تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 391 ـ 405
(391)
عليهما السلام ، فصعد وبالغ في سبّ أمير المؤمنين والحسين عليهما السلام والمدح لمعاوية ويزيد.
    فصاح به عليّ بن الحسين عليه السلام : ويلك أيّها الخاطب ، اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوّء مقعدك من النار.
    ولقد أحسن من قال :
أعلى المنابر تعلنون بسبّه وبسيفه نُصبتْ لكم أعوادها ؟ (1)
    وروي : أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام لمّا سمع ما سمع من الخاطب لعنه الله قال ليزيد : اُريد أن تأذن لي أن اصعد المنبر فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضاً ولهؤلاء الجلساء أجر ، فأبى يزيد :
    فقال الناس : يا أمير المؤمنين ائذن فليصعد ، فلعلّنا نسمع منه شيئاً.
    فقال : إنّه إن صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان.
    فقيل له : وما قدر ما يحسن هذا ؟
    فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً.
    قال : فلم يزالوا به حتّى أذن له ، فصعد المنبر (2) ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ
1 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 219.
2 ـ في « ح » : حكي عن الشعبي الحافظ لكتاب الله عزّوجل أنّه قال : استدعاني الحجّاج بن يوسف يوم الأضحى فقال لي : أيّها الشيخ أيّ يوم هذا ؟ فقلت : هذا يوم الأضحى ، قال بم يتقرّب به الناس في مثل هذا اليوم ؟ فقلت : بالأضحية والصدقة وأفعال البرّ والخير.
    فقال : اعلم أنّي قد عزمت اليوم أن اضحي برجل حسيني.
    قال الشعبي : فبينما هو يخاطبي إذ سمعت من خلفي صوت لسلسلة وحديد فخشيت أن ألتفت فيستخفني ، وإذا قد مثل بين يديه رجل علوي وفي عنقه سلسلة وفي رجليه قيد من حديد ، فقال له الحجّاج : ألست فلان بن فلان ؟


(392)

    قال : نعم. فقال له : أنت القائل إنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله ؟
    قال : ما قلت وما أقول ، ولكنّي قلت وأقول : إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله وفرخاه ، وإنّهما دخلا في ظهره وخرجا من صلبه على رغم أنفك يا حجّاج.
    قال : وكان الملعون مستنداً فصار جالساً وقد اشتدّ غيضه وغضبه وانتفخت أوداجه حتّى تقطّعت أزرار بردته فدعا ببردة غيرها فلبسها ، ثمّ قال للعلويّ : يا ويلك إن لم تأتني بدليل من القرآن يدلّ على انّ الحسن والحسين ولدا رسول الله دخلا في ظهره وخرجا من صلبه وإلّا لأصلبنّك ولأقتلنّك في هذا الحين أشرّ قتلة ، وإن أتيتني بدليل يدلّ على ذلك أعطيتك هذه البدرة الّتي بيدي وخلّيتك سبيلك.
    قال الشعبي : وكنت حافظاً لكتاب الله تعالى كلّه وأعرف وعده ووعيده ، وناسخة ومنسوخه ، فلم تخطر على بالي آية تدلّ على ذلك ، فحزنت في نفسي يعزّ والله عليَّ ذهاب هذا الرجل العلوي.
قال : فابتدأ الرجل يقرأ الآية فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقطع عليه الحجّاج قراءته وقال : لعلّك تريد أن تحتج عليّ بآية المباهلة. [ وهي قوله تعالى : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) سورة آل عمران : 61 ].
    فقال العلوي : هي والله حجّة مؤكدّة معتمدة ، ولكنّي آتيك بغيرها ، ثمّ ابتدأ يقرأ : « بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيوّب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكرّيا ويحيى » [ سورة الأنعام : 84 ـ 85 ] وسكت فقال له الحجّاج : فلم لا قلت عيسى أنسيت عيسى ؟
    فقال : نعم صدقت يا حجّاج ، فبأيّ شيء دخل عيسى في صلب نوح عليه السلام [ وليس له أب ؟ فقال له الحجّاج : انّه دخل في صلب نوح ] من حيث اُمّه ، فقال العلوي : وكذلك الحسن والحسين دخلا في صلب رسول الله من اُمّها فاطمة الزهراء.
    قال : فبقي الحجّاج كأنّما أُلقي حجر في فيه.
    فقال له الحجّاج : ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان ؟ فقال العلويّ : يا حجّاج لقد ثبتت لهما الامامة بشهادة الرسول في حقّهما لأنّه قال في حقّهما : « ولداي هذان إمامان فاضلان إن قاما وإن قعدا ، تميل عليهما الأعداء فيسفكون دماءهما ويسبون حرمهما » ولقد شهد لهم النبيّ بالإمامة أيضاً فقال : « ابني هذا ـ يعني الحسين ـ إمام ابن إمام أبو أئمّة تسعة ».


(393)
خطب خبطة أبكى بها العيون ، وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال : أيّها الناس ، اُعطينا ستّاً ، وفضِّلنا ، بسبع اُعطينا : العلم ، والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمد صلّى الله عليه وآله ، ومنّا الصّديق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا خيرة (1) نساء العالمين ، ومنّا سبطا هذه الْاُمّة [ وسيّدا شباب أهل الجنّة ] (2) ، من عرفني فقد
    فقال الحجّاج : يا علويّ وكم عمر الحسين في دار الدنيا ؟
    فقال : ثماني وخمسون سنة ، فقال له : وفي أيّ يوم قتل ؟
    قال : اليوم العاشر من المحرّم بين الظهر والعصر.
    فقال : ومن قتله ؟
    فقال : يا حجّاج ، لقد جند الجنود ابن زياد بأمر اللعين يزيد لعنه الله ، فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله فقتلوا حماته وأنصاره وأطفاله وبقي فريداً ، فبينما هو يستغيث فلا يغاث ، ويستجير فلا يجار ، يطلب جرعة من الماء ليطفى بها حرّ الظمأ ، فبينما هو واقف يستغيث إلى ربّه إذ جاء سنان فطعنه بسنانه ، ورماه خولي بسهم ميشوم فوقع في لبته ، وسقط عن ظهر جواده إلى الأرض يجول في دمه ، فجاء الشمر لعنه الله فاجتزّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته ، وأخذ قميصه إسحاق الحضرمي ، وأخذ سيفه قيس النهشلي ، وأخذ بغلته حارث الكندي ، وأخذ خاتمه زيد بن ناجية الشعبي ، وأحاط القوم بخبائه ، وعاثوا في باقي أثاثه ، وأسبوا حريمه ونساءه.
    فقال الحجّاج : هكذا جرى عليهم يا علوي ، والله لو لم تأتني بهذا الدليل من القرآن وبصحة إمامتهما لأخذت الّذي فيه عيناك ، ولقد نجّاك الله تعالى ممّا عزمت عليه من قتلك ، ولكن خذ هذه البدرة لا بارك الله لك فيها ؛ فأخدها العلوي وهو يقول : هذا من عطاء ربّي وفضله لا من عطائك يا حجّاج ، ثمّ إن العلويّ بكى وجعل يقول :
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه وعلى قرابته الّذين نهضوا طلبوا الحقوق فاُبعدوا عن دارهم والطيّبون على النبيّ الناصح بالنائبات وكلّ خطب فادح وعوى عليهم كلّ كلب نائح
[ المنتخب للطريحي : 491 ـ 493 ]
1 ـ في المقتل : سيّدة.
2 ـ من المقتل.


(394)
عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
    أيّها الناس ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من اتّزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّي ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحي إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن عليّ المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا : لا إله إلا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.
    أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين, ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصّابرين ، وأفضل العالمين ، وأفضل القائمين ، من آل طه وياسين ، أنا ابن المؤيّد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفضل من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأوّل السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله وعيبة علمه.
    سمح سخيّ ، بهلول زكيّ ، مقدّم همام ، صبّار صوّام ، مهذّب قوّام ، قاطع


(395)
الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم عناناً ، وأثبتهم جناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة ، وقويت الأعنّة طحن الرحا ، ويذروهم فيها ذري الريح الهشيم.
    ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكّي مدنيّ [ أبطحي تهامي ، ] (1) خيفي عقبي ، بدريّ اُحديّ ، شجريّ مهاجري ، من العرب سيّدها ، وفي الوغا ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين [ مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ] (2) ، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.
    ثمّ قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء.
    فلم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب والأنين ، وخشي يزيد اللعين أن تكون فتنة فأمر المؤذّن ، فقال : اقطع عليه الكلام.
    فلمّا قال المؤّذن : الله أكبر الله أكبر ، قال عليه السلام : الله أكبر من كلّ شيء.
    فلمّا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال عليّ بن الحسين عليه السلام شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي.
    فلمّا قال المؤّذن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، التفت عليّ عليه السلام من فوق المنبر إلى يزيد ، فقال : محمد هذا جدّي أم جدّك ، يا يزيد ؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبتَ وكفرتَ ، وإن زعمتَ أنّه جدّي فلمَ قتلتَ عترته ؟
1 و 2 ـ من المقتل.

(396)
    قال : وفرغ المؤذّن من الأذان والاقامة ، وتقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.
    قال : وروي أنّه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود ، فقال من هذا الغلام ، يا أمير المؤمنين ؟
    قال : هو عليّ بن الحسين.
    قال : فمن الحسين ؟
    قال : ابن عليّ بن أبي طالب.
    قال : فمن اُمّه ؟
    قال : فاطمة بنت محمد.
    فقال الحبر : يا سبحان الله ! فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة ، بئسما خلفتموه في ذرّيّته ، لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننّا أنّا كنّا نعبده من دون ربّنا ، وأنتم فارقتم نبيّكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقلتموه ، سوءة لكم من اُمّة.
    قال : فأمر به يزيد فوجىء في حلقه ثلاثاً ، فقام وهو يقول : إن شئتم فاقتلوني ، وإن شئتم فذروني (1) ، فإنّي أجد في التوراة انّ من قتل ذرّيّة نبيّ لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فإذا مات أصلاه الله جهنّم وساءت مصيراً. (2)
    قال : ثمّ أمر يزيد بهم فاُنزلوا منزلاً لا يكتمهم (3) من حرٍّ ولا من برد ، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم ، وكانوا مدّة مقامهم في البلد المشار إليه
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : إن شئتم فاضربوني ، وإن شئتم فاقتلوني وتذروني.
2 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/69 ـ 71.
3 ـ في الملهوف : ولا يكنّهم.


(397)
ينوحون على الحسين عليه السلام. (1)
    وروى عن زيد بن عليّ ، [ و ] (2) عن محمد بن الحنفيّة رضي الله عنه ، عن عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه لمّا أُتي برأس الحسين إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه ، فحضر ذات يوم في مجلس يزيد رسول ملك الروم وكان من عظمائهم ، فقال : يا ملك العرب ، هذا رأس مَن ؟
    فقال يزيد : ما لكَ ولهذا الرأس ؟
    فقال : إنّي إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته فأحببت أن اُخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه حتّى نشاركك في السرور والفرح.
    قال يزيد لعنه الله : هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب.
    فقال : ومن كانت اُمّه ؟
    قال : فاطمة الزهراء.
    قال : بنت مَن ؟
    قال : بنت رسول الله.
    فقال النصرانيّ : اُفّ لك ولدينك ، ما من دين اخسّ من دينك [ اعلم ] (3) إنّي من أحفاد (4) داود ، وبيني وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظّمونني ويأخذون
1 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 219.
2 و 3 ـ من المقتل.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : حوافد ، وكذا في الموضع الآتي.


(398)
التراب من تحت قدميّ تبرّكاً به لأني من أحفاد داود ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم وما بينه وبين نبيّكم إلّا اُمّ واحدة ، فأيّ دين دينكم ؟ ثمّ قال : هل سمعت بحديث كنيسة الحافر ؟
    فقال يزيد : قل حتّى أسمع.
    قال : إن بين عمان والصين بحر مسيرة سنة ، ليس فيه عامر (1) إلّا بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين ، ما على [ وجه ] (2) الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت ، أشجارهم العود ومنهم يحمل العنبر ، وهي في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد فيها من الملوك ، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر ، في محرابها حقّة من ذهب معلّقة فيها حافر يقولون إنّه حافر حمار كان يركبه عيسى عليه السلام ، وقد زيّنوا حول الحقّة من الذهب والديباج ما لا يوصف ، في كلّ عام يقصدونها العلماء من النصارى ، يطوفون بتلك الحقّة ويقبّلونها ، ويرفعون حوائجهم إلى الله سبحانه ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار عيسى ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم ، فلا بارك الله فيكم ، ولا في دينكم.
    فقال يزيد [ لأصحابه ] (3) : اقتلوا هذا النصرانيّ ، فإنّه يفضحني إن رجع إلى بلاده فيشنّع عليَّ ، فلمّا أحسّ النصرانيّ بالقتل قال : يا يزيد ، تريد أن تقتلني ؟
    قال : نعم.
    قال : اعلم أنّي رأيت البارحة نبيّكم في المنام [ وهو ] (4) يقول لي : يا نصرانيّ ، أنت من أهل الجنّة ، فتعجّبت من كلامه ، وها أنا أشهد أن لا إله إلّا
1 ـ في المقتل : عمران.
2 و 3 و 4 ـ من المقتل.


(399)
الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، ثمّ وثب إلى رأس الحسين عليه السلام وضمّه إلى صدره ، وجعل يقبّله ويبكي حتّى قتل رحمه الله.
    وفي رواية أنّ النصرانيّ اخترط سيفه وحمل على يزيد ، فحال الخدم بينهما ، ثمّ قتل على المكان وهو يقول : الشهادة الشهادة.
    وذكر أبو مخنف انّ يزيد أمر بأن يصلب رأس الحسين عليه السلام على باب داره ، وأمر بالنسوة أن يدخلوا داره ، فلمّا دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل أبي سفيان ومعاوية (1) إلّا استقبلتهنّ بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسين عليه السلام ، وألقين ما عليهنّ من الثياب والحلل والحليّ ، وأقمن المآتم ثلاثة أيّام ، وخرجت هند بنت عبد الله بن [ عامر بن ] (2) كريز امرأة يزيد مكشوفة الرأس ، وكانت قبل ذلك تحت الحسين عليه السلام حتّى شقت الستر وهي حاسرة ، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عامّ فغطّاها ، ثمّ قال : نعم فاعولي عليه ـ يا هند ـ وابكي على ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وصريخة قريش ، عجّل عليه ابن زياد فقتله قتله الله.
    ثمّ إنّ يزيد أنزلهم في داره الخاصّة ، فما كان يتغدّى ولايتعشّى حتّى يحضر عليّ بن الحسين عليه السلام معه.
    وروي أنّه عرض عليهم المقام بدمشق ، فأبوا ذلك ، فقالوا : بل ردّنا إلى المدينة لأنّها مهاجر جدّنا.
    فقال للنعمان بن بشير : جهّز لهؤلاء بما يصلحهم ، وابعث معهم رجلاً أميناً صالحاً ، وابعث معهم خيلاً وأعواناً ، ثمّ كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : لم يبق من آل أبي سفيان ومعاوية أحد.
2 ـ من المقتل.


(400)
والأنزال ، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين فقال له : لعن الله ابن مرجانة ، أمّا والله لو كنت صاحبه ما سألني خطة إلاّ أعطيته إيّاها ، ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما قدرت ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن قضى الله ما رأيت ، فكاتبني بكل حاجة تكون لك (1) ، ثمّ أوصى بهم الرسول ، فخرج بهم الرسول يسايرهم فيكونون أمامه حيث لا يفوتوا بطرفه ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه كهيئة الحرس ، ثمّ ينزل بهم حيث أراد واحدهم الوضوء ، ويعرض عليهم حوائجهم ويتلطّف بهم حتّى دخلوا المدينة.
    قال الحارث بن كعب : قالت [ لي ] (2) فاطمة بنت علي : قلت لأُختي زينب : قد وجب علينا حقّ هذا لحسن صحبته لنا ، فهل لكِ أن نصله ؟
    قالت : والله ما لنا ما نصل به إلّا أن نعطيه حليّنا ، فأخذت سواري ودملجي وسوار اُختي ودملجها فبعثنا بها إلى الرسول واعتذرنا من قلّته ، وقلنا : هذا بعض جزائك لحسن صحبتك إيّانا.
    فقال : لو كان الّذي فعلته للدنيا لكان في بعض هذا رضاي ، ولكن والله ما فعلته إلّا لله ولقرابتكم من رسول الله صلّى الله عليه وآله. (3)
    وآقول : لعن الله يزيد وأباه ، وجدّيه وأخاه ، ومن تابعه وولّاه ، بينا هو ينكت ثنايا الحسين ويتمثّل بشعر ابن الزبعرى : يا غراب البين ما شئت فقل ، إلى آخره ، واغلاظه لزينب بنت عليّ بالكلام السيّء لمّا سأله الشامي ، وقال : هب لي هذه الجارية ـ يعني فاطمة بنت الحسين عليه السلام ـ ،
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فكاتبني وأنّه إلى كلّ حاجة تكون لك.
2 ـ من المقتل.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/72 ـ 75 ، عنه البحار : 45/142 ـ 145.


(401)
وقوله لعليّ بن الحسين عليه السلام : أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين ، فالحمد لله الّذي قتلهما وسفك دماءهما ، وإنّ أباك قطع رحمي ، وجهل حقّي ونازعني سلطاني ، إلى آخر كلامه كما أشرنا إليه من قبل ، ونصب رأس الحسين عليه السلام عليه السلام على باب القرية الظالم أهلها ـ أعني بلدة دمشق ـ وإيقافه ذرّيّة الرسول على درج المسجد كسبايا الترك والخزرج ، ثمّ إنزاله إيّاهم في دار لا يكنّهم (1) من حرّ ولا قرّ حتّى تقشّرت وجوههم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأمر خطيبه أن يرقى المنبر ويخبر الناس بمساوىء أمير المؤمنين ومساوىء الحسين عليهما السلام وأمثال ذلك ، ثمّ هو يلعن ابن زياد ويتبرى من فعله وينتصل من صنعه ، وهل فعل اللعين ما فعل إلّا بأمره وتحذيره من مخالفته ؟ وهل سفك اللعين دماء أهل البيت إلّا بإرغابه وإرهابه له بقوله ، ومراسلته بالكتاب الّذي ولّاه فيه الكوفة وجمع له بينها وبين البصرة الّذي ذكرنا لما وصل إليه الخبر بتوجّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة وحثّه فيه على قتله ، وأمره له بإقامة الارصاد وحفظ المسالك على الحسين ، وقوله لابن زياد في كتابه : إنّه قد ابتلى زمانك بالحسين من بين الأزمان ، وفي هذه الكرّة يعتق أو يكون رقّاً عبداً كما تعبد العبيد فاحبس على التهمة واقتل على الظنّة ، الوحا الوحا ، العجل العجل ـ كما ذكرنا أوّلاً ـ.
    وإنّما أظهر اللعين التبرّي من فعل ابن زياد لعنه الله خوفاً من الفتنة وتمويهاً على العامّة لأنّ أكثر الناس في جميع الآفاق والأصقاع أنكروا فعله الشنيع وصنعه الفضيع ، ولم يكونوا راضين بفعله وما صدر عنه خصوصاً من كان حيّاً من الصحابة والتابعين في زمنه كسهل بن سعد الساعدي والمنهال بن عمرو
1 ـ لا يصونهم ـ خ ل ـ.

(402)
والنعمان بن بشير وأبي برزة الأسلمي ممّن سمع ورأى إكرام الرسول صلّى الله عليه وآله له ولأخيه ، وكذلك جميع أرباب الملل المختلفة من اليهود والنصارى ، وناهيك مقال حبر اليهود ورسول ملك الروم لما شاهداه وهو ينكث ثنايا الحسين عليه السلام بالقضيب ـ كما ذكر ـ ولم يكن أحد من المسلمين في جميع البلاد راض بفعله إلّا من استحكم النفاق في قلبه من شيعة آل أبي سفيان ، بل كان أكثر أهل بيته ونسائه وبني عمّه غير راضين بذلك.
    روي أنّ عبد الرحمان بن الحكم أخو مروان بن الحكم كان حاضراً عند يزيد لمّا وضع رأس الحسين عليه السلام بين يديه وعرضت عليه سبايا رسول الله صلّى الله عليه وآله فجعل عبد الرحمان يقول :
لهام بجنب الطفّ أدنى قرابة سميّة أمسى نسلها عدد الحصى من ابن زياد العبد ذي النسب (1) الوغل وبنت رسول الله ليست بذي نسل (2)
    فقال له يزيد : سبحان الله ! أفي مثل هذا الموضع تتكلّم بهذا ؟ أمّا يسعك السكوت ؟ (3)
    وروي أنّه لمّا وضع رأس الحسين بين يدي يزيد فجعل ينكث ثنايا الحسين بالقضيب ويقول : لقد كان أبو عبد الله حسن المضحك ، فأقبل إليه أبو برزة صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان حاضراً في مجلسه ، وقال :
1 ـ في المناقب : الحسب.
2 ـ في المناقب : أمست بلا نسل.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/114. وفيه : يحيى بن الحكم.


(403)
ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين ؟ لقد أخذ قضيبك هذا من ثغره مأخذاً ، أشهد لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : إنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، قتل الله قاتلكما ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً ، أمّا أنت يا يزيد لتجيء يوم القيامة وعبيدالله بن زياد شفيقك ، ويجي هذا وشفيقه محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فاُخرج سحباً.
    وقيل : إنّ سمرة بن جندب صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا رأى يزيد يقلّب ثنايا الحسين عليه السلام قال : يا يزيد ، قطع الله يدك ارفع قضيبك ، فطال ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله يلثم هاتين الشفتين ، ولم يكن أحد من أكثر الناس في جميع الآفاق راضياً بفعله فلذلك أبدى الاعتذار ، وركن إلى الانكار ، خوفاً أن يفتق عليه فتق لا يرتق ، وأن ينفتح عليه باب من الشرّ لا يغلق ، فاعتذر وأنّى له الاعتذار ، ولم يكن له موافقاً على فعله وكفره إلّا أهل القرية الظالم أهلها ـ أعني شبيهة سدوم المؤتفكة ، والطائفة الجاهلة المشركة أهل بلدة دمشق الشام فإنّهم ارتضعوا ثدي النفاق (1) من أخلاف أسلافهم ،
1 ـ في « ح » :
    روي أنّ اُمّ الحجّاج بن يوسف قاتل السادات والحجّاج ولدته مشوّهاً لا دبر له فاثقب له دبر ، وأبي أن يقبل الثدي من اُمّه وغيرها فأعياهم أمره.
    وفي الحديث انّ إبليس تصوّر لهم بصورة حارث بن كلدة زوج اُمّه الأوّل ، فقال : اذبحوا له تيساً والعقوه من دمه ، واطلوا به وجهه وبدنه كلّه ، ففعلوا به ذلك فقبل الثدي ، فلهذا لا يقدر يصبر عن سفك الدماء ، وكان ... لذاته سفك الدم وارتكاب اُمور لا يقدر عليها غيره ، واحصر من قتل بأمره سوى من قتل في حروبه فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً ، ووجد في سجنه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف مرأة لم يجب على أحد منهم حدّ ولا قطع ، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد ؛ وقيل لو جاءت كلّ اُمّة بفساقها وخبيثها وجي بالحجّاج وحده لزاد عليهم كفراً ونفاقاً. انتهى


(404)
وجبلت على بغض أهل البيت طينتهم.
    ولقد اُلقي على لساني من فيض فكري وجناني كلمات قصدتهم فيها بلعني وزجري ، ووجّهت إليهم مطايا ذمّي في نثري ، وأشرت إليهم بتعنيفي ، وخاطبتهم بتأفيفي ، أبعدهم الله من رحمته ، وأحلّ بهم أليم عقوبته.
    أيّها الأُمّة المغرورة برتبة دنياها ، الكفورة بنعمة مولاها ، المنكرة معادها ومبدأها ، المنهمكة بطغواها في غيّها ، المارقة بسعيها وبغيها ، الجاحدة نصّ نبيّها ، المنكرة فضل وليّها ، السالكة نهج شركها ، الحائرة في ظلمة شكّها.
    يا أتباع أحزاب الشيطان ، ويا نصّاب أنصاب الأوثان ، ويا شيعة آل أبي سفيان ، ويا صحبة الشجرة الملعونة في القرآن ، يا من لم يؤمنوا منذ كفروا ، ولم يؤتمنوا منذ غدروا ، ألمع لهم شراب الباطل فوردوه ، وظنّوه شراباً فلم يجدوه ، ونعق بهم ناعق الظلم فأطاعوه ، وبرق لهم بارق البغي فاتّبعوه ، ولمع لهم علم الضلالة فأمّوه ، وبدا لهم طريق الجهالة فسلكوه ، لما كذبهم رائدهم ، وأضلّهم قائدهم ، أردتهم آراؤهم ، وقادتهم أهواؤهم ، إلى النّار الموصدة ، والعمد الممدّدة ، لا جرم من كان ابن الباغية دليله ، ونجل النابغة قبيله ، كان جزاؤه من عذاب الله جزاء موفوراً ، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً.
    ويلكم ألم يأتكم نبأ الّذين راموا محق شمس الاسلام في احدهم وبدرهم ، وإطفاء مصابيح الايمان بأحزابهم وقهرهم ؟ ألم يكونوا لقائدكم آباء ولنبيّكم أعداء ؟ أليست اُمّه آكلة أكباد الصدّيقين ؟ أليس أبوه قائد أحزاب المشركين ؟ الّذي لعنه وآباه وابنه الرسول الصادق في قوله صلّى الله عليه وآله : اللّهمّ العن الراكب والقائد والسائق ؟ أليست عمّته حمّالة الحطب الّتي تبَّ الله يدها ويد بعلها أبي لهب ؟ يا ويلكم أضلّكم الشيطان فأزلّكم ، وزين لكم بغروره


(405)
سوء عملكم ، توادّون من حادّ الله ورسوله ، وتتّبعون من كان الشيطان قائده ودليله ، لا يشكّ في كفركم إلّا كافر ، ولا يرتاب في فجوركم إلّا فاجر ، أيصلب رأس ابن نبيّكم على باب جامعكم ، ويسبّ صنو رسولكم في مجامعكم ، وتساق نساؤه وبناته إلى يزيدكم ، ويقمن مقام الخزرج والترك على باب يزيدكم ؟
    لا منكر منكم ينكر بلسانه وقلبه ، ولا متقرّب يتقرّب بسترهم إلى ربّه ، فأنتم قبل الفتح خير منكم بعده ، وآباؤكم الهالكون على الكفر أفضل منكم يا أهل الردّة ، أزنى من قوط لوط أمتكم ، وأشأم من سدوم قريتكم ، زنوة الفسوق ، وجبهة العقوق ، ومنزل الشيطان ، ومعدن البهتان ، تأتون الذكران من رجالكم ، وتذرون ما خلق لكم ربّكم من أزواجكم ، الابنة فاشية في أبنائكم ، والغلمة ناشئة في نسائكم ، أورثكم ذلك بغض وصيّ نبيّكم ، وسبّكم له على منابركم بكفركم وغيكم ، آه لو أنّ لي بكم قوّة يا بني الزواني ، أو آوي إلى ركن شديد من أشباهي وإخواني ، لاُصلينّكم في الدنيا قبل الآخرة ناراً ، ولغادرتكم رماداً مستطاراً ، ولمحوت آثاركم ، ولقطعت أخباركم ، ولعجلّت بواركم ، ولهتكت أستاركم ، ولقضيت بصلب قضاتكم ، وحرب عتاتكم ، وسبي نسائكم ، وذبح أبنائكم ، وقطع غراسكم ، وقلع أساسكم.
    يا أهل المؤتفكة ، يا أتباع الطائفة المشركة ، والله ما نظرتم حيث نظر الله ، ولا اخترتم من اختار الله ، ولا واليتم من والى الله ، ولم تزالوا أتباع العصابة المفتونة ، والشجرة الملعونة ، تدحضون الحقّ بأيديكم وألسنتكم ، وتنصرون الباطل في سرّكم وعلانيتكم ، كم زينتم صفوفكم بصفين ؟ وكم قتلتم أعلام المهاجرين الأوّلين ؟ لما جبيت على بغض الوصيّ جوانح أضلاعكم ، وأعلنتم
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس