تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 301 ـ 315
(301)
وآله : كلّ قتيل في جنب الله شهيد ، ولمّا وقف رسول الله صلّى الله عليه وآله على شهداء اُحد وفيهم حمزة رضي الله عنه قال : أنا شهيد على هؤلاء القوم زمّلوهم بدمائهم فإنّهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً ، فاللون لوم الدم ، والريح ريح السمك (1) ، [ فهم ] (2) كما قيل :
كسته القنا حلّة من دم جزته معانقة الدارعين فأضحت لدى الله من أرجوان معانقة القاصرات الحسان (3)
    ولقد أحسنتُ في وصفهم ، وبالغت نعيهم بالتعزية ، وسمّيتها ب‍ « مجرية العبرة ومحزنة العترة » وهي الّتي وضعتها لتعزية المؤمنين يوم التاسع من المحرّم ، وستأتي في المجلس التاسع يوم التاسع إن شاء الله ، وهي مشتملة على نكت لطيفة ، واستعارات ظريفة ، وأشعار رائقة ، وعبارات شائقة ، أنشأتها بإذن الله ، وأوردتها على المنبر بحضور جمع من المؤمنين ، قبالة ضريح سيّد الشهداء ، وثالث الأوصياء ، وخامس أصحاب الكساء في حضرته الشريفة ، أبكيت بها عيون المؤمنين ، وأحزنت قلوب المخلصين ، راجياً أن يكون جزائي عنها وثوابي منها ثواب المستشهدين بين يدي حضرته ، الباذلين أنفسهم دونه ودون اُسرته.
    ولمّا قُتل أصحاب الحسين عليه السلام ولم يبق إلّا أهل بيته ، وهم : ولد عليّ ، وولد جعفر ، وولد عقيل ، وولد الحسن ، وولده صلوات الله عليه اجتمعوا
1 ـ من قوله : « فَقَتل اثنين وستّين » إلى هنا نقله المجلسي رحمه الله في البحار : 45/27 ـ 32 عن كتابنا هذا.
2 ـ عن المقتل.
3 ـ انتهى كلام الخوارزمي.


(302)
وودّع (1) بعضهم بعضاً ، وعزموا على الحرب ، فأوّل من برز من أهل بيته عبد الله ابن مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام ، وهو يرتجز ويقول :
اليوم ألقى مسلماً وهو أبي ليسو بقوم (2) عرفوا بالكذب وفتية بادوا على دين النبيّ لكن خيار وكرام النسب
[ من هاشم السادات أهل الحسب ] (3).
    فقاتل حتّى قتل ثمانية وتسعين رجلاً في ثلاث حملات ، ثمّ قتله عمرو ابن صُبيح الصيداويّ وأسد بن مالك.
    ثمّ خرج من بعده جعفر بن عقيل ، وهو [ يرتجز و ] (4) يقول :
أنا الغلام الأبطحيّ الطالبيّ ونحن حقّاً سادة الذوائبِ من معشر في هاشم وغالبِ هذا (5) حسين أطيب الأطائبِ
* من عترة البرّ التقيّ العاقبِ *
    فقتل خمسة عشر فارساً ، ثمّ قتله بشر بن سوط الهمداني (6).
    ثمّ خرج من بعده أخوه عبد الرحمان بن عقيل ، وهو يقول :
أبي عقيل فاعرفوا مكاني من هاشمٍ وهاشمٌ إخواني

1 ـ في البحار : يودّع.
2 ـ في المقتل : كقوم.
3 و 4 ـ من البحار.
5 ـ في المقتل : فينا.
6 ـ ذكر في وقعة الطفّ : 247 أنّ قاتله عمرو بن صبيح الصُدّائي.
وفي ذوب النضار : 122 : عمرو بن صُبيح الصيداويّ طلبه المختار رحمه الله فأتوه وهو على سطحه بعد ما هدأت العيون ، وسيفه تحت رأسه ، فأخذوه وسيفه ، فقال : قبّحك الله من سيف ، ما أبعدك على قربك ؟! فجيء به إلى المختار ، فلمّا كان من الغداة طعنوه بالرماح حتّى مات.


(303)
كهول صدق سادة الأقرانِ هذا حسين شامخ البنيانِ
وسيّد الشيب مع الشبّان (1)
    فقتل سبعة عشر فارساً ، ثمّ قتله عثمان بن خالد (2) الجهنيّ.
    وخرج من بعده محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهو يقول :
نشكو إلى الله من العدوان قد تركوا معالم القرآنِ قتال (3) قوم في الردى عميان ومحكم التنزيل والبيانِ (4)
* وأظهروا الكفر مع الطغيانِ *
    ثمّ قاتل حتّى قتل عشرة أنفس ، ثمّ قتله عامر بن نهشل التميمي.
    ثمّ خرج من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن جعفرِ يطير فيها بجناح أخضرِ شهيد صدق في الجنان أزهرِ كفى بهذا شرفاً في المحشر
    ثمّ قاتل حتّى قتل من القوم ثلاثة فوارس وثمانية عشر رجلاً ، ثمّ قتله عبد الله بن قُطبة الطائي.
1 ـ روى الرجز الأخير في المقتل هكذا :
فينا حسين سيّد الأقران وسيّد الشباب في الجنان
2 ـ ذكر في وقعة الطفّ : 247 أنّ عثمان بن خالد بن أسير الجهنّي وبشر بن حوط القابضي الهمداني اشتركا في قتل عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، واشتركا في سلبه. وهما كانا في الجبانة فأخذهما المختار رحمه الله فضرب أعناقهما ، ثمّ أحرقهما بالنار ، انظر : ذوب النضار : 118.
3 ـ في المقتل : فعال.
4 ـ في البحار : والتبيان.
    وروى الرجز الأخير في المقتل هكذا :
قد تركوا معالم القرآن وأظهروا الكفر مع الطغيان

(304)
    ثمّ خرج من بعده عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام. وفي أكثر الروايات أنّه القاسم بن الحسن عليه السلام وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم ، فلمّا نظر الحسين عليه السلام إليه قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غشي عليهما ، ثمّ استأذن الحسين عليه السلام في المبارزة ، فأبى الحسين أن يأذن له ، فلم يزل الغلام يقبّل يديه ورجليه حتّى أذن له ، فخرج ودموعه تسيل على خدّيه ، وهو يقول :
إن تنكروني فأنا فرع الحسن هذا حسين كالأسير المرتهن سبط النبيّ المصطفى والمؤتمن بين اُناس لاسُقوا صوب المزن
    وكان وجهه كفلقة القمر ، فقاتل قتالاً شديداً حتّى قتل ـ على صغره ـ خَمسة وثلاثين رجلاً.
    قال حميد : كنت في عسكر ابن سعد ، فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما.
    فقال عمرو بن سعد الأزديّ : والله لأشدّنّ عليه.
    فقلت : سبحان الله ! وما تريد بذلك ؟ والله لو ضربني ما بسطت إليه يدي ، يكفيك هؤلاء الّذين تراهم قد احتوشوه.
    قال : والله لأفعلنّ ، فشدّ ، فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسيف ووقع الغلام لوجهه ، ونادى : يا عمّاه.
    قال : فجاءه الحسين كالصقر المنقضّ فتخلّل الصفوف ، وشدّ شدّة الليث الحرب فضرب عمراً قاتله بالسيف ، فاتّقاه بيده فأطنّها من المرفق ، فصاح


(305)
فتنحّى عنه ، وحملت [ خيل ] (1) أهل الكوفة فاستنقذوه من يد الحسين ، فوقف الحسين على رأس الغلام وهو يفحص [ برجليه ] (2) ، فقال الحسين : يعزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ولا ينفعك (3) ، بعداً لقوم قتلوك.
    ثمّ احتمله ، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض ، وقد وضع صدره على صدره ، فقلت في نفسي : ما يصنع ؟ فجاء حتّى ألقاه بين (4) القتلى من أهل بيته.
    ثمّ قال : اللّهمّ أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً ، صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً.
    ثمّ خرج عبد الله بن الحسن الّذي ذكرناه أوّلاً وهو الأصحّ أنّه برز بعد القاسم ، وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن حيدره على الأعادي مثل ريح صرصره ضرغام آجام وليث قسوره [ أكيلكم بالسيف كيل السندره ] (5)
    فقَتَل أربعة عشر رجلاً ، ثمّ قَتَله هانىء بن ثُبيت الحضرمي لعنه الله فاسودّ وجهه.
1 ـ من المقتل والبحار.
2 و 5 ـ من المقتل.
3 ـ في المقتل والبحار : فلا يُعينك.
4 ـ في المقتل : مع.


(306)
    ثمّ تقدّم إخوة الحسين عليه السلام عازمين على أن يموتوا دونه ، فأوّل من خرج منهم أبوبكر بن عليّ ، واسمه عبيد الله (1) ، واُمّه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعيّ التميميّة ، فتقدّم ، وهو يرتجز ويقول :
شيخي عليّ ذوالفخار الأطول هذا حسين بن النبيّ المرسل تفديه نفسي من أخ مبجّل من هاشم الصدق الكريم المفضل عنه نحامي (2) بالحسام المصقل [ يا ربّ فامنحني ثواب المجزل ] (3)
    فلم يزل يقاتل حتّى قَتَله زَحْرُ بن بدر (4) النخعي ، وقيل : عبد الله بن عتبة الغنويّ.
    ثمّ برز من بعده أخوه عمر بن عليّ ، وهو يقول :
اضربكم ولا أرى فيكم زُحَر يازحر يازحر تدان من عمر شرّ مكان في حريق وسعر ذاك الشقيّ بالنبيّ قد كفر لعلّك اليوم تبوء من سقر لأنّك الجاحد ياشرّ البشر
    ثمّ حمل على زحر قاتل اخيه فقتله ، واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضرباً منكراً وهو يقول :
خلّوا عداة الله خلّوا عن عمر يضربكم بسيفه ولا يفرّ خلّوا عن الليث العبوس المكفهر وليس فيها (5) كالجبان المنحجر

1 ـ كذا في البحار ، وفي الأصل والمقتل : عبد الله.
2 ـ في المقتل : نذود عنه.
3 ـ من المقتل.
4 ـ في المقتل : قيس.
5 ـ في المقتل : يغدو.


(307)
فلم يزل يقاتل حتّى قُتِل.
    ثمّ خرج من بعده أخوه عثمان بن عليّ ، واُمّه اُمّ البنين بنت حزام بن خالد من بني كلاب ، وهو يقول :
إنّي أنا عثمان ذو المفاخر وابن عمّ للنبيّ الطاهر وسيدّ الكبار والأصاغر شيخي عليّ ذو الفعال الظاهر أخي حسين خيرة الأخائر بعد الرسول فالوصيّ الناصر (1)
    فرماه خَوَليّ بن يزيد الأصبحي على جنبه (2) فسقط عن فرسه ، وحزّ (3) رأسه رجل من بني أبان بن حازم فقَتَله.
    ثمّ برز من بعده أخوه جعفر بن عليّ ، واُمّه اُمّ البنين أيضاً ، وهو يقول :
إنّي أنا جعفر ذو المعالي حسبي بعمّي شرفاً وخالي ابن (1) عليّ الخير ذوالنوالِ أحمي حسيناً ذي الندى المفضالِ (5)
    ثمّ قاتل فرماه خوليّ الأصبحي (6) فأصاب شفيته أو عينه (7).
1 ـ بدل قوله : « وابن عمّ ... فالوصيّ الناصر » في المقتل :
صنو النبيّ ذي الرشاد السائر ما بين كلّ غائب وحاضر
2 ـ في البحار : جبينه.
3 ـ في البحار : وجزّ.
4 ـ في المقتل : نجل.
5 ـ روى هذا الرجز في المقتل هكذا :
أحمي حسيناً بالقنا العسال وبالحسام الواضح الصقال
6 ـ ذكر في تسمية مَنْ قُتل مع الحسين بن عليّ عليهما السلام : 149رقم 3 ان قاتله هانىء بن ثُبّيت الحضرمي.
7 ـ في « ح » روى سلمان الفارسي قال : كان سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام يحدّثنا كثيراً بالأشياء المغيّبات الّتي تحدث على مرور السنين والأوقات ، وانّه كان يوم الجمعة


(308)
    ثمّ برز أخوه عبد الله بن عليّ [ وأُمّه اُمّ البنين أيضاً ] (1) وهو يقول :
أنا ابن ذي النجدة والإفضال سيف رسول الله ذو النكال ذاك عليّ الخير ذو (2) الفعال في كلّ قوم ظاهر الأهوال (3)
    فقتله هانىء بن ثُبَيت الحضرمي (4).
    وكان العبّاس (5) السقّاء قمر بني هاشم صاحب لواء الحسين عليه
يخطب على منبره في مسجد الكوفة فقال في خطبته : أيّها الناس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله لاتسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة.
    قال : فقام إليه رجل فاجر فاسق ، وقال : يا عليّ ، اخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟
    فقال له الإمام عليه السلام : لقد أخبرني بسؤالك هذا ابن عمّي رسول الله صلّى الله عليه وآله ونبّأني بما سألت عنه ، وانّه على كلّ طاقة شعر من شعر رأسك ولحيتك شيطاناً يلعنك ويلعن ولدك ونسلك ، وانّ لك ولداً رجساً ملعوناً يقتل ولدي وفرخي وقرّة عيني الحسين عليه السلام ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وأنت وولدك بريئان من الايمان ، ولولا أنّ الّذي سألتني عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن حسبك فيما نبّأتك به من لعنك ورجسك وولدك الملعون الّذي يقتل ولدي ومهجة قلبي الحسين عليه السلام.
    قال : وكان له ولد صغير في ذلك الوقت ، فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحسين عليه السلام ما كان نما الصبيّ وتجبّر وتولّى قتل الحسين عليه السلام.
    وقيل : إنّ ذلك الصبي كان اسمه خوليّ بن يزيد الأصبحي ، وهو الّذي طعن الحسين عليه السلام برمحه فخرج السنان من ظهره فسقط الحسين عليه السلام على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربه. « فخر الدين صاحب مجمع البحرين » [ المنتخب : 165 ].
1 ـ من المقتل.
2 ـ في المقتل : في.
3 ـ في المقتل : وكاشف الخطوب والأهوال.
4 ـ ذكر في تسمية مَن قُتل مع الحسين بن عليّ عليهما السلام : 149 رقم 4 : رماه خوليّ بن يزيد الأصبحي بسهم ، وأجهز عليه رجل من بني تميم بن أبان بن دارم.
5 ـ ما يتعلّق بمصرع العبّاس بن عليّ عليه السلام والأرجاز نقله المؤلّف رحمه الله من


(309)
السلام ، وهو أكبر الاخوان ، مضى يطلب الماء فحملوا عليه وحمل عليهم ، وجعل يقول :
لا أرهب الموت إذا الموت رقى نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا حتى اُواري في المصاليت (1) لقى إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا
* ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى *
    ففرّقهم ، فكمن له زيد بن ورقاء (2) من وراء نخلة ، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه ، فأخذ السيف بشماله وحمل ، وهو يرتجز :
والله إن قطعتم يميني وعن إمام صادق اليقين انّي اُحامي أبداً عن ديني نجل النبيّ الطاهر الأمينِ
    فقاتل حتّى ضعف ، فكمن له الحكيم (3) بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه على شماله ، فقال :
يا نفس لا تخشي من الكفّار مع النبيّ السيّد المختار وأبشري برحمة الجبّار قد قطعوا ببغيهم يساري
فأصلِهم يا ربِّ حرَّ النار

مناقب ابن شهراشوب : 4/108.
1 ـ المصلات : الشجاع ، الماضي في الحوائج.
2 ـ الصحيح : زيد بن رقاد. انظر : تسمية مَن قتل مع الحسين بن عليّ عليهما السلام : 149 رقم 2.
3 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل والبحار : الحكم.


(310)
    فضربه ملعون بعمود من حديد فقتله ، فلمّا رآه الحسين عليه السلام صريعاً على شاطىء الفرات بكى ، وأنشأ :
تعدَّيتم شرَّ قوم ببغيكم أمّا كان خير الرسل أوصاكم بنا ؟ [ أمّا كانت الزهراء اُمّي دونكم ؟ لعنتم واُخزيتم بما قد جَنيتم وخالفتموا (1) قول (2) النبيّ محمد أمّا نحن من نجل (3) النبيّ المسدّد ؟ أمّا كان من خير البرّية أحمد ؟ ] (4) فسوف تلاقوا حرَّ نار توقّدِ
    ولمّا قُتل العبّاس قال الحسين عليه السلام : الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي.
    قال : تقدّم عليّ بن الحسين عليه السلام ، واُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة ، ورفع الحسين سبّابته (5) نحو السماء وقال : اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك صلّى الله عليه وآله ، كنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك صلّى الله عليه وآله نظرنا إلى وجهه ، اللّهمّ امنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم
1 ـ في المناقب : بفعلكم ... وخالفتم.
2 ـ في البحار : دين.
3 ـ في المناقب : نسل.
4 ـ من المناقب والبحار.
5 ـ في المقتل : شيبته.


(311)
تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا.
    ثمّ صاح الحسين بعمر بن سعد : مالك ؟ قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ثمّ رفع الحسين عليه السلام صوته وتلا : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلىَ الْعَّالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1).
    ثمّ حمل عليّ بن الحسين على القوم ، وهو يقول :
أنا عليّ بن الحسين بن عليّ والله لا يحكم فينا ابن الدعيّ أضربكم بالسيف أحمي عن أبي (3) من عصبة جدّ أبيهم النبيّ (2) أطعنكم بالرمح حتّى ينثني ضرب غلام هاشميّ علويّ
    فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ الناس من كثرة من قَتَل منهم ، وروي أنّه قتل على عطشه مائة وعشرين رجلاً ، ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة ، فقال : يا أبة ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟
1 ـ سورة آل عمران : 33 و34.
2 ـ في المقتل : نحن وبيت الله اولى بالنبيّ.
3 ـ في المقتل : حتّى يلتوي.


(312)
    فبكى الحسين عليه السلام ، وقال : يا بنيّ ، يعزّ على محمد صلّى الله عليه وآله ، وعلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وعليَّ (1) أن تدعوهم فلا يجيبوك ، وتستغيث بهم فلا يغيثوك.
    يا بنيّ ، هات لسانك ، فأخذ بلسانه فمصّه ودفع إليه خاتمه ، وقال : أمسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوّك فإنّي أرجو أنّك لا تمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً ، فرجع عليه السلام إلى القتال ، وهو يقول :
الحرب قد قامت (2) لها الحقائق والله ربّ العرش لا نفارق وظهرت من بعدها مصادق جموعكم أو تُغمد البوارق
    فلم يزل يقاتل حتّى قَتَل تمام المائتين ، ثمّ ضربه مرّة بن مُنقِذ (3) العبدي لعنه الله على مفرق رأسه ضربة صرعته ، وضربه الناس بأسيافهم ، ثمّ اعتنق عليه السلام فرسه ، فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً.
    فلمّا بغلت الروح (4) التراقي قال رافعاً صوته : يا أبتاه ، هذا جدّي رسول
1 ـ في المقتل : وعلى أبيك.
2 ـ في المقتل والبحار : بانت.
3 ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل والمقتل والبحار : منقذ بن مرّة.
    وهو مرّة بن منقذ بن النعمان الكندي. انظر : تسمية مَن قُتل مع الحسين بن عليّ عليهما السلام : 150 رقم 8.
4 ـ في المقتل : روحه.


(313)
الله صلّى الله عليه وآله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول [ لك ] (1) : العجل العجل ، فإنّ لك كأساً مذخورة حتّى تشربها الساعة.
    فصاح الحسين عليه السلام وقال : قتل الله قوماً قتلوك ، ما أجرأهم على الله (2) وعلى رسوله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول ؟! على الدنيا بعدك العَفا.
    قال حميد بن مسلم : فكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنّها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور ، وتقول : يا حبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، ويا نور عيناه ، فسألت عنها ، فقيل : هي زينب بنت عليّ عليه السلام ، وجاءت وانكبّت عليه فجاء [ إليها ] (3) الحسين فأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط ، وأقبل عليه السلام بفتيانه وقال : احملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه ، فجاءوا به حتّى وضعوه عند الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه (4).
    قال : وخرج غلام من تلك الأبنية وفي اذنيه درّتان (5) ، وهو مذعور فجعل يلتفت يميناً وشمالاً ، فحمل عليه هانىء بن ثُبَيت لعنه الله ، فقتله ، فصارت شهربانوا تنظر إليه ولا تتكلّم كالمدهوشة.
    ثمّ التفت الحسين عن يمينه فلم ير أحداً من الرجال ، والتفت [ عن ] (6)
1 و 3 ـ من المقتل.
2 ـ في البحار : الرحمن.
4 ـ في « ح » فنظر الحسين بطرفه إلى السماء وقال : اللّهمّ أنت الشاهد على القوم الّذين قتلوا أشبه الخلق بنبيّك.
والله مالي أنيس بعد فرقتكم ولا ذكرت الّذي أيد الزمان لكم إلاّ البكاء وقرع السن من ندمي إلاّ جرت أدمعي ممزوجة بدم
5 ـ في المقتل : قرطان.
6 ـ من البحار.


(314)
يساره فلم ير أحداً ، فخرج عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، وكان مريضاً لا يقدر أن يقلّ سيفه ، واُمّ كلثوم تنادي خلفه : يا بنيّ ، ارجع.
    فقال : يا عمّتاه ، ذريني اُقاتل بين يدي ابن رسول الله.
    وقال الحسين عليه السلام : يا اُمّ كلثوم ، خذيه لئلّا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد صلّى الله عليه وآله.
    ولمّا فجع الحسين عليه السلام بأهل بيته وولده ، ولم يبق غيره وغير النساء والذراري نادى : هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا ؟ [ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا ] (1) ؟ وارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدّم صلوات الله عليه إلى باب الخيمة ، فقال : ناولوني عليّاً ابني الطفل حتّى اودّعه ، فناولوه الصبيّ ، فجعل يقبّله وهو يقول : ويل لهؤلاء القوم إذا كان جدّك محمد صلّى الله عليه وآله خصمهم ، والصبيّ في حجره ، إذ رماه حرملة بن كاهل الأسديّ لعنه الله بسهم فذبحه في حجر الحسين ، فتلقّى الحسين دمه حتّى امتلأت كفّه ، ثمّ رمى به إلى السماء فما رجع منه شيء ، ثمّ قال : لا يكون أهون عليك من فصيل ، اللّهمّ إن كنتَ حبستَ عنّا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا. (2)
1 ـ من المقتل.
2 ـ في « ح » ونقل انّه لمّا قُتل العبّاس تدافعوا الرجال على الحسين عليه السلام وأصحابه ، فلمّا نظر ذلك منهم نادى بالقوم : أمّا من مجير يجيرنا ؟ أمّا من مغيث يغيثنا ؟ أمّا من طالب حقّ ينصرنا ؟ أمّا من خائف من النّار يذبّ عنّا ؟ أمّا من أحدٍ يأتينا بشربة من الماء لهذا الطفل الصغير فإنّه لا يطيق الظمأ ؟
    فقام إليه ولده الأكبر شبيه الرسول ، فقال : أنا أتيك بالماء يا سيّدي.


(315)
    ثمّ قام الحسين عليه السلام وركب فرسه وتقدّم إلى القتال ، وهو يقول :
كفر القوم وقدماً رغبوا قتل (1) القوم عليّاً وابنه حنقاً منهم وقالوا أجمعوا [ يا لقوم من اُناس رُذّل ثمّ ساروا وتواصوا كلّهم لم يخافوا الله في سفك دمي وابن سعد قد رماني عنوة لا لشيء كان منّي قبل ذا بعليّ الخير من بعد النبيّ خيرة الله من الخلق أبي فضّة قد خلصت من ذهبٍ مَن له جد كجدي في الورى عن ثواب الله ربّ الثقلين حسن الخير كريم الأبوين واحشروا الناس إلى حرب الحسين جمع الجمع لأهل الحرمين ] (2) باجتياحي لرضاء الملحدينِ لعبيد الله نسل الكافرينِ بجنود كوكوف الهاطلين (3) غير فخري بضياء النيرّين والنبيّ القرشيّ الوالدين ثمّ اُمّي فأنا ابن الخيّرين فأنا الفضّة وابن الذهبينِ أو كشيخي فأنا ابن العلمينِ

    فقال : امض بارك الله فيك.
    قال : فأخذ الركوة بيده واقتحم الشريعة وملأ الركوة فأقبل بها نحو أبيه عليه السلام وقال : الماء طلبت ، يا أبي ، اسق أخي الصغير فإنّه لا يطيق العطش ، فإن بقي شيء فصبّه عليَّ ، فإنّي والله عطشان.
    فبكى الحسين عليه السلام من قوله وأجلس ولده الصغير على فخذه وأخذ الركوة وقرّبها إلى فمه ، فلمّا همّ وأراد أن يشرب الطفل الماء أتاه سهم مسموم فوقع في حلقه فذبحه قبل أن يشرب من الماء شيئاً ، فبكى الحسين عليه السلام ورمى الركوة من يده ، الفخري مؤلّف مجمع البحرين. [ المنتخب : 443 ].
1 ـ في البحار : قتلوا.
2 ـ من البحار.
3 ـ يقال : وكف البيت بالمطر : تقاطر وسال قليلاً ، والهطل : تتابع المطر والدمع وسيلانه.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس