|
||||||||||||||||||||||||||||||
(121)
الرحمن ، وهم وإن لم ينصبوا الأنصاب جهرة ولم يتّخذوا الأصنام آلهة فقد أحدثوا من الفساد في البلاد ، والعدوان على العباد ، والظلم لآل الرسول والهضم لذرية البتول ، ما نقضوا عبادة الأوثان عن عشر عشيره ، ويختفر بعظيم الأنداد في جنب حقيره ، من ظلم سادتهم وامرائهم ، ومن قرن الله ذكره بذكرهم ، فقتلوهم في محاريب صلواتهم ، وخذلوهم في حروبهم وغزواتهم ، وأرهفوهم برحى سمومهم ، ولم يراقبوا الله في هديهم وفديتهم ، وشنّوا عليهم غاراتهم ، ونصبوا العداوة لأحفادهم وذرّيّاتهم.
فانظر إلى صاحب المحنة العظيمة ، والواقعة الجسيمة والمصيبة الّتي أنفدت بتراكمها ماء الشؤون ، وقرحت بتفاقمها الآماق والجفون ، مصيبة أشرف الثقلين ، وسبط سيّد الكونين ، وابن صاحب بدر واحد وحنين ، أبي عبد الله الحسين ، كاتبوه وراسلوه ووعدوه وعاهدوه ، حتّى إذا انقطعت معذرته بظنة وجود الناصر ، ولزمه القيام بأمر الله في الظاهر ، خذلوه وأسلموه ، وجحدوه وقتلوه ، وسقوه من غروب سيوفهم كؤوس الحمام ، وسودوا بقتله وقتل ولده وجه الاسلام. فياعيوني لمصيبتة بعبرتي لا تبخلي ، ويا كربتي لرزيّته عن حشاشتي لا تنجلي ، ويا حرقتي لما ناله لا تخمدي ويا زفرتي لمصرعه من التراقي تصاعدي ، ألغيره أذخر حزني وبكائي ؟ أم على سواه أصف وجدي وبلوائي ؟ أم على هالك بعده أنثر جواهر نثري ؟ أم على قانت غيره أسمط بالمراثي شعري ؟ يهيج في وجدي إذا ذكرت غربته ، وتضطرب أحشائي وقلبي إذا تصورت محبّته ، وتذكو آثار الأسى في جوانحي بفضيع مصرعه ، وينحلّ قلبي (122)
بصبري ويجود طرفي بمدمعه ، إذا مثّلت شيبه بدمائه مخضوباً ، وكريمه على القناة منصوباً ، ونساءه على الأقتاب حيارى ، وأبناءه في الأصفاد اُسارى ، وشلوه على الرمضاء طريحاً ، وطفله بسهام الأعداء ذبيحاً ، وثقلة نهيباً ، ورداءه سليباً ، وجبينه تريباً ، ويومه عصيباً ، وجسده بسهام البغاة صريعاً ، وثغره بقضيب الطغاة قريعاً ، ذكت بثوران الأسى في أضلعي ، وأغرقتني بفيضها أدمعي ، ونفى ذكره عن عيني رقادي ، وأطال حزني ليلي بسهادي.
فها أنذا لواقعته حليف الأحزان ، أليف الأشجان ، قريح الأجفان ، جريح الجنان ، أقطع ليلي بالتأسف والأنين ، ونهاري بالتأوّه والحنين ، وأوقاتي بإهداء تحيّاتي وصلواتي إليه ، وساعاتي بلعن من اجترى بكفره عليه ، ويروي لساني عن جناني ، وبناني عن إيماني ، غرراً من بدائع نثري ونظمي ، ودرراً من تواضع حكمي وفهمي ، اُشنّف بها المسامع ، واُشرّف المجامع ، واُسيل بتردادها المدامع ، وأشجي بإنشادها الطبائع ، وأقمع بها هامة الكفور الجاحد وأقطع دابر الكنود الحاسد ، وأبوح بسري في شعري ، وأنوح ودمعي من طرفي يجري ، وأقول وفؤادي بنار حزني يتأجج ، ولساني من شدّة نحيبي يتلجلج :
(123)
(124)
(125)
المجلس السادس
في ذكر مقامات أذكر فيها ما تمّ على الحسين عليه السلام بعد موت معاوية عليه اللعنة والعذاب ، وذكر ولاية يزيد عليه من الله ما يستحق من العذاب المهين أبد الآبدين إلى يوم الدين ، وغير ذلك من رسائل صدرت إليه عليه السلام من مواليه ومخالفيه ، وما أجاب عنها ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آبائه الطاهرين ، وأبنائه المنتجبين. الحمد لله الّذي جعل البلاء موكّلاً بأنبيائه وأوليائه ، والابتلاء وسيلة لهم إلى اجتبائه واصطفائه ، وكلفهم ببذل الأرواح في جهاد أعدائه ، وشرى منهم الأنفس والأموال بنعيمه الباقي ببقائه ، وربحت تجارتهم لما أوقعوا عقد بيعة ربّهم ، وفازت صفقتهم لما حازوا من الزلفى بقربهم ، وشمّروا عن ساق في سوق عباده إلى طاعته ، وكشفوا عن ساعد الاستنقاذ أنامه من ورطة معصيته ، وتلقوا حر الصفاح بوجوههم وأجسادهم ، وصبروا على مضّ الجراح لاستخلاص الهلكى وإرشادهم ، فأغرى الشيطان سفهاءهم ، وحمل أولياءه على حربهم ، (126)
فركبوا الصعب والذلول في قتالهم ، وخالفوا نص الرسول بكفرهم وضلالهم وقصدوهم في أنفسهم وأموالهم ، وحاربوهم بخيلهم ورجالهم ، فاستشعروا لباس الصبر الجميل طلباً للثواب الجزيل ، وباعوا النزر القليل بالباقي الجليل ، وجاهدوا الفجرة بجدّهم وجهدهم ، وحاربوا الكفرة بذاتهم وولدهم ، وتبرّموا بالحياة في دولة الظّالمين ، واستطابوا الممات لغلبة الضالين ، وامتثلوا أمر الله بعزائم أبية ، وانوف حمية ، واصول نبوية ، وفروع علوية ، وأرواح روحانية ، وأنفس قدسية ، وقلوب على تقوى الله جبلت ، وبالحق قضت وعدلت.
عرجت أرواحها إلى المحلّ الأسنى ، ورقت نفوسها إلى الملكوت الأعلى ، فشاهدت بأبصار بصائرها منازل الشهداء في جنّة المأوى ، ولاحظت بأفكار ضمائرها ما اعد للمجاهدين في سبيله في دار الجزاء ، فآثرت الآخرة على الاولى ، وما يبقى على ما يفنى. فيا من يخطّىء صوابهم ، ويستحب عتابهم ، ويستعذب ملامهم ، ويسفّه أحلامهم ، ويتلو بنية فاسدة مشتركة : ( ولا تلقوا بأيـديكم إلى التهلـكة ) (1) ، جهلاً منه بمواقع التنزيل ، وغيّاً عن مواضع التأويل ، تبت يدك ، وفلَّ جدّك ، لقد نافقت بإسلامك ، وأخطأت عن مرامك ، وعشى عن ضوء شمس الحق إنسان عينك ، واستولى الشك على مشوب يقينك ، أتعلم من أنزل في بيوتهم ، وورد الذكر في صفاتهم ونعوتهم ، وفخر جبريل يوم العبا بصحبتهم ، واُنزلت سورة « هل أتى » في مدحتهم ؟ يا ويلك أتورد حجتك ، وتوّرك شبهتك ، على قوم الدنيا في أعينهم أقلّ من كلّ قليل ، وعزيزها لديهم أذل من كلّ ذليل ؟ علمهم لدني ، وكشفهم 1 ـ سورة البقرة : 195. (127)
رحماني ، أطلعهم سبحانه على مصون سره ، وقلّدهم ولاية أمره في برّه وبحره ، وسهله ووعره ، فهم الوسائل إليه ، والأدلاء عليه ، قصرت الأفهام عن إدراك جلالهم ، وحصرت الأوهام عن تصور كمالهم ، فاقوا الخضر في علم الباطن والظاهر ، وفاتوا الحصر بالدليل القاطع والمعجز الباهر ، فالخليل يفخر باُبوّتهم ، والكليم يقصر عن رتبتهم ، والمسيح باسمائهم يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، والروح الأمين يتنزّل عليهم في منازلهم بأمر الله.
لما علموا أنّ الحياة الفانية مبالغة لهم عن حصول مطلوبهم ، قاطعة عن الوصول إلى محبوبهم ، حاجبة عن منازل قربهم ، حاجزة عن جوار ربّهم ، قطعوا العلائق للاتصال بالمحل الأسنى ، وخلعوا لباس العيش الدني الاولى ، وتلقوا بوجههم الصفاح والرماح ، وصبروا بشدة عزمهم على مضّ الجراح ، تشوفاً إلى الاتصال بمنازل القبول والرضوان ، وتشوقاً إلى الاستظلال بأظلة تلك العواطف والامتنان ، وبذلوا أنفسهم فنالوا فضلها ، وكانوا أحقّ بها وأهلها ، وكان أعظم من أطاع الله منهم بجدّه وجهده ، وأخلص لله ببذل نفسه وولده ، وأراد أن تكون كلمة الله العليا ، وكلمة الّذين كفروا السفلى ، وسبب الله الأقوى ، ودينه الأعلى ، إمام الاُمّة ، وأب الأئمّة ، ومنبع الحكمة ، ومجمع العصمة ، صاحب الأصل السامي ، والفرع النامي ، والمجاهد المحامي ، معاذي وملاذي يوم حشري وقيامي ، وحياتي ومماتي وارتحالي ومقامي ، والأوّاه الحليم ، الجواد الكريم ، صاحب المصيبة العامّة ، والرزيّة الطامّة ، والواقعة الكبرى ، والمحنة العظمى ، قتيل العبرة وصريع الفجرة ، وسليل البررة ، وسراج العترة ، وطاهر الاسرة. النبوّة أصله ، والامامة نسله ، خاتم أصحاب الكساء ، ابن خير الرجال وخير النساء ، جدّه النبيّ ، وأبوه الوصيّ ، واُمّه الزهراء ومغرسه البطحاء ، طار (128)
بقوادم الشرف وخوافيه ، وتعالى في سماء الكرم بمعاليه ، أشرف خلق الله ، وأفضل شهيد في الله ، الباذل ذاته في الله ، البائع نفسه من الله ، القائم بأمر الله ، الصادع بحكم الله ، المخلص بجهاده في الله ، الموفي بما عاهد عليه الله.
كتف الرسول مركبه ، وثدي البتول مشربه ، كلّ شرف لشرفه يخضع ، وكل مجد لمجده يصرع ، وكل مؤمن له ولأبيه وجده يتبع ، وكل منافق عن سبيله وسبيل آله يتكعكع ، لا يقبل الله إيمان امرىء إلا بولائه ، ولا يزكّي عمل عامل إلا باتباعه ، ولا يدخل الجنّة إلا مستمسكاً بحبله ، ولا يصلى النّار إلا منكراً لفضله ، أطول خلق في المجد باعاً وذراعاً ، وأشرف رهط في الفخر ذرّيّة وأشياعاً ، جدّه عليّ ، وجدّه نبيّ ، وأبوه وليّ ، وولده أطهار ، ونجله أبرار. المجاهد الصبور ، الحامد الشكور ، منبع الأئمّة ، وسراج الاُمّة ، أطهر الأنام أصلا ، وأظهرهم فضلاً ، وأزكاهم فعلاً ، وأتقاهم نجلاً ، وأنداهم كفاً ، وأعلاهم وصفاً ، وأشرفهم رهطاً ، وأقومهم قسطاً ، سؤدده فاخر ، ومعدنه طاهر ، لا يقذع صفاته ، ولا تغمز قناته ، ولايدرك ثناؤه ، ولا يحصى نعماؤه ، كم أغنى ببره عائلاً ؟ وكم آثر بقوته سائلاً ؟ أفخر أسباط الانبياء ، وأفضل أولاد الأولياء ، محيي الليل بركوعه وسجوده ، ومجاري السيل بنائله وجوده ، واقوى من بذل في الله غاية مجهوده ، وأسمى من استأثر من العلى بطارفه وتليده. إمام المشرقين والمغربين ، ونتيجة القمرين ، بل الشمسي ، وابن مجلي الكربين ، عن وجه سيّد الكونين ، في بدر وحنين ، ومصلي القبلتين ، وصاحب الهجرتين ، سيّدنا ومولانا أبا عبد الله الحسين ، عليه تحيّاتي بتوالي صلواتي تتلى ، وفي فضله تروى قصائدي ، وبذكره تنجح مقاصدي ، وبسببه تتّصل أسبابي ، وفي حضرته محطّ ركابي ، ولرزيته تتصاعد زفراتي ، ولمصيبته تتقاطر (129)
عبراتي ، ولواقعته تستهلّ شؤوني ، ولقتله لا تبخل بدمعها عيوني.
فها أنذا أنشد من قلب جريح ، وأروي عن طرف قريح :
(130)
(131)
(132)
(133)
(134)
(135)
فقال له مروان بن الحكم : أجزعت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا يا مروان ، ولكنّي ذكرت ما كنت عنه عزوفاً ، ثمّ إنّي بكيت في إحني ، وما يظهر للناس منّي ، فأخاف أن يكون عقوبة عجلت لي لما كان من دفعي حقّ عليّ بن ابي طالب عليه السلام ، وما فعلت بحجر بن عديّ وأصحابه ، ولولا هواي من يزيد لأبصرت رشدي ، وعرفت قصدي. 1 ـ سقط من الأصل ـ ما بعد هذا ـ مقدار صفحة واحدة أو صفحتين ، ولعلّ القصيدة لم تنته بعد. |
||||||||||||||||||||||||||||||
|