تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 406 ـ 420
(406)
بسبّه في جوامعكم ومجامعكم ، قامت سوق النفاق في الآفاق ، وعلت كلمة الشقاق على الاطلاق ، وصار وليّ أمركم وسبيل كفركم يزيد القرود ، ويزيد اليهود ، ويزيد الخمور ، ويزيد الفجور.
    يا ويلكم أيقرع ثغر ابن النبيّ بمرأى منكم ؟ أيطاف ببناته ونسائه في شوارعكم ؟ فأبعد بكم وبما صدر عنكم ، رماكم الله بذلّ شامل ، وعدوٍّ قاتل ، وسيف قاطع ، وعذاب واقع ، ليس له من الله من دافع.
    ويحكم أتتّخذون يوم مصاب نبيّكم بولده عيداً ، وانّ بوار رهطه موسماً جديداً ، وتظهرون فيه تمام زينتكم ، وتعدّونه رأس سنتكم ؟ فاُقسم بالله الّذي جعل لكم الأرض قراراً ، والسماء بناءً ، لأنتم أشرّ من اليهود والنصارى ، أسأل الله أن يرمي دمشق شامكم ، ومحلّ طغاتكم ، وبيت أصنامكم ، ومقرّ أنصابكم وأزلامكم ، بالموت الذريع ، والأخذ السريع ، والقحط الفضيع ، والظلم الشنيع ، حتّى تصيروا حصيداً خامدين ، ومواتاً جامدين ، وعباديد في الأقطار ، ومتفرقين في الأمصار ، أن يطمس على أموالكم ، ويشدّد على قلوبكم ، فلا تؤمنوا حتّى تروا العذاب الأليم تريدون أن تخرجوا من النّار وما أنتم بخارجين ولكم عذاب مقيم.
    وسأختم هذا المجلس بقصيدة تنبىء عن خالص ودادي ، ومُصاص اعتقادي ، وطويل أحزاني ومديد أشجاني ، ومحتث منامي ، ووافر كربي وهيامي ، في مدح من هدت مصيبته أركان أفراحي ومسرّاتي ، وشيّدت واقعته قواعد أحزاني وكرباتي ، وقلّدت جند خدّي عقيقاً من عبراتي ، وأضرمت في أحشائي حريقاً من زفراتي ، أعني من جعل الله قلبي لحبّه وحبّ أهل بيته مسكناً ، ولولائه وولاء آبائه وأبنائه موطناً ، ولساني على مدحهم موقوفاً ،


(407)
وشكري إلى كعبة جودهم مصروفاً.
    سيّدي وابن سادتي ، وقائدي وابن قادتي ، أشرف من ارتدى بالمجد وأنور ، وأفضل من عرف بالفخر واشتهر ، سبط نبيّي ، ورهط وليّي ، ونجل سيّدتي ، ووالد سادتي ، وغناي يوم فقري وحاجتي ، وغياثي إذا انقطعت من الدنيا وصلتي ، سيّد الكونين وابن سادة الكونين ، وإمام الثقلين وأب أئمّة الثقلين ، المنزّه عن كلّ رجس ودين ، مولاي وسيّدي أبي عبد الله الحسين ، عليه من صلواتي ما نما وزكا ، ومن تحيّاتي ما صفا وضفا ، جعلها الله حجاباً من أليم عذابه ، وستراً من وخيم عقابه ، وهي هذه :
الفت فؤادي بعدكم أحزاني يا من لهم منّي بقلبي منزل أنا واحد في حبّكم لم يثنن أوقفت مدحي خالصاً لجلالكم هدّت مصيبتكم وما فيكم جرا فلأبكينّكم بدمع فيضه ولأضربنّ بمهجتي لمصابكم أاُلاُم إن أرسلت نحو جمالكم أو أرسلت عيني لفرط صبابتي وبكم معادي إن عرتني أزمة وبكم اُرجّي فرحة يوماً به وكذلك في قبري إذا اُجلست في وبيوم حشري لا أرى لي منقذاً لما جفا طيب الكرى أجفاني ضمّت عليه جوانحي وجناني حتّى مماتي عن هواكم ثاني وعلى مراثيكم وقف لساني ممّن جرا في كفره أركاني بزري بصور العارض الهتّان ناراً تذيب الطود من أشجاني من منطقي نظماً جاه بياني دمع يمازجه نجيع قاني بقوارع من طارق الحدثان اءُميت أو اُلَفُّ في أكفاني ظلماته وسئلت عن إيماني إلّا ولاءكم لدى الرحمن


(408)
وصفاءَ ودٍّ لا يشاب بشبهةٍ وأراكم من بعد أفضل مرسل وأباكم ذا المجد أشرف من مشى قصّام أبطال الحروب وكاسر ال‍ وأخ الرسول وصنوه ووصيّه ما من نبيّ مرسل كلّا ولا ألا وفضل أبيكم من فضلهم يا خير من في الله وفّي مخلصاً يا من عناه المصطفى والمرتضى يا ابن الأباطح والمشاعر والصفا يا خامساً لذوي الكسا فصبغ ما ومشير رأسك بالدما مخضّباً وأذاب قلبي ثمّ صَعّده دماً لنسائك اللاتي يسقن حواسراً ولقتل اُسرتك الّتي جادت بأن‍ وكذلك من جعلوا وجوههم وقى أضحوا بعرصة كربلاء صرعى وأم‍ في جنّة يسقون من بعد الظما من سلسبيل في منازل جنّة يا راكباً يطوي الفلاء بجسرة عج بالطفوف مقبلاً أزكى ترى سبط النبيّ وخامس الأشباح وال‍ مقرونة بوساوس الشيطان خير الورى من نازح أو دان فوق الثرى من إنسها والجان ‍أصنام يوم الفتح والأوثان ونديده في الفضل والإحسان ملك رقى بالقرب خير مكان ما آن له يوم التفاضل ثاني بجهاده في السرّ والاعلان والطهر فاطم خيرة النسوان والبيت ذي الأستار والأركان لاقيته ثوب السقام كساني منه المشيب على سنان سنان من مقلتي كالسيل في الجريان يسترن أوجههنّ بالأردان ‍فسها عليك كمسلم مع هاني لك من سهام عصابة البهتان ‍سوا في نعيم دائم وأمان فيها كؤوساً من يد الولدان محفوفة بالرَّوح والريحان كالدال في بَيْدٍ بغير توان من حبّه فرض على الأعيان ‍مخصوص بالتطهير في الفرقان


(409)
هدموا بمقتله الطغاة قواعد ال‍ أبلغه عنّي من سلامي ما زكا من فرط أحزاني لما لاقاه من قوم بأنعم ربّهم كفروا فكم في حرب خير المرسلين ورهطه وعليه في بدر واُحد واجلبوا وجرت صفوفهم بصفّين على حتى إذا أكلتهم الحرب الّتي وعليهم زأرت اُسود هريرها داموا فراراً حين صاروا طعمة ورأوا دماء حماتهم مذ أصبحوا رفعوا المصاحف حيلة وخديعة كفروا بأنعم ربّهم فغدوا لما وعلى ابن هند عجلهم عكفوه ك‍ تركوا أخصّ العالمين برتبة ال‍ وبنصّ أفضل مرسل ومبلّغ وبنوا معالم دينهم جهلاً على فأضلّ اُمّة أحمد بريائه وأشار بالشورى فعاد الجور من‍ حتى إذا ما قام ثالثهم وحا جعل العتلّ زمامه بيد العتي‍ وغدا لمال الله يفرس جاهداً ‍اسلام والأحكام والإيمان واخبره عمّا ساءني ودهاني عصب الضلالة من بني سفيان قصدوا نبيّ الله بالشنئان ؟ بذلوا عناداً غاية الامكان بمضمر ومهنّد وسنان نهج الاُلى سلفوا اُولي الطغيان يروى مواقعها مدى الأزمانِ لمّا التقى في جنحها الجمعانِ فيها لكلّ مهنّد ويمانِ فوق الصعيد كمفعم الغدران مذ آل أمرهم إلى الخسرانِ فعلوه بغياً حمة النيرانِ قوم السامريّ الغادر الخوّانِ ‍هادي البشير بشاهد القرآنِ وبحجّة من ساطع البرهانِ ابن قحّافهم ثمّ العتلّ الثاني واسامها في مرتع البهتانِ ‍ه مكمّلاً والعدل في نقصانِ نثهم وناكثهم فتى عفّان ‍د ابن الطريد حميمه مروانِ كالذئب عاث بثلّة من ضأن


(410)
حتّى إذا غمر الأنام بظلمه أردته بطنته فأصبح جارعاً حتّى إذا قام الوصيّ بعده قصدته راكبة البعير بفتنة حتّى إذا الحرب العوان تحكمّت صارا طعام عوامل ومناصل جاءا لنصر عصابة الشيطان فاخ‍ يا فرقة نكثت عهود نبيّها يا جند راكبة البعير ومن عصت وأتت من البلد الحرام وقلبها حتّى إذا صارت حماة بعيرها أبدت خضوعاً واستقالت عثرة صفح الكريم بحلمه عنها وأف‍ وأعادها كرماً فعادت وهي ذو لما اطمأنّت دارها قفلت إلى واستنفرته فسار بالجيش الّذي فهي الّتي جعلت ضرام وقودها لمّا أتت بقميص عثمان علي‍ دارت رحاء الحرب واشتبك القنا والله ما خذل الوصيّ وقتله إلّا لها فيه نصيب وافر وكذاك قتل ابن الرسول ورهطه وتبرّمت من حكمه الثقلان كأس المنيّة واهي الأركانِ لله لا نكس ولا متوان يذكي ضرام سعيرها رجسانِ بوقودها من أنفس الشجعان للعكس قد نأيا عن الأوطانِ ‍ترما ببطش عصابة الرحمن وأتت بكلّ منافق فتّان بالبغي أمر الحاكم الديّانَ يغلي بنار الحقد والأضغانِ قوتاً لزائرها من السيدانِ واستسلمت بالذّل والإذعانِ ‍رشها مهاد تحنّنٍ وأمانِ عقل لفادح هولها ولهانِ نحو ابن هند ذا حشاً ملآن راياته نصبت على البهتان أجساد قادتها من الفرسان ‍ه نجيعه كالأرجوان القاني من سعيها واستقتل الجيشانِ متبتلاً في طاعة المنان ولسان باغ غادر ويدان دوح الفخار وأشرف الأفنانِ


(411)
لم أنسها يوم الزكي وقد غدت آليت ألّا تدفنوا في منزلي يا بن أرذل تيم مرّة خادم ال‍ هذي الشجاعة من أبيك بخيبر يا آل أحمد إن جزعت لثابت حزني عليكم سرمداً لا ينقضي كم ناصب علم الأذيّة لي بكم ويلسمني وقراً إذا ما ضلّ عن عن جاحدي نصّ الغدير وغاصبي ستّ النساء وبنت أكرم مرسل يا من مصابهم جميع مصائب ال‍ أنتم عياذي والّذي أرجوهم وبكم اُرجّي يوم حشري زلفة وإليه أفزع من عدوٍّ كاشح إن يعدني عدوّاً عليه يرى لها ويصدّه عنّي بذلّ شامل أو أن تصبّرني على ما حلّ بي ثمّ الصلاة عليكم ما غرّدت أو حرّكت ريح الصباء صاعداً بالقول تنفث نفقة الثعبان من لستُ أهواه ولا يهواني ‍تيمي نجل زعيمهم جدعان جاءتك ترقل رقلة الفحلان في الناس غيركم فما أشقاني ما شبّه في القلب بالسلوانِ أمسى للعن عدوّكم يلحاني لعن الطواغيت الاُلى ينهاني فدكاً من الزهراء ذات الشانِ شرفت برفعته بنو عدنانِ ‍دنيا وفادح خطبها أنساني حصناً إذا الخطب الجسيم دهاني من خالقي بالعفو والغفرانِ بالبغي يقصدني وبالعدوان متسربلاً بالخزي ثوب هوان ليكون معتبراً لمن ناواني من حمقه وأضرّ بي ودهاني ورقاء في دوح على الأغصانِ ناء عن الأوطان والخلّانِ


(412)

(413)
المجلس التاسع
مفتتحاً بالتعزية الّتي وسمتها ب‍ ( مجرية العبرة ومحزنة
العترة ) قلتها بإذن الله ، وتلوتها يوم التاسع في شهر
المحرّم الحرام على المنبر في جمع لا يحصى كثرة أجريت
بها عيون المؤمنين ، وأحزنت قلوب المتّقين ، وأخزيت من
رام هظمي من الشانئين تجاه ضريحه الشريف ، ومقامه
المنيف ، متقرّباً بذلك إلى الله ربّ العالمين ، ونبيّه الأمين ،
ووليّه سيّد الوصيّين ، وآلهم الأئمّة الطاهرين.

    الحمد للهِ الّذي نوّر قلوب أوليائه بأنوار معرفته ، وأظهر نفوس أصفيائه على أسرار حكمته ، واختبرهم بالتكاليف الشّاقة من حكمه لينالوا الزلفى من رحمته ، وامتحنهم بالمحن السابقة في علمه ، ليصلوا بها إلى جوار حضرته ، وابتلى عباده بفرض مودّتهم وجعلها ثمن جنّته ، وألزمهم بالتزام عروة عصمتهم وقرن طاعتهم بطاعته ، فمن امتثل أمر الله بإخلاص ودّه لهم في سرّه وعلانيته ، واستمسك بحبل ولائهم واعتقده سبباً منجياً في دنياه وآخرته ، فقد استمسك بالعروة الوثقى من عفو ربّه ومغفرته ، وفاز بالسعادة العظمى يوم فقره وفاقته ، ومن أخذ ذات اليمين وذات الشمال في معتقده ونحلته ، واتّبع غير سبيل


(414)
المؤمنين فيما ينظر من خبث سريرته ، ولّاه الله ما تولّى وأحلّ به نكال عقوبته.
    نحمده على ما وفّقنا له من عرفان حقّهم ، والإقرار بفضلهم وصدقهم ، والإستمساك بعروة عصمتهم ، والإلتزام بحبل مودّتهم ، وتضليل من خالفهم بقوله وفعله ، وتكفير من أجلب عليهم بخيله ورجله ، والبراءة ممّن تقدّمهم غاصباً ، وتحلّى بغير اسمه كاذباً ، ولعن من نصب لهم العداوة والبغضاء علانية وسرّاً ، وتخطئة من ردّ مقالهم خفيةً وجهراً.
    ونشكره إذ جعلنا من فضل طينتهم ، وغذانا بلبان مودّتهم ، وجعلنا من ورق شجرتهم ، وأسكن قلوبنا لذّة معرفتهم ، حبّنا إيّاهم دليل على طهارة مولدنا ، وبغضنا أعداءهم سبيل إلى إخلاص ودّنا في معتقدنا.
    نحمده على هذه النعمة الجسيمة ، والمنّة الوسيمة ، اللاتي جهل الأشقياء عرفان قدرها ، وقصر البلغاء عن تأدية شكرها ، ونشهد أن لا إله إلّا الله شهادة توافق بها قلوبنا ألسنتنا ، ويوافق بها سرّنا علانيتنا ، ونشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله الأمين ، وحبله المتين ، وصراطه المستقيم ، ونهجه القويم ، صدع بالحقّ ناطقاً ، وخبّر عن الله صادقاً ، تمّم الله به الرسالة ، وأيد بالمعجز مقاله ، واختاره حاكماً بأمره ، وموضعاً لسرّه ، وشرّفه بالاسراء إلى حضيرة قدسه ، وجعل خطابه إيّاه ليلة المعراج اُنساً وشرفاً لنفسه ، فهو أصل الشرف وفرعه ، وبصر المجد وسمعه.
    سرّة البطحاء مغرس أصله ، ومنكب الجوزاء مركب فضله ، أروقة المفاخر على هامة عظمته مضروبة ، وألوية المآثر على رفعة حضرته منصوبة ، وظلال الشرف تتفيّؤ على جلال نبوّته ، وحلال الكرم وقف على رتبته.
    سلالة طود العلم فمنه تفجّرت عيونه ، ودوح المجد فعليه تهدّلت


(415)
غصونه ، أعرض عن الدنيا صفحاً ، وطوى عنها كشحاً ، وشمرّ عنها ذيلاً ، ولم يرزء منها كثيراً ولا قليلاً ، تحبّبت إليه فأبغض ، وتشوّقت نحوه فرفض ، وتعرّضت به فأعرض ، وعلى نفسه وخاصّته تركها أوجب وفرض ، ولأدلّتها نقض ، ولحججها أدحض ، ولم يزل صلوات الله عليه يحذّر غرورها ، ويخوّف زورها ، حتّى نصبت له الغوائل ، وأصمّت منه المقاتل ، وآذته في أهله واُسرته ، وأغرت سفهاءها بنيه وعترته ، وغادرتهم بين قتيل ومطلول ، وأسير مخذول ، وطريد مشرّد ، ومسجون مصفّد ، تساق نساؤهم اُسارى ، على الأقتاب حيارى ، بغير نقاب ولا جلباب ، يطاف بهنّ في البلاد ، ويتشرّفهنّ الحاضر والباد ، فلو أنّ عيناً بعدها كفت لعظيم ما وكفت ، ونفساً تلفت لفرط ما تلهّفت ، وقلب انقطع بسيوف الحزن غمّاً ، وروحاً فارقت جسدها كرباً وهمّاً ، لم يكونوا في شرح الحقيقة ملومين ، ولا بين أرباب الطريقة مذمومين ؟
    فتفكرّوا في نبيّكم ووليّكم ، وانّهما الّذين هم الوسيلة لكم إلى ربّكم ، كيف تجرّأت لقتالهم بقايا الأحزاب ، وتكالبت على استئصالهم أبناء الكلاب ، وجرّدت عليهم من مناصلها وعواملها ، وفوّقت نحوهم سهامها ومعابلها ، هذا خاتم النبيّين وسيّدالمرسلين إمام الدين ، وقائد الخير ونبيّ الرحمة ، وشفيع الاُمّة ، صاحب الحوض والكوثر ، والناتج والمغفر ، والخطبة والمنبر ، والركن والمشعر ، والوجه الأنور ، والجبين الأزهر ، والدين الأظهر ، والنسب الأطهر ، محمد سيّد البشر ، الّذي لا يسامي في الفضل ، ولا يساوي في المجد ، ولا يجاري في حلبة الفخر ، ولا يضاهى في رفعة القدر.
    السبع الطباق ميدان سباقه ، وسدرة المنتهى غاية براقة ، و ( سُبْحَانَ


(416)
الّذي أسْرَى ) (1) حظو الرهان ، ( فَأوْحَى إلَى عَبْدِهِ ما أوْحَى ) (2) خلعة المليك السلطان ، ووضع له كرسيّ الكرامة في عالم الملكوت الأعلى ، ونصب لأخمصه منبر الزعامة فوق طرائق السبع العلى ، حتّى رقى بقدم الصدق إلى أعلى مراقي الشرف ، ونطق بلسان الحقّ في ذلك المقام المشرّف ، فخوطب في سرائره ، ونودي في ضمائره : يا من أطلعته على سرّي المصون ، وأيّدته بكلامي المخزون ( قُلْ يَا أيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الّذي لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إلَّا هُوَ يُحْيي وَيُمِيُت فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبيِّ الاُمِّيِّ الّذي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لِعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (3) فصدع بها ناطقاً ، وأعلن بها صادقاً ، فعندها جرى قلم القدرة على لوح المشيئة بيد المشيئة لرقم منشور نبوّته ، واثبت أرباب ديوان الصفيح الأعلى على قرطاس الشرف مسطور عموم ولايته.
    الابتداء : ( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلي إنَّ اللهَ قَويٌّ عَزِيزٌ ) (4) الانتهاء : ( ادْعُ إلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (5) باللفظ الوجيز.
    لمّا علم قيّوم الملكوت تسدّده في ذاته وإخلاصه ختم بيد العظمة والقدرة مرقوم ولايته بمهر الخاصّة ، وأشهد على ذلك رهبان صوامع العالم الأقدس ، وأمرهم بالتمسك في مقام الخدمة في ذلك المقام المقدّس ، جبرئيل عن يمينه يعضده ، وميكائيل عن يساره يمجّده.
1 ـ سورة الاسراء : 1.
2 ـ سورة النجم : 10.
3 ـ سورة الأعراف : 158.
4 ـ سورة المجادلة : 21.
5 ـ سورة النحل : 125.


(417)
    ولمّا وضع تاج الكرامة على همّته ، واُفرغت خلع العصمة على أعطاف نبّوته ، أثبت الكرام الكاتبون نسخة الميسور في رقّ منشور ، متّصل الثبوت إلى يوم النشور ، يفخر اللوح المحفوظ بتقريره ، ويزهر الكتاب المسطور بمسطوره ، وتشرق السموات السبع بنوره ، ويخضل كلّ أمير لشرف أميره ، اُعيد إلى قراره من البلد الحرام ، بعد أخذ ميثاق ولايته على الخاصّ والعامّ ، الروحانيّون يتألمّون لفراقه ، والكرّوبيّون مكتنفوا براقه ، وجبرائيل آخذ بركابه ، وميكائيل غاشيه دار جنابه ، قد نشرت أعلام الفخر عليه ، وسلّمت مقاليد الجنّة والنار إليه ، وجعل مدار أمر الدنيا والآخرة في قبضة حكمه ، وعلوم الأوّلين والآخرين كالقطرة في بحر علمه.
    فما عسى أن أقول في وصف من « لولاك لما خلقت الأفلاك » حلّة نبّوته ، والسفرة الكرام البررة من الأملاك ملازموا حضرته ، وسمّوه بعزل السماك الأعزل سمو عن مقام رفعته ، وعلوّه يتبدّل انباك المجرّة علو بعالي همّته ، به قوام العالم ، وله مقام السلطنة على بنى آدم ، ناقل كلّ مجد رفيع مجده ، ويخضع كلّ شريف لشرف جدّه ، ويفخر الخليل بنبوّته ، وتشمّخ جبريل بنبوّته ، وتفضّل إسماعيل على إسرائيل بوصلته ، ويمنّ اللطيف الخبير على الجمّ الغفير من خلقه ببعثته.
    البائع نفسه من خالقه ، الواضع سيفه على عاتقه ، تلوذ الأبطال بجانبه إذا حمي الوطيس ، وتعوذ الرجال بشجاعته إذا التقى الخميس بالخميس ، سل عنه بدراً واُحداً إذا اُنزلت الملائكة المتوّجون له جنداً.
    لمّا قام داعياً إلى الله على بصيرة من أمره ، مخلصاً في جهاد أعداء الله في علانيته وسرّه ، قاطعاً في الله الأقربين من اُولى أرحامه ، واصلاً للأبعدين بآلائه


(418)
وإنعامه ، تألّبت على قتاله أحزاب الشيطان ، وتكتّبت لاستئصاله كتائب البهتان ، وخلعت العرب أعنّة الطاعة لأمره ، ورامت خفض ما رفع إليه من قدره ، وهدِّ ما شدّ من أركانه ، وهدم ما اُسّس من بنيانه ، وإدحاض ما أوضح من حجّته ، وإخفاء ما بيّن من أدلّته ، وأبى الله إلّا أن ينصر دينه ، ويؤيّد نبيّه وأمينه.
    ولم يزل صلّى الله عليه وآله مجاهداً صابراً يتلقّى حدود الصفاح بشريف طلعته ، ويقابل رؤوس الرماح بزاهر بهجته ، ويذلّ بشدّة بأسه كلّ متكبّر جبّار ، ويفلّ بشباء سيفه كلّ متغلّب ختّار ، يباشر بنفسه الحتوف ، ويتلقى بوجهه السيوف ، حتّى كسرت في اُحد رباعيته ، وشجّت لمناوشته القتال جبهته ، وقتل في بدر واُحد وحنين أهله واُسرته ، لم يثنه ثانٍ عن نصرة دين الله ، ولم يكن له في الخلق ثان في جهاد أعداء الله.
    قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه. (1)
    ولم يزل صلّى الله عليه وآله يقاسي الأهوال في حروبه وغزواته ، ويقطّع الآجال بتواصل صولاته وعزماته ، حتّى قبضه الله إليه سعيداً ، ودعاه إلى جواره شهيداً ، موفياً ببيعته ، موضحاً سبيل الحقّ بدعوته ، ولمّا نقله الله إلى جواره وقبضه إليه واختاره اشتدّ البلاء على ذرّيّته ، وضاق الفضاء بعترته ، ورمتهم عصب الباطل بسهام نفاقها ، وأصمت منهم المقاتل بمعابل شقاقها ، وجحدت نصّ الغدير ولم يطل العهد ، وضللت الهادي البشير ولم تخلف المعتمدة (2) ،
1 ـ انظر : بحار الأنوار : 16/117 و 121 و 232 و 254 و 340 ، وج 19/191 ح 44 ، وج 72/5.
2 ـ كذا في الأصل.


(419)
ووضعت الحقّ في غير محلّه ، ونكثت ما عاهدت عليه الرسول في أهله وأظهرت فيهم الأجناد ، ورمتهم عن قوس واحدة دون العباد ، ومنعت الزهراء نحلتها من والدها ، وردّت شهادة شاهدها ، ولطموا خدّها وخلّوا جدّها ، حتّى ماتت بغصّتها من قولهم وفعلهم ، وأوصت أن تدفن ليلاً من أجلهم.
    يا ويلهم ممّا ارتكبوا من ظلم آل نبيّهم ، واحتقبوا من غصب حقّ وليّهم ، جعلوا الضرير يقود مبصرهم ، والضليل الشرّير حبرهم وخيّرهم ، والكذوب على الله ورسوله زعيمهم وصدّيقهم ، الظلوم لآل وليّهم وفاروقهم ، فضلّوا وأضلّوا ، وزلّوا وأزلّوا ، وسلكوا منهاج الشرك ، وأظهروا كلمة الكبر ، وارتدّوا عن الدين الحنيف ، وباعوا الآخرة بالنزر الطفيف.
    فأبعدهم الله كما بعدت ثمود ، وأوردهم النّار وبئس الورد المورود ، ذلك بأنّهم اتّخذوا آيات الله هزواً ولعباً ، وافتروا على الله كذباً ، فأبوا شرّ مآب ، ونكصوا على الأعقاب ، حتّى إذا اُكملت العدّة ، وانقضت المدّة ، وأرهقتهم سعور وقدموا على ما قدموا من موبقات الذنوب وتكدّر من دار غرورهم ما راق وصفا ، ورأوا المجرون النّار فظنّوا أنّهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً.
    قد تهيّأت ملائكة العذاب لعذابهم ، وسجّرت دركات النيران لعقاقهم ، وحاق بهم ما كانوا بهم يستهزئون ، وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، وشاهدوا كتاب عملهم قد أحصى ما اقترفوه حساباً وعدواً قالوا : يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ؟! ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربّك أحداً هنالك تشتمل أعناقهم الأغلال بجوامعها ، وتنتابهم الزبانية بمقامعها ، ويلقون في شرّ سجن يشرف عليهم إبليس فيلعنهم ، وتطلع إليهم عبدة الأوثان فتوبّخهم ، لا فترة من ريحة عقابها ، ولا يقضى عليهم


(420)
فيموتوا ولا يخفّف عنهم من عذابها.
    لم يرض وليّهم وفاروقهم ، بل جبتهم وطاغوتهم بتقلّد عارها في دار الفناء ، حتّى احتقبه وزرها إلى دار البقاء ، وأفضى بوصيّته إلى من ضارعه من أهل النفاق ، وتابعه من اُولي الشقاق ، بقتل ذرّيّة نبيّهم ، والانتقام من عترة وليّهم ، وألّا يقتلوا عترتهم ، ولا يرحموا عبرتهم ، فنسجوا على منواله ، واقتدوا بأفعاله وأقواله ، وقتلوهم تحت كلّ كوكب ، وذهبوا بهم كلّ مذهب.
    فلا أنس وإن نسيت ، ولا يعزب عن علمي ما حييت ، قائدة الفتنة ، وقاعدة المحنة ، ابنة رأس الظلمة ، وأساس الآثمة ، أوّل باغ بغى في هذه الاُمّة ، وأخبث طاغ طغى وأحلّ بآل الرسول ظلمه ، يخب بها جملها من البلد الحرام ، قد أجلبت بخيلها ورجلها على علمة الإسلام ، وإمام الأنام ، أفضل من صلّى وصام ، وأجمل من نام وقام ، وأكمل من دقّ ودرج ، وأتقى من ولج وخرج ، قصّام الأصلاب إذ تضرم الوقائع نارها ، وقسّام الأسلاب حين تضع الحرب أوزارها.
    شقيق النبيّ في المجانسة ، ورفيقة في المجالسة ، ومساوية في الحقيقة ، ومواليه في الطريقة ، ونفسه في المباهلة ، وسيفه في المصاولة ، وعليّه الأعلى ، ووليّه الأدنى.
    أعبد العبّاد ، وأزهد الزهّاد ، وبدل الأبدال ، ومنكّس الأبطال ، يقطّ الأصلاب إن بارز ، ويجزّ الرقاب إن ناجز ، يمشي إلى الحتوف مشياً سجحاً ، ويبدي للضرب وجهاً سمحاً ، يخطر في الحرب والمنايا أليفة سيوفه ، ويشمرّ للضرب والبلايا طلائع صفوفه.
    كم قصم قفاراً يدي قفاره ؟ وكم جندل مغواراً بشباء غراره ؟ وكم افترس
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس