)
    ومنهم أصحاب الكيمياء وهو أكثرهم حظّاً.
    سئل عليه السلام عن الصنعه ، فقال : هي اُخت النبوّه ، وعصمة المروّة ، والناس يتكلمّون فيها بالظاهر ، واني لأعلم ظاهرها وباطنها ، ما هي والله إلا ماء جامد ، وهواء راكد ، ونار جائلة ، وأرض سائلة.
    وسئل عليه السلام في أثناء خطبته عن الكيمياء : هل لها حقيقة ؟
    فقال : نعم ، كانت وهي كائنه وستكون.
    فقيل : من أيّ [ شيء ] (3) هي ؟
    قال : من الزئبق الرجراج ، والاسرب والزاج ، والحديد المزعفر ، وزنجار النحاس الأخضر [ الحبور الا توقف على عابرهنّ ]. (4)
    فقيل : فهمنا لا يبلغ إلى ذلك.
    فقال : اجعلوا البعض أرضاً ، واجعلوا البعض ماء ، وأفلجوا الأرض بالماء فقد تمّ.
    فقيل : زدنا ، يا امير المؤمنين.
1 و 3 و 4 ـ من المناقب.
2 ـ رواه إبراهيم بن هاشم القمّي في كتابه « قضايا أمير المؤمنين عليه السلام » ح 118 بإسناده إلى ابن ابي ليلي ـ وهو عندنا قيد التحقيق ـ.


(321)
    فقال : لا زيادة عليه ، فإنّ الحكماء القدماء ما زادوا عليه لئلاّ يتلاعب الناس بها. (1)
    ومنهم الصوفيّه ومن تكلّم في علم المكاشفة (2) على طريق الصوفية ، قالت مشايخهم : إنّه الأصل في علومهم ، ولا يوجد لغيره إلا اليسير ، وأكثر مشايخهم يتّصل سلسلة بكميل بن زياد ، وهو تلميذ أمير المؤمنين عليه السلام ومن خواصه. (3)
    روي مولانا أبو عبد الله الصادق عليه السلام ، ورواه أيضاً أبو اُمامة الباهلي ، كلاهما عن النبيّ صلّى الله عليه واله في خبر طويل ، واللفظ لأبي اُمامة : ان الناس دخلوا علي النبيّ صلّى الله عليه واله يهنّؤونه بولادة الحسين عليه السلام ، فقام رجل من وسط الناس ، فقال : بابي أنت واُمّي يا رسول الله ، رأينا من عليّ عجباً في هذا اليوم.
    قال : وما رأيتم ؟
    فقال : أتيناك لنسلّم عليك ، ونهنّئك بولدك ، فَحَجَبَنَا عنك ، وأعلمنا أنّه هبط عليك مائة ألف ملك وأربعه وعشرون ألف ملك ، فعجبنا من إحصائه عدد الملائكة.
    فأقبل عليه النبي صلّى الله عليه وآله متبسّماً وقال : ما أعلمك أنّه هبط عليّ مائة وأربعة وعشرون ألف ملك ؟ (4)
1 ـ مناقب ابن شهر اشوب : 2 / 52 ، عنه البحار : 40 / 168.
2 ـ في المناقب : المعاملة.
3 ـ مناقب ابن شهر اشوب : 2 / 54 ، عنه البحار : 169 / 40.
4 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : مائة ألف ملك وأربعة وعشرون ملك.


(322)
    فقال : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، سمعت مائة ألف لغة ، وأربعة وعشرين ألف لغة ، فعلمت أنّهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ملك.
    فقال رسول الله صلّي الله عليه وآله : زادك الله علماً وحلماً ، يا أبا الحسن ؟ (1)
    قال الفرغاني شارح قصيدة نظم السلوك في حضائر الملائكة من نظم الشيخ عمر بن الفارض المصري العارف الصوفي (2) عند شرحه لهذا البيت ، وهو :
وحُز بالولاء ميراثَ أرفعِ عارفٍ غدا همّهُ ايثارَ تأثيرِ همَّةِ
    « وحز » : أي اجمع ، وفي قوله : « بالولاء » مرهم معنى الحب المذكور ، ومعني الحبّ أهل البيت عليهم السلام على اصطلاح الشيعه القائلين بالولاء ، و « أرفع عارف » المراد به أمير المؤمنين علي عليه السلام ، فإنّه صاحب المعرفة الحقيقيّة بالأصالة وغيره بالتبعيّة ، فإنّ النسبة إلى الولاية الّتي هي منبع العلوم الحقيقية والمعارف الأصليّة لا تصحّ إلا من جهته وحيثيّته ، فإنّه كان مظهر الولاية الأحمديّة حيث انشقّت عن نبوّته صلّى الله عليه وآله الّذي كان انشقاق القمر صورة ذلك الانشقاق وهو باطنه وسرّه الظاهر بسبب ظهوره فإنّ كل معنى لا بدّ أن يظهر له صورة محسوسة ، وكان عليّ عليه السلام هو أرفع عارف في الدنيا من حيث ما حضر أصله بقوله : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ،
1 ـ مناقب ابن شهر اشوب : 2 / 55 ، عنه البحار : 40 / 170 ـ 171.
2 ـ هو أبو حفص عمر بن أبي الحسن الحموي الأصل ، المصري المولد والدار ، عرف بابن الفارض لأنّ أباه ـ على ما يظهر من هذا اللقب ـ كان يكتب فروض النساء علي الرجال. « مقدمة ديوانه المطبوع ».
    والبيت المذكور هو في ص 75 من الديوان.


(323)
وهو علم الحقيقة ما خلا أصله صلّى الله عليه وآله.
    وقوله : « غدا همه ايثار تأثير همّة » يعني انّه آثر الصبر على تأثير همّته.
    انظر كيف تظاهر وتظافر خلق في غاية الكثرة وجماعة جمّة على إيذائه ووضعه وقمعه ومحاربته ومقابلته حتى قام الشيخ العارف سعيد مدافعتهم ومقاتلتهم في الظاهر بالسيف ، ولم يسلّط عليهم همّته الفعّالة وهمّه لدفعهم وإهلاكهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم وادٍ ولا ديار مع تحققّه بذلك لكن تركهم بمعرفته علي الحقيقه لوقوع ذلك كلّه ، وان لا مندوحة عمّا جرى على نحو ما جرى ، فلذلك ترك التأثير بالهمّة ووكلّ الأمر إلي مجزيه تعالى وتقدّس.
    ومنهم النحاة ، وهو واضع النحو ، لأنّهم يروونه عن الخليل بن أحمد بن عيسي بن عمرو الثقفي ، عن عبدالله بن إسحاق الحضرمي ، عن أبي عمرو بن العلاء ، عن ميمون الأقرن ، [ عن عنبسة الفيل ] (1) عن أبي الأسود الدؤلي ، عنه عليه السلام ، والسبب في ذلك أنّ قريشاً كانوا يتزوجّون في الأنباط ، فرفع فيما بينهم أولادهم فافسدوا لسانهم ، حتى انّ بنت حرملة بن خويلد الأسدي (2) كانت متزّوجة في الأنباط ، فقالت : إنّ أبوي مات وترك عليَّ مال كثيرٍ (3) فلما رأوا فساد لسانها أخبروا أمير المؤمنين عليه السلام فأسّس النحو.
    وروي أنّ أعرابيّاً سمع من سوقي يقرأ : ان الله بريء من المشركين
1 ـ من المناقب.
2 ـ في المناقب : انّ قريشاً كانوا يزوجون بالأنباط ، فوقع فيما بينهم أولاد ، ففسد لسانهم ، حتى أنّ بنتاً لخويلد الأسدي.
3 ـ والصحيح ان تقول : أنّ أباي مات وترك عليَّ مالاً كثيراً.


(324)
ورسولِهِ ، فشجّ رأسه ، فخاصمه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال له في ذلك ، فقال : إنّه كفر في قراءته.
    فقال صلوات الله عليه : إنّه لم يتعمّد ذلك.
    وروي أنّ أبا الأسود كان في بصره سوء وله بنيّة تقوده إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقالت : يا أبتاه ما أشدّ حرّ الرمضاء ! تريد التعجّب ، فنهاها عن مقالتها ، وأخبر أمير المؤمنين عليه السلام بذلك فأسّس النحو.
    وروي أنّ أبا الأسود كان يمشي خلف جنازة ، فقال قائل : من المتوفّي ؟
    فقال أبو الأسود : الله ، ثمّ إنّه أخبر عليّاً عليه السلام بذلك فأسّس النحو ودفعه (1) إلى أبي الأسود ، وقال : ما أحسن هذا النحو ، فسمّي نحواً.
    قال ابن سلّام : كانت الرقعة : الكلام ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف جاء لمعنى.
    فالإسم : ما أنبأ عن المسمّى.
    والفعل : ما أنبأ عن حركة المسمّى.
    والحرف : ما أوجد معنى في غيره.
    وكتب صلوات الله : وكتبه عليّ بن أبو طالب ، فعجزوا عن ذلك ، فقالوا : أبو طالب : اسمه لا كنيته (2) ، وقالوا : هذا تركيب مثل [ درّاحناو ] (3) حضرموت وبعل بك.
1 ـ في المناقب ، فأسّس النحو ، فعلى أي وجه كان وقّعه.
2 ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل والمناقب : اسمه كنيته.
3 ـ من المناقب.


(325)
    وقال الزمخشري في الفائق (1) : تُرِك في حال الجرّ على لفظه في حال الرفع ، لأنّه اشتهر بذلك وعُرف ، فجَرى مجرى المثل الّذي لا يغيّر. (2)
    وأمّا إخلاصه وسبقه بالجهاد والأعمال الصالة التي لم يقصد بها إلا وجه الله فقد شهد الله له بها في كتابه ، وكذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله.
    روي أنّه لمّا اُسر العبّاس بن عبد المطّلب [ يوم بدر ] (3) أقبل المسلمون يعيّرونه بكفره بالله وقطيعة الرحم ، وأغلظ له أمير المؤمنين عليه السلام القول ، فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا ؟
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ألكم محاسن ؟
    فقال : نعم ، إنّا لنعمّر المسجد الحرام [ ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاجّ ، ونفكّ العاني (4) ، فأنزل الله تعالى ـ ردّاً على العباس ووفاقاً لعليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ ] (5) : ( ما كانَ للمشركينَ أن يعمروا مساجدَ اللهِ ) (6) الآية ، ثمّ قال : ( إنّما يعمرُ مساجدَ اللهِ من آمن باللهِ واليومِ الآخرِ ) (7) الآية ، ثم قال : ( أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ) (8) الآية. (9)
    وروى إسماعيل بن خالد ، عن عامر. وابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عبّاس. ومقاتل ، عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس ، والسدّي ، عن أبي صالح. وابن
1 ـ الفائق في غريب الحديث : 1 / 14.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 46 ـ 47 ، عنه البحار : 40 / 161 ـ 162.
3 و 5 ـ من المناقب.
4 ـ العاني : الأسير.
6 و 8 ـ سورة التوبة : 17 ـ 19.
9 ـ أسباب النزول للواحدي : 163.


(326)
أبي خالد وزكريّا (1) عن الشعبي أنّ هذه الآية نزلت في عليّ عليه السلام.
    [ الثعلبي والقشيريّ والجبّائي والفلكيّ في تفاسيرهم ، والواحديّ في أسباب نزول القرآن (2) عن الحسن البصري وعامر الشعبي ومحمد بن كعب القرظي. وروينا عن عثمان بن أبي شيبة ووكيع بن الجرّاح وشريك القاضي ومحمد بن سيرين ومقاتل بن سليمان والسدّي وأبي مالك ] (3) ومرّة الهمداني وابن عبّاس أنّه افتخر العبّاس بن عبد المطّلب ، فقال : أنا عمّ محمد ، وأنا صاحب سقاية الحجيج ، فأنا أفضل من عليّ بن أبي طالب.
    فقال شيبة بن عثمان أو طلحة أو عثمان : وأنا اعمّر بيت الله الحرام ، وصاحب حجابته ، فأنا أفضل.
    وكان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً ، فقال : أنا أفضل منكما ، لقد صلّيت قبلكما بستّ سنين ، وأنا اُجاهد في سبيل الله.
    وفي رواية الحاكم أبي القاسم الحسكاني (4) بإسناده عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : بينا شيبة والعبّاس يتفاخران إذ مرّ بهما علي بن أبي طالب ، فقال : بماذا تتفاخران ؟
    فقال العبّاس : لقد اُوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاجّ. وقال شيبة : اُوتيت عمارة المسجد الحرام.
    فقال أمير المؤمنين : لقد استحييت لكما فقد اُوتيت على صغري ما لم
1 ـ كذا في المناقب ، وفي ا لأصل : وروي عن ابن عبّاس وعطاء وابن جريح ومقاتل ، عن الضحّاك والسدّي ، عن أبي صالح وزكريا.
2 ـ أسباب النزول : 164.
3 ـ من المناقب ، وفي الأصل : وروى السدّي وأبو مالك.
4 ـ شواد التنزيل : 1 / 329 ح 338.


(327)
تؤتيا.
    فقالا : وما اُوتيت يا علي ؟
    قال : ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله.
    فقام العبّاس مغضباً يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال : أما ترى ما استقبلني به عليّ ؟
    فقال صلّى الله عليه وآله : ادعوا لي عليّاً ، فدعي له ، فقال : ما حملك على ما استقبلت به عمّك ؟
    فقال : يا رسول الله صلّى الله عليك وآلك ، صدمته بالحقّ ، فمن شاء فليغضب ، ومن شاء فليرض ، فنزل جبرائيل وقال : يا محمد ، إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك : اتل عليهم ( أجعلتم سقايةَ الحاجِّ وعمارةَ المسجدِ الحرامِ ) (1) الآيات.
    فقال العبّاس : أنا قد رضيت ـ ثلاث مرّات ـ. (2)
    في كتاب أبي بكر الشيرازي بإسناده عن مقاتل ، [ عن مجاهد ، ] (3) عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله ـ إلى قوله ـ بغيرِ حسابٍ ) (4) قال : والله هو أمير المؤمنين.
    ثمّ قال بعد كلام : [ وذلك ] (5) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أعطى عليّاً
1 ـ سورة التوبة : 19.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 68 ـ 69 ، عنه البحار : 41 / 63 ـ 64.
3 و 5 ـ من المناقب.
4 ـ سورة النور : 37 و 38.


(328)
[ يوماً ] (1) ثلاثمائة دينارٍ اُهديت إليه ، قال علي : فأخذتها قلت : والله لأتصدّقنّ في هذه الليلة بصدقة يقبلها الله منّي من هذه الدنانير ، فلمّا صلّيت العشاء الآخرة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله أخذت منها مائة دينار وخرجت من المسجد ، فاستقبلتني امرأة فأعطيتها الدنانير ، فأصبح الناس بالغد يقولون تصدّق عليّ في هذه الليلة بمائة دينار على امرأة فاجرة ، فاغتممت غمّاً شديداً.
    فلمّا صلّيت الليلة القابلة صلاة العتمة أخذت مائة دينار وخرجت من المسجد ، وقلت : والله لأتصدّقنّ في هذه الليلة بصدقة يقبلها الله منّي ، فلقيت رجلاً فتصدّقت عليه بالدنانير ، فأصبح الناس (2) يقولون : إنّ عليّا في هذه الليلة تصدّق بمائة دينار على رجل سارق ، فاغتممت لذلك غمّاً شديداً ، وقلت : والله لأتصدّقنّ في هذه الليلة بصدقة يقبلها الله منّي ، فصلّيت العشاء الآخرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وخرجت من المسجد ومعي المائة دينار الباقية ، فلقيت رجلاً فأعطيته إيّاها ، فأصبح الناس يقولون : إنّ عليّاً تصدّق البارحة على رجل غنيّ ، فاغتممت لذلك غمّاً شديداّ ، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته.
    فقال : يا عليّ ، [ هذا جبرئيل يقول لك : إنّ الله عزّ وجلّ قد قبل صدقاتك ، وزكّى عملك ، ] (3) إنّ المائة دينار الاُولى التي تصدّقت بها وقعت في يد امرأة فاسدة فرجعت إلى منزلها وتابت إلى الله تعالى من الفساد ، وجعلت تلك الدنانير رأس مال لها (4) ، وهي في طلب بعل تتزوّج
1 و 3 ـ من المناقب.
2 ـ في المناقب : أهل المدينة. وكذا في الموضع الآتي.
4 ـ في المناقب : رأس مالها.


(329)
[ به ] (1) ، وإنّ الصدقة الثانية وقعت في يد سارق فرجع إلى منزله وتاب إلى الله من سرقته ، وجعل الدنانير رأس ماله يتّجر بها ، وإنّ الصدقة الثالثة وقعت في يد غني لم يزكّ ماله منذ سنين ، فرجع إلى منزله ووبّخ نفسه وقال : شحّاً عليك يا نفس ، هذا علي بن أبي طالب تصدّق عليَّ بمائة دينار ولا مال له ، وأنا قد أوجب الله عليَّ في مالي الزكاة أعواماً كثيرة لم أزكّه ، فحسب ماله وكّاه وأخرج زكاة ماله كذا وكذا ديناراً ، وأنزل الله سبحانه فيك : ( رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ اللهِ ) (2) الآية.
    أبو الطفيل : رأيت عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه : لوددت انّي كنت يتيماً. (3)
    محمد بن الصمّة ، عن أبيه ، [ عن عمّه ، ] (4) قال : رأيت في المدينة رجلاً على كتفه (5) قربة وفي يده صحفة يسقي ويطعم الفقراء ويقول : اللّهمّ وليّ المؤمنين ، وإله المؤمنين ، وجار المؤمنين ، اقبل قرباتي [ الليلة ] (6) ، فما أمسيت أملك سوى ما في صحفتي وغير ما في قربتي (7) ، فإنّك تعلم أنّي منعته نفسي من شدّة سغبي لطلب القربة إليك. (8)
    اللّهمّ فلا تخلق وجهي ، ولا تردّ دعوتي. فأتيته وتأمّلته (9) ، فإذا هو أمير
1 و 4 و 6 ـ من المناقب.
2 ـ سورة النور : 37.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 74 ـ 75 ، عنه البحار : 41 / 28 ـ 29.
5 ـ كذا في المناقب ، وفي الاصل : في المدينة عليّاً وعلى كتفه.
7 ـ في المناقب : وغير ما يواريني.
8 ـ في المناقب : مع شدّة سغبي في طلب القربة إليك غنماً.
    والسغب : الجوع.
9 ـ في المناقب : فأتيته حتى عرفته.


(330)
المؤمنين عليه السلام [ فأتى رجلاً فأطعمه ] (1). (2)
    روت الخاصّة والعامّة [ منهم : ابن شاهين المروزيّ ، وابن شيرويه الديلمي ، عن الخدري وأبي هريرة ] (3) أنّ عليّاً عليه السلام أصبح ساغباً ، فسأل فاطمة طعاماً ، فقالت : ما كان ألاّ ما أطعمتك منذ يومين ، آثرتك به على نفسي وعلى الحسن والحسين.
    فقال : ألا أعلمتني فآتيكم بشيء ؟
    فقالت : يا أبا الحسن ، إنّي لأستحيي من الله أن اُكلّفك ما لا تقدر عليه ، فخرج واستقرض [ من النبي صلّى الله عليه وآله ] (4) ديناراً ، وخرج يشتري به شيئاً ، فلقيه المقداد قائلاً : ما شاء الله ، فناوله عليّ عليه السلام الدينار ، ثمّ دخل المسجد ووضع رأسه ونام ، فخرج النبي صلّى الله عليه وآله فإذا هو به ، فحرّكه ، وقال : ما صنعت ؟ فأخبره ، فقام وصلّى معه ، فلمّا قضى النبيّ صلاته قال : يا أبا الحسن ، هل عندك شيء نفطر عليه فنميل معك ؟ فأطرق لا يجد جواباً حياء منه ، وكان الله قد أوحى [ إليه ] (5) أن يتعشّى تلك الليلة عند عليّ ، فانطلقا حتى دخلا على فاطمة وهي في مصلّاها وخلفها جفنة تفور دخاناً ، فأخرجت فاطمة الجفنة فوضعتها بين أيديهما ، فسألها علي عليه السلام : أنّى لك هذا ؟
    قالت : هو من عند الله (6) إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب (7).
    قال : فوضع النبي صلّى الله عليه وآله كفّه المبارك بين كتفي عليّ ، وقال :
1 و 3 و 5 ـ من المناقب.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 76 ، عنه البحار : 41 / 29 ـ 30.
6 ـ في المناقب : من فضل الله ورزقه.
7 ـ إشارة إلى الآية : 37 من سورة آل عمران.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس