تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 136 ـ 150
(136)
    قال : ولمّا أخذ البيعة ليزيد أقبل عليه فقال : يا بنيّ ، اخبرني الآن ما أنت صانع في هذه الاُمّة ، أتسير فيهم بسيرة أبي بكر الصدّيق الّذي قاتل أهل الردة ، وقاتل في سبيل الله حتّى مضى والناس عنه راضون ؟
    فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي لا اطيق أن أسير بسيرة أبي بكر ، ولكن آخذهم بكتاب الله وسنّة رسوله.
    فقال : يا بنيّ ، أتسير فيهم بسيرة عمر بن الخطّاب الّذي مصرّ الأمصار ، وفتح الديار ، وجنّد الأجناد ، وفرض الفروض ، ودوّن الدواوين ، وجبى الفيء ، وجاهد في سبيل الله حتّى مضى والناس عنه راضون ؟
    فقال يزيد : لا أدري ما صنع عمر ، ولكن آخذ الناس بكتاب الله والسنة.
    فقال معاوية : يا بنيّ ، أفتسير فيهم بسيرة ابن عمّك عثمان بن عفّان الّذي أكلها في حياته ، وورثها بعد مماته ، واستعمل أقاربه ؟
    فقال يزيد : قد أخبرتك يا أمير المؤمنين ، إن الكتاب بيني وبين هذه الاُمّة به آخذهم وعليه أقتلهم.
    قال : فتنفس معاوية الصعداء وقال : إنّي من أجلك آثرت الدنيا على الآخرة ، ودفعت حقّ عليّ بن ابي طالب ، وحملت الوزر على ظهري ، وإنّي لخائف انّك لا تقبل وصيّتي فتقتل خيار قومك ، ثمّ تغزو حرم ربّك فتقتلهم بغير حقّ ، ثمّ يأتي الموت بغتة ، فلا دنيا أصبت ، ولا آخرة أدركت.
    يا بنيّ ، إنّي جعلت هذا الملك مطعماً لك ولولدك من بعدك ، وإنّي موصيك بوصية فاقبلها فإنّك تحمد عاقبتها ، وإنّك بحمد الله صارم حازم ؛ انظر ان تثب


(137)
على أعدائك كوثوب الهزبر البطل ، ولا تجبن كجبن الضعيف النكل ، فإنّي قد كفيتك الحل والترحال ، وجوامع الكلم والمنطق ، ونهاية البلاغة ، ورفع المؤنة ، وسهولة الحفظ ، ولقد وطأت لك يا بنيّ البلاد ، وذللت لك رقاب العرب الصعاب ، واقمت لك المنار ، وسهلت لك السبل ، وجمعت لك اللجين والعقيان ، فعليك يا بنيّ من الاُمور بما قرب مأخذه ، وسهل مطلبه ، وذر عنك ما اعتاص عليك.
    وأعلم ـ يا بنيّ ـ ان سياسة الخلافة لا تتم إلا بثلاث : بقلب واسع ، وكفّ بسيط ، وخلق رحيب ، وثلاث اُخر : علم ظاهر ، وخلق طاهر ، ووجه طلق ، ثمّ تردف ذلك بعشر اُخر : بالصبر ، والأناة والتودّد ، والوقار ، والسكينة ، والرزانة ، والمروءة الظاهرة ، والشجاعة ، والسخاء ، والاحتمال للرعية بما تحب وتكره.
    ولقد علمت ـ يا بنيّ ! ـ أنّي قد كنت في أمرٍ الخلافة جائعاً شبعان ، بشماً شهوان ، اُصبح عليها جزعاً ، واُمسي هلعاً ، حتّى أعطاني الناس ثمرة قلوبهم وبادروا إلى طاعتي ، فادخل ـ يا بنيّ ـ من هذه الدنيا في حلالها ، واخرج من حرامها ، وانصف الرعية ، واقسم فيهم بالسويّة.
    واعلم ـ يا بنيّ ـ أنّي أخاف عليك من هذه الاُمّة أربعة نفر من قريش : عبد الرحمان بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وشبيه أبيه الحسين بن علي.
    فأمّا عبد الرحمان بن أبي بكر فإنّه إذا صنع أصحابه صنع مثلهم وهو رجل همته النساء ولذة الدنيا فذره ـ يا بنيّ ـ وما يريد ، ولا تأخذ عليه شيئاً من أمره فقد علمت ما لأبيه من الفضل على هذه الاُمّة ، وقد يحفظ الولد في أبيه.
    وأمّا عبد الله بن عمر فإنّه رجل صدق وحش من الناس ، قد أنس بالعبادة ، وخلا بالوحدة فترك الدنيا وتخلّى منها ، فهو لا يأخذ منها شيئاً ، وإنّما


(138)
تجارته من الدنيا كتجارة أبيه عمر بن الخطّاب ، فاقرأ عليه ـ يا بنيّ ـ منك السلام وابعث إليه بعطاياه موفرة مهنأة.
    وأمّا عبد الله بن الزبير فما أخوفني منه عنتاً فإنّه صاحب خلل في القول ، وزلل في الرأي ، وضعف في النظر ، مفرّط في الاُمور ، مقصّر عن الحقّ ، وإنّه ليجثو لك كما يجثوا الأسد في عرينه ، ويراوغك روغان الثعلب ، فإذا أمكنته منك فرصة لعب بك كيف شاء ، فكن له ـ يا بنيّ ـ كذلك ، واحذه كحذو النعل بالنعل ، إلا أن يدخل لك في الصلح والبيعة فأمسك عنه واحقن دمه ، وأقمه على ما يريد.
    وأمّا الحسين بن عليّ ، فأوه أوه يا يزيد ، ماذا أقول لك فيه ؟ فاحذر أن تتعرّض له إلا بسبيل خير ، وامدد له حبلاً طويلاً ، وذره يذهب في الأرض كيف يشاء ، ولاتؤذه ولكن أرعد له وأبرق ، وإيّاك والمكاشفة له في محاربة بسيف أو منازعة بطعن رمح ، بل أعطه وقرّبه وبجّله ، فإن جاء إليك أحد من أهل بيته فوسّع عليهم وأرضهم ، فإنّهم أهل بيت لا يسعهم إلا الرضا والمنزلة الرفيعة.
    وإياك ـ يا بنيّ ـ أن تلقى الله بدمه فتكون من الهالكين ، فقد حدّثني ابن عبّاس ، فقال : حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله عند وفاته وهو يجود بنفسه وقد ضمّ الحسين إلى صدره وهو يقول : هذا من أطائب أرومتي ، وأبرار عترتي ، وخيار ذرّيّتي ، لا بارك الله فيمن لم يحفظه من بعدي.
    قال ابن عبّاس : ثمّ اُغمي على رسول الله ساعة ثمّ أفاق فقال : يا حسين ، إنّ لي ولقاتلك يوم القيامة مقاماً بين يدي ربّي وخصومة ، وقد طابت نفسي إذ جعلني الله خصماً لمن قاتلك يوم القيامة.
    يا بنيّ ، فهذا حديث ابن عبّاس وأنا اُحدّثك عن رسول الله صلّى الله عليه


(139)
وآله انّه قال : أتاني يوماً حبيبي جبرئيل فقال : يا محمد ، إنّ اُمّتك تقتل ابنك حسيناً ، وقاتله لعين هذه الاُمّة ، ولقد لعن النبيّ صلّى الله عليه وآله قاتل حسين مراراً.
    فانظر ـ يا بنيّ ـ ، ثمّ انظر أن تتعرّض له بأذى ، فإنّه مزاج ماء رسول الله ، وحقّه والله ـ يا بنيّ ـ عظيم ، وقد رأيتني كيف كنت أحتمله في (1) حياتي ، واضع له رقبتي وهو يجبهني بالكلام القبيح الّذي يوجع قلبي فلا اجيبه ، ولا أقدر له على حيلة ، لأنّه بقيّة أهل الأرض في يومه هذا. (2)
    قلت : لعن الله معاوية ما أشدّ نفاقه ، وأعظم شقاقه ؟ فإنّه كان يعرف الحقّ لكن الشقاق وحبّ الدنيا غلب على قلبه ، حتّى كفر بأنعم ربّه ، وارتدّ عن الدين الّذي كان قد تديّن به ظاهراً ، وأبوه من قبله لا باطناً ، وهب إنّه كان في الظاهر والباطن مسلماً وليس كذلك ، أليس قد كفر بحرب أميرالمؤمنينن وقتل جماعة من المهاجرين الأوّلين ، كخزيمة بن ثابت وعمار وغيرهما من أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ؟ فهو إمّا كافر أصلي أو مرتد عن الاسلام ، فعلى كلا الأمرين لا تقبل توبته لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا عليّ ، حربك حربي (3).
    وقوله صلّى الله عليه وآله : محاربوا عليّ كفرة (4).
    وقوله صلّى الله عليه وآله : يا عليّ ، من آذى شعرة منك فقد آذاني ، ومن
1 ـ ما بين المعقوفتين أثبتناه من مقتل الخوارزمي.
2 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/173 ـ 176.
3 ـ انظر : إحقاق الحقّ : 6/440 ـ 441 ، وج 7/296 ، وج 13/70.
4 ـ انظر في معناه : إحقاق الحقّ : 4/235 و238 ـ 239 و276 و277 ، وج 7/331 و337 وج 15/580 ، وج 17/279 ، وج 18/470.


(140)
آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله. (1)
    وممّا يدلّ على كفره وإلحاده فعله بالامام السبط التابع لمرضاة الله أبي محمد الحسن عليه السلام من شن الغارات عليه ، وإفساد قلوب الناس له ، وبذل الأموال في حربه ، وإفساد جموعه وجنوده ، ثمّ دسّ السمّ له حتّى ألقى كبده وحشاه ، ومضى شهيداً مظلوماً مسموماً ، فهل في فعله هذه الأفعال الشنيعة من حرب أمير المؤمنين وموارطته ثمانية عشر شهراً ، ثمّ قتل سبعة من أكابر الصحابة بعد كحجر بن عديّ وأصحابه ، ثمّ بسبّه أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر إلا كما قال الله سبحانه : ( فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا ) (2) وكقول فرعون لما أدركه الغرق : ( قال آمنت أنّه لا إله إلا الّذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ) (3) فردّ الله سبحانه عليه بقوله : ( الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) (4).
    فكان حال معاوية لما رأى علامات الموت كحال فرعون والكفّار الّذين ذكرهم سبحانه بقوله : ( فلمّا رأوا بأسنا ) ، فعليه وعلى من يعتذر له ، ويصوّب آراءه واجتهاده فيما علم بطلانه من الدين ضرورة لعنة الله ولعنة اللاعنين ، لأن إنكار ولاية أمير المؤمنين وحربه ، واستحلال وسفك دمه ودم ذرّيّته وشيعته ، كحال منكري الشرائع من الصلاة والزكاة والحج والنبوّة ، فهل يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصوّب اجتهاده ، ويؤوّل مراده ، ويمهد له العذر على فعله ؟
1 ـ انظر : إحقاق الحقّ : 6/380 ـ 394 ، وج 16/588 ـ 599 ، وج 21/537 ـ 543.
2 ـ سورة غافر : 84 و85.
3 ـ سورة يونس : 90.
4 ـ سورة يونس : 91.


(141)
    وإذا قبّحنا باب تصويت اجتهاده وإنكار ما علم من الدين ضرورة بطلانه من استحلال حرب أمير المؤمنين ، وقتل ذرّيّته وشيعته ، فاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام أن يعتذروا ويحتجوا علينا باجتهاده ويقولوا : نحن ساقنا اجتهادنا إلى القول بصحة ما اعتقدناه من خلافكم ففعله عليه اللعنة والعذر له من أعظم حجّة لهم علينا فلا نمنع من سبّه ، ولا نقول بإيمانه إلا من حاله كحاله في الكفر والبغي ، وعداوة الحق وأهله.
    وأقول : إنّ معاوية عليه اللعنة مع كفره ونفاقه كان يري أهل الشام والهمج الرعاع الصلاح واللين والتحلم والصفح عن المسيء منهم حتّى استمال قلوب الناس ، وصاروا يعدّونه من أكابر الصحابة ، ويسمونه « خال المؤمنين » ، و « كاتب الوحي » ، ويرون القتال معه جهاداً ، وكان الحسن والحسين صلوات الله عليهما إذا دخلا عليه أراهم من التعظيم والاجلال ما لا مزيد عليه مع كفره وبغضه لهما في الباطن.
    وأمّا يزيد عليه اللعنة فإن حاله كانت في الظاهر بخلاف حاله ، لأنّه كان متهتكاً متظاهراً بالفجور وشرب الخمر والتماجن والتشبيب بالسناء واقتناء الكلاب والفهود وآلات اللهو ، وكان قد اتخذ قرداً وكلّف به وأخدمه رجالاً ، وسمّاه قيساً ، كان إذا ركب أركبه معه في موكبه والخدم مكتنفة به وعليه ثياب الديباج ، وكان إذا جلس للشرب أحضره معه في مجلسه ويسقي الحاضرين الخمر.
    فمن كانت هذه حاله كيف يليق بأهل الصلاح والدين أن يقرّوا ببيعته ، أو يدخلوا تحت طاعة أولاد الأنبياء وشيعتهم ؟ فلولا جهاد سيّدنا أبي عبد الله عليه السلام ، وبذله نفسه وولده في إظهار كفره ، وعدم الرضا بفعله ، وأمره بالمعروف ،


(142)
ونهيه عن المنكر في متاجرته ، لفسد نظام الاسلام ، وارتدّ أكثر الناس على الأعقاب ، ولحصل فتق في الاسلام ليس له راتق ، فجزاه الله عن الاسلام وأهله أفضل الجزاء.
    ولنرجع إلى ما كنّا فيه :
    ثمّ قال معاوية : وانظر ـ يا بنيّ ـ أهل الحجاز فإنّهم أصلك وفرعك ، فأكرم من قدم عليك ، ومن غاب عنك فلا تجفه ولا تعنفه.
    وانظر أهل العراق فإنّهم لا يحبّونك أبداً ، ولا ينصحونك ، ولكن دارهم ما أمكنك ، وإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملاً فافعل ، فإن عزل عامل واحد أهون من سل مائة ألف سيف.
    وانظر أهل الشام فإنّهم بطانتك وظهارتك ، وقد بلوت بهم وعرفت ثباتهم (1) ، وهم صبر عند اللقاء ، حماة في الوغى ، فإن رابك (2) أمر من عدوّ يخرج عليك فانتصر بهم ، فإذا أصبت حاجتك فارددهم إلى بلادهم يكونوا [ بها ] (3) لوقت حاجتك ، ثمّ اُغمي على معاوية ، فلم يفق بقيّة يومه من غشيته ، فلمّا أفاق قال : اوه اوه جاء الحق وزهق الباطل ، ثمّ قال : إنّي كنت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله ذات يوم وهو يقلم أظفاره ، فأخذت القلامة ، وأخذت بشقص من شعره على الصفا ، فجعلتها في قارورة فهي عندي ، فاجعلوا الشعر والأظفار في فمي واُذني ، ثمّ صلّوا عليَّ وواروني في حفرتي (4).
1 ـ في المقتل : نيّاتهم.
2 ـ في المقتل : دار بك.
3 ـ من المقتل.
4 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/176 ـ 177.


(143)
    فليت يا شعري كيف لم يستحي من الله ورسوله وقد بارز أهل بيته بالعداوة ونصب الغوائل لهم والوقيعة في أسفارهم وانسارهم (1) أجسادهم ؟! ثمّ عقد الأمر عند موته وولاية عهده لابنه يزيد الّذي لا يوازيه كافر ، ولا يلحقه فاجر ، أكفر الخلق بالله ، وأبغضهم للحقّ وأهله ، وأشد الخلق تهتكاً مع خلعه جلباب الحياء ، وتظاهره بشرب الخمور ، وتعاطي الزنا والفجور ، وسفك الدماء المحرّمة ، وغصب الأموال المحترمة ، فعليه وعلى أبيه أشدّ العذاب وأعظم النكال ، والله لو واروه في حفرة النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يغن عنه ذلك من الله شيئاً ، كما لم يغن عن الأوّلين الّذين دفنا إلى جانبه صلّى الله عليه وآله نزهه الله عنهما ونقلهما عنه ، ( وقيل لهما ادخلا النّار مع الدّاخلين ) (2) وهو يرجو مع قبيح فعله الشفاعة من النبيّ ، ويتبرّك بشعره وظفره ، والله يقول : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) (3).
    ثمّ انقطع كلام معاوية ولم ينطق بشيء ، وخرج يزيد على عادته في التهتك واللهو والصيد في يومه ذلك إلى نواحي حوران للنزهة والصيد وترك أباه بحاله ، وقال للضحاك بن قيس : انظر لا تخف عليَّ شيئاً من أمره ، وتوفّي معاوية من غد وليس يزيد حاضر ، فكان ملكه عليه اللعنة تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر ، ومات بدمشق يوم الأحد لأيّام خلت من شهر رجب سنة ستّين ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
    قال : فخرج الضحّاك من دار معاوية لا يكلّم أحداً والأكفان معه حتّى دخل المسجد الأعظم ونودي له في الناس ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ،
1 ـ كذا في الأصل.
2 ـ سورة التحريم : 10.
3 ـ سورة الأنبياء : 28.


(144)
ثمّ قال : إن أمير المؤمنين معاوية قد ذاق الموت ، وشرب بكأس الحتف ، وهذه أكفانه ، ونحن مدرجوه فيها ، ومدخلوه قبره ، ومخلون بينه وبين عمله ، فمن كان منكم يريد أن يشهد فليحضر بين الصلاتين ولا تقعدوا عن الصلاة عليه ، ثمّ نزل عن المنبر وكتب إلى يزيد :
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
    الحمد لله الّذي لبس ( رداء ) (2) البقاء ، وكتب على عباده الفناء ، فقال سبحانه : ( كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذوالجلال والإكرام ) (3).
    لعبد الله أمير المؤمنين يزيد من الضحّاك بن قيس.
    أمّا بعد :
    فكتابي (4) إلى أمير المؤمنين كتاب تهنئة ومصيبة ، فأمّا التهنئة فبالخلافة الّتي جاءتك عفواً ، وأمّا المصيبة فبموت أمير المؤمنين معاوية ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فإذا قرأت كتابي هذا فالعجل العجل لتأخذ الناس بالبيعة ، بيعة اخرى مجددة.
    قال : فلمّا ورد الكتاب على يزيد وقرأه وثب من ساعته صائحاً باكياً ، وأمر بإسراج دوابّه ، وسار يريد دمشق ، فصار إليها بعد ثلاث من موت معاوية ، وخرج [ الناس ] (5) إلى استقباله ، فلم يبق أحد يطيق حمل السلاح إلا ركب
1 و2 و5 ـ من المقتل.
3 ـ سورة الرحمن : 26 و27.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فكتب.


(145)
[ وخرج ] (1) ، حتّى إذا وافى اللعين قريباً من دمشق وجعل الناس يتلقّونه فيبكون ويبكي معهم.
    ثمّ نزل في قبّة خضراء لابنه وهو معتمّ بعمامة خزّ سوداء متقلّداً سيف أبيه ، فلمّا دخلها نظر فإذا قد فرش له فرش كثيرة بعضها على بعض ، ما يمكن لأحد أن يرقى عليها إلا بالكراسي ، فصعد حتّى جلس والناس يدخلون عليه يهنئونه بالخلافة ويعزونه بأبيه ، ويزيد يقول : نحن أهل الحقّ وأنصار الدين ، فأبشروا يا أهل الشام فإن الخير لم يزل فيكم وسيكون بيني (2) وبين أهل العراق ملحمة ، وذلك انّي رأيت في المنام منذ ثلاث ليال كأنّ بيني وبين أهل العراق نهراً يطرد بالدم العبيط [ ويجري ] (3) جرياً شديداً ، وجعلت أجتهد في منامي أن أجوزه فلم أقدر حتّى جاء عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.
    قال : فأجابه أهل الشام وقالوا : يا أمير المؤمنين ، امض بنا حيث شئت فنحن بين يديك ، وسيوفنا هي الّتي عرفها أهل العراق في صفّين.
    فقال يزيد : أنتم لعمري كذلك ، ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّ معاوية كان عبداً من عباد الله أنعم الله عليه ، ثمّ قبضه إليه ، وهو خير ممّن بعده ، ودون من كان قبله ، ولا اُزكّيه على الله ، فهو أعلم به منّي ، فإن عفا عنه فبرحمته ، وإن عاقبه فبذنوبه ، ولقد ولّيت هذا الأمر من بعده ولست اُقصّر عن طلب حقّ ، ولا أعتذر من تفريط في باطل ، وإذا أراد الله شيئاً كان ، فصاح الناس من كلّ جانب : سمعنا وأطعنا ، يا أميرالمؤمنين.
    قال : فبايع الناس بأجمعهم يزيد وابنه معاوية بن يزيد من بعده ، وفتح
1 و 3 ـ من المقتل.
2 ـ في المقتل : بينكم.


(146)
بيوت الأموال وأخرج أموالاً جليلة (1) ففرّقها عليهم ، ثمّ عزم على إنفاذ الكتب إلى ( جميع ) (2) البلاد بأخذ البيعة له ، وكان مروان بن الحكم والياً على المدينة فعزله وولى مكانه ابن عمّه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكتب إليه يقول :

بسم الله الرحمن الرحيم
    من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة.
    أمّا بعد :
    فإن معاوية كان عبداً من عباد الله أكرمه فاستخلفه ومكّن له ، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه أو عقابه (3) ، عاش بقدر ، ومات بأجل ، وقد كان عهد إليّ وأوصاني أن أحذر آل أبي تراب وجرأتهم على سفك الدماء ، وقد آن ـ يا وليد ـ أن ينتقم الله للمظلوم (4) عثمان من آل أبي تراب بآل أبي سفيان ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة [ لي ] (5) على جميع الخلق في المدينة.
    قال : ثمّ كتب في رقعة صغيرة :
    أمّا بعد :
    فخذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة ، فمن أبى عليك فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه ، والسلام. (6)
1 ـ في المقتل : جزيلة.
2 و 5 ـ من المقتل.
3 ـ في المقتل : إلى روحه وريحانه ورحمته وثوابه.
4 ـ في المقتل : وقد علمت يا وليد أنّ الله تعالى منتقم للمظلوم.
6 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/177 ـ 180.


(147)
    وروي عن مكحول ، عن أبي عبيدة الجراح ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتّى يكون أوّل من يثلمه رجل من بني اُميّة [ يقال له يزيد ]. (1)
    وبإسناد متّصل بأبي ذر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : أوّل من يبدّل ديني رجل من بني اُميّة.
    قال : ابن أعثم : فلمّا ورد الكتاب على الوليد بن عتبة قرأه واسترجع ، ثمّ قال : يا ويح الوليد بن عتبة من دخوله في هذه الامارة ، ما لي وللحسين ؟ ثمّ بعث إلى مروان فدعاه وقرأ الكتاب عليه ، فاسترجع مروان ، ثمّ قال : رحم الله معاوية. فقال الوليد : أشر عليَّ برأيك.
    فقال مروان : أرى أن ترسل إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى الطاعة والدخول في بيعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم ، وإن أبوا قدمتهم وضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية ، فإنّهم إن علموا بموته وثب كلّ واحد منهم وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك منهم ما لا قبل لك به ، إلا عبد الله بن عمر فإنّي لا أراه ينازع ، فذره عنك ، وابعث إلى الحسين وعبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير فادعهم إلى البيعة ، مع أنّي أعلم أنّ الحسين خاصة لا يجيبك إلى بيعة يزيد أبداً ، ولا يرى له عليه طاعة ، والله إنّي لو كنت موضعك لم اراجع الحسين في كلمة واحدة حتّى أضرب عنقه ، فأطرق الوليد بن عتبة ، ثمّ رفع رأسه وقال : ليت الوليد بن عتبة لم يولد.
1 ـ من المقتل.

(148)
    قال : ثمّ دمعت عيناه ، فقال له عدوّ الله مروان : أيّها الامير ، لا تجزع بما ذكرت لك ، فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء في قديم الدهر ولم يزالوا ، وهم الّذين قتلوا عثمان ، ثمّ ساروا إلى معاوية فحاربوه ، فإنّي لست آمن ـ أيّها الأمير ـ إن أنت لم تعاجل الحسين خاصة أن تسقط منزلتك عند أمير المؤمنين يزيد.
    فقال الوليد : مهلاً ـ يا مروان ـ اُقصّر من كلامك وأحسن القول في ابن فاطمة ، فإنّه بقيّة ولد النبيّين.
    قال : ثمّ بعث الوليد بن عتبة إلى الحسين وعبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير فدعاهم ، وأقبل الرسول وهو عمرو بن عثمان ، فلم يصب القوم في منازلهم ، فمضى نحو المسجد فإذا القوم عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فسلّم ، ثمّ قال : إنّ الأمير يدعوكم ، فصيروا إليه.
    فقال الحسين : نفعل إن شاء الله إذا نحن فرغنا من مجلسنا ، فانصرف الرسول وأخبر الوليد بذلك ، واقبل عبد الله بن الزبير على الحسين ، فقال : يا أبا عبد الله ، إنّ هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس ، وإنّي قد أنكرت بعثته إلينا في مثل هذا الوقت ، فترى لما بعث إلينا (1) ؟
    فقال الحسين عليه السلام : اخبرك إنّي أظنّ أنّ معاوية هلك ، وذلك انّي رأيت البارحة في منامي كأنّ منبر معاوية منكوس ، ورأيت النّار تشتعل في داره ، فتأوّلت ذلك في نفسي بأنّه قد مات.
    قال ابن الزبير : فاعمل على ذلك بأنّه كذلك ، فما ترى أن تصنع إذا دعيت إلى بيعة يزيد ؟
1 ـ في المقتل : أنكرت بعثه ... أفترى لماذا بعث إلينا ؟

(149)
    فقال الحسين عليه السلام : لا اُبايع أبداً ، لأنّ الأمر إنّما كان لي بعد أخي الحسن فصنع معاوية ما صنع ، وحلف لأخي الحسن انّه لا يجعل الخلافة لأحد من بعده من ولده ، وأن يردّها عليَّ إن كنت حيّاً ، فإن كان معاوية قد خرج من دنياه ولم يف لي ولا لأخي فوالله لقد جاءنا مالا قوام (1) لنا به ، أتظنّ أنّي اُبايع يزيد ، ويزيد رجل فاسق معلن بالفسق ، وشرب الخمر ، واللعب بالكلاب والفهود ، ونحن بقيّة آل رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ والله لا يكون ذلك أبداً ، فبينما هما في المحاورة إذ رجع الرسول وقال للحسين : أبا عبد الله ، إنّ الأمير قاعد لكما خاصة فقوما إليه ، فزبره الحسين وقال : انطلق إلى أميرك لا اُمّ لك أنا صائر إليه الساعة إن شاء الله ولا قوّة إلا بالله.
    قال : فرجع الرسول إلى الوليد فأخبره بذلك ، وقال : إنّ الحسين قد أجاب وهو صائر إليك هذه الساعة في أثري.
    فقال مروان : غدر والله الحسين.
    فقال الوليد : مهلاً ليس مثل الحسين يغدر ، ولا يقول ما لا يفعل ، ثمّ أقبل الحسين على الجماعة وقال : قوموا (2) إلى منازلكم فإنّي صائر إليه فأنظر ما عنده.
    فقال له ابن الزبير : إنّي أخشى (3) عليك أن يحبسوك عندهم ولا يفارقونك أبداً حتّى تبايع أو تقتل.
    فقال : لست أدخل عليه وحدي ، ولكن أجمع أصحابي وخدمي
1 ـ في المقتل : قرار.
2 ـ في المقتل : صيروا.
3 ـ في المقتل : خائف.


(150)
وأنصاري وأهل الحقّ من شيعتي ، وآمر كلّ واحد منهم أن يأخذ سيفه مسلولاً تحت ثيابه ، ثمّ يصيروا بإزائي ، فإذا أنا أومأت إليهم وقلت : [ يا آل الرسول ، ادخلوا ] دخلوا وفعلوا ما أمرتهم به ، ولا اُعطي القياد من نفسي ، فقد علمت والله أنّه قد أتى من الأمر ما لا قوام له ، ولكن قدر الله ماضٍ ، وهو الّذي يفعل في أهل البيت ما يشاء ويرضى.
    ثمّ وثب الحسين فصار إلى منزله ، ثمّ دعا بماء فاغتسل ، ولبس ثيابه ، وصلّى ركعتين ، فلمّا انفتل من صلاته أرسل إلى فتيانه ومواليه وأهل بيته فأعلمهم شأنه ، ثمّ قال : كونوا بباب هذا الرجل ، فإذا سمعتم صوتي وكلامي وصحت : [ يا آل الرسول ] فاقتحموا بغير إذن ، ثمّ أشهروا السيف (1) ولا تعجلوا ، فإن رأيتم ما لا تحبّون فضعوا سيوفكم فيهم واقتلوا من يريد قتلي.
    قال : ثمّ خرج الحسين من منزله ، وفي يده قضيب رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وهو في ثلاثين رجلاً من مواليه وشيعته حتّى أوقفهم على باب الوليد ، ثمّ قال : انظروا ما اُوصيكم (2) به فلا تعدوه وأنا أرجو أن أخرج إليكم سالماً ، ثمّ دخل الحسين عليه السلام على الوليد وسلم ، وقال : كيف أصبح الأمير ؟
    قال : فردّ عليه الوليد ردّاً حسناً ، ثمّ أدناه وقرّبه ، وكان مروان حاضراً في مجلس الوليد ، وكان بيد الوليد ومروان قبل ذلك منازعة ، فلمّا نظر الحسين إلى مروان جالساً في مجلس الوليد ، قال : أصلح الله الأمير الصلح (3) خير من
1 ـ في المقتل : السيوف.
2 ـ في المقتل : ما أوصيتكم.
3 ـ في المقتل : الصلاح.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس