تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 46 ـ 60
(46)
طاعتي الآن كنت متبوعاً وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن جئتني الآن أن اُعطيك ألف الف درهم ، اعجل في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ، فأقبل عبيد الله ليلاً فدخل عسكر معاوية فوفى له بما وعده ، وأصبح الناس ينتظرون أن يخرج فيصلي بهم ، فلم يخرج حتّى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد ، ثمّ خطبهم فقال :
    أيها الناس ، لا يهولنّكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الوزع ، إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بخير قطّ ، إنّ أباه عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله خرج عليه يقاتله في بدر فأسّره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري وأتى به رسول الله صلّى الله عليه وآله فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين ، فإن أخاه ولاه أمير المؤمنين عليه السلام على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين فاشترى به الجواري ، وزعم أنّ ذلك له حلال ، وإنّ هذا ولاه أمير المؤمنين عليه السلام على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولده حتّى قتلوا وصنع الآن ما صنع.
    قال : فتنادى الناس : الحمد لله الّذي أخرجه من بيننا ، انهض بنا إلى عدوّنا ، فنهض وخرج إليه بسر بن أرطاة في عشرين الفاً فصاحوا بهم : هذا أميركم قد بايع ، وهذا الحسن قد صالح ، فعلام تقتلون أنفسكم ؟
    فقال لهم قيس بن سعد : اختاروا أحد شيئين (1) : إمّا القتال مع غير إمام ، أو تبايعون بيعة ضلال ؟
    فقالوا : بل نقاتل بلا إمام ، فخرجوا وضربوا أهل الشام حتّى ردّوهم إلى
1 ـ في المقاتل : إحدى اثنتين.

(47)
مضاربهم (1).
    فكتب معاوية إلى قيس يدعوه ويمنيه.
    فكتب إليه قيس :
    لا والله لا تلقاني أبداً إلا وبيني وبينك الرمح.
    فكتب إليه معاوية.
    إنّما أنت يهوديّ بن يهوديّ ، تشقى نفسك وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحبّ الفريقين إليك فبدّلك وعزلك ، وإن ظهر أبغضهما إليك نكل بك ، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ، ورمى غير غرضه ، فأكثر الحز وأخطأ المفصل (2) ، فخذله قومه وأدركه يومه ، فمات بحوران طريداً غريباً ، والسلام.
    فكتب إليه قيس :
    أمّا بعد :
    فإنّما أنت وثن من هذه الأوثان ، دخلت في الاسلام كرها ، وأقمت عليه فرقاً ، وخرجت منه طوعاً ، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً ، لم تقدّم إسلامك ، ولم تحدث نفاقك ، ولم تزل حرباً لله ولرسوله ، وحزباً من أحزاب المشركين ، فأنت عدوّ الله وعدو رسوله والمؤمنين من عباده ، وذكرت أبي ، ولعمري ما أوتر إلا قوسه ، ولا رمى إلا غرضه ، فشغب عليه من لا يشقّ غباره ، ولا يبلغ كعبه ، وكان أمراً مرغوباً عنه ، مزهوداً فيه ، وزعمت أنّي يهوديّ بن يهوديّ (3) وقد علمت
1 ـ في المقاتل : مصافهم.
2 ـ كذا في المقاتل ، وفي الأصل : النصل.
3 ـ من المقاتل.


(48)
وعلمنا أنّ أبي من أنصار (1) الدين الّذي خرجت عنه ، وأعداء الدين الّذي دخلت فيه وصرت إليه ، والسلام.
    فلمّا قرأ معاوية كتابه أغاظه فأراد إجابته ، فقال له عمرو : مهلاً ، إن كاتبته أجابك بأشأم (2) من هذا ، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس ، فأمسك عنه.
    قال : وجعل أهل العراق يستأمنون إلى معاوية ويدخلون عليه قبيلة بعد قبيلة ، فازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بنياتهم ، فكتب معاوية بالصلح إليه وأنفذ بكتب أصحابه على يد عبد الله بن عامر وعبد الرحمان بن سمرة فدعواه إلى الصلح ، وزهداه في الأمر ، وأعطياه ما شرط له معاوية ، وألا يتبع أحد بما مضى ، ولا ينال أحد من شيعة عليّ بمكروه ، ولا يذكر علي إلا بخير ، وأشياء اشترطها ، فأجابهما الحسن عليه السلام إلى ذلك وانصرف قيس بمن معه إلى الكوفة ، وانصرف الحسن إليها أيضاً ، وأقبل معاوية قاصداً الكوفة ، واقبل إلى الحسن وجوه الشيعة وأكابر أصحاب اميرالمؤمنين يلومونه ويتباكون عليه جزعاً ممّا فعل. (3)
    وإنّما أجاب عليه السلام إلى ذلك لأنّه علم أنّ أكثر عسكره منافقون
1 ـ في المقاتل : وقد علمت وعلم الناس أنّي وابي من أنصار.
2 ـ في المقاتل : بأشد.
3 ـ مقاتل الطالبيّين : 32 ـ 43 ، عنه شرح نهج البلاغة : 16/30.
    ورواه في إرشاد المفيد : 187 ، عنه البحار ، 43/362 ، وعوالم العلوم : 16/137 ح 2 وعن شرح النهج.
    وأخرجه في كشف الغمة : 1/532 عن مسند أحمد بن حنبل ، وفي ص 537 ـ 538 عن الارشاد ، وفي ص 547 عن كتاب معالم العترة الطاهرة للجنابذي.
    وفي البحار : 25/214 ح 5 عن كنز الفوائد : 2/458 ح 23 وص 459 ح 34.
    وانظر : مناقب ابن شهراشوب : 4/31 وما بعدها.


(49)
ومحيلة لا يسدّ بهم ثغر ، ولا ينقضي بهم أمر ، وأكثرهم كانوا يكاتبون معاوية من قبل أن يخرج من الشام ، وعلم الحسن عليه السلام ذلك منهم وتحققه ، وربّما كانوا ينصرفون إلى معاوية إذا التقى الجمعان ويقاتلونه إلا قليلاً منهم لا يقاومه الجمهور العظيم والجم الغفير ، فأجاب عليه السلام من بعدما علم وتحقق احتيال معاوية واغتياله غير أنّه لم يجد بداً من إجابته.
    فقال الحسين : أعيذك من هذا بالله ، فأبى.
    وأنفذ إلى معاوية عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب فتوثّق منه لتأكيد الحجّة بأن يعمل في الناس بكتاب الله وسنّة رسوله ، والأمر من بعده شورى ، وأن [ يترك سبّ عليّ ، وأن يؤمن شيعته ولا يتعرض لأحد منهم و ] (1) يوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه ، ويوفر عليه حقّ كلّ سنة خمسون ألف درهم ، فعاهده معاوية على ذلك وحلف على الوفاء [ به ] (2) ، وشهد بذلك عبد الله ابن الحارث وعمرو بن أبي سلمة وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمان ابن أبي سمرة وغيرهم.
    وروي أنّ الحسن عليه السلام قال في صلح معاوية : أيّها الناس ، لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رجلاً جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ما وجدتموه غيري وغير أخي ، وإن معاوية نازعني حقّاً هولي فتركته لصلاح الاُمّة وحقن دمائها ، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت ، وقد رأيت أن اسالمه ، وأن يكون ما صنعت حجّة على من كان يتمنّى هذا الأمر ، ( وان أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ) (3).
1 و 2 ـ من المناقب.
3 ـ سورة الأنبياء : 111.


(50)
    وفي رواية : إنّما هادنت حقناً للدماء وصيانتها ، وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي.
    وروي أنّه عليه السلام قال : يا أهل العراق ، إنّما سمحت (1) بنفسي عليكم لثلاث : قتلكم أبي ، وطعنكم إيّاي في فخذي ، وانتهابكم متاعي. (2)
    وروى الشعبي ، عن سفيان بن الليل (3) قال : أتيت الحسن عليه السلام حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره وعنده رهط ، فقلت السلام عليك يا مذل المؤمنين.
    فقال : وعليك السلام ، يا سفيان ، انزل ، فنزلت فعقلت راحلتي ، ثمّ أتيت فجلست إليه ، فقال : كيف قلت يا سفيان ؟
    قلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين.
    فقال : ما جر هذا منك إلينا.
    فقلت : إي والله بأبي أنت واُمّي أذللت رقابنا حتّى أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسلّمت الأمر إليه اللعين بن اللعين ، بن آكلة الأكباد ، ومعك مائة ألف كلّهم يموتون دونك.
    قال : يا سفيان ، إنّا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به ، وإنّي سمعت عليّاً عليه السلام يقول : سمعت رسول الله صلّى عليه وآله يقول : لا تذهب الليالي
1 ـ في المناقب : سخي. اي جعلني سخيّاً في ترككم.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/33 ـ 34 ، عنه البحار : 44/56.
3 ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل : لبيد ، وفي المقاتل : بن ابي ليلى.


(51)
والأيّام حتّى يجتمع أمر هذه الاُمّة على رجل واسع السرم ، ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع ، لا ينظر الله إليه ، ولا يموت حتّى لا يكون له في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر ، وإنّه لمعاوية (1) ، وإنّي عرفت انّ الله بالغ أمره (2) ، ثمّ قام إلى المسجد وقال : يا سفيان ، إنّي سمعت عليّاً عليه السلام يقول : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : يرد عليَّ الحوض من أهل بيتي ومن أحبني من اُمّتي كهاتين ـ يعني السبّابتين ـ.
    يا سفيان ، إنّ الدنيا تسع البرّ والفاجر حتّى يبعث الله إمام الحق من آل محمد صلّى الله عليه وآله.
    قال : وسار معاوية حتّى نزل النخيلة وجمع الناس فخطبهم خطبة طويلة قبل أن يدخل الكوفة ، من جملتها انّه قال : ما اختلفت اُمّة بعد نبيّها إلا ظهر [ أهل ] (2) باطلها على أهل حقها ، ثمّ انتبه فندم ، فقال : إلا هذه الاُمّة ، ثمّ قال : ألا إن كلّ شيء أعطيته الحسن تحت قدمي هذه ، وكان والله غدّاراً لعنة الله عليه.
    وقيل : إنّ معاوية صلّى بالناس الجمعة بالنخيلة ، ثمّ خطب وقال : إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، فأعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. فأيّ تهتك أعظم
1 ـ كتاب الفتن لنعيم بن حماد : 1/116 ح 267 ، الاختصاص : 82 ، اختيار معرفة الرجال : 111 ـ 112 ح 178 ، الملاحم والفتن : 24 ب 14 ، النهاية لابن الأثير : 2/362ن شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : 4/108 ، وج 16/44 ـ 45 ، لسان العرب : 12/286 ، البداية والنهاية : 6/220 ، كنز العمال : 11/348 ـ 349 ح 31708 ، البحار : 33/217 ضمن ح 492 ، وج 44/23 ـ 24 ح 7 وص 60 ضمن ح 7.
2 ـ إقتباس من سورة الطلاق : 3.
3 ـ من المقاتل.


(52)
من هذا عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين ؟
    وقيل : إنّ الحسين عليه السلام دخل على أخيه باكياً ثمّ خرج ضاحكاً ، فقال له مواليه : ما هذا ؟
    قال : العجب من دخولي على إمام اُريد أن اعلمه فقلت : ما دعاك إلى تسليم الخلافة ؟
    قال : الّذي دعا أباك فيما تقدّم.
    ولمّا انقضى أمر الصلح طلب معاوية البيعة من الحسين عليه السلام.
    فقال الحسن عليه السلام : يا معاوية ، لا تكرهه فإنّه لن يبايع أبداً أو يقتل ، ولن يُقتل حتّى يُقتل أهل بيته ، ولن يُقتل أهل بيته حتّى يقتل أهل الشام. (1)
    قال : فلمّا تمّ لمعاوية ما أراد وخطب وذكر عليّاً فنال منه ومن الحسن والحسين.
    فقال الحسن : أيّها الذاكر عليّاً ، أنا الحسن وأبي عليّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، واُمّي فاطمة واُمّك هند ، وجدّي رسول الله وجدّك حرب ، وجدّتي خديجة وجدتك قتيلة ، ولعن الله أخملنا ذكراً ، وألأمنا حسباً ، وشرّنا قوماً (2) ، واقدمنا كفراً ونفاقاً.
    فقال الناس : آمين ، ونحن نقول أيضاً : آمين.
1 ـ قوله : « وقيل : إنّ الحسين عليه السلام ... اهل الشام » في مناقب ابن شهراشوب : 4/34 ـ 35.
2 ـ في المقاتل : قدماً.


(53)
    قال : ثمّ إنّ معاوية دخل الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلةوبين يديه خالد بن عرفطة ومعه رجل يقال له حبيب بن حمّار يحمل رايته ، حتّى دخل الكوفة وصار إلى المسجد فدخل من باب الفيل ، واجتمع الناس إليه.
    روى عطاء بن السائب ، عن أبيه ، قال : بينما عليّ عليه السلام على المنبر يخطب إذ دخل رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مات خالد بن عرفطة.
    فقال أمير المؤمنين : والله ما مات ، إذ دخل رجل آخر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مات خالد بن عرفطة.
    فقال صلوات الله عليه : والله ما مات ولا يموت حتّى يدخل من باب هذا المسجد ـ يعني باب الفيل ـ براية ضلالة يحملها له حبيب بن حمّار (1) ، فوثب رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا حبيب بن حمّار.
    قال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّه ما أقول ، فقدم خالد بن عرفطة على مقدّمة معاوية يحمل رايته حبيب بن حمّار. (2)
    قيل : ولمّا تمّ الصلح بين معاوية والحسن أرسل إلى قيس بن سعد بن عبادة يدعوه إلى البيعة فأبى ، وكان رجلاً طويلاً إذا ركب الفرس المسرف
1 ـ في بعض المصادر : عمّار ، وفي بعضها : حمّاد ، وفي بعضها : جمّاز.
2 ـ الإيضاح لابن شاذان : 330 ، بصائر الدرجات : 298 ح 11 ، الهداية الكبرى : 161 ، خصائص الأئمّة : 52 ، إرشاد المفيد : 174 ، الاختصاص : 280 ، تيسير المطالب : 37 ، أعلام الورى : 177 ، الثاقب في المناقب : 267 ح 231 ، الخرائج والجرائح : 2/745 ح 63 ، مناقب ابن شهراشوب : 2/270 ، الملاحم والفتن : 113 ، كشف اليقين : 98/99 ح 90 ، نهج الحق وكشف الصدق : 243 ، إرشاد القلوب : 225 ، الإصابة : 1/410 ، إثبات الهداة : 2/439 ـ 440 ح 118 ، البحار : 41/288 ح 12 وص 313 ، وج 42/61 ، ح 32 ، وج 44/259 ح 11.


(54)
خطّت رجلاه الأرض ، فلمّا أرادوا أن يدخلوه إليه قال : إنّي حلفت أن لا ألقاه إلا بيني وبينه الرمح أو السيف ، فأمر معاوية برمح أو سيف فوضعه بينه وبينه ليوفي في يمينه (1).
    وكان قد انعزل في أربعة آلاف وأبى أن يبايع ، فلمّا أتم الأمر لمعاوية لم يجد بداً من ذلك وأقبل على الحسن وقال : أنا في حلّ من بيعتك.
    قال : نعم ، فوضع يده على فخذه ولم يمدّها إلى معاوية ، فجثا معاوية على سريره ، وأكبّ على قيس حتّى مسح على يده فما رفع إليه قيس يده.
    وقيل : إنّ معاوية أمر الحسن بعد الصلح أن يخطب وظن أنّه سيحصر.
    فقال عليه السلام : إنّما الخليفة من سار بكتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وليس الخليفة من سار بالجور ذاك مِلكٌ ملكَ مُلكاً يتمتع فيه قليلاً ، ثمّ تنقطع لذته وتبقى تبعته ، ( وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ). (2)
    ثمّ انصرف الحسن عليه السلام بعد ذلك إلى المدينة ، ورجع معاوية إلى الشام ، وأراد البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن عليه أثقل من أمر الحسن عليه السلام ، فجعل يحتال على قتله ، وسيأتي تمام القصة عند ذكر وفاته صلوات الله عليه. (3)
    قلت : وكان سيّدنا ومولانا سبط الرسول ، ومهجة البتول ، ثابت الجأش ، حمي الأنف ، لا تأخذه في قول الحق لومة لائم ، ولا يثني عزيمته عن الأمر بالمعروف مخافة شاغب ولا غاشم ، خذلته الغدرة الفجرة ، وخانته الاثمة الكفرة ، وأسلموه إلى الحتف ، وساقوه إلى الموت ، وأظهروا له الطاعة ودينهم
1 ـ في المقاتل : ليبرّ يمينه.
2 ـ سورة الأنبياء : 111.
3 ـ مقاتل الطالبيّين : 44 ـ 47.


(55)
النفاق ، وبذلوا النصيحة وطبعهم الشقاق.
    وكان عليه السلام عالماً بذلك من لئيم طبعهم ، متحقّقاً لغدرهم وخذلهم ، متيقناً ممالاتهم عدوّه عليه ، عالماً بإنفاذ رسائلهم إليه ، قد مال بهم الهوى ، وأغواهم حب الدنيا ، فباعوا الآخرة الباقية ، بلذّتها الزائلة الفانية.
    هل أغوى ابن حرب بحربه واستحثه على طلبه إلا حب زينتها ، والافتتان بزهرتها ، وطلب متاعها ، والتلذّذ باستماعها ، والميل مع بنيها ، إيثاراً من حطامها ، ويتمتع بزائل أيامها ، وكانت جماعة أكابرهم ورؤسائهم وأعيانهم وزعمائهم في كلّ حين لهم عيون ورسل ومكاتبات إلى اللعين بن اللعين ، فعليه وعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين ، وإنّما سار بهم عليه السلام إلى خصمه مع شدّة يقينه بغدرهم ، وعلمه (1) بقبيح نكثهم ومكرهم ، قياماً للحجّة عليهم ، وتوجيهاً لقطع المعذرة منهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة : ( إنّا كنّا عن هذا غافلين ) (2) أو يقولوا : لو سرت بنا إلى عدوّك لوجدتنا لك من الناصحين ، فأقام عليهم الحجّة بمسيره ، وأظهر خفي نفاقهم بتدبيره ، وكان ذلك فرض الله عليه ، وما فوض من الرئاسة العامّة إليه ، مع علمه بخذلهم لأبيه وغدرهم به ، فأذعن للهدنة ، وأطفأ بصلحه الفتنة ، ودرك عليهم الحجّة فباءوا بغضب من الله بشملهم ، وخزي في الدارين ببغيهم ، وسيجازى كلّ بفعله ، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ، كلّ ذلك وهو عليه السلام كما وصف الله إباءه في محكم ذكره ، ونوه فيه بمدحه وشكره ، فقال سبحانه في كتابه المبين وذكره الحكيم : ( أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك
1 ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل : علمهم.
2 ـ سورة الأعراف : 172.


(56)
فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم
). (1)
    وكذلك كان صلوات الله عليه سالكاً طريق شيخه ووالده ، بانياً في مكارم الأخلاق على قواعده ، ساعياً فيما فيه الصلاح لاُمة جَدّه ، ناصراً مظلومهم بجهده وجِدّه ، كالطود الشامخ على المتكبرين ، وكالماء الرائق للمؤمنين ، لا يخضع إذا قل ناصره ، ولا يضرع إذا غلب قاهره ، كما قال الأوّل :
لا يخرج القرمني غير ما بيه ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
    وكذلك كان أخوه سيّد الشهداء ، وخامس أصحاب الكساء ، لا يقذع صفاته ، ولا يكدر صفاءه ، ذا أنف حمي وطبع أبي ، لما كان مجده أرفع من السماك الأعزل وأعلى ، رأي القتل في العزّ حياة والحياة في الذلّ قتلاً ، صلّى الله عليهما وعلى جدهما وابيهما واُمّهما.
    روي أن يزيد بن معاوية عليه وعلى أبيه وعلى المعتقد إسلامهما والشاكّ في كفرهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين رأى زوجة عبد الله بن عامر بن كريز ، وهي اُمّ خالد بنت أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، وكانت من الجمال والحسن في الغاية القصوى ، فهام بها حتّى امتنع من الطعام والشراب ، وآلى أمره إلى ملازمة الفراش من شدّة السقم والشغف بها ، فعاده أبوه لعنه الله ، فشكا ذلك إليه وأعلمه بسبب علته ، وكان الرجل منزله المدينة ، فأرسل معاوية إلى عامله عليها أن أرسل إليّ بعبد الله بن عامر موقّراً معظّماً له ، قائماً بجميع ما يحتاج إليه في سفره ، وفيما فيه صلاح أهله.
    فلمّا وصل عبد الله إلى معاوية أراه من التعظيم والتبجيل ما لا مزيد عليه ،
1 ـ سورة المائدة : 54.

(57)
ثمّ قال : إنّي ما دعوتك إلا لأني تفكرت في رجل أعتمد عليه في اُموري وأجعله عيبة سري ، فما رأيت أصلح لذلك إلا أنت ، وقد أردت أن اُولّيك البصرة ، واُزوّجك ابنتي رملة اخت يزيد لأني ما وجدت لها كفواً غيرك ، فاغترّ الأحمق بقوله ، فأتاه في اليوم الثاني وقال : إنّي عرفتها ذلك فرضيت ، وقالت : كفو كريم ، ولكن له زوجة ولا يليق بمثلي أن أكون عند رجل له زوجة غيري ، فإن طلق زوجته كنت له أهلا وكان لي بعلاً ، فرضي عبد الله بذلك وطلق زوجته اُمّ خالد ، فلمّا انقضت عدتها طلب من معاوية ما وعده.
    فقال : إن أمرها إليها ، وإنّها قالت : اذا كان الرجل لم يوف لابنة عمّه وهي من الجمال والحسن على ما ليس عندي فكيف يوفي لي ؟ وامتنعت.
    ثمّ إنّ معاوية أرسل بأبي الدرداء صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يخطبها ـ أيّ اُمّ خالد ـ على ابنه يزيد ، وكانت الصحابة إذا ورد أحد منهم المدينة أوّل ما يبدأ بالسلام على النبيّ صلّى الله عليه وآله ، ثمّ يأتي إلى سيّدنا الحسن بن رسول الله صلّى الله عليه وآله تبرّكاً به وتيمّناً بطلعته الشريفة صلوات الله عليه ، فدخل أبوالدرداء على الحسن عليه السلام ، فقال : ما أقدمك ـ يا عمّ ـ المدينة ؟ فأعلمه بالقصة.
    فقال : يا أبا الدرداء ، هل لك أن تذكرني لها ؟ فمضى أبو الدرداء وأعلمها ما كان من أمر بعلها ، وأنّه طلّقها ، وأنّ معاوية أرسله ليخطبها على ابنه يزيد ، وأعلمها بمقالة الحسن عليه السلام ، فقالت : يا عمّ ، اختر لي أيّ الرجلين أصلح.
    فقال أبو الدرداء : اعلمك أنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقبّل الحسن ويضع شفته على شفته ، وإنّي مشير عليك أن تضعي شفتك موضعاً وضع


(58)
رسول الله صلّى الله عليه وآله شفته.
    فقالت : رضيت بالحسن ، وزوّجته نفسها ، فوصل الخبر بذلك إلى معاوية ، فأقامه ذلك واقعده ، ولعن أبا الدرداء.
    ثمّ إن عبد الله بن عامر أتى المدينة حقيراً خائباً ممّا اُمّل ، وأتى الحسن وقال : يا ابن رسول الله ، إنّ لي عند أهلك ـ ابنة عمّي ـ أمانات وودائع لي وللناس ، فإن تفضلت بإعلامها بذلك فافعل.
    فمضى به الحسن إليها وضرب بينهما حجاب ، فأتته بالأمانات الّتي كانت عندها ، فبكى الرجل واشتدّ حزنه ، وبكت المرأة من وراء الستر.
    فقال الحسن عليه السلام : ألك هوى في ابنة عمّك ؟
    فقال : نعم ، يا ابن رسول الله.
    وفي رواية : أنّه صلوات الله عليه وقال : أولا ترضى أن أكون محلّلكما ؟ فطلّقها الحسن صلوات الله عليه وردها إلى بعلها كرماً منه وتفضلاً ورأفة باُمة جدّه صلوات الله وسلامه عليه. (1)
    عن عبد الملك بن عمير والحاكم [ والعبّاس ] (2) قالوا : خطب الحسن عليه السلام عائشة بنت عثمان ، فقال مروان : اُزوّجها من عبد الله بن الزبير.
    ثمّ إنّ معاوية كتب إلى مروان وهو عامله على الحجاز يأمره أن يخطب اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد ، فأتى مروان عبد الله بن جعفر فاخبره بذلك.
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/38 ملخّصاً ، عنه البحار : 44/171 ضمن ح 5 ، وعوالم العلوم : 16/303 ح 1.
2 ـ من المناقب.


(59)
    فقال عبد الله : إن أمرها ليس إليّ ، إنّما أمرها إلى سيّدنا أبي عبد الله الحسين وهو خالها ، فأخبر الحسين بذلك.
    فقال : أستخير الله تعالى ، ألّلهمّ وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمد ، فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله عليه وآله أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين عليه السلام وعنده جماعة من الجلّة (1) ، وقال : [ إنّ ] (2) أمير المؤمنين معاوية أمرني بذلك وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ مع صلح ما بين هذين الحيّين مع قضاء دينه ، واعلم أن من يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم ، والعجب كيف يستمهر يزيد وبوجهه يستسقى الغمام ، وهو كفو من لا كفو له ؟ فرد خيراً يا أبا عبد الله.
    فقال الحسين عليه السلام : الحمدلله الّذي اختارنا لنفسه ، وارتضانا لدينه ، واصطفانا على خلقه ـ إلى آخر كلامه ـ ، ثمّ قال : يا مروان ، قد قلت فسمعنا ، أمّا قولك : مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدوّنا سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله في بناته ونسائه وأهل بيته [ وهو ] (3) أثنتا عشرة اُوقيّة يكون أربعمائة وثمانون درهماً.
    وأمّا قولك : مع قضاء دين أبيها ، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا ؟
    وأمّا صلح ما بين هذين الحيّين ، فإنّا قوم عاديناكم في الله فلم نكن نصالحكم للدنيا ، فقد أعيا النسب فكيف السبب ؟
    وأمّا قولك : العجب من يزيد كيف يستمهر ؟! فقد استمهر من هو خير من يزيد ، ومن أبي يزيد ، ومن جدّ يزيد.
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : الجهلة.
2 و 3 ـ من المناقب.


(60)
    وأمّا قولك : إن يزيد كفو من لا كفو له ، فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم ، ما زادته امارته في الكفاءة شيئاً.
    وأمّا قولك : بوجهه يستسقى الغمام ، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله صلّى الله عليه وآله.
    وأمّا قولك : من يغبط منّا له أكثر ممّن يغبطه بنا ، فإنّما يغبطنا به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل.
    ثمّ قال الحسين ـ بعد كلام ـ : فاشهدوا جميعاً أنّي قد زوجت اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر على أربعمائة وثمانين درهماً ، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة ، أوقال : أرضي بالعقيق ، وإنّ غلّتها في السنة ثمانية آلاف دينار ففيها لهما غنى إن شاء الله.
    قال : فتغير وجه مروان ، وقال : ما أتيتم إلا غدراً يا بني هاشم ، تأبون إلا العداوة ، فذكره (1) الحسين عليه السلام خطبة الحسن عائشة بنت عثمان وفعله ، ثمّ قال : فأين موضع الغدر يا مروان (2) ؟
    وقال الحسن عليه السلام : إنّ لله مدينتين : إحداهما بالمشرق والاُخرى بالمغرب فيهما خلق لم يهموا بمعصية الله قطّ ، والله ما فيهما وما بينهما حجّة لله على خلقه غيري وغير أخي الحسين عليه السلام. (3)
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : فذكر.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/38 ـ 40 ، عنه البحار : 44/207 ح 4 ، وعوالم العلوم : 17/87 ح 2.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/40.
    ورواه في بصائر الدرجات : 339 ح 4 و5 وص 493 ح 11 وص 494 ح 12 ، الكافي : 1/462 ح 5 ، مختصر بصائر الدرجات : 11 و12 ، الاختصاص : 291 ، المحتضر :
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس