|
|||
(346)
وفي هذه الآية أعظم دلالة على صحّة إمامة أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعد رسول الله بلا فصل ، والدلالة فيه انّ لفظة إنّما تفيد الحصر ، فصارت الولاية منحصرة في الله ورسوله والّذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة يؤتون 1 ـ في المجمع : نفسي. 2 ـ مجمع البيان : 2 / 210 ـ 211. وانظر : مناقب ابن شهراشوب : 3 / 2 ـ 6 ، كشف الغمّة : 1 / 301 و 311 ، عنهما البحار : 35 / 189 ح 13 وص 194 ح 15 وص 196 ح 16. 3 ـ من المجمع. 4 ـ سورة المائدة : 55. (347)
الزكاة وهم راكعون ، كما تقول : إنّما الفصاحة للعرب ، فحصرت الفصاحة فيهم ونفيتها عن غيرهم ، وكما تقول : إنّما أكلت رغيفاً ، وإنّما رأيت زيداً ، فنفيت أكل أكثر من رغيف ورؤية غير زيد.
ووجه آخر وهو انّ الولاية مختصّة بمن ذكرنا هو انّه سبحانه قال : ( إنّما وليّكمُ اللهُ ) فخاطب جميع المؤمنين ، ودخل في الخطاب النبيّ وغيره ، ثم قال : ( ورسولهُ ) فأخرج النبي من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته ، ثم قال : ( والذينَ آمنوا ) فوجب أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي حصلت له الولاية ، ولا أدّى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وإلى أن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه ، وهذا باطل ، فثبت بذلك الولاية العامّة لله ولرسوله وللمؤمنين الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة هم راكعون ، وليس لأحد أن يقول : إنّ لفظ ( الذينَ آمنوا ) جمع ولا يجوز أن يتوجّه إلى أمير المؤمنين على الانفراد ، وذلك انّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم والتفخيم ، وذلك أشهر في كلامهم من الاستدلال عليه ، وليس لهم أن يقولوا : إنّ المراد بقوله : ( وهم راكعونَ ) انّ هذه سمتهم (1) فلا يكون حالاً لإيتاء الزكاة وذلك لأنّ قوله : ( يقيمونَ الصلاة ) قد دخل فيه الركوع ، فإذا حملناه على أنّ من سمتهم (2) الركوع كان ذلك كالتكرار الغير مفيد ، وتأويل المفيد أولى من البعيد الّذي لا يفيد ، فثبتت الولاية العامّة لأمير المؤمنين عليه السلام كما ثبتت لله ورسوله. (3) كلمات ألقاها جناني إلى لساني ، وسجعات أملاها إيماني على بياني ، 1 ـ في المجمع : شيمتهم. 2 ـ في المجمع : صنعهم. 3 ـ راجع مجمع البيان : 2 / 211 ـ 212. (348)
ومناجاة توسّلت بها إلى ربّي ، وفقرات أسداها صادق عهدي إلى قلبي :
اللّهمّ إنّك طهرت قلوبنا من كلّ ريب ، ونزّهت نفوسنا من كلّ عيب ، وجعلتها مأوى الإخلاص لولاية وليّك ، ومثوى الإمحاض (1) لوصيّ نبيّك ، لا نعتقدبعد نبيّك أقرب منه إليك ، ولا نعلم وليّاً نتوسّل به سواه لديك ، قرنت طاعته بطاعتك ، وأوجبت ولايته كولايتك ، ونوّهت بذكره في محكم تنزيلك ، وشددت به عضد نبيّك ورسولك ، وأفرغت على أعطاف إمامته خلع الرئاسة الكبرى ، وجعلته أفضل خلقك بعد رسولك في الدنيا والاُخرى ، لا يدخل الجنّة إلا مستمسكاً بحبله ، ولا يذوق النار إلا جاحداً لفضله ، حبّه فرض على كافّة بريّتك ، وبغضه كفر موجب لنكال عقوبتك. يطرب ذكره قلبي ويكشف مدحه كربي ، وينشي وصفه نشوة السرور في سرائري ، وينتج ذكره نشاءة الحبور في ضمائري. حبّه منوط بلحمي ودمي ، ولفظه شفاي من أوصابي وسقمي ، لا تقبل صلاتي إلا بالصلاة عليه ، ولاتخلص طاعتي إلا بتفويض اُموري إليه ، لما جعلت حبّه عنوان الإيمان بك ، التفريط في جنبه تفريط في جنبك ، فهو وليّك في عبادك حين أخذت عليهم الميثاق ، وخليفتك في بلادك على الاطلاق ، ولسانك الناطق بالحقّ ، ويدك الباسطة على الخلق ، من أطاعه أدخلته جنّتك وإن عصاك ، ومن عصاه خلّدته نارك وإن أطاعك ، كنز علمك ، ومعدن حكمك ، ومشرق أنوارك ، ومظهر أسرارك. ( هل أتى ) (2) في شأنه اُتيت ، ( إنّما وليّكم ) (3) في بيانه اُنزلت ، وآية 1 ـ كلّ شيء أخلصتَه فقد أمحَضتَه. « الصحاح : 3 / 1104 ـ محض ـ ». 2 ـ سورة الانسان : 1 وما بعدها. (349)
المباهلة (4) تشهد بمساواته لنبيّك ، والإخلاص بحبّه أجر بلاغ صفيّك ، ومائدة شرفه بحديث : « لحمك لحمي » (5) كملت ، وملّة الاسلام بنصبه علماً للاُمّة كملت ، وسمت نفسي بميسم العبوديّة لحضرته ، وقدّرت انّي أقلّ خدمه وإن كنت من حفدته.
إذا ذكرت صغائر ذنوبي وكبائرها ، وموبقات عيوبي وتكاثرها ، قرعت باب الرجاء بيد حبّه ، وتوسّلت إلى خالقي بإخلاصه وقربه ، فيناجيني بلسان نبيّه في سرائري ، ويخاطبني ببيان وليّه في ضمائري : « حبّ علي حسنة لا يضرّ معها سيّئة ، وبغضه سيّئة لا ينفع معها حسنة » (6) ، فيحلو مكرّر حديثها في لهواتي ، ويجلو ترداد خطابها همومي في خلواتي. لا أعتقد بعد توحيد ربّي وتنزيهه عمّا لا يليق بكماله والاقرار لنبيّي بعدم المماثل له في شرفه وجلاله أوجب طاعة ، ولا أفوض متابعة ، ولا أثبت إيماناً ، ولا أعلى تبياناً ، ولا أشدّ ركناً ، ولا أبين معنى ، ولا أوضح حجّة ، ولا أهيع 3 ) سورة المائدة : 55. 4 ـ ( فمن حاجّكَ فيه من بعد ما جاءكَ من العلم فَقُلْ تعالوا ندعُ أَبناءنا وأبناءَكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمَّ نبتهل فنجعل لعنة اللهِ على الكاذبينَ ) آل عمران : 61. 5 ـ ورد هذا الحديث بألفاظ متفاوتة ، انظر : إحقاق الحقّ : 4 / 78 و 149 و 245 ـ 248 و 482 و 484 ـ 486 ، و ج 5 / 1 ـ 2 ، و ج 6 / 443 ـ 448 ، و ج 15 / 61 و 664 و 692 ، و ج 16 / 117 ، و ج 20 / 249 و 290 و 292 و 295 و 315. 6 ـ أورده الديلمي في فردوس الأخبار : 2 / 142 ح 2725 عن معاذ ، عنه كشف الغمّة : 1 / 93 ، والبحار : 39 / 304 ح 118. وأخرجه في مناقب ابن شهراشوب : 3 / 197 عن أبي تراب في الحدائق ، والخوارزمي في الأربعين بإسنادهما عن أنس ، والديلمي في الفردوس ، وجماعة ، عن ابن عمر ، عنه البحار : 39 / 256 ح 31. وفي البحار : 39 / 248 ح 10 عن كشف الغمّة. (350)
محجّة ، ولا أشمخ فخراً ، ولا أرفع ذكراً ، من الاذعان بالطاعة لنهيه وأمره ، ولا يعاد بالمتابعة لسرّه وجهره.
فيا من يحسده على ما آتاه الله من فضله ، ويدّعي رتبته ، وهو لا يعادل عند الله شسع نعله ، لقد طرت مستكبراً ، وتعاظمت صغيراً ، وأوثقت نفسك ، وأنكرت جنسك ، وجهلت قدرك ، وشبت درّك ، وبادرت خالقك بمعصيتك ، ولم يحسن يوماً تؤخذ فيه بناصيتك ، أتريد أن تستر الشمس بكفّك ، أو تنقص البحر بغرفك ، وتجار الجواد بأناتك ، أو تنال السماء ببنانك ؟ ويك ارفق بنفسك ، ولاتفخر بغرسك ، فهذا الذي شرّفت بذكره مقالي ، ووجّهت إلى كعبة جوده آمالي ، ورجوته معادي في حشري ، ونوري في قبري ، وكنزي لفقري ، ووجهتي في عسري ويسري ، هو البحر الّذي لا ينزف ، والعارف الّذي لا يعرف ، والشمس الّتي لا تخفى ، والنور الّذي لا يطفأ ، المنزّه بكماله عن الأنداد ، الجامع في خصاله بين الأضداد ، يحيي بجوده الآمال ، ويميت بفتكه الأبطال ، وتصل بكفّه الاقصار ، وتقطع بسيفه الآجال. إن ذكر ليل فهو راهب دجاه ، أو ذكر حرب فهو قطب رحاه ، أسد الله المحراب ، حليف المسجد والمحراب ، يجزّ بصارمه الأعناق ، ويدرّ بنائله الأرزاق ، نقمة الله على أعدائه ، ورحمته لأوليائه ، الشامخ بأنفه في الحرب ، والمتواضع من عظمته للربّ ، الناسك في خطوته ، والفاتك بسطوته ، قتّال الأبطال إذا الحروب وقعت ، وبدل الأبدال إذا الجنوب اضطجعت ، امتحن الله به خلقه ، وأبان بالأدلّة الواضحة صدقه ، وأكرمه بالشهادة التي فضّله بها على من سواه ، وأحبّ سبحانه لقاءه ، كما أحبّ صلوات الله عليه لقاءه ، لما تفرّد عن النظير من أبناء جنسه ، وتعالى عن التمثيل في طهارته وقدسه. (351)
تعصّبت عصب الضلالة لقتاله ، وتحزّبت أحزاب الجهالة لاغتياله ، وضربت إلى حربه بطون رواحلها ، وأجلبت على هظمه بأبطال كفرها وباطلها.
فتبّاً لها من اُمّةٍ الغدر شعارها ، والمكر دثارها ، والنفاق قرينها ، والشقاق حديثها ، خسرت صفقتها ، وكسدت تجارتها ، فما أضمى فيها ، وظمي ريّها ، وأضلّ سعيها ، وأشقى ميّتها وحيّها ، تاهت في بيداء حيرتها ، وغرقت في متلاطم شقوتها ، وزيّن الشيطان لها سوء فعلها ، ودلّاها بغروره فأوقعها في ورطة جهلها. أفهذا كان جزاء نعمة ربّها عليها ، ومننه إليها ؟! إذ أقام لها وليّاً من أوليائه يثقف (1) أودها ، ويقوّم عوجها ، ويوضح بها الدليل ، ويهديها سواء السبيل ، أن تشنّ عليها غاراتها ، وتطلبه بنزّاتها (2) ، وتقصده في نفسه وعترته ، وتغمّده في حفدته وشيعته ، وتنصب له الغوائل ، وتضمي منه المقاتل ، وأن تتقدّمه أو غادها سامريّها وعجلها ، وأن تجلب مرافقها عليه بخيلها ورجلها ، وأن تجمع فسّاقها على حربه في صفّينها وجملها ، وأن تنكر فجّارها ما بيّن الرسول من قربه بتفضيلها وجملها. وهكذا لم يزل الدنيّ يحسد العليّ ، والطفيف يحسد الشريف ، والباخل يحسد الباذل ، واللئيم يحسد الكريم ، والأوغاد تتقدّم الأمجاد ، والناس أميل في أشكالهم ، وأشبه بأمثالهم ، أتباع كلّ ناعق ، وأشياع كلّ زاهق ، العلم أكسد بضاعة تجبى إليهم ، والكتاب أنكد كلمة تتلى عليهم ، يبدّلونه بأهوائهم ، 1 ـ الأوَدُ : العوج ، والثقاف : هو تقويم المعوج. « لسان العرب : 3 / 75 ـ أود ـ ». 2 ـ قتلته النزّة : أي الشهوة. « لسان العرب : 5 / 417 ـ نزز ـ ». والتَنزّي : التوثُّب والتسرُّع ... والانتِزاءُ والّتنزّي أيضاً : تسرُّع الإنسان إلى الشرِّ. « لسان العرب : 15 / 320 ـ نزا ـ ». (352)
ويلحدون في آياته ، ويكذّبون بيّناته ، ويتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة (1) ، ويقصدون من سفه أحلامهم لتبديلهم بكلّ حجّة ، ولما روى صلوات الله عليه شدّة شكيمتهم ، وخبث عقيدتهم ، يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ويعدلون بالحقّ عن مواقعه ، لا يجيبون صوته ، ولا يرهبون سوطه ، ولا يستجيبون لدعائه ، ولا يجعلون بندائه ، فبرم من صحبتهم ، وتظلّم من معصيتهم ، وشكاهم إلى الله في خطبه ونثره ، واستعدى عليهم الله في سرّه وجهره.
كقوله صلوات الله عليه : اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وسمئتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرّاً منّي. اللّهمّ مِث قلوبهم (2) كما يُماث الملح في الماء. (3) وكقوله صلوات الله عليه ـ من جملة كلامه ـ : أيها القوم الشاهد أبدانهم (4) ، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم اُمراؤهم ، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، لوددت ـ والله ـ أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم ! يا أهل الكوفة ، منيت منكم بثلاثٍ واثنتين : صمّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعمي ذوو أبصارٍ ، لا أحرار صدقٍ عند اللقاء ، ولا إخوان ثقةٍ 1 ـ إشارة إلى الآية : 7 من سورة آل عمران. 2 ـ أي أذبها. 3 ـ نهج البلاغة : 67 خطبة رقم 25. وانظر البحار : 34 / 19. 4 ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : أيها المشاهد أبدانهم. (353)
عند البلاء ! تربت أيديكم ! يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ! كلّما جمعت من جانبٍ تفرّقت من آخر ، والله لكأنّي [ بكم ] (1) فيما إخالكم : [ أن ] (2) لو حمس الوغى ، وحمي الضراب ، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها. وإنّي لعلى بيّنةٍ من ربّي ، ومنهاجٍ من نبيّي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً. (3)
ومن كلام له صلوات الله عليه يخاطب به أصحابه : يا أشباه الرجال ولا رجال ! حلوم الأطفال ، وعقول الحِجال (4) ، وددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم معرفةً ـ والله ـ جرّت ندماً ، وأعقيت سدماً (5) ، قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبي قَيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً ، وجرّعتموني نُغب التِّهمام أنفاساً ، وأفسدتم (6) عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان ؛ حتى [ لقد ] (7) قالت قريش : إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم ! وهل أحد منهم أشدّ لها مِراساً (8) ، وأقدم فيها مَقاماً منّي ؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنذا قدر ذرّفت على الستّين (9) ! ولكن لا 1 و 2 ـ من النهج : وإخال : أظنّ. وحمس : اشتدّ. والوغى : الحرب. 3 ـ نهج البلاغة : 142 خطبة رقم 97. 4 ـ ربّات الحِجال : النساء. 5 ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : ذمّاً. والسدم : الهم مع أسف أو غيظ. 6 ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : وجرّعتموني قعب البهتان ، وأفسدتم. ونُغب : أي جُرَع. والتِّهمام : الهمّ. والمراد أنّ أنفاسه أمست همّاً يتجرّعه جرعة بعد جرعة. 7 ـ من النهج. 8 ـ أي عالجه وزاوله وعاناه. 9 ـ أي زدت على الستين. وفي رواية المبرّد. نيّفت ، وهو بمعناه. (354)
رأي لمن لا يُطاع ! (1)
ومن كلام له في ذمّ أهل العراق : أمّا بعد [ ـ يا أهل العراق ـ ] (2) ، فإنّما أنتم كالمرأة الحامل ، حملت فلمّا أتمّت أملصت (3) ، ومات قيّمها ، وطال تأيّمها (4) ، وورثها أبعدها. أما والله ما أتيتكم اختياراً ، ولكن جئت إليكم سَوقاً. ولقد بلغني أنّكم تقولون : [ عليُّ ] (5) يكذب ، قاتلكم الله تعالى ! فعلى من أكذب ؟ أعلى الله ؟ فأنا أوّل من آمن به ! أم على نبيّه ؟ فأنا أوّل من صدّقه ! كلّا ـ والله ـ ولكنّها لهجة غبتم عنها ، ولم تكونوا من أهلها. (6) وغير ذلك من مقاماته المشهورة ، ومكاناته المرموزة ، فبعداً لها من اُمّة شرت الضلالة بالهدى ، والعذاب المغفرة ، فما أصبرها على النار ، وأولاها بغضب الجبّار ؟! ثم لم يجترئ أعلامها بغصب حقّه وتكذيب صدقه ، حتى أعلنوا بسبّه على منابرهم ، وتشادقوا بثلبه في منائرهم ، وأبى الله إلا أن يتمّ نوره ، ويجري في خلقه اُموره. وأخفى الأعداء فضله حنقاً ، وكتم مدحه الأولياء فرقاً ، وظهر من بينهما ما طبق الآفاق ، وملأ الأوراق ، واستمرّت به الأزمان ، وسادت به الركبان ، وثبت على الحق من ثبّته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة (7) ، 1 ـ نهج البلاغة : 70 خطبة رقم 27. 2 و 5 ـ من النهج. 3 ـ أملصت : أسقطت ، وألقت ولدها ميّتاً. 4 ـ قيّمها : زوجها. وتأيّهما : خلوّها من الأزواج. 6 ـ نهج البلاغة : 100 خطبة رقم 71. 7 ـ إشارة إلى الآية : 27 من سورة إبراهيم. (355)
واستقام على الصدق من طاب خيمه (1) وصفا معينه ، وكانت ينابيع اُصوله ظاهرة ، لا تحرّكه الرياح العواصف ، كما قال صلوات الله عليه : لو ضربت خيشوم (2) المؤمن بسيفي على أن يبغضني لما بغضني ، ولو صببت الدنيا بحذافيرها على المنافق أن يحبّني لما أحبّني ، وذلك عهد عهده إليّ رسول الله صلّى الله عليه وآله (3) : لا يحبّك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق. (4)
روى الحاتمي بإسناده إلى ابن عبّاس ، قال : دخل أسود على أمير المؤمنين عليه السلام وأقرّ أنّه سرق ، فسأله عليه السلام ثلاث مرّات ، فقال : يا أمير المؤمنين ، طهّرني فإنّي سرقت ، فأمر عليه السلام بقطع يده ، فأخذ يمينه بشماله ومضى ، فاستقبله بن الكوّاء فقال : من قطع يدك ؟ فقال : ليث الحجاز ، وكبش العراق ، ومصادم الأبطال ، المنتقم من الجهّال ، كريم الأصل ، شريف الفضل ، محلّ الحرمين ، وارث المشعرين ، أبو السبطين ، أوّل السابقين ، وآخر الوصيّين من آل يس ، المؤيّد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل ، حبل الله المتين ، المحفوظ بجنود السماء أجمعين ، ذلك والله أمير المؤمنين على رغم الراغمين ـ في كلام له ـ. فقال ابن الكوّاء : قلع يدك وتثني عليه ! قال : لو قطّعني إرباً إرباً لمل ازددت له إلا حبّاً ، فدخل ابن الكوّاء على 1 ـ الخِيم : الشيمة والطبيعة والخُلُق والسجيّة ... والخِيم : الأصل. « لسان العرب : 12 / 194 ـ خيم ـ ». 2 ـ الخيشوم : أصل الأنف. 3 ـ كذا ، وفي النهج : وذلك أنّه قُضي فانقضى على لسان النبي الاُمّي صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ أنّه قال : يا علي ، لا يبغضك مؤمن ، ولا يحبّك منافق. 4 ـ نهج البلاغة : 477 حكمة رقم 45 ، عنه البحار : 39 / 296 ح 97. وانظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 / 83 ، عنه البحار : 39 / 295. (356)
أمير المؤمنين وأخبره بقصّة الأسود.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا ابن الكوّاء ، إنّ محبّينا لو قطّعناهم إرباً إرباً لما ازدادوا لنا إلا حبّاً ، وإنّ في أعدائنا من لو ألعقناهم السمن والعسل ما ازدادوا لنا إلا بغضاً. وقال أمير المؤمنين للحسن عليه السلام : عليك بعمّك الأسود. فأحضر الحسن عليه السلام الأسود بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام ، فأخذ يده فنصبها في موضعها ، وغطّاها بردائه ، وتكلّم بكلمات أخفاها ، فاستقرّت يده كما كانت ، فصار يقاتل بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن استشهد بالنهروان ، ويقال : كان اسم الأسود أفلح. (1) وأمّا من كان من أعدائه بسبّه موسوم ، وببغضه موسوم ، وأصله دنيّ ، وخيمه خني ، قد اكتنفه فجور الآباء وعهر الاُمّهات ، وأحاطت به رذالة الأقرباء والاُمور المظلمات ، فأعلن بسبّه وبغضه ، ولم يحسن الله يوم حشره وعرضه ، وزيّن له الشيطان سوء عمله ، وقبيح زلله ، فاتّخذ بغضه وسيلة إلى أئمّة الضلال ، وتقرّباً إلى الآثمة الضلّال ، فأحلّ الله بهم أليم عقابه ووخيم عذابه ، في دار الفناء 1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 335 ، عنه البحار : 41 / 210 ح 24. وأورد نحوه شاذان في الفضائل : 172 ـ 173 ، والروضة في الفضائل : 42 ( مخطوط ) ، عنهما البحار : 40 / 281 ـ 283 ح 44. وفي الخرائج والجرائح : 2 / 561 ح 19 ( مختصراً ) ، عنه البحار : 41 / 202 ح 15 ، وج 79 / 188 ح 24 ، ومستدرك الوسال : 18 / 151 ح 11. وأخرجه في إثبات الهداة : 2 / 518 ح 454 ( مختصراً ) عن الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب. وفي مدينة المعاجز : 2 / 68 ح 403 عن البرسي ـ ولم نجده في مشارق أنوار اليقين ـ إلا أنّ ما فيه يوافق ما في الفضائل والروضة. وفي ص 71 ح 404 عن السيد الرضي في المناقب الفاخرة. (357)
قبل يومك الجزاء ، ولعنهم كما لعن أصحاب السبت إذا اعتدون سبتهم ، وأنزل بهم نكاله لما صرفوا عن آيات الله بزورهم وبهتهم ، وجعلهم عبرة في بلاده ، وتذكرة لعباده ، وغيّر سبحانه صورهم ، وقطع بدعائه دابرهم ، فقد خرجوا عن حدّ الإحصاء ، وفاتوا العدّ والاستقصاء ، وبلغت أخبارهم من التواتر حدّاً شافياً ، وقدراً كافياً.
كما روي عن الأعمش ، [ عن رواته ، ] (1) عن حكيم بن جبير ؛ وعن عقبة الهجري ، عن عمّته ؛ وعن أبي يحيى ، قال : شهدت عليّاً عليه السلام على منبر الكوفة يقول : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، ورثت نبيّ الرحمة ، ونكحت سيّدة نساء الاُمّة (2) ، وأنا سيّد الوصيّين ، وآخر أوصياء النبيّين ، لا يدّعي ذلك غيري إلا أصابه الله بسوء. فقال رجل من عبس : من الذي لا يحسن أن يقول : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ؟ فلم يبرح مكانه حتى تخبّطه الشيطان ، فجرّ برجله إلى باب المسجد. (3) العيّاشي (4) : بإسناده إلى الصادق عليه السلام في خبر قال النبي صلّى الله عليه وآله : يا عليّ ، إنّي سألت الله سبحانه أن يوالي بيني وبينك ففعل ، وسألته أن 1 ـ من المناقب. 2 ـ في المناقب : أهل الجنّة. 3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 341 ـ 342 ، عنه مدينة المعاجز : 2 / 284 ح 553. وأورده في كشف الغمّة : 1 / 284 مرسلاً. وأخرجه في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2 / 287 عن الغارات. وفي البحار : 41 / 205 ح 22 عن إرشاد المفيد : 1 / 352 ـ 353 ، والمناقب ، والخرائج والجرائح : 1 / 209 ح 51. 4 ـ تفسير العيّاشي : 2 / 141 ح 11 ، عنه البحار : 36 / 100 ح 44. (358)
يؤاخي بينهم وبينك ففعل ، وسألته أن يجعلك وصيّي ففعل.
فقال رجل : والله لصاعٍ من تمر في شنّ (1) بالٍ خير ممّا سأل محمد ربّه ، هلّا سأل ملكاً يعضده على عدوّه ، أو كنزاً يستغني به على فاقته ؟ فأنزل سبحانه ( فلعلّكَ تاركٌ بعضَ ما يوحى إليكَ ) (2) الآية. وفي رواية : انّه أصاب قائله علّة. (3) أبو بصير ، عن الصادق عليه السلام ، قال : لمّا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : يا علي ، لولا أنّي أخاف أن يقال فيك كما قالت النصارى في المسيح لقلت اليوم فيك مقالة لا تمرّ بملأٍ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك (4) ، قال الحارث بن عمرو الفهري لقومٍ من أصحابه : ما وجد محمد لابن عمّه مثلاً إلا عيسى بن مريم يوشك أن يجعله نبيّاً من بعده والله إنّ آلهتنا الّتي كنّا نعبد خير منه ، فأنزل الله تعالى : ( ولمّا ضُربَ ابن مريمَ مثلاً إذا قومك منهُ يصدّونَ ـ إلى قوله : ـ وإنّه لعلمٌ للساعةِ فلا تمترنَّ بها واتّبعونِ هذا صراطٌ مستقيم ) (5). وفي رواية أنّه نزل أيضاً ( إن هُوَ إلا عبد أنعمنا عليه ) (6) ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله : يا حارث ، اتّق الله وارجع عمّا قلت من العدواة لعليّ. فقال : إذا كنت رسول الله ، وعليّ وصيّك من بعدك ، وفاطمة بنتك سيّدة 1 ـ الشنّ : القرية الخلفة « خ ». 2 ـ سورة هود : 12. وفي الأصل والمناقب : ( فلعلّكَ باخعُ نفسكَ ) ، وهي الآية : 6 من سورة الكهف ، وما أثبتناه وفقاً لما في العيّاشي. 3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 342 ، عنه البحار : 40 / 72 ذ ح 19 وعن أمالي المفيد : 279 ح 5 ، وأمالي الطوسي : 1 / 105. 4 ـ كذا في المناقب ، وزاد في الأصل : الخبر. ممّا يوهم بتقطيع الخبر. 5 ـ سورة الزخرف : 57 ـ 61. 6 ـ سورة الزخرف : 59. (359)
نساء العالمين ، والحسن والحسين ابناك سيّدا شباب أهل الجنة ، وحمزة عمّك سيد الشهداء ، وجعفر الطيّار ابن عمّك يطير مع الملائكة في الجنة ، والسقاية للعبّاس عمّك ، فما تركت لسائر قريش وهم ولد أبيك ؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ويلك يا حارث ، ما فعلتُ ذلك ببني عبد المطّلب ، لكنّ الله سبحانه فعله بهم. فقال الحارث : ( اللهُمَّ إن كان هذا هوَ الحقَّ من عندكَ فأمطر علينا حجارةً من السماء ) (1) فأنزل الله سبحانه : ( وما كانَ اللهُ ليعذّبهم وأنت فيهم ) (2) فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله الحارث فقال : إمّا أن تتوب أو ترحل عنّا. فقال : إنّ قلبي لا يطاوعني للتوبة ، لكنّي أرحل عنك ، فركب راحلته ، فلمّا أصحر أرسل (3) الله عليه طيراً من السماء في منقاره حصاة مثل العدسة ، فأنزلها على هامته فخرجت من دبره إلى الأرض ، ففحص برجله ، وأنزل سبحانه ( سألَ سائلٌ بعذابٍ واقع ) (4) للكافرين بولاية عليّ ، [ قال : ] (5) هكذا نزل به جبرائيل عليه السلام. (6) قال زياد بن كليب : كنت جالساً في نفر فمرّ بنا محمد بن صفوان مع عبيد الله بن زياد ، فدخلا المسجد ، ثمّ رجعا إلينا وقد ذهبت عينا محمد بن صفوان ، 1 و 2 ـ سورة الأنفال : 32 و 33. 3 ـ في المناقب : أنزل. وأصحر : أي صار في الصحراء. 4 ـ سورة المعراج : 1. 5 ـ من المناقب. 6 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 342 ـ 343 ، عنه البحار : 35 / 320 ح 17. (360)
فقلنا : ما شأنه ؟
فقال : إنّه قام في المحراب وقال : إنّه من لم يسبّ عليّاً بيّنةٍ (1) فأنا أسبّه بيّنة ، فطمس الله بصره. وقد روى هذا عمرو بن ثابت ، عن أبي معشر. البلاذري (2) والسمعاني والمامطيري (3) والنطنزي والفلكي أنّ سعد بن مالك مرّ برجل يشتم عليّاً عليه السلام ، فقال : ويحك ما تقول ؟ قال : أقول ما تسمع. فقال : الّلهمّ إن كان كاذباً فاهلكه ، فخبطه جمل بختيّ فقتله. (4) ابن المسيّب قال : صعد مروان المنبر وذكر عليّاً عليه السلام فشتمه ، قال سعيد بن المسيّب : فهوّمت عيناي فرأيت كفّاً في منامي خرجت من قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ يرى الكفّ ولا يرى الذراع ـ عاقدة على ثلاث وستّين (5) ، وسمعت قائلاً يقول : يا أموي ( أكفرتَ بالذي خلقكَ من ترابٍ ثمَّ من نطفةٍ ثم سوّاك رجلاً ) (6) ؟ قال : فما مرّت بمروان إلا ثلاث حتى مات. 1 ـ في الماقب : بنيّة. وكذا في الموضع التالي. 2 ـ أنساب الأشراف : 2 / 177 ح 204. 3 ـ هو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله المامطيري ، ومامطير : بليدة بناحية آمل طبرستان. 4 ـ في انساب الأشراف والمناقب : فخبطه جمل حتى قتله. والبُخت والبُختيّة : هي الإبل الخراسانيّة. « لسان العرب : 2 / 9 ـ بخت ـ ». 5 ـ على حساب العقود العقد على ثلاث وستّين هو أن يثنّي الخنصر والبنصر والوسطي ويأخذ ظفر الإبهام بباطن العقدة الثانية من السبّابة ، فأشار بعقد الثلاثة إلى أنه لا يعيش أكثر منها. 6 ـ سورة الكهف : 37. |
|||
|