تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 61 ـ 75
(61)
    فضائل السمعاني : قال اُسامة بن زيد : جاء الحسن عليه السلام إلى أبي بكر وهو يخطب على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال : انزل عن مجلس أبي.
    قال : صدقت هذا مجلس أبيك ، ثمّ أجلسه في حجره وبكى.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما هذا من أمري.
    قال : صدقت والله صدّقتك وما اتّهمتك. (1)
    وفي رواية الخطيب (2) : ان الحسين عليه السلام قال يوماً لعمر : انزل عن منبر أبي وامضى إلى منبر أبيك.
    فقال عمر : لم يكن لأبي منبر ، وأخذني وأجلسني معه ، ثمّ سالني : من علمك هذا ؟
    فقلت : والله ما علّمني أحد. (3)
104
1 ـ ترجمة الامام الحسن عليه السلام من القسم غير المطبوع من طبقات ابن سعد : 68 ح 108 باختلاف ، أنساب الأشراف : 3/26 رقم 41.
2 ـ تاريخ بغداد : 1/141.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب 4/40.


(62)

    لمّا تمّت من إمرة معاوية عشر سنين عزم على البيعة لابنه يزيد لعنه الله ، ولم يكن أثقل عليه من الحسن عليه السلام وسعد بن أبي وقّاص ، فأرسل بما دسّه لسعد بن أبي وقّاص فقتله به ، ثمّ أرسل إلى ابنة الأشعث : انّي اُزوّجك من ابني يزيد على أن تسمّي الحسن ، وبعث إليها بمائة ألف درهم ، ففعلت وسمّته ، فسوّغها المال ولم يزوّجها من يزيد ، فتزوّجها رجل من بني طلحة فأولدها ، فكان إذا جرى كلام عيّروهم وقالوا : يا بني مسمّمة الأزواج. (1)
    كتاب الأنوار : قال : إنّه عليه السلام قال : لقد سقيت السمّ مرّتين وهذه الثالثة.
    كتاب روضة الواعظين : إن الحسن عليه السلام قال : لقد سقيت السمّ مراراً ما سقيت مثل هذه المرّة ، لقد تقطّعت كبدي قطعة قطعة فجعلت اقلبها بعود معي ، ثمّ قال للحسين عليه السلام : يا أخي إنّي مفارقك ولاحق بربي ، وقد سقيت السمّ ، ورميت بكبدي في الطشت ، وإنّي لعارف بمن سقاني ، ومن أين دهيت ، وأنا اُخاصمه إلى الله سبحانه.
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/42 ، عنه البحار : 44/155 ح 25 وعن الارشاد للمفيد : 192.

(63)
    فقال له الحسين عليه السلام : فمن سقاكه ؟
    قال : ما تريد منه ؟ أتريد أن تقتله ؟ إن يكن هو هو فالله أشدّ نقمة منك ، وإن لم يكن هو فما اُحبّ أن يؤخذ ( بي ) (1) بريء ، فبحقّي عليك إن تكلمت بكلمة واحدة ، وانتظر ما يحدث الله فيّ.
    وفي خبر : بالله اقسم عليك إن تهريق في أمري محجمة دم. (2)
    وحكي أنّ الحسن عليه السلام لما أشرف على الموت قال له الحسين عليه السلام : اريد أن أعلم حالك يا أخي.
    فقاله له الحسن : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : لا يفارق العقل منّا أهل البيت ما دامت الروح فينا ، فضع يدك في يدي حتّى إذا عاينت ملك الموت أغمزيدك ، فوضع يده في يده ، فلمّا كان بعد ساعة غمز يده غمزاً خفيفاً ، فقرب الحسين اذنه من فمه ، فقال : قال لي ملك الموت : أبشر فإنّ الله عنك راض وجدّك شافع. (3)
    وكان الحسن عليه السلام أوصى بأن يجدّد عهده عند جدّه ، فلمّا مضى لسبيله غسّله الحسين وكفّنه وحمله على سريره ، فلمّا توجّه بالحسن إلى قبر جَدّه صلّى الله عليه وآله أقبلوا إليه بجمعهم وجعل مروان يقول : يا ربّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان في اقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ ؟ أمّا لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.
    فبادر ابن عبّاس وكثر المقال بينهما حتّى قال ابن عبّاس : ارجع من حيث
1 ـ من المناقب.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/42 ، عنه البحار : 44/158 ح 28.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/43 ، عنه البحار : 44/160 ح 29.


(64)
جئت فإنّا لا نريد دفنه هاهنا ، لكنا نريد [ أن ] (1) نجدّد عهداً بزيارته ، ثمّ نرده إلى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيته ، فلو كان أوصى بدفنه عند النبيّ لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنه كان أعلم بحرمة قبر جدّه من أن يطرق إليه (2) هدماً ، ورموا بالنبال جنازته صلوات الله عليه حتّى سل منها سبعون سهماً.
    قال ابن عبّاس : وأقبلت امرأة (3) على بغل برحل في أربعين راكباً تقول : مالي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا اُحبّ ؟
    فقال ابن عبّاس ـ بعد كلام ـ : عائشة يوماً على جمل ويوماً على بغل. (4)
    فنظمه الصقر البصري رضي الله عنه :
ويوم الحسـن السبط (5) وما يست ومانعـت وفي بيت رسول الله هل الزوجة أولى با لك التسع من الثمن على بغلـك أقبلـت (6) وخاصمت وقاتـلت في الكلّ (7) تحكّمت لمواريث من البـنت وللكـلّ تملــكت (8)

1 ـ من المناقب.
2 ـ في المناقب : عليه.
3 ـ في المناقب : عائشة.
4 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/44 ، عنه البحار : 44/156 ـ 157 ذ ح 25 وعن إرشاد المفيد : 192 ـ 193.
5 ـ في المناقب : الهادي.
6 ـ في المناقب : أسرعت.
7 ـ في المناقب : بالظلم.
8 ـ في المناقب : فبالكلّ تحكّمت.


(65)
تجمّلت تبغّلت وإن عشت تفيلت (1)
    ولمّا وضع الحسن عليه السلام في قبره أنشأ سيّدنا ومولانا أبو عبد الله الحسين عليه السلام :
أأدهن رأسي اُمّ اُطيـّب مـجالسي أو اسـتمتع الدنيـا بشـيء اُحبُّه فلا زلت أبكي مـا تغنـت حمامة وما هملت عيني من الدمـع قطرة بكائي طويل والدمـوع غزيـرة غريب وأطراف البيوت تنوشُـهُ (2) فلا يفرح الباقي خلاف الّذي مضى وليس حريب مـن اصـيب بماله ورأسـك معـفور وأنت سليــب ألا كلّ مــا أدنى إليـك حــبيب عليك ومــا هبـت صبا وجنوب وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب وأنـت بعيـد والمـزار قــريب ألا كلّ مـن تحت التراب غـريب فكـل فتـى للمـوت فيـه نصيب ولكــن مـن وارى أخـاه حريب

1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/44 ـ 45.
2 ـ في المناقب : تحوطه.


(66)
نسيبك من أمسى يناجيك طرفه وليس لمن تحت التراب نسيب (1)
    وقال سليمان بن قتة يرثي الحسن عليه السلام :
يا كذّب الله من نعى حسناً كنت حليفي (3) وكنت خالصتي أجول في الدار لا أراك وفي بدلتهم منك ليت إنهم ليس لتكذيب نعيه ثمن (2) لكل حي من أهله سكن الدار اناس جوارهم غبن أضحوا وبيني وبينهم عدن (4)
    وقال دعبل بن علي الخزاعي رضي الله عنه :
تعز بمن قد مضى اسوة بموت النبيّ وقتل الوصيّ فإنّ العزاء يسلّي الحزن وذبح الحسين وسم الحسن (5)
    عن عمر بن بشير الهمداني ، قال : قلت لأبي إسحاق : متى ذل الناس ؟
    قال : حين مات الحسن عليه السلام ، وادّعى زياد ، وقتل حجر. (6)
    عن هشام بن سالم وجميل بن درّاج ، عن الصادق عليه السلام أنّ الحسن عليه السلام توفّي وهو ابن ثمان وأربعين سنة.
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/45 ، عنه البحار : 44/160 ذ ح 29 ، وعوالم العلوم : 16/299 ح 1.
2 ـ كذا في الديوان ، وفي الأصل : حسن.
3 ـ في المناقب : خليلي.
4 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/45 ، عنه البحار : 44/161 ح 30 ، وعوالم العلوم : 16/300 ح 1.
5 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/46 ، ديوان دعبل الخزاعي : 303.
6 ـ مقاتل الطالبيّين : 50.


(67)
    وروي أيضاً أنّه توفّي وهو ابن ستّ وأربعين. (1)
    روى الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار ، وروى ابن عبد ربّه في كتابه العقد (2) أنّه لما بلغ إلى معاوية بموت الحسن سجد وسجد من حوله ، وكبر وكبروا معه ، فدخل [ عليه ] (3) ابن عبّاس بعد ذلك ، فقال معاوية : يا ابن عبّاس ، أمات أبو محمد ؟
    قال : نعم ، ورحمة الله عليه ، وبلغني تكبيرك وسجودك ، أمّا والله لا يسدّ جثمانه حفرتك ، ولا يزيد انقضاء أجله في عمرك.
    [ قال ] (4) أحسبه ترك صبية صغاراً ولم يترك عليهم كثير معاش. فقال ابن عبّاس : إنّ الّذي وكلهم إليه غيرك ، وكلنا كنّا صغاراً فكبرنا.
    قال : فأنت تكون سيّد القوم بعده.
    قال : أمّا وأبو عبد الله الحسين عليه السلام حي فلا. (5)
    قال شيخنا السعيد الشهيد محمد بن مكي الفقيه رضي الله عنه في دروسه :
    ولد الحسن ليلة (6) الثلاثاء بالمدينة منتصف شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة. (7)
    وقال المفيد : سنة ثلاث ، وقبض بها مسموماً يوم الخميس سابع صفر سنة
1 ـ مقاتل الطالبيّين : 50.
2 ـ ربيع الأبرار : 4/186 ، العقد الفريد : 4/361 ـ 362.
3 و 4 ـ من المناقب.
5 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/43 ، عنه البحار : 44/159 ، وعوالم العلوم : 16/298 ح 1.
6 ـ في الدروس : يوم.
7 ـ الدروس : 152 ، عنه البحار : 44/134.


(68)
تسع وأربعين أو سنة خمسين من الهجرة ، عن سبع أو ثمان وأربعين سنة.
    قال الحسن للنبي صلّى الله عليه وآله : يا رسول الله ، ما لمن زارنا ؟
    فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : من زارني حيّاً أو ميّتاً ، أو زار أخاك حيّاً أو ميّتاً كان حقّاً عليَّ أن أستنقذه يوم القيامة. (1)
    وقيل للصادق عليه السلام : ما لمن زار واحداً منكم ؟
    قال : كان كمن زار رسول الله صلّى الله عليه وآله ، إن لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائهم وشيعتهم ، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً لما رغبوا فيه كان أئمته شفعاؤه يوم القيامة. (2)
1 ـ أخرجه في البحار : 99/373 ح 8 عن الهداية : 67.
    وفي ج 100/140 ح 7 عن علل الشرائع : 460 ، وفي ص 141 ح 8 ـ 11 عن كامل الزيارات : 11 وح 12 عن أمالي الصدوق : 57 ح 4 ، وح 13 عن ثواب الأعمال : 107 ح 1 ، وح 15 عن ثواب الأعمال : 107 ـ 108 ح 2 ، وفي ص 259 ح 6 عن كامل الزيارات.
2 ـ أخرجه في البحار : 100/116 ح 1 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام وعلل الشرائع ، وفي ص117 ح 2 و3 و6 عن كامل الزيارات ، وح 5 عن العيون والعلل.


(69)

    يا من نسبه من كلّ نسب أعلى ، وسببه من كلّ سبب أقوى ، ومجده بكل فضل أولى ، وحبه شرف الآخرة والاولى ، جدّك فارس البراق ليلة الاسراء ، وأبوك أوّل السبّاق إلى دين الهدى ، واُمك سيّدة نساء الدنيا والاُخرى ، قد اكتنفتك الاُصول الطاهرة ، واحتوشتك المحامد الفاخرة ، طوت بقوادم الشرف وخوافيه (1) ، وتسمّت ذروة الشرف وأعاليه ، فلا شرف إلا وإليك منتهاه ، ولا سؤدد إلا وأنت بدؤه وقصاراه.
    همّتك أعلى من هامة السماك الأعزل ، ورفعتك أسمى من رفعة السماء وأطول ، عالية مبانيك ، هامية أياديك ، صادقة أقوالك ، زاكية أفعالك ، غامر إفضالك ، وافر نوالك ، طاهرة آباؤك واُمّهاتك ، ظاهرة في صحائف المجد سماتك.
    نُزّهت عن كلّ عيب ، وقُدّست من كلّ ريب ، لا جرم من كان جدّه خاتم النبيّين ، جاز أن يقول : أنا أشرف خلق الله أجمعين ، ومن كان أبوه سيّد الوصيّين ، كان مجده في الشرف أعلى من عليين ، ومن كانت أمه سيّدة النساء كان أفخر من أشرقت عليه ذكاء.
    رزؤك يا ابن المصطفى أجرى عبرتي ، وسمّك يا نجل المرتضى أسهر
1 ـ الخوافي : جمع الخافية ، وهي الريش الصغار الّتي في جناح الطير عند القوادم.

(70)
مقلتي ، وهضمك أطال حزني ، وظلمك أذوى عصبي ، أمّا ليلي فزفرة وعبرة ، وأمّا نهاري فحيرة وفكرة ، أتفكّر في فوادح مصائبكم ، وأتذكّر عظيم نوائبكم ، وأتصور علم الاسلام والدكم ، وإمام الأنام قائدكم ، خير الاُمّة بعد نبيّها ، وخير الملّة وحفيّها ، الّذي أخذ الله ميثاق ولاته على خلقه ، وأحيى بمعين علمه موات حقّه ، وجعله الهادي إليه ، والدليل عليه.
    كلّ علم لا يؤخذ عنه فهو ضلال ، وكلّ دين لا يتلقّى منه فهو محال ، لولا جهاده لما قام عمود الاسلام ، ولولا بيانه لما عرف الحلال من الحرام ، قلبه مخزن علم الله ، ونفسه مشرق نور الله ، بحر لا يدرك قراره ، وسائق لا يشقّ غباره ، لا يعرف الله إلا من سلك سبيله ، ولا ينجو في تيه الضلالة إلا من اتبع دليله ، كيف اجتمعت اُمّة السوء على قتاله ، وانبعث أشقاها لاغتياله ، وصيره ضَمناً في حال ركوعه ، ملقىً في خلال خشوعه ؟ بعد أن سلبوه تراث ابن عمّه ، وغصبوه ميراث شقيق دمه ولحمه ، وجعلوا وليّ أمرهم أرذلهم نسباً ، وإمام عصرهم أخملهم حسباً ، أخفض بيت في تيم بن مرّة ، وأكذب منعوت بالصدق والامرة ، لمّا شادوا بالباطل سقيفتهم ، وسموه بخلاف تسمية ربّهم خليفتهم ، هدموا من الحق ما شيّد وليّ الله بجدّه وجهده ، وطمسوا من الصدق ما بين في صدره وورده ، وفرقوا كلمة الاسلام بجبتهم وفاروقهم ، وعطّلوا أحكام القرآن بثالثهم طاغوتهم.
    فتبّاً لها من أُمة سوء شرت الضلالة بالهدى ، وباعت الآخرة بالاُولى ، وعدلت بصفوة الله من لا يمت بفضله ، بل ولا يعدل عند الله شرك نعله ، وأهانت خلافة الله حتّى تلاعبت بها اُولوا الأخلاق الذميمة ، والأعراق الموصومة ، وصيروها ملكاً عضوضاً ، وعهداً منقوضاً ، فعاد المؤمن فيها يحذر من فيّه وظلّه ،


(71)
ويخفي شخصه عن صحبه وأهله ، ويبتغي نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء ، وينحجر في الزوايا خشية الرقباء ، يرى حتفه بعينيه ، ويسمع لعنه باُذنيه ، وكيف لا يخشى بادرتهم ، ويحذر فاقرتهم ، وهو يرى صنيعهم لسيّدهم ووليّهم ، وخذلهم هاديهم وخليفة نبيّهم ، وأذاهم له بقولهم وفعلهم ، وإجلابهم عليه بخيلهم ورجلهم ، وحربهم له في صفّينهم وجملهم ، وقتلهم له في قبلة مسجده ، وفتكهم به في حال تهجده ، وتصييرهم ولديه سبطي نبيّ الرحمة ، وفرعي شفيع الاُمّة ، وسيّدي شباب أهل الجنّة ، ومن جعل الله وجودهما في الخلق أعظم منّة ، ما بين مسموم ومقتول ، ومهضوم ومخذول ؟
    فأبعدها الله من اُمّة خبل سعيها ، ودام غيّها ، وطال شقاها ، وخاب رجاها ، تقتل ذرّيّة نبيّها بين ظهرانيها ، وتسبي بنات رسولها وهي تنظر إليها ، ليس فيها رشيد يردعها ، ولا سديد يدفعها ، فما أبعدها من رحمة الله واشقاها ، وأحقها بخزي الله وأولاها ؟ قد أوثقها الله بذنوبها ، وختم على قلوبها وغرها سرابها ، وتقطعت أسبابها ، فارتدت على أعقابها ، وضلت في ذهابها وإيابها ، قد طوقها الله طوق لعنته ، وحرم عليها نعيم جنته ، فالمؤمن فيها حامل حتفه على كتفه ، وناظر هلكه بطرفه ، يسلقونه بحداد ألسنتهم ، ويعنفونه بفضيع مقالتهم ، فهو بينهم كالشاة بين الذئاب ، أو الغريب تحتوشه الكلاب ، وعلماؤهم يتجسسون على عورات المؤمنين ، ويبتغون زلات الصالحين ، ويحرمون ما أحل الله بأهوائهم ، ويحلون ما حرم الله بآرائهم ، ويسفهون أحلام من التزم بحبل أهل بيت نبيّه ، ويستهزئون بمن استمسك بولاء عترة وليّه ، وهم مع ذلك يتولّى بعضهم بعضاً ، ويعظم بعضهم بعضاً ، وما ذاك إلا لاختصاص قول المؤمنين بآل محمد صلّى الله عليه وآله فلعداوتهم لهم رموهم عن قوس واحدة.


(72)
    هذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت يقول : لو أن رجلاً عقد على اُمّه عقد نكاح وهو يعلم أنّها اُمّه ثمّ وطئها لسقط عنه الحدّ ولحق به الولد.
    وكذلك قوله في الاخت والبنت وسائر المحرّمات ويزعم أن هذا نكاح شبهة أوجب سقوط الحدّ عنه. (1)
    ويقول : لو أن رجلاً استأجر غسّالة ، أو خياطة ، أو خبّازة ، أو غير ذلك من أصحاب الصناعات ثمّ وثب عليها ووطئها وحملت منه لأسقطت عنه الحدّ وألحقت به الولد.
    ويقول : إذا لف الرجل على إحليله حريرة ثمّ أولجه في فرج امرأة ليست له بمحرم لم يكن زانياً ، ولا يجب عليه الحد.
    ويقول : إنّ الرجل إذا تلوط بغلام فأوقب لم يجب عليه الحدّ ، ولكن يردع بالكلام الغليظ والأدب والخفقة والخفقتين بالنعل ، وما أشبه ذلك.
    ويقول : إنّ شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق إذا طبخ وبقي على الثلث وهو سنّة وتحريمه بدعة.
    وقال الشافعي : إنّ الرجل إذا فجر بامرأة فحملت وولدت بنتاً فإنّه يحلّ للفاجر أن يتزوج بها ويطأها ويستولدها لا حرج عليه في ذلك ، فأحل نكاح البنات (2).
    وقال : لو أن رجلاً اشترى اخته من الرضاعة ثمّ وطئها لما وجب عليه الحدّ ، وكان يجوّز سماع الغناء بالقصب وما أشبه.
1 ـ الام للشافعي : 5/153 ، الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري : 4/66 و124.
2 ـ الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري : 4/66 و124.


(73)
    وكان مالك بن أنس يرى سماع الغناء بالدفّ وأشباهه من الملاهي ، ويزعم أنّ ذلك سنّة ، وكان يجيز وطيء الغلمان المماليك بملك اليمين.
    وقال داود بن علي الاصفهاني (1) : إن الجمع بين الاختين بملك اليمين حلالاً طلق ، والجمع بين الاُم والبنت غير محظور.
    فاقيم هؤلاء الفجور وكل منكر فيما بينهم واستحلّوه ، ولم ينكر بعضهم على بعض ، مع أن الكتاب والسنّة والاجماع تشهد بضلالهم في ذلك ، وعظموا أمر المتعة واستنكروها وضللوا فاعلها ، مع أن القرآن والسنّة يشهدان بصحتها ، وأن النبيّ صلّى الله عليه وآله أباحها ، وفعلت على زمانه ، ومات صلّى الله عليه وآله وهي جارية في الصحابة وغيرهم حتّى حرّمها الثاني بجهله وكفره تعصّبه بالباطل ، فصوبوا آراءه ، وسددوا اجتهاده في تحريمها ، فيعلم أنهم ليسوا من أهل الدين ، ولكنهم من أهل العصبية والعدواة لآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    ولنختم المجلس بقصيدة أملاها خالص إيماني على جناني ، وألقاها محض اعتقادي إلى فؤادي ، وكتبتها يد محبتي على لوح فكرتي ، واستخرجتها صناعة بلاغتي من خزانة فصاحتي ، أسأل الله أن يجعلها صدر جريدة عملي ، وبيت قصيدة أملي ، وهو حسبنا ونعم الوكيل :
عصر الشباب تولّى وانقضى زمني كطيف حلم مضى في غمضة الوسن

1 ـ داود بن عليّ بن خلف الاصفهاني ، المعروف بالظاهري ، ولد عام « 202 » ه‍ ، وتوفّي عام « 270 » ه‍ ، ولد بالكوفة ، ورحل إلى نيسابور ، ونشأ ببغداد وتوفّي بها ، من تصانيفه : كتابان في فضائل الشافعي. « معجم المؤلفين : 4/139 ».

(74)
وخاننـي جلـدي لمـا دنـا أجـلي سبعون عاماً مضت ما كان أجمعها لـم أسـتفد صالحـاً فيها ولا عملاً فكّرت في عصبٍ من اُسرتي سلفوا فمـا وجدت لهـم عينـاً ولا أثراً أيقنت انـي بهـم لا شـك ملتحق فعـادني منهـم عيـد فسـال دماً علمت من عادة الدهر الخؤون بأنّ وابيض فودي ولكن سوّدت صحفي أيام عمري في دنياي مـذ قصرت وأقبل الشيـب بالترحال يـؤذنني إلا كومض بريـق لاح فـي مزن إلى رضا الله فـي الاخرى يقرّبني وأهـل ودّي وفيمن كان يصحبني وليس حـي سواي من بني زمني وان دهري بسهم المـوت يرشقني دمعي لـذكرهم كـالعارض الهتن الشيب والموت مقرونان في قرني كبائر ذكرها ما عـشت يـحزنني طالت خوادع آمـالي فيـاغبـني


(75)
وكلمـا ضعفت منّي القوى قويت لم أستفد في حياتـي غير صدق ولا بحـب أحمـد والأطهـار عتـرته قوم هم العروة الوثقى فمـن علـقت لا يقبـل الله مـن أعمالنـا عمـلاً ماذا أقـول لقـوم كـان والــدهم رب الـغدير وقســام السعيــر وصاحـب النصّ فـي آي العقود كـل إلى علمـه ذو حـاجـة وإذا به استقامت طريق الحق واتضحت عزيمتي في الّذي فـي الحشر يوبقني صفـو اعتقـادي وإيمانـي عليه بُني اولي النهـى وذوي الآلاء والمــنن بهـا يداه رآهـا أحصـن الجــنن إلا بحبهـم فـي السـرّ والعلـــن للمصطفــى خير منصوب ومؤتمن وذي العلم الغزير مبين الفرض والسنن فإنمــا وليكـم إن تتــل تستبـن أخبرته فهـو عنهـم بالكمـال غنـي وثبــت الله مـا بالديـن مـن وهن
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس